الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
مقدمة
فحديثنا -أيها الإخوة- في هذه الليلة عن صحابي جليل ومرب قدير، وهو: ابن مسعود ، هذا الصحابي لن نستطيع في هذه الليلة الإتيان على سيرته من غنى هذه السيرة وكثرة ما فيها من الأحداث والأمور العظام الدالة على عظمة شخصية هذا الرجل، ولذلك سنقسم الموضوع إلى قسمين:
القسم الأول: في حياته وتعليق على عدد كبير من الأحداث التي صارت وكان طرفاً فيها.
والثاني: في أقوال له تدل على علمه وفضله وزهده وورعه وخشيته وتعليمه للناس وصبره على ذلك، ويكفيه شرفاً وفخراً أن النبي ﷺ لما نزل عليه قول الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [المائدة: 93] يكفيه أن النبي ﷺ قال له: قيل لي أنت منهم [رواه مسلم: 2459].
من الذي قال للنبي ﷺ؟ الوحي.
حث ابن مسعود على صلاة الجماعة والتمسك بها
فمن أقواله رضي الله تعالى عنه في حثه على صلاة الجماعة والتمسك بها: قال: "من سره أن يلقى الله غداً مسلماً، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم ﷺ سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، حافظوا على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن" أين ينادى بهن؟ في المساجد، إذاً لو واحد قال: ما هو الدليل على صلاة الجماعة في المسجد؟ هذا حديث ابن مسعود: حافظوا عليهن حيث ينادى بهن، قال: وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر ويحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف" [رواه مسلم: 654].
إذاً، من علامات النفاق التخلف عن صلاة الجماعة في المسجد، وكان من عزم الصحابة على إتيان صلاة الجماعة أن المريض فيهم يحمل حملاً حتى يجعل في الصف.
سعة علم ابن مسعود وتصحيحه للأخطاء
وكذلك من أقواله الدالة على سعة علمه وتصحيح الأخطاء التي عند الناس في فهم الآيات: أن رجلاً جاء إلى عبد الله بن مسعود، فقال: يا أبا عبد الرحمن إني أخاف أن أكون قد هلكت، فقال له عبد الله: وما ذاك؟ قال: سمعت الله يقول: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9]، وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئاً، فقال عبد الله: ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله في القرآن، إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً، الشح أن تأكل مال أخيك ظلماً، وهذا الشخص الممسك الذي لا يكاد أن يخرج من يده شيئاً ماذا يقال عنه؟ وهل وضعه سليم؟ لا، فيقول ابن مسعود له: ولكن ذاك البخل، يعني أنت بخيل، أما الشح فهو شيء آخر، وبئس الشيء البخل" [شرح السنة للبغوي: 14/ 358].
إذاً، ما هو الفرق بين الشح والبخل؟
البخل: الإمساك وعدم الإخراج.
الشح ما هو؟
أن تأكل مال أخيك ظلماً، هذا هو الشح، فالذي يأكل مال الأجير أو الموظف أو العامل الذي يأكل مال صاحب المؤسسة، هذان واقعان في الشح، والذي يبخل على نفسه وعلى أولاده وعلى زوجته في البيت ولا يكاد يخرج شيئاً وربما كانت ثيابه في غاية من السوء وهو قد أنعم الله عليه، ماذا يقال عنه؟ بخيل.
حث ابن مسعود على طلب العلم
ومن أقواله في الحث على طلب العلم: اغدوا عالماً أو متعلماً ولا تغدوا فيما بين ذلك، يعني إذا بدأت مشوارك في أول النهار، إما أن تكون عالماً أو متعلماً، إما أن تعلم تخرج لتعلم أو تخرج للتعلم ولا تكن شيئاً ثالثاً فلا خير فيه، وقد سمى بعض المفسرين العلماء شهداء، لأن الله قال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ [آل عمران: 18].
فإذاً، يقال عن العالم شهيد، لأنه يشهد لله بالوحدانية ويشهد بشريعة الله للعباد.
رسوخ ابن مسعود في العلم
وكان عبد الله بن مسعود من الراسخين في العلم، والراسخ في العلم لا ينجر وراء الادعاءات الباطلة، ولذلك روى مسلم في صحيحه عن يسير بن جابر قال: هاجت ريح حمراء بالكوفة، فجاء رجل ليس له هجيرى إلا يا عبد الله بن مسعود جاءت الساعة، هاجت ريح حمراء بالكوفة، فقام واحد من الناس يصرخ، وابن مسعود كان بالكوفة: يا عبد الله بن مسعود جاءت الساعة، قال: فقعد وكان متكئاً، يعني عبد الله بن مسعود، فقال: إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة.
إذاً، ابن مسعود جزم أن هذه الريح الحمراء ليست هي قيام القيامة، وإنما هو شيء آخر، لماذا؟ لأنه بعلمه يعرف أن الساعة قبلها أشياء، قال: إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة، ثم قال بيده هكذا ونحاها نحو الشام إلى جهة الشام، يعني أنه سيحدث حدث قبل قيام الساعة في بلاد الشام، فقال: عدو يجمعون لأهل الإسلام، ويجمع لهم أهل الإسلام [رواه مسلم: 2899].
إذاً، قبل قيام الساعة ستحدث موقعة عظيمة يلتقي فيها أهل الإسلام بأهل الشرك النصارى ويكون هناك استعدادات كبيرة للمعركة لدرجة أن كل فريق يجمع للآخر جيشاً، قلت- أي يسير بن جابر يقول لابن مسعود-: الروم تعني؟ الموقعة بيننا وبين النصارى الروم، قال: نعم، وتكون عند ذاكم القتال ردة شديدة، فيشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيفيء هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل فيفيء هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يمسوا فيفيء هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب، وتفنى الشرطة، فإذا كان يوم الرابع نهد إليهم بقية أهل الإسلام، فيجعل الله الدبرة عليهم، أي الهزيمة على الكفار، فيقتلون مقتلة لا يرى مثلها أو لم ير مثلها، حتى إن الطائر ليمر بجنباتهم فما يخلفهم حتى يخر ميتاً، فيتعاد بنو الأب كانوا مائة فلا يجدونه بقي منهم إلا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يفرح؟ أو أي ميراث يقاسم؟ فبينما هم كذلك إذا سمعوا ببأس هو أكبر من ذلك، فجاءهم الصريخ إن الدجال قد خلفهم في ذراريهم، فيرفضون ما في أيديهم ويقبلون فيبعثون عشرة فوارس طليعة، قال رسول الله ﷺ: إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم، هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ أو من خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ [رواه مسلم: 2899].
وقوله في الحديث: فجاء رجل له هجيرى، ليس له هجيرى إلا يا عبد الله بن مسعود قامت الساعة، الهجيرى، يعني ليس شأنه ودأبه إلا أن يقول هذه الكلمة، ومعنى يشترط المسلمون شرطة للموت، الشرطة: طائفة من الجيش تتقدم للقتال، فتخرج طائفة من جيش المسلمين في المرة الأولى وتقاتل ويرجعون قد انتصروا على من قاتلوهم، لكن ما حسموا المعركة، ويفنى هؤلاء الفدائيون الشرطة ويموتون، حتى يأتي اليوم الرابع.
إذاً، المعركة ثلاثة أيام، كل يوم تخرج طائفة من جيش المسلمين تقاتل وترجع قد غلبت من قاتلتها وتقاتل حتى الموت، في اليوم الرابع نهد إليهم يعني نهض وتقدم إليهم أهل الإسلام، فيجعل الله الدبرة عليهم، يعني على النصارى ويموت من النصارى ويقتل منهم عدد ضخم جداً جداً، حتى أن الطائر ليمر بجنباتهم فما يخلفهم حتى يخر ميتاً، يعني لا يجاوزهم إلا بعد أن يخر ميتاً، قيل من رائحة نتن الجيف وتغير الجو، إذا عبر الطائر فوق أرض المعركة لا ينتهي من فوق الجثث إلا وقد مات من كثرة ما حصل من القتل في النصارى. طبعاً هذا الحديث تطبيقه لم يأت بعد، فبيننا وبين النصارى موعد مهم جداً سوف يأتي إن شاء الله وسيكون في أرض الشام في مرج دابق، وهذه الموقعة العظيمة سينتصر فيها المسلمون نصراً عظيماً، وبعد الانتصار سيموت من المسلمين طبعاً أيضاً ناس كثيرون، ستؤخذ غنائم المعركة ويتعاد المسلمون يعني الأقارب من المائة ما يبقى إلا واحد، فبأي ميراث أي ميراث يقسم، وبأي غنيمة يفرح؟ وقد قتل كثير منهم، فبينما المسلمون على ذلك إذ جاء الخبر بأن الدجال قد خرج، فيترك المسلمون الغنائم ويذهبون للقاء الدجال الذي معه اليهود لتحصل المعركة الثانية مع الطائفة الأخرى من أهل الكتاب وهم اليهود.
والشاهد من الحديث: أن عبد الله بن مسعود وهو من الراسخين في العلم لم تأخذه صيحة هذا الرجل، مع أن الريح حمراء هاجت، والجو مخيف؛ لأنه يعلم بعلمه أنه لا زال هناك أحداث ستأتي قبل أن تقوم الساعة وهذا واحد منها.
وكان رضي الله تعالى عنه كان يقول منبهاً طلاب العلم على أهمية المذاكرة والمراجعة وأنها سبب الحفظ: تذاكروا الحديث، فإن ذكر الحديث حياته، فكلما راجعت الحديث يحيا في صدرك، فإن ذكر الحديث حياته.
وكان يخشى من اتكال الناس وتقصيرهم في الطاعة فيخفي عنهم بعض الأحاديث التي قد يفهمها الجهال على غير وجهها، لكن لا يكتمها بالكلية؛ لأنه لا يجوز كتمان العلم، فهي موجودة عند بعض أصحابه بالتأكيد، ولكن العامة يترك تحديثهم بأشياء إذا سمعوها يفهموها خطأ ويتواكلون ويتركون العمل، ولذلك كان يقول: "ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة" [صحيح مسلم: 1/ 11].
وقال زر بن حبيش: "سألت أبي بن كعب ، فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر" [رواه مسلم: 762] يعني الذي يريد إصابة ليلة القدر عليه أن يقوم السنة كلها؛ لأنه إذا قام ليالي السنة كلها قطعاً سيصيب ليلة القدر، فقال أبي بن كعب -رحمه الله- يعني يترحم على ابن مسعود، أراد ألا يتكل الناس، أما إنه قد علم أنها في رمضان، وأنها في العشر الأواخر، وأنها ليلة سبع وعشرين، ثم حلف يعني أبي لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين، فقلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال: بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله ﷺ أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها.
توجيه ابن مسعود -رضي الله عنه- الناس إلى التعلق بالآخرة وعدم التعلق بالدنيا
وكان ابن مسعود يوجه الناس للتعلق بالآخرة وعدم التعلق بالدنيا، وأن هؤلاء اللاهثين في الدنيا الذين يتركون أمور الآخرة لأجل أمور الدنيا قد ضيعوا أمراً كثيراً، وبخسوا أنفسهم، ووقعوا في الغبن، غبنوا أنفسهم، قال: "من أراد الدنيا أضر بالآخرة، ومن أراد الآخرة أضر بالدنيا، يا قوم أضروا بالفاني للباقي" [مصنف ابن أبي شيبة: 7/103]، فإذا حصل ضرر بالدنيا لا يهم كثيراً بجانب الآخرة، فأنت قدم مصلحة الآخرة على مصلحة الدنيا.
ومن أقواله أيضاً: "كونوا ينابيع العلم مصابيح الهدى، أحلاس البيوت" يعني الزموا بيوتكم؛ لأن الصفق بالأسواق والخروج من البيت كثيراً ما يكون فيه فتنة للإنسان، ولذلك يقول: "كونوا أحلاس بيوتكم"، وخصوصاً عند الفتن كونوا أحلاس بيوتكم، قال: سرج الليل " يعني من قيام الليل والاستيقاظ لأجله فأنتم كالسرج، "جدد القلوب" يعني القلوب الحية، "خلقان الثياب" يعني لا تهتمون بزينة الدنيا كثيراً، "تعرفون في السماء، وتخفون على أهل الأرض" [سنن الدارمي: 1/317] أي لتكون أعمالكم خفية، لستم مذكورين ومشهورين في الأرض، لكنكم معلومين عند الله يوم القيامة.
وقال: "إن للقلوب شهوة وإدبار، فاغتنموها عند شهوتها وإقبالها ودعوها عند فترتها وإدبارها" [حلية الأولياء: 1/134].
وهذا من سياسة النفس أن الإنسان إذا رأى نفسه منفتحة للخير مقبلة عليه يزداد منه ما أمكن، تحصيل علم، عبادة، أعمال خير، ما دام قلبك منفتحاً ونفسك متوجهة اغتنم الفرصة، وقد ترى أحياناً في نفسك صدوداً وكسلاً، فلو أنك ما تحمست لأنك لا تستطيع ذاك الحماس لكي تستعد لمرحلة الانفتاح والإقبال، فهذا ليس أمراً سيئاً إذا كنت قائماً بالواجبات تاركاً للمحرمات، أما المستحبات فالنفوس فيها تقبل وتدبر.
فإذاً، الواجبات لا بد من حمل النفس عليها، والمحرمات لا بد من قصر النفس عنها، لكن المستحبات إذا رأيت في نفسك انفتاحاً وإقبالاً زد منها ما استطعت؛ لأنك تأخذ من فترة الحماس أو من مرحلة الحماس للفتور تعوض.
وقال: "إن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه، فيرجع وما معه منه شيء" [السنة، لأبي بكر بن الخلال: 5/15] يذهب مشوار في سخط الله، يرجع بلا دين ممكن، يأتي الرجل ولا يملك له ولا نفسه ضراً ولا نفعاً، فيقسم له بالله إنك لذيت وذيت، فيرجع وما خلى من حاجته بشيء ويسخط الله عليه.
فإذاً، هو ممكن لأجل الدنيا أن يأتي فلاناً من الناس من أهل الباطل ويمدحه بما ليس فيه، ويتعلق قلبه به، فيرجع لا حصل الدنيا ولا حصل الآخرة، وسخط الله عليه.
إنصاف ابن مسعود
وقال مبيناً أن السخرية خلق ذميم: "لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلباً" [مصنف ابن أبي شيبة: 5/231].
وقال: "إذا أحب الرجل أن ينصف من نفسه، فليأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه" [مصنف ابن أبي شيبة: 7/ 108، سنن الدارمي: 4/ 2093].
إذا أردت الإنصاف والعدل عامل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به.
وقال في تقبل الحق: "الحق ثقيل مريء، والباطل خفيف وبيء" [شرح السنة للبغوي: 14/ 309] فالحق ثقيل لكن لو أنه نزل في نفسك فإنك ستأخذه هنيئاً مريئاً، والباطل خفيف على النفس، لكن لو دخل في نفسك، فإنه سيكون عليك وبيئاً.
وقال: "رب شهوة تورث حزناً طويلاً، كالذي تأخذه الشهوة، يقع في فاحشة، ثم يعاني من نتائج الفاحشة سنوات طويلة جداً، مرارة الفاحشة والحرام وهتك العرض وابن الزنا تكون هماً لازماً له طيلة عمره، فيا ليته ما أتى تلك الشهوة العارضة، ثم كانت عليه بعد ذلك حسرة زمناً طويلاً.
تربية ابن مسعود لطلابه على تحري الحق وعدم التقليد
وقال في تربيته لطلبة العلم على عدم التقليد؛ لأن طالب العلم قد يقع في مزلق للتقليد الأعمى بحيث أنه لا يفكر بالدليل ولا بكيفية وزن الأقوال، فيأخذ مقلداً تقليداً أعمى فيضره، قال: "لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً فان آمن آمن وإن كفر كفر وان كنتم لا بد مقتدين فاقتدوا بالميت فان الحي لا تؤمن عليه الفتنة"[صفة الصفوة: 1/ 159]؛ لأننا نجد الآن يا إخوان بعض الأشخاص قد يكون داعية، وقد يكون طالب علم، وقد يكون شيخاً، في أول أمره قوي في الحق، يقول الحق مع أهل الحق، لا يخاف في الله لومة لائم، فيتبعه هؤلاء الناس ويكونون معه وحوله، بعد فترة تعدو عليه عوادي الزمن وتسلط عليه سيوف الترغيب والترهيب، ويغرى بالمال أو بالجاه أو يخوف فيخاف، فيغير مواقفه، ويبدل مبادئه، فلا يعود ذلك الشخص الأول القوي في الحق، وإنما يبدأ يتخذ مواقف يزعم أنها مرونة وهي في الحقيقة ترك للحق وبعد عن الحق وقوع في الباطل ومداهنة لأهل الباطل وتنازلات، وقد يقع في مدح الظلم وأهله ويتساهل في بعض أمور الشريعة، وتبدأ فتاواه تتغير، والشيء الذي كان عنده ممنوعاً صار مسموحاً، والشيء الذي كان حراماً صار مباحاً، ويحتك بأشخاص يغيرون فكره وتصبح عليه الضغوط من الواقع تقول له: إن الناس لا يتقبلون كلامك إذا ما تراخيت وتراجعت وغيرت، فغير وسهل حتى يقبلوا أكثر، وإن الزمن لا يسمح بهذا العزم الذي كنت عليه، والقوة التي كنت عليها، ارخ قليلاً فيرخي، ماذا يحصل للمعجبين به والمستمعين له والمقتدين به من قبل والمتبعين له من قبل، ماذا يحصل لهم؟ يفتنون، لأنهم الآن يقولون: فلان غير، يمكن هذا الصح فيتبعونه وهو باطل، مداهنة مجاملات في الحق، فتاوى رخيصة، تساهلات، تراجعات، تنازلات، فيفتن المتبع، ولذلك ابن مسعود قال شيئاً مهماً جداً، و"إن كنتم لا بد مقتدين فاقتدوا بالميت، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة".
انظر واحداً ميتاً لقي الله وهو متمسك بدينه، ما عرف عنه التراجع والتخاذل والتغيير والتبديل والتساهل، ثبت على الحق حتى لقي الله، قلده هذا ممكن تقتدي به؛ لأنه مات ما تخشى عليه الفتنة، لكن الحي تخشى عليه الفتنة.
الآن في الواقع فيه نماذج من الناس والدعاة والناس الذين كانوا يرجون ويقولون الحق، وكانوا لا يخافون ولا يبالون في الله، لا تأخذهم في الله لومة لائم، الآن تراجعات، أقوال عجيبة، فتاوى متساهلة، مواقف متخاذلة، فصار بعض الذين يتبعونهم في أمر مريج، يقولون: الذي كان أول صح وإلا الآن صح؟ ولذلك هي حكمة من ابن مسعود: "فاقتدوا بالميت، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة".
طبعاً الذين عنده بصيرة ممكن يقتدي بالحي المتمسك بدينه، وإذا رأى منه تراخياً تركه، لكن المشكلة في الضعيف الذي عنده جهل، ما يدري الأول أصح وإلا الثاني أصح؟ أي الموقفين خير مقاماً؟ وأي الرأيين أصوب وأهدى سبيلاً؟
وقال في كلام له يصلح للعامة، لأن بعض العامة إمعات، يقول: "لَا يَكُونُ أَحَدُكُمْ إمَّعَةً، قِيلَ وَمَا الْإِمَّعَةُ؟ قَالَ: الَّذِي يَقُولُ وَأَنَا مَعَ النَّاسِ" [الآداب الشرعية: 1/ 306] أيش يعني مع الناس؟ يعني مع الأكثرية، مع الأكثرية، أنا مع الناس، إن اهتدوا اهتديت، وإن ضلوا ضللت، لا يكونن أحدكم إمعة، يقول: أنا مع الناس إذا اهتدوا اهتديت وإن ضلوا ضللت، ألا ليوطنن أحدكم نفسه على أنه إن كفر الناس لا يكفر، فمشكلة بعض الناس فعلاً أنهم متأثرون برأي الأكثرية بحسب من حوله، إذا كانوا أخياراص صار خيراً، إذا كانوا فجاراً صار فاجراً، ولذلك ليس الحق مع الأكثرية دائماً، بل كثيراً ما يكون الحق ليس مع الأكثرية، ومن الأدلة على ذلك أن الله قال: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام: 116]، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103].
ولذلك نظام التصويت ليس دائماً نظاماً صحيحاً شرعياً؛ لأن الناس لهم أهواء، يمكن لو تقول الآن: يا أيها الناس نريد عمل تصويت، الذي يؤيد قيادة المرأة للسيارة يكتب نعم، والذي لا يؤيد يكتب لا، يمكن أكثرهم يقولوا: نعم.
وهكذا لو قلت: يا أيها الناس الذي يرى أن نمنع الدش يكتب نعم، والذي يرى أن نسمح بالدش يكتب لا، صوت، ماذا تكتب الأغلبية؟
إذاً، رأي الأغلبية غالبية الناس العامة، هذا ليس ميزاناً شرعياً لمعرفة الحق، ولذلك في الإسلام يوجد مجلس أهل الحل والعقد المكون من العلماء والعقلاء وسادة الناس وقادة الجند وأشراف الخلق ورؤساء القبائل، أصحاب العقول الراجحة هؤلاء يمكن أن تجد الحق في أكثرهم إذا كانوا مسلمين أصحاب دين، لكن أن تأتي إلى الدهماء والعامة وتقول صوت نظام التصويت، الناس أصحاب هوى، كثير منهم أصحاب هوى، فقد يختارون في الحرام ويبيحونه ويجيزونه، ولذلك قال ابن مسعود: "لا يكن أحدكم إمعة"، قالوا: وما الإمعة؟ قال: يقول أنا مع الناس إن اهتدوا اهتديت، وإن ضلوا ضللت، ألا ليوطنن أحدكم نفسه على أنه إن كفر الناس لا يكفر" [المعجم الكبير للطبراني: 9/ 152].
فإذاً، كل واحد يوطن نفسه إذا اتبع الناس الباطل أنه يرفض هذا، ولو عاكس التيار وقاوم الأكثرية وشق عليه يثبت.
وقال له رجل: علمني كلمات جوامع نوافع؟ فقال: اعبد الله لا تشرك به شيئاً، وزل مع القرآن حيث زال" يعني إذا أمرك القرآن تأتمر، نهاك تنتهي، أوقفك القرآن تقف، أمضاك تمضي، "وزل مع القرآن حيث زال، ومن جاءك بالحق فاقبل منه، وإن كان بعيداً بغيضاً"، وإن كان بعيداً ليس من الأقارب، بغيضاً ليس من الأحباب، "ومن جاءك بالباطل فاردد عليه، وإن كان حبيباً قريباً" [حلية الأولياء: 1/134]، وإن كان حبيباً قريباً، فلا تأخذنك المحبة والقرابة للشخص أن تقبل منه كلامه ولو كان باطلاً، بل ترده عليه، والنبي ﷺ لما جاءه حبه وابن حبه، من هو حبه وابن حبه؟ أسامة بن زيد، يكلمه في شأن المخزومية سرقت يشفع عنده ألا يقام عليها الحد ولا تقطع يدها، فمع أنه حبه وابن حبه صعد ﷺ المنبر ورفض، وقال: إن من كان قبلكم إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، ونهر أسامة نهراً شديداً، قال: أتشفع في حد من حدود الله؟ [رواه البخاري: 3475 ومسلم: 1688] فرفض كلامه، مع أنه حبه وابن حبه.
وقال: إنما مثل ابن آدم كالشيء الملقى بين يدي الله -عز وجل- وبين الشيطان في الوسط والمنتصف بين الله -تعالى- وبين الشيطان، فإن كان لله فيه حاجة، إن كان هذا العبد محبوب من الله، الله يحبه حازه من الشيطان، وإن لم يكن لله فيه حاجة خلى بينه وبين الشيطان" [الزهد، لأحمد بن حنبل، ص: 128].
حث ابن مسعود عىلى مواصلة العمل الصالح حتى الموت
وقال ابن مسعود في قضية مواصلة العمل الصالح حتى الموت: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99]، قال: "لا راحة للمؤمن دون لقاء الله " [الزهد، لأحمد بن حنبل، ص: 128] قبل الموت ما في راحة، ما في واحد يرتاح، دائماً يعمل، يعمل الصالحات ويستمر عليها حتى الموت، قبل الموت ما في راحة، الراحة بعد الموت.
عبادة ابن مسعود وخشيته لربه
وكان صاحب عبادة، فعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: كان عبد الله يعني ابن مسعود إذا هدأت العيون قام فسمعت له دوياً كدوي النحل، يعني من قراءة القرآن في قيام الليل.
وكان صاحب خشية لله، يخاف الله ويخشاه، فقال رجل عنده: ليتني من أصحاب اليمين، يعني قال أنا ما أزكي نفسي وأقول إني من السابقين، ليتني أكون من أصحاب اليمين، فقال عبد الله بن مسعود: ليتني إذا مت لم أبعث" [الزهد، لأحمد بن حنبل، ص: 129] يعني من خشيته لله يخشى لو بعث أن يذهب إلى النار، ولذلك قال: إذا أنت تتمنى تقول: ليتني من أصحاب اليمين، يعني ترى في نفسك أنك يحتمل، قال: أنا ليتني إذا مت لم أبعث.
ومر عبد الله بن مسعود على الحدادين فبصر بحديدة قد أحميت فبكى، مر بحديدة قد أحميت فبكى.
وقال رضي الله تعالى عنه أيضاً: "الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة" [جامع بيان العلم وفضله : 2/1179] فلو قارنت في واحد على السنة لكن مقتصد يفعل الواجبات يترك المحرمات، وشخص آخر عنده اجتهاد في المستحبات، لكن ما هي مستحبة شرعاً، وإنما بدعة يجتهد في البدع، ف "الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة".
وقال: "إِنَّ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ خَطَايَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَهُمْ خَوْضًا فِي الْبَاطِلِ"[الزهد، لهناد بن السري: 2/ 541].
وقال: "إن الناس قد أحسنوا القول كلهم" يعني من جهة الكلام كل واحد كلامه جميل، "فمن وافق قوله فعله فذاك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فعله فإنما يوبخ نفسه" [جامع بيان العلم وفضله: 1/696].
وقال: "من أعطي خيراً فالله أعطاه، ومن وقي شراً فالله وقاه" [المعجم الكبير للطبراني: 9/105] يعني لا تغتر بنفسك وتقول: أنا الذي تفطنت لها وأنا الذي فهمتها وأنا الذي اخترتها، إن عملت خيراً احمد ربك هذا من توفيق الله لك، وإن منعت من شر فاحمد ربك، هذا الله هو الذي منعك.
مقاومة ابن مسعود للهزل في مكان الجد
ومن مواقفه التربوية العظيمة في مقاومة الهزل في مكان الجد: أن عبد الله بن مسعود رأى رجلاً يضحك في جنازة، فقال: "تضحك في جنازة، لا أكلمك أبداً" [الزهد، لأحمد بن حنبل، ص: 133] لا يمكن أن أكلمك، إذا كان في الجنازة تضحك أجل فكيف بغيرها؟ تضحك في جنازة لا أكلمك أبداً.
والآن تذهب إلى المقبرة وترى الناس في انتظار الدفن والحفر، هذا يتكلم مع هذا وهذا يضحك مع هذا، وربما ترى بعضهم يمكن يدخن والآخر ... فلذلك الغفلة استولت على كثير من النفوس، فما عادوا يتأثرون حتى ولو شهدوا الموت.
وصايا ابن مسعود لحفاظ القرآن
وقال: "المتقون سادة، والفقهاء قادة"؛ لأن الناس يتبعونهم "ومجالستهم زيادة" [الإبانة الكبرى، لابن بطة: 4/ 294] زيادة في العلم والدين.
وقال: "إن هذه القلوب أوعية، فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره" [مصنف ابن أبي شيبة: 7/ 106].
وقال لحافظ القرآن وصية مهمة جداً: "ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخطئون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً، حليماً سكيناً، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافياً ولا غافلاً ولا صخاباً ولا حديداً" [الزهد، لأحمد بن حنبل، ص: 133].
وقال عبد الله: "لو وعد أهل النار أن يخفف عنهم يوم من العذاب لماتوا فرحاً" [الزهد، لأحمد بن حنبل، ص: 134] الوعد فقط أن يخفف عنهم يوم واحد من العذاب لماتوا فرحاً.
وقال عبد الله بن مسعود: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم" [السنة، للمروزي، ص: 28] يعني عندكم من الأثر والسنة والدليل الخير العظيم، وعندكم فيمن سلف من الصحابة الكرام من كفاكم ما تحتاج إلى أشياء جديدة، وعندك الكتاب والسنة تكفيك، كل بدعة ضلالة.
وقال: "عليكم بالسمت الأول" [الزهد، لأحمد بن حنبل، ص: 134] يعني النبي ﷺ وأصحابه، هذا الجيل، هذا الجيل الذي ينبغي الاقتداء به.
وقال: "مع كل فرحة ترحة" يعني الفرح لا يكتمل لا يدوم، وإن جاءك فرح في شيء نغصت عليك الفرحة شيء آخر، "مع كل فرحة ترحة، وما ملئ بيت حبرة" يعني سروراً "إلا ملئ عبرة" [الزهد، لأحمد بن حنبل، ص: 134] يعني بكاء، فقد يولد ولد فيفرح أهل البيت بالولد، لكن يأتيهم يوم يموت فيهم واحد يبكون، فما في فرح إلا ويقارنه ويخالطه ويأتي بعده ترح، هذا حال الدنيا، أفراحها لا تدوم، وسرورها لا يبقى.
مقاومة ابن مسعود للمظاهر الزائفة
وكان ابن مسعود يقاوم الاغترار بالمظاهر، فيقول سعيد بن مسروق: قدمت الدهاقين الكوفة" والدهقان هذا مثل مختار القرية، رئيس المزارعين، ثري، "قدمت الدهاقين الكوفة على عهد ابن مسعود، فجعلوا يتعجبون من صحتهم وحسن ألوانهم" يعني جعل الناس يتعجبون من صحة هؤلاء وحسن ألوانهم أنهم أجسام قوة نشاط جمال، فقال ابن مسعود: "وما تعجبون، تلقون المؤمن أصح شيء قلباً وأمرض شيئاً جسماً، وتلقون الفاجر والمنافق أصح شيء جسماً وأمرضه قلباً، والله لو صحت أجسامكم ومرضت قلوبكم لكنتم أهون على الله من الجعلان" [الزهد لأحمد بن حنبل، ص: 135].
وقد قال الله عن المنافقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون: 4]، وقال: فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [التوبة: 55].
والنبي ﷺ أخبر أن الله لا ينظر إلى الصور والأموال، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال.
زهد ابن مسعود
وقال واعظاً: "ما أحد أصبح في الدنيا إلا وهو ضيف، وماله عارية"، كل واحد فينا ضيف في الدنيا وماله شيء مستعار، يعني اقترضه استلفه، قال: "والضيف مرتحل" يعني إذا نزل عليك ضيف هل يبقى ساكن عندك إلى آخر عمره، يعني ثلاثة أيام، قال: "والضيف مرتحل، والعارية مردودة" [مصنف ابن أبي شيبة: 7/ 107] فلا أنت ستبقى ولا مالك سيبقى "فالضيف مرتحل، والعارية مردودة".
وقال عبد الله بن عكيم: سمعت عبد الله بن مسعود في هذا المسجد بدأ باليمين قبل أن يحدثنا والله يقسم: "ما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه، كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر، فيقول" يعني الله: "ابن آدم ماذا غرك يا ابن آدم؟ ماذا أجبت المرسلين؟" [جامع بيان العلم وفضله: 1/ 679] يا ابن آدم ماذا عملت فيما علمت؟ تعلمت أشياء فما هو عملك فيها؟
تجويد ابن مسعود للقرآن وعمله به
عبد الله بن مسعود كان يقرئ القرآن لطلابه، فهل كان همه فقط قضية الحروف والوقوف والتجويد والمد المنفصل والمد المتصل والإدغام والإقلاب والإخفاء؟ هل هذا همه كان فقط عندما يقرئ القرآن الناس والطلاب، أم كان يهمه مع تصحيح القراءة والوقوف والحروف وأحكام التجويد كان عنده شيء آخر يهتم به؟ ابن مسعود كان يهتم بالتجويد ومرة قرأ واحد عنده: "إنما الصدقات للفقراء والمساكين"، أمره أن يمد للفقرآء مد لا بد، هو يهتم بالتجويد ليس مهملاً للتجويد، ابن مسعود مقرئ الأمة، لكن هل كان وهو الشيخ يدرس التجويد ويدرس ويقرئ في الإقراء كان فقط همه في هذه المسألة، أم كان معه شيء آخر؟
يقول عرفجة الثقفي: استقرأت ابن مسعود: {سبح اسم ربك الأعلى} فلما بلغ: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [الأعلى: 16] ترك القراءة وأقبل على أصحابه، وقال: "آثرنا الدنيا على الآخرة"، فسكت القوم، عم المجلس السكون، مجلس الإقراء سكت الطلاب كلهم، فقال: "آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها، وزويت عنا الآخرة، أخفيت فاخترنا هذا العاجل وتركنا الآجل" [شعب الإيمان: 13/ 189] يعني لماذا قال الله -تعالى-: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لماذا آثرنا الدنيا؟ لأنها مرئية وأمامنا نحسها، والآخرة محجوبة مغيبة، وهذا سبب ما حل بنا وإيثارنا للدنيا على الآخرة، مع أنه طبعاً كان من أبعد الناس عن الدنيا ابن مسعود، فكيف بنا؟
دعاء ابن مسعود بحسن الخاتمة
وكان رضي الله تعالى عنه يتمنى الميتات الحسنة الجميلة، فذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" عن عبد الله بن مسعود قال: "قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله في غزوة تبوك، فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر، فاتبعتها انظر إليها، فإذا رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر يدليانه إليها".
إذاً، النبي ﷺ في القبر في الحفرة وأبو بكر وعمر يدليان شخصاً في القبر ليستلمه النبي ﷺ، وإذا عبد الله ذو البجادين هذا صحابي جليل قد مات، المدلى هذا من هو؟ ذو البجادين، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله في حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه إليه، وإذا هو يقول: أدنيا إلي أخاكما، فدلياه إليه، فلما هيأه لشقه وأضجعه على شقه الأيمن ليستقبل بوجهه القبلة في القبر كما هي السنة، قال: "اللهم إني قد أمسيت راضياً عنه فارض عنه".
لقد كانت هذه الكلمات كافية لأن يقول عبد الله بن مسعود : "يا ليتني كنت صاحب الحفرة" [البداية والنهاية: 5/ 23] يشتهي هذا المصير، كيف وقد علم أن النبي ﷺ مات راضياً، مات هذا الرجل وهو راضٍ عنه، وهو القائل يعني ابن مسعود أيضاً في مسألة التهاون بالمعاصي: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه" [مسند أحمد: 6/131] المؤمن يرى ذنوبه، يتذكر الذنوب التي عملها سابقاً عملها، فمن هول التذكر وخشية الله وخشية أن هذه الذنوب تهلكه يوم القيامة يرى نفسه كأنه قاعد تحت جبل، والجبل يوشك أن يقع عليه، وإذا وقع الجبل على شخص كيف يكون الإهلاك؟ قال: "وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا فطار"[مسند أحمد: 6/131] يعني طار بسيط.
إذاً، هذا الفرق العظيم بين المنافق وبين المؤمن في النظر إلى الذنب وأثر الذنب في النفس وخوف المصير يوم القيامة.
الخاتمة
هذه طائفة من أقوال ابن مسعود في أمور مختلفة ومواضع متفرقة.
وسنأتي -إن شاء الله- على القسم الأكبر وهو ترجمته والمواقف العظيمة التي حصلت في سيرته وحياته؛ مثل مبدأ أمر ابن مسعود ، وكيفية تحمله المسؤولية من الصغر عندما كان راعي غنم، وما هو العهد الذي أخبر النبي ﷺ عن ابن مسعود بقوله: "وتمسكوا بعهد ابن مسعود".
وكيف كان عبد الله بن مسعود قارئاً للقرآن يحب النبي ﷺ أن يسمع منه القرآن.
وكيف كان عالماً بالتفسير؟ وما هي نماذج من الأمور التي فسرها؟
وكذلك موقعه من النبي ﷺ وقربه الشديد منه، وكيف كان سمته يشبهه جداً؟
وكذلك ما كان عليه من تعمد إغاظة الكفار، وهذه المسألة مهمة وعبادة يغفل عنها كثير من الناس، وسنذكر مواقف من ذلك -إن شاء الله- في إغاظة ابن مسعود للكفار ، وحرصه على حضور الصلاة مع النبي ﷺ والاقتداء به، وثلاث مواقف من تربية عبد الله بن مسعود لأهله، كيف كان عبد الله بن مسعود يعتني بأهله.
وكيف كان تبكيره للجمعة وحسن صوته؟ وكيف كانت توبة بعض الناس على يديه؟ وكيف كانت محاربته للبدع؟ وكيف كان شأنه في الفتيا والتحرج فيها؟ وكيف كان رضاه بالقضاء والقدر؟ وكيف كان يكره الخلاف ويحرص على المصلحة الشرعية ويبتعد عن الفتن، ويتحرى في الحديث وروايته؟ وكيف كان جامعاً بين العلم والعمل؟ وموقعه من عمر، ومجهود ابن مسعود في الكوفة، هذا مجهود ابن مسعود في الكوفة وحده، هذه حياة كاملة، كيف كان يعقد مجالس العلماء؟ وكيف كان يربي طلابه؟ وهذه مسألة أخرى تربية ابن مسعود لطلابه عجب من العجب، كيف كان يؤدبه؟.
وكذلك كيف كان يشجعهم على السلوك الحسن؟ كيف أسس عبد الله بن مسعود في الكوفة مدرسة في التفسير والحديث والفقه وإقراء القرآن ؟ وجانب من فطنته وذكائه، وكيفية توفيقه في التعليم وتأديبه لطلابه، ونماذج من بعض رواياته، وكيف كان جهاده ومقارعته للطغاة ؟
فهذا ما سيكون بمشيئة الله -تعالى- موضوع درسنا القادم، وإنما ذكرنا هذه العناوين لأجل التشويق لسيرة هذا الرجل العظيم رضي الله تعالى عنه، ونسأل الله -عز وجل- أن يرضى عنه، وأن يرفع منزلته، وأن يجعلنا من المقتدين الآخذين بعهد ابن أم عبد.
وصلى الله على نبينا محمد.