الثلاثاء 10 رمضان 1445 هـ :: 19 مارس 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

الأخوة في الله


عناصر المادة
نعمة الأخوة الإسلامية بين المؤمنين
الأُخوّة في الله عبادة وقربة إلى الله
الحب في الله من أوثق عُرى الإيمان
حاجة المرء لأخيه في الله في زمن الفتن
نماذج رائعة للأخوة في الله عند سلفنا الصالح
أحاديث نبوية في فضل الأُخوّة في الله
فضل التزاور بين الأخوة في الله
النصيحة بين الإخوان في الله
أشكال النصيحة بين المسلمين
حفظ المسلم لعرض أخيه المسلم
الخلاف لا يفسد الودّ بين الإخوة
السلبيات التي تقع في أوساط الإخوة في الله
التعامل الشرعي مع الأخ المخطئ
الغلو بين الإخوة لحد العشق المحرّم
التساهل في قضية الدخول من غير إذن
التساهل بين الإخوة في قضية الاختلاط
الالتزام بالآداب الشرعية بين الإخوان
التساهل في المواعيد بين الإخوة
التساهل في تقديم الخدمات لإخوانك المسلمين
الحسد بين الإخوة في الله

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

نحمد الله تعالى أن جمعنا وإياكم في بيت من بيوته ، نذكره ، ونتذاكر نعمه، ومنها نعمة الأخوة، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 11]. نسأل الله أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرّقنا بعده تفرقاً معصوماً، وأن يجعلنا وإياكم من الإخوة في الله المتآخين في سبيل الله، ولا يجعل فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً.

نعمة الأخوة الإسلامية بين المؤمنين

00:00:49

أيها الإخوة: كما سمعنا في الآيات الكريمة قول الله : وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران: 103]. لا بأي شيء آخر، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا  [آل عمران: 103]. أيها الإخوة، لا يوجد لا في دين من الأديان ولا مذهب من المذاهب ولا مكان من الأمكنة شيء اسمه الأخوة التي هي بهذا الطعم إلا في الإسلام، لا يمكن أن يوجد مطلقاً؛ لأن هذا الشعور شعور الأخوة في الله، التآخي في الله نعمة عظيمة لا يشعر بها إلا المسلمون، لا يشعر بها إلا الذين جعلهم الله إخوة، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا .

والمجتمع الإسلامي يقوم على دعامتين أساسيتين: الإيمان والأخوة، وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا  [آل عمران: 103]. فلا يمكن أن يقوم المجتمع الإسلامي قياماً صحيحاً على سوقه كما أمر الله إلا بهاتين الدعامتين الأساسيتين الإيمان والأخوة، ولذلك أمر الله بالتآخي، وعقد من عنده عز وجل عقد الأخوة بين المؤمنين، الله عز وجل هو الذي عقد الأخوة، فقال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ  [الحجرات: 10]. هذه إنما من فوائدها حصر الخبر في المبتدأ، أو المبتدأ في الخبر،  إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ  ليس المؤمنون إلا إخوة.

من عِظَم الأُخوّة: أن الله جعلها هي الوصف الأكمل للمؤمنين،  إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ  المؤمنون عبارة عن إخوة،  إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات: 10].

فالأخوّة إذن تنبثق من التقوى ومن الإسلام، وأساس الأخوّة هو: الاعتصام بحبل الله ، بمنهج الله ، بطريق الله تعالى.

الأُخوّة في الله عبادة وقربة إلى الله

00:03:28

والأخوة هي عبادة، لابد أن نعرف أن الأخوة هي عبادة من العبادات التي يُتقرّب بها إلى الله الأخوة عبادة نتقرّب إلى الله بها مثلما نتقرّب إليه بالصلاة، مثل ما نتقرّب إليه بالصيام، مثل ما نتقرّب إليه بالحج بالدعاء بالتوكل، الأخوّة هي عبادة من العبادات الجليلة التي ركّب الله تعالى عليها فضلاً عظيماً منه ، وهي نعمة عظيمة جداً أيها الإخوة، نعمة عظيمة لا يحس بها إلا من توافرت فيه شروط الأخوة، وإلا فأقول لكم بصراحة أن كثيراً من الناس تجده اليوم يقول: فلان من أعز أصدقائي، أو هذا فلان صديق عزيز، أو هذا فلان كنتُ معه من السنة الفلانية، أو من المرحلة الابتدائية، أو كنا معاً في حارة واحدة، كنا نلعب ونحن صغار، هذا فلان من أعز أصدقائي، هذا الكلام لا يعني مطلقاً أن هذين الرجلين متآخيان في الله، قد تكون العلاقة بينهما هي علاقة تجاذب وتقارب وتوافق نفسي فقط، أما الأخوة في الله فهي مسألة أعلى من ذلك بكثير، مراتب وصفات لا يحس بها إلا من عرفها وذاق طعمها.

ومن الأدلة على أن الأُخوّة في الله لها فضل عظيم وأجر جسيم يدلُّك على خطورتها وعلى عظمها ومنزلتها العالية آيات وأحاديث، الله قد وصف أهل الجنة فقال: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر: 47]. إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ لا يزال في صدورهم بعض الأشياء العالقة من الدنيا، فإذا دخلوا الجنة نزع الله تعالى من صدورهم الغل،  وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ  فصارت صفتهم:  إِخْوَانًا ، أخوّة نقية ليس فيها شائبة واحدة،  وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ  [الحجر: 47].

ويقول رسول الله ﷺ من ضمن شروط الإيمان:  أن يحب المرءُ لا يحبه إلا لله [رواه البخاري: 16، ومسلم: 43]. إذا صارت هذه القضية فإن الله تعالى يُظل هذين المتحابين تحت ظل عرشه، يوم لا ظل إلا ظله،  ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه [رواه البخاري: 660، ومسلم: 1031].

إذن، أيها الإخوة هذا الحديث الأخير الذي ذكرته الآن يوضّح معنى الكلام الذي قلته قبل قليل؛ أن الأخوّة في الله مرتبة عالية، ولها شروط كثيرة، ليس أيّ اثنين يظلهم الله في ظله، لا، ليس أي من المسلمين يظلّهم الله في ظله بهذه تحت بند الأخوة، لابد أن تكون الأخوّة كما فسرها الرسول ﷺ، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه  تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه اجتمعا من أجل الله وعلى منهج الله، والطريق التي ارتضاها الله ، وتفرّقا على نفس الشيء، ما تغيرت القضية بالمجلس، لما جلسوا ما تغيروا، تفرقوا على مثلما جلسوا عليه، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، سواء كان في المجلس مجالس متفرقة، أو كان في الدنيا عموماً، اجتمعا عليه وفرق الموت بينهما وهما ما زالا على نفس العهد والميثاق الذي أخذه الله عليهم،  اجتمعا عليه .

أيها الإخوة، نحن أحياناً لا ندقق في العبارات، لا ندقق في الآيات والأحاديث، لكنك لو دققتَ تجد أشياء توضح لك لماذا القضية عظيمة، رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه  ويقول رسول الله ﷺ في الحديث الحسن في صحيح الجامع: ما من مسلمين يلتقيان فيسلّم أحدهما على صاحبه، ويأخذ بيده لا يأخذ بيده إلا لله هذا هو الشرط،  لا يأخذ بيده إلا لله، فلا يفترقان حتى يُغفر لهما الآن نحن كثيراً ما نتلاقى، وكثيراً ما يسلّم بعضنا على بعض، لكن هل توافرت الشروط التي تجعل هذا الالتقاء ينتهي بمغفرة الذنوب لكلا الطرفين، ما من مسلمين يلتقيان فيسلّم أحدهما على صاحبه ويأخذ بيده لا يأخذ بيده إلا لله  [رواه أحمد: 18548، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 5778]. نحن نركز على هذا المفهوم؛ لأن الالتقاءات التي تحدث الآن بين الناس -أيها الإخوة- ليست لله، ولا في الله، وإنما هي من أجل عرض من الدنيا زائل، الآن الناس يتلاقون فيسلّم الواحد على الثاني، ويأخذ بيده ويصافحه، لكن إذا نظرت في الحقيقة لماذا يصاحبه؟ ولماذا يسلّم عليه؟ ولماذا يأخذ بيده؟ تجد أنه يأخذ الغرض من وراء هذا كله مصلحة دنيوية، الآن الناس يلتقون، لكن التقاءات على الماديات الفانية، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 27]. فالالتقاءات على الماديات الفانية، فلذلك لا يحس الواحد من هؤلاء طعماً مطلقاً، ما في حلاوة للالتقاء، لأن القضية فيها مصلحة، مسألة مصالح، فإذا كانت مسألة مصالح كيف سيجد طعماً، ولذلك تجد الواحد يسلم على الثاني ويقابله ويبتسم في وجهه ويرحب به ويكيل له ألفاظ الثناء والمديح، فإذا انصرفا وتفرقا، نزل فيه سبّاً وشتماً وغيبة؛ لأن من الأسباب: أن أصل الالتقاء فاسد، وما بُني على فاسد فهو فاسد، أصل الالتقاء فاسد، التقاء على الدنيا، طبيعي عندما يفترق أنهم يفترقون على أشياء كثيرة من البغضاء والشحناء، وهذه الابتسامات الظاهرة والمودة الظاهرة هي من أجل متاع دنيوي، لذلك لا يمكن لهؤلاء الناس أبداً أن يرتاحوا أبداً لهذه العلاقة التي تنشأ بينهما.

الحب في الله من أوثق عُرى الإيمان

00:10:17

والحب في الله، الأُخوّة في الله عميقة جداً جداً إلى أبعد ما يتصور الإنسان المسلم، وهي عبارة عن محبة متزايدة يدفعها إلى التزايد حديث رسول الله ﷺ:  ما تحابّ اثنان في الله تعالى إلا كان أفضلهما أشدهما حباً لصاحبه  [رواه ابن حبان: 566، والبيهقي في الشعب: 8630، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 5594].

انظروا أيها الأخوة محاسن الدين الإسلامي، محاسن الإسلام عظيمة جداً، أحياناً ما نتصور، نتكلم أن الإسلام أحسن والإسلام أفضل والإسلام، لكن فسِّر كلامك، كيف الإسلام أحسن؟ لا تجد تفاسير، لكن عندما ندقق في بعض الآيات والأحاديث: إلا كان أفضلهما أشدهما حباً لصاحبه  معناه: المحبة في ازدياد، وكلما أحببت أخاك أكثر كلما ازددتَ تقرباً عند الله وفضلاً عند الله أكثر، فمعنى ذلك: أن الأفراد في المجتمع المسلم متلاصقين في غاية التلاصق، ويحب بعضهم بعضاً حباً جماً، هكذا يريد الله من المسلمين، ولذلك المجتمع الإسلامي مجتمع متماسك لا يمكن أن تتخلله الشائعات، ولا أن تتخلله الأشياء المغرضة، ولا أن تتخلله وشايات الأعداء ومخططاتهم؛ لأنه إذا كان الأفراد في تلاحم، فمن أين ينفذ الشر؟ كيف؟ لا يمكن.

ويقول رسول الله ﷺ موضحاً الأجر العظيم للمحبة في الله والأخوة في الله وبعض بنودها، يقول ﷺ عن الله في حديث قدسي: حقّت محبتي للمتحابين فيّ، وحقّت محبتي للمتواصلين فيّ  صلة، زيارة، رسالة بالهاتف،  وحقتّ محبتي للمتناصحين فيّ، وحقّت محبتي للمتزاورين فيّ "فيّ" في سبيل الله، ((وحقت محبتي للمتباذلين فيّ)) [رواه أحمد: 22002، والحاكم: 7315، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 4321].

وقال ﷺ أيضاً:  المتحابّون في الله أو في لفظ آخر: ((فيّ)) في الله يعني  على منابر من نور يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون والشهداء [رواه أحمد: 22782، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 3019]. هذا يبين عِظَم المحبة وفضل المحبة ومنزلة المتحابين في الله عند الله ، يكونون في منابر من نور منابر مرتفعة من نور يغبطهم على هذا المكان النبيون والصديقون والشهداء، وعن أبي هريرة  قال: "قال رسول الله ﷺ:  إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابّون بجلالي؟ أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي [رواه مسلم: 2566].

الإخوان -أيها الإخوة- سلعة غالية جداً لا يمكن أن تجد لها بديلاً، ولو بذلتَ أعلى الأسعار

                              

  إخوانكم لا شيء أغلى منهم لا شيء يعدلهم من الأشياء

وفعلاً لا يمكن أن تجد سعراً في الدنيا ولا عرضاً من الدنيا يوازي ويساوي أخ واحد لك في الله، تتآخى أنت وإياه بصدق على منهج الله ، لا يمكن، لا شيء يعدلهم من الأشياء.

نأخذ حالة من الحالات التي تبين لنا أهمية الأُخوّة في الله، المرء -أيها الإخوة- قليل بنفسه، واحد، قليل بنفسه، كثير بإخوانه، الواحد منا لوحده لا يقوى على مواجهة الحياة وظروف الحياة ومشاكل الحياة، والعقبات التي تكون في طريقه مطلقاً لوحده لا يمكن، المشاكل كثيرة جداً، الهموم عظيمة، والمهمات صعبة، أنت الآن -أيها المسلم- مكلّف بمهمات وستواجهك عقبات أثناء الطريق، إذا ما كنت في وسط إخوة في الله ستذوب شخصيتك في هذه الحياة الدنيا الفانية، ستذوب شخصيتك، وستنهال عليك المصائب من كل جانب، ولا من معين.

وتظهر أهمية الأخوة في الله بجلاء كبير عندما يكون المسلمون في حالة ضعف واضطهاد، وعندما يكون الإسلام متأخراً في نفوس الناس، وعندما ينحسر المدُّ الإسلامي في العالم، ويحس المسلمون بالغُربة، عند ذلك تنبو وتنبض، تنبع من هنا تنبع أهمية الأخوة في الله.

حاجة المرء لأخيه في الله في زمن الفتن

00:15:52

أيها الإخوة، إن ما يمر بالمسلمين اليوم من ظروف كالليل الحالك، وكالظلمة الشديدة، في خضم هذه الجاهليات العاتية التي تصدم المسلمين من كل جانب، يحتاج الفرد المسلم إلى تقوية نفسه، وإلى إيجاد شيء يرتكز إليه عندما يواجه هذه المصاعب والتحديات، تحديات كثيرة تواجه المسلمين اليوم، لو لم تكن هناك أخوة في الله تثبِّت هذا المسلم على الدين الذي يتزلزل بفعل العواصف التي تأتي من أعداء الإسلام، لو لم يكن هناك أخوّة في الله تثبت هذا المسلم، وتعينه وتسرّي عنه؛ لأن المسلمين الآن يعيشون في غربة، إذا ما كان هناك أُخوّة تسهِّل عليك هذه المصائب، وتزيل عنك هذه الوحشة التي تجدها في قلبك، فكيف يكون لك الاستمرارية في السير في هذا الطريق؟

من هنا كانت الأخوة في الله مهمة جداً، مهمة جداً في طلب العلم، مهمة جداً في الدعوة إلى الله، مهمة جداً في تربية النفس، مهمة جداً إذا نزلت بك مصائب، مهمة جداً إذا واجهتك عقبات.

إذا فكّر الإنسان -أيها الإخوة- في مواجهة العالم وأعداء الإسلام لوحده يحس أنه لا شيء، ماذا يمكن أن يفعل لكي يغير الواقع؟، ماذا يمكن أن يفعل بمفرده؟ لا شيء، عندما يفكر منطلقاً من إخوانه يحس بأن هناك قوة كبيرة جداً تدفعه إلى الأمام، وتقوِّي هذه النفسية حتى تجعلها على مستوى التحديات، فتقاوم هذه التيارات وتشقُّ طريقها بقوة، هذه النفسية التي تدعو إلى الله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وبدون الأُخوّة في الله يشعر الإنسان بالإحباط، ويشعر باليأس ويفقد الأمل في تغيير الواقع.

نماذج رائعة للأخوة في الله عند سلفنا الصالح

00:18:12

وإذا أخذنا نموذجاً من النماذج التي كانت عليها حياة السلف في باب الأخوة في الله، كيف كانت مجتمعاتهم؟ كيف كانت جماعاتهم؟ كيف كانت بيئاتهم؟ كيف كانت مجالسهم العلمية؟ فاستمع معي لما يقوله الإمام أبو حازم الأعرج -رحمه الله تعالى-: "لقد رأيتُنا عند زيد بن أسلم -زيد بن أسلم من العلماء-، لقد رأيتُنا عند زيد بن أسلم أربعين فقيهاً، أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا، وما رأيتُ في مجلسه هذا الفقيه متمارِيَين"، ما وجدنا اثنين يتجادلان مع بعض، "ولا متنازِعَين في حديث لا ينفعنا".

هكذا كانت مجالس السلف، هذا هو العموم الشائع، لا يعني أنه لم تكن هناك مشاكل ولا أمراض، لكن هكذا كانت مجالسهم، أربعون على قلب رجل واحد، لا مشاكل بينهم.

الآن -أيها الإخوة- ونحن نتكلم عن الأخوة، والأُخوّة لها واجبات كثيرة، تعداد الواجبات، والواجبات قد يكون أكثركم على اطلاع بمعظمها، فتعداد الواجبات قد يأخذ منا وقتاً نحتاجه في عرض مشاكل أخرى، لكن عندما نتكلم عن الأُخوّة وحلاوة الأُخوّة وواجبات الأُخوّة يجب -أيها الإخوة- كما أمرنا الله إن الله ذمّ ناساً من المؤمنين بقوله: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ  [الصف: 2]. يجب أن نرتفع من مستوى الكلام والنظريات؛ لأن الكلام حول الأخوة قد يكون سهلاً وجميلاً ومستساغاً، وعندما تقرأ تنبسط من الكلام الذي تقرؤه في بعض الكتب، والقصص التي تسمعها عن بعض السلف، واحد ذهب فوجد أخاه في الله ليس موجوداً، فسأل الجارية: أين ذهب؟ قالت: غير موجود، فشاهد هنا، قال: دلوني على مكان المال، فدلته الجارية، فأخذ ما يحتاج إليه وانصرف، فلما رجع الأخ المسلم وعرف ما فعل أخوه وأنه أخذ المال الذي يحتاجه ولم يشعر بأي حرج، قال للجارية: "إن كنت صادقة فأنت حرة لوجه الله، وذهب يفّتش المال فوجده فعلاً، فعتقت الجارية".

هذا الكلام جميل جداً القصص ممتازة، لكن القضية الارتفاع من مستوى الكلام والنظريات إلى مستوى الواقع العملي والأفعال، هنا النقطة، ليست النقطة في وصف الأخوة والإسهاب في عرض المبادئ النظرية، المهم الآن: ما هو التطبيق؟ لذلك عندما ذكرنا في عنوان المحاضرة: "الأُخوّة في الله" بين المفهوم الإسلامي؛ لأن بعض الناس يعرفون المفهوم الإسلامي، والواقع الحاضر والتطبيق الحاضر الذي يحدث الآن، المفهوم قد يكون واضح لا إشكال فيه، لكن التطبيق كيف؟ كيف نطبق الآن؟ هنا لا بد أن نقف.

أحاديث نبوية في فضل الأُخوّة في الله

00:21:41

لكن لا بأس أن نستعرض وإياكم بعض الأحاديث التي ذكرها الرسول ﷺ والتي تبين بعض سمات وصفات الأُخوّة، يقول رسول الله ﷺ:  أحبُّ الناس إلى الله أنفعهم هذا الحديث الحسن الذي رواه الطبراني عن ابن عمر مرفوعاً إلى الرسول ﷺ:  أحبُّ الناس إلى الله أنفعهم  الذي ينفع أكثر يحبه الله أكثر،  وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة واقع في مشكلة فتزيلها عنه، أو تقضي عنه ديناً، هذا الأخ عليه ديون وعليه نقود، تزوج مثلاً وعليه ديون، احتاج في حاجة معينة، صار له حادث في السيارة، يبني بيتاً ، صار عليه دين، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً  أحياناً قد يجوع المسلم، قد يجد الطعام أو لا يجد الطعام المهم أن يكون في مناسبة أو يكون في وضع جائع،  أو تطرد عنه جوعاً، ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجته  يقول الرسول ﷺ:  ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجته أحب إليّ من أن أعتكف في المسجد شهراً  المسجد النبوي الصلاة فيه بألف، وفي بعض الروايات: "خمسمائة"، الآن يعتكف الواحد شهراً في المسجد النبوي، سيصلي: 150 صلاة تقريباً، فالاعتكاف ليس فيه صلاة فقط150صلاة، فيه تسبيح وتهليل، وفيه أجر الاعتكاف نفسه، سيكون الأجر هائلاً، اعتكاف في المسجد النبوي في الصلوات 150 صلاة، تسبيح بعد كل صلاة، ذكر لله، والصلوات التي تكون بين الأذان والإقامة، وأجر الاعتكاف نفسه، قراءة قرآن، أجر هائل جداً عظيم لا يتصور، يقول الرسولﷺ:  ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليّ من أن أعتكف في المسجد شهراً  [رواه الطبراني في الأوسط: 861، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 176]. 

تمشي مع أخيك المسلم في حاجة، فتأخذ أكثر من هذا الأجر، من أجر الاعتكاف في المسجد النبوي شهراً، نفكر في هذه المسألة، هذه المسألة تحتاج إلى تفكير؛ لأن تصورها صعب، أمشي مع أخي المسلم لأقضي له الحاجة، عنده مشكلة، أو عنده شيء يبغى له مساعدة فيه، مساعدة أي مساعدة، أمشى معه حتى أقضي له حاجته وأزيل هذه الكربة عنه أفضل عند الله من الاعتكاف شهراً في المسجد النبوي، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته أثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام  [رواه البيهقي في الشعب: 7262، وابن أبي شيبة في مصنفه: 35481، والأصبهاني في الحلية: 6/ 348،  وحسّنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 176].

متى تزل الأقدام؟ على الصراط،  الصراط أحدُّ من السيف، وأدقُّ من الشعرة  [رواه البخاري: 806، ومسلم: 182].

كما قال الرسول ﷺ مضروب على متن جهنم يعبر عليه الناس فتزّل الأقدام، الذي يمشي في حاجة أخيه المسلم حتى يثبتها له يثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام.

لاحظ الرسول ﷺ يقول:  حتى يقضيها له   ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يقضيها له  [رواه الطبراني في الكبير: 13646، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 176].

لأن بعض الناس -وهذه مشكلة- تأتي تخبره أن عندك مشكلة، تقول: يا أخي أنا عندي المشكلة الفلانية كذا وكذا، نعم، أبشر ولا يهمّك، أنا مستعد غداً أذهب، وهو يعلم أنه لن يفعل شيئاً بالموضوع، لكن من باب المجاملة؛ سأذهب معك، ويذهب معك وبعد ذلك في الأخير ينتهي المشوار على ولا شيء، وهو يعلم سلفاً، وقد يخبئ في نفسه وسائل أخرى للوصول إلى المقصود، لكن يقول: فلان هذا قد يكون واسطة خير، ولكن أنا سأجعله لنفسي يمكن أنا أحتاج لهذا الشخص في يوم من الأيام، فما أريد الآن أحرق هذه الورقة من أجل فلان، فأنا قد أذهب وأكلمه كلمتين لا أشد عليه ولا ألزّم عليه وسيرفض، لكن من باب رفع الحرج لهذا الذي جاءني كل يوم على رأسي، اعمل لي يا فلان، أذهب معه الآن وبعد ذلك يعرف أن المشكلة لن تنتهي، فلذلك يقول الرسول ﷺ:  حتى يثبتها له  أو على الأقل يتفانى بجهده الكامل حتى لو لم تنته المشكلة لكن بذل جميع ما في قدرته وجميع ما في وسعه، ويقول الرسول ﷺ:  اتق الله، ولا تحقرنّ من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وأن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط  حديث صحيح رواه ابن حبان عن جابر بن سليم الهجيمي ،  وأن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط  [رواه ابن حبان: 521، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 98].

الآن كثير من المسلمين يتلاقون فإذا إشارات العبوس، وجبين هذا مقطّب، ومتجهّم الوجه، هذه حال كثير من المقابلات، والرسول ﷺ يقول:  ابتسامة في وجه أخيك المسلم صدقة  [رواه الترمذي: 1956، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 2908].  ولا تحقرنّ من المعروف شيئاً  [رواه مسلم: 2626]. ولو هذه الابتسامة؛ لأن هذه الابتسامة تعبِّر عن أشياء كثيرة.

فضل التزاور بين الأخوة في الله

00:22:51

ومن حقوق المسلمين على المسلمين، من حقوق الأُخوّة في الله: التزاور، يقول الرسول ﷺ: إن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى  انظر، ذهب من قرية لقرية، ليس مثلنا الآن نتكاسل نذهب من بيت لبيت، ذهب من قرية إلى قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته ملكاً في الطريق، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه نعمة تربُّها؟  يعني: أنت تذهب له تريد منه شيء في مصلحة معينة،  قال: لا، غير أني أحببته في الله  غير أني أحببته في الله، سأخرج فقط في هذه الرحلة؛ لأني أحببته في الله، فقال:  فإني رسول الله إليك  هذا الملك يقول للرجل:  فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبّك كما أحببته فيه [رواه مسلم: 2567].

وقال ﷺ في الحديث الصحيح:  ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة؟  فذكر عدة أصناف من الرجال، ثم قال: والرجل يزور أخاه في ناحية المصر في الله  [رواه الطبراني في الأوسط: 307، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 287]. "والرجل يزور أخاه في ناحية المصر"، يعني: في ناحية البلد في الله، يزوره في الله، ليس لأنه محتاج منه أي شيء، لا، في الله فقط، في الجنة، هذا من أنواع الناس الذين في الجنة.

ومن الزيارات المؤكدة -أيها الإخوة- كما تعلمون: زيارة المريض، وإذا مرض فعُده  [رواه مسلم: 2162].

الآن الواحد منا يمرض أخوه المسلم، ويجلس في المستشفى أيام، ويُشفى من المرض، ويخرج من المستشفى، وبعد ذلك يسمعه، كأنه نشرة أخبار، يسمع خبر أخيه هذا مثل نشرة الأخبار، صار كذا وكذا، وبعد ذلك انتهت الحادثة بكذا وكذا، دخل فلان المستشفى فمكث فيها أربعة أيام وأُجريت له عملية والآن هو في البيت يأخذ نقاهة وبعد ذلك مثل الأخبار نسمعها لإخواننا المرضى حقيقة، كثير من الأشياء تعود إلى التقصير.

والزيارات الآن بين المسلمين ليست على المستوى المطلوب، فكثير من الناس يتعذرون بالأشغال، وغالب الأشغال دنيوية، وتجد الاثنين عندما يتقابلون يقول الواحد للآخر: يا أخي أنا عارف أنك مشغول وأنا مشغول، لذلك من أجل هذا لا توجد زيارات، أنت مشغول وأنا مشغول، فلا داعي أني أشغلك زيادة ولا أنت تشغلني زيادة، فلذلك ما في زيارات، ليس صحيحاً، يعني هل هناك واحد مشغول أكثر من الرسول ﷺ، ومع ذلك كان يذهب يزور أم أيمن امرأة كبيرة في السن من الأنصار، كان يزورها، الواحد قد لا يُرجى من وراء هذه المرأة نصر الإسلام ولا الجهاد، ولا كذا، لكن الرسول ﷺ الذي لا يوجد مشغول أكثر منه كان يذهب ويزور أم أيمن ويزور غيرها من الصحابة، وكثير من الأحاديث الفعلية، تجد الراوي يقول: وأن الرسول ﷺ ذهب ليزور فلاناً، وأن الرسول ﷺ عاد سعد بن عبادة، وأن الرسول ﷺ كذا، زيارات الرسول ﷺ كان يزور.

وكان الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- إذا بلغه عن شخصٍ صلاحٌ أو زهد أو قيام بحق، أو اتباع للأمر للسنة سأل عنه، وأحبّ أن يجري بينه وبينه معرفة، وأحبَّ أن يعرف أحواله، كان الإمام أحمد حريصاً على جمع أهل السنة، وتوحيد جهودهم، وكان حريصاً على زيارتهم في الله، فكان إذا سمع عن رجل فيه خير وفيه اتباع للسنة، أحب أن يجري بينه وبين ذلك الرجل معرفة، وأن يزوره، وأن يلتقي به، وأن يتحدث إليه، وأن يتعرّف إلى أخباره.

النصيحة بين الإخوان في الله

00:27:04

وكذلك من الواجبات الأخوية: مسألة النصيحة، يقول الرسول ﷺ: من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه  [رواه أبو داود: 3657، وحسّنه الألباني في المشكاة: 242].

من أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه، واحد جاء مثلاً يستشيرني: هل يتوظف في المكان الفلاني أو الفلاني؟ هل يتزوج من بيت فلان أو بيت فلان؟ هل يُقدم على الخطوة الفلانية أو لا؟ وأنا أشرت عليه بأمر غير الذي أنا أعتقد أنه هو الصحيح، فقد خانه، والآن هذا يحدث من بعض المسلمين حسداً وكيداً، يقول له: أذهب في الوظيفة الفلانية أو الفلانية؟ يقول: لا، تلك أحسن، بينما الحقيقة غير ذلك، حسداً من عند نفسه، يقول: هذا غداً يأتي للوظيفة، وهذا معه شهادة، وغداً يترقى ويصبح أعلى مني، لا، سأدله خطأ، وأوجهه خطأ، وواحد يقول للثاني: أريد عمل مشروع تجاري، ما رأيك أعمل هذه القضية، أو في هذه القضية؟ فيقول: لا، هذا مشروع فاشل، لا، عليك بالأمر الفلاني أحسن؛ حسداً من عند نفسه؛ لأنه يخاف أن يعمل غداً مشروعاً، يصبح أحسن منه، ويصير أكثر مالاً، وهكذا أحياناً يقول الواحد: أريد أعمل تجارة، وأنت قد تفهم من الموضوع أن هذا المشروع طيب مناسب، تقول: لكن هذه الأيام الدنيا ما تساعد وكذا، وقد تفشل وهذا تثبيط، ليس لأنه فعلاً الموضوع مثبّط، لا، حسداً من عند نفسه، يشير عليه بأمر وهو يعلم أن الرشد في غيره، هذه خيانة، وقطع للعلاقات الأخوية بسكين الخيانة والنصيحة -أيها الإخوة- إذا استنصحكَ فانصحه [رواه أبو داود: 3657، وحسنه الألباني في المشكاة: 242].

قال العلماء: هذه واجبة، السلام بدء السلام سُنّة، لكن إذا استنصحك طلب منك النصيحة يجب عليك أن تنصحه، وإذا ما نصحته تأثم.

أشكال النصيحة بين المسلمين

00:29:18

النصيحة تأخذ عدة أشكال وعدة جوانب، فمن النصائح مثلاً: يقول الرسول ﷺ مبيناً أهمية النصيحة:  المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكفُّ ضيعته، ويحوطه من ورائه هذا حديث في السلسلة الصحيحة برقم: 926،  المؤمن أخو المؤمن، المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن يكفُّ ضيعته ويحوطه من ورائه [رواه أبو داود: 4918، وحسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة: 926].  أنت الآن إذا نظرت إلى المرآة ستشاهد أي عيب فيك في هذه المرآة، أي عيب في الصورة وفي الخِلْقة تشاهده في المرآة.

يقول المناوي -رحمه الله تعالى- في شرح الحديث: "فأنت مرآة لأخيك يبصر حاله فيك، كأنه أنت المرآة يبصر حاله فيك، وهو مرآةٌ لك تبصر حالك فيه، يكفُّ الضيعة، يعني: يجمع عليه معيشته ويضمها إليه، فيلّبي له احتياجاته وما يحتاج إليه في معيشته، إن كان عنده فضل يعود به عليه، ويحوطه من ورائه يعني: يحفظه ويصونه ويذبُّ عنه ويدفع عنه من يغتابه أو يلحق به ضرراً، ويعامله بالإحسان والشفقة والنصيحة، ويحوطه من ورائه، هذه من واجبات الأخوة، نحن في مجلس وواحد يتكلم على فلان أنا أقوم وأثور وأتكلم وأرد عن هذا الغائب، ويحوطه من ورائه من ورائه إذا صار في كلام تجد هذا الأخ يذب ويدافع.

الشاهد: شبّه الرسول ﷺ المؤمن للمؤمن بالمرآة، يقول الشارح: "فكما يزيل عنك كل أذى تكشفه لك المرآة فأزل عنه كل أذى به عن نفسه" [فيض القدير: 1/174].

مثلما أنك إذا نظرت في المرآة تزيل الأذى عن نفسك، كذلك هذا الأخ المسلم مثل المرآة، هو الذي يدلُّك على عيوب نفسك، فأنت ترى به عيوبك أنت، فتصلح عيوبك بواسطته هو، ولذلك الله أمر بالتواصي فقال:  وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ  [العصر: 1 - 3] ، لا بد من التواصي، والتواصي يعني النصيحة، يا أخ فلان أوصيك بكذا، بماذا توصيني؟ أنصحك بكذا، بماذا تنصحني؟ لابد من مدِّ جسور النصيحة بين المسلمين؛ لأنك قد لا ترى عيوبك بنفسك، لكن الآخرين يرون العيوب.

قال الحسن البصري -رحمه الله تعالى-: "إلى مَن يشكو المسلم إذا لم يشكُ إلى أخيه المسلم؟ ومن الذي يلزمه من أمره مثل الذي يلزمه؟ إن المسلم مرآة أخيه، فيه يبصر عيبه، ويغفر له ذنبه، قد كان من كان قبلكم من السلف الصالح يلقى الرجلُ الرجلَ فيقول: يا أخي ما كل ذنوبي أُبصر، أنا ما أرى كل ذنوبي، ولا كل عيوبي أعرف، فإذا رأيت خيراً فمرُني به، وإذا رأيت شراً فانهني".

إذا جئنا الآن على مستوى هؤلاء الإخوة في الله، قد لا تحدث النصيحة لأسباب، منها: قد يتهيّب المسلم الأخ المسلم من نصح أخيه، قد يكون أكبر منه سناً فلا ينصحه، قد يكون أعلى منه قدراً في العلم أو الجاه فيتهيب من نصحه، يخاف أو يصير عنده نوع من الوجل، فلان أكبر مني كذا، كيف أُقدِّم له النصيحة؟ فيسكت أحياناً قد يمسك عن النصيحة، لا يقول لأخيه ماذا يدور في نفسه، واحد مثلاً أسلوبه فظ ويعاملني بقسوة، من الخطأ في بعض النفسيات: تكتم الأساليب الخاطئة التي تعامل بها، نفسية كتومة، تكتم، تتراكم الأشياء، معاملة خطأ، وكلمة خاطئة، وأسلوب عنيف، شيئاً بعد شيء وقطرة بعد قطرة حتى يتدفق السيل الجرار الذي يقطِّع العلاقات ويهدم الجسور بين هذا الأخ وأخيه، بسبب الكتمان، كتم في النفس، الواحد يشيل في نفسه أحياناً، ويخبّئ حتى يأتي الوقت الذي ينفجر فيه، فإذا انفجر معناه انتهت العملية.

فلذلك لا بد من المصارحة، لا بد أن نتصارح فيما بيننا، يكون هناك مصارحة، إذا وجدت خطأ، وما استطعت أن أبتلعه تماماً وبقي في نفسي أثر، ليس صحيحاً أن أبقي هذا الأثر وأثر آخر، حتى تنفجر القضية وتنقطع علاقتي بهذا الأخ، ولا أريد أن أقابله مرة أخرى، لابد أن نتدارك الأخطاء أولاً بأول، ونتصارح فيما بيننا، وإلا ما قمنا بواجب النصيحة ولا الأُخوّة في الله.

أحياناً تكون السلبية، اللامبالاة من العوامل التي تحجب النصيحة، إنسان ما يحس بأهمية النصيحة، ولا بقيمة النصيحة، فلا يبالي بإلقاء النصيحة، يكون سلبياً، يقول: سأدع غيري ينصحه، هناك غيري من الناس ينصحه، لا داعي أكلّف نفسي بالنصيحة، هذه السلبية، قد يكون هذا العيب ما رآه إلا أنت، لا بد أن تنصح، وقد يكون كلام واحد غير كافٍ، لكن عندما يجتمع الكلام من عدة مصادر يحدث التأثير، فلا تقول: أنا ما أبغى أتكلم، لا، انصح وتكلم، قد يكون كلامك في غاية الأهمية، لا تحقرنّ من المعروف شيئاً [رواه ابن حبان: 521، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 98].

حفظ المسلم لعرض أخيه المسلم

00:36:03

وكذلك حفظ عرض المسلم، والمحافظة على قيمته، من الأمور المهمة التي تنتهك الآن غيبة ونميمة وسب وشتم وانتقاص، أشياء كثيرة تقع بسبب عدم استشعار المسلم لحرمة أخيه المسلم، عدم الاستشعار بأن اللحوم مسمومة،  أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا [الحجرات: 12].

ولذلك فإننا في الوقت الذي نحتاج فيه إلى تطبيق قواعد الأُخوّة في الله، وصيانة إخواننا المسلمين، نجد ألسنة الافتراء والكذب والبُهتان تنطلق بلا حدود في تجريح الأُخوة بين المسلمين، وفي بيان عيوبهم ومثالبهم، إذا كان الكلام عن عيب الأخ في غيبته حرام، فكيف إذا كانت القضية غير موجودة في الأخ، وإنما هي افتراء عليه وبهتان له؟ كيف يكون هذا عند الله ؟ افتراءات تبرر بتبريرات عجيبة، والإسلام بريء منها، بقصود أحياناً يتوهم الإنسان أن قصده حسن، يتوهم أن هذه مصلحة، فيبدأ يجرح ويتكلم، ولكن المسألة عند الله بخلاف ذلك، "كلمة تهوي في النار تهوي بالإنسان في النار سبعين خريفاً"، كلمة واحدة، وهذا الشخص منطلق بلا حساب، يكيل التهم والسِّباب والشتائم والتنقّص من إخوانه المسلمين، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، فبعض الناس من منظار التعصب أحياناً لا يعامل بمبادئ الأُخوّة في الله إلا من هو على شاكلته، وأما إذا اختلف مع شخص آخر في رأي من الآراء، أو منهج من المناهج، أو طريقة من الطرق، فإنه يعامله بالفظاظة والغلظة والقسوة التي لا تليق بالمسلم أبداً، الرسول ﷺ قال:  المسلم أخو المسلم [رواه البخاري: 2442، ومسلم: 2564].

ما دام أنه مسلم لابد أن تؤاخيه، هذه الحواجز التي توضع أحياناً بسبب الخلافات في الآراء يجب أن تزول، وألا تكون مانعة من مد جسور الأُخوّة في الله إلى جميع الأخوة المسلمين في جميع أقطار المعمورة متى وصلت إليه، متى وصلت إليه فهو أخوك المسلم، الأخ المسلم ليس من جيراني فقط، ولا من قرابتي فقط، ولا من بلدي فقط، ولا ممن هو على شاكلتي، يبقى أخي المسلم هو أخي المسلم ما دام أنه من أهل السنة والجماعة، ما دام أنه على العقيدة الصحيحة، مادام أنه يتمسك بسنة الرسول ﷺ، ما دام ليس مبتدعاً ولا ظالماً ولا فاسقاً، فهو يبقى أخي في الله ، بل إنه حتى لو كان فاسقاً فإن ابن تيمية -رحمه الله- يبين فيقول: "وقد يجتمع في المسلم إيمان وفسوق" لأن الله يقول في القرآن بإيضاح بأنه قد يحصل في المؤمن إيمان وشرك أصغر، أو إيمان وفسق، لكن لا يجتمع الإيمان مع الشرك الأكبر، ولا مع الكفر، فيقول ابن تيمية -رحمه الله-: "وكل إنسان نواليه بحسب ما معه من الإيمان، ونبغضه بحسب ما هو عليه من الفسق" فنواليه ونعاديه في نفس الوقت، حتى لو كان فاسقاً له حق من الموالاة، لا بد من الموالاة في الله.

فالآن نعود فنقول: إن قصر حقوق الأخوة في الله على طائفة من المسلمين دون الباقي هو انحراف وقصور في فهم الأُخوّة التي أمر الله بها، وينبغي أن تكون هذه القضية واضحة، ينبغي أن تكون هذه المسألة مطبقة في واقعنا وإلا فنحن مقصرون، فإذن، هذا الافتراء وهذا البهتان الذي ينطلق أحياناً من بعض ألسنة المسلمين ضد إخوانهم الآخرين، هو من الأشياء التي لا ترضي الله ، وصار شعار بعض المسلمين بدلاً من: تعال بنا نؤمن ساعة، صار شعارهم: تعال بنا نغتب ساعة، فتجد المجالس كلها مؤسسة على الغيبة وعلى القدح وعلى الانتقاص.

الخلاف لا يفسد الودّ بين الإخوة

00:41:30

فإذن، أيها الإخوة، الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، كوني أختلف أنا وإياك في مسألة فقهية، كوني أختلف أنا وإياك في رأي في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، البشر من طبيعتهم الاختلاف، هذا طبيعي، كوني يحصل بيني وبينك اختلاف في الرأي، هذا لا يعني مطلقاً أن أعاديك وأبغضك، أبداً، الصحابة كانت تقع بينهم خلافات، علي بن أبي طالب وقع بينه وبين بعض الصحابة حروب باجتهادات، ماذا كان يقول علي عندما يُشتم بعض الذين قاتلوه في المجلس؟ كان ينهى نهياً شديداً عن ذلك، وكان يقول عندما يُطلب رأيه فيمن قاتله يقول: "إخواننا بغوا علينا"، هو بويع على أنه خليفة، حصلت اجتهادات من بعض الناس الآخرين، منهم المأجور مرة ومنهم المأجور مرتين، منهم مجتهد مخطئ ومنهم مجتهد مصيب -رضي الله عنهم-، كان يقول: "إخواننا بغوا علينا" [رواه النسائي في السنن الكبرى: 16713، وابن أبي شيبة في مصنفه: 37763 والبغوي في شرح السنة: 10/235].

ما أخرجهم عن كونهم إخوة أبداً، إخواننا لكن أخطئوا علينا وبغوا علينا، لكن ما زالوا إخواننا، لا يزالون إخوة، لا يزالون إخوة لنا، الله  قال: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا  [الحجرات: 9]. كيف سماهم مؤمنين وهو يقول: اقْتَتَلُوا  ما أخرجهم عن صفة الإيمان، فلذلك هذا الصنف من الناس الذي يشبّهه بعض المفكرين المسلمين بالذبابة التي لا تقف إلا على الخبث، وتنقل هذا الخبث من مكان إلى آخر، هؤلاء الذبابيون إن صحّت التسمية الذين يقفون على الخبث، يتتبعون سقطات الناس وعيوب الناس وأخطاء الناس وعوراتهم، ثم يجلسون في المجالس ويعيدون ويكررون ما خرجوا به، هؤلاء الناس مثل الذباب لا يقع إلا على الخبائث وينقل هذه الخبائث من مكان لآخر،

أنسى عداء المجرمين سياسة وأغيظ أهلي من بذيء سبابي
للظالمين تحيتي ومودتي ولأهل ديني طعنتي وحرابي
هذا جحيم لا يطاق ومنطق يأباه وحش قابع في الغاب

مهما كان أيها الإخوة، المسلمون في العالم إخوة لنا في الله ما داموا على طريقة أهل السُّنة، والإحساس بأحاسيس الإخوة والشعور بمشاعر إخوانك في الله عبادة عظيمة، وذكر عن الشيخ محمد رضا -رحمه الله تعالى- الداعية المعروف، أنه من فرط اهتمامه بأمور المسلمين ومشاكلهم يكون في حالة يذهل فيها عن نفسه، يعني يسرح أحياناً وهو في همّ عظيم، وهو يفكّر في واقع المسلمين، ومن الطريف ما حصل له مرة؛ أن أمه اقتحمت عليه خلوته وهو جالس يفكر في وضع المسلمين، فرأته واجماً، فقالت له تمازحه باللهجة العامية، هو في مصر، قالت له: هو في مسلم مات اليوم في الصين؟، يعني مهموم أكيد اليوم هناك مسلم مات في الصين.

فإذن، كان الرسول ﷺ قدوتنا في هذا، كان يشارك المسلمين آلامهم وآمالهم، كان يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، كان يشاركهم.

أيها الإخوة، من المؤسف أن تجد أحياناً أخ وقع في مشكلة أو مصيبة وهو مغموم والآخر أمامه ينكت ويضحك ومبسوط، وهذا أمامه الآن مغموم وهذا ولا هو معطي له أي اعتبار ولا يشاركه في أي شعور من مشاعره، هذا مما يقصم عرى الأخوة في الله.

وكذلك من واجبات الأخوة أن تلتمس الأعذار لأخيك، والمؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب الزلات، ومن روائع كلام الشافعي -رحمه الله تعالى- أنه كان يقول: "من صدق في أخوة أخيه قبل علله" كل واحد فيه عيوب وأخطاء، لا يوجد إنسان كامل، "قبل علله، وسدّ خلله، أو سدّد خلله، وعفا عن زلله"[طبقات الشافعيين: 29].

هذا سيخطئ عليك ويزل عليك، فأنت موقفك: أن تعفو عن زلّته.

السلبيات التي تقع في أوساط الإخوة في الله

00:46:46

الآن -أيها الإخوة- سنتكلم عن بعض القضايا الواقعية التي تحدث في أوساط الإخوة في الله، وهذه الأشياء من المشاكل التي تواجهنا، ولا بد من إيجاد الحلول لها، الآن نتيجة التقارب الذي يحدث من المسلمين الإخوان في الله ، فإنهم يكثرون من الجلوس مع بعضهم، تتعدد مجالسهم، يجلسون مع بعضهم كثيراً، هذا طبيعي؛ لأن الخير لا بد أن ينجذب إلي الأخيار، فسيجلسون مع بعضهم، هذا الجلوس ليس بمحمود دائماً، بل إنه ينتج عنه مشاكل، نحن الآن نريد أن نناقش بعض هذه المشاكل، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "اجتماع الإخوان على قسمين"، الاجتماعات التي تقع الآن بين الناس على قسمين: "اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت، وهذا أقل ما فيه أنه يفسد القلب، ويضيّع الوقت، والثاني: اجتماع على التعاون على أسباب النجاة، وهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها".

الآن ليس كل الناس الطيبين إذا اجتمعوا مع بعض تكون النتائج طيبة، لا، أحياناً الناس يجتمعون مع بعضهم يكون الاجتماع بسبب أن فلاناً فيه توافق وتجانس بين شخصيتي وشخصيته، هناك مطابقة بين شخصيتي وشخصيته، وهناك تآلف، أرتاح له ويرتاح لي، المسألة مسألة ارتياح، فنتيجة لذلك نجلس مع بعضنا كثيراً، هذا الجلوس إذا تعدى حداً معيناً فإنه يكون مذموماً؛ لأن هذا الجلوس هو عبارة عن استئناس بالجالس، وتفكُّه ومفاكهة بالحديث معه، وإمضاء للوقت، وهذا الإنسان معشره طيبة وحديثه جميل، ونحن نتبادل مع بعض أحاسيس وأخبار، لا تتعدى المسألة الارتياح، لذلك تجد هذا المجلس لا يوجد فيه تواصي بالحق والصبر، ولا فيه علم شرعي يطرح، ولا مسائل تناقش مفيدة، وإنما تكون قضايا دنيوية أو أحاسيس وأشياء تقال في هذه المجالس لمجرد الارتياح فقط، هذه الأشياء يقول عنها ابن القيم -رحمه الله-: "هذا أقل ما فيه أقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت".

أما النوع الثاني: "فهو الاجتماع على التعاون على أسباب النجاة، التعاون لطلب العلم" [الفوائد لابن القيم: 52].

التعاون للمشاورة والمناقشة في أوضاع المسلمين، وماذا يصلح لهم، التعاون، الجلوس لحل مشكلة معينة واقع فيها إنسان مسلم، أو بعض المسلمين، مجالس الوعظ والتذكير وزيادة الإيمان، هذه المجالس التي تزيد الإنسان صلة بالرحمن، هؤلاء الناس إذا اجتمعوا مع بعضهم يزين بعضهم لبعض، إذا كان المجلس بسبب الارتياح لا بسبب الذكر ولا طلب العلم بسبب الارتياح، مجرد الارتياح والتوافق النفسي، هذا المجلس سيكون فيه سلبيات، من هذه السلبيات بالإضافة إلى ضياع الوقت وفساد القلب تزين بعضهم لبعض، تجد الآن الناس إذا جلسوا مع بعض، كل واحد يداري عيوبه عن الآخر؛ لأنه يصير فيها مجاملات، ويصير فيها كل إنسان يريد أن يظهر أحسن ما عنده، وأحسن الأخلاق التي عنده، فلا يظهر لأخيه على حقيقته، فلذلك إذا غادر المجلس تغيرت طباعه، فيسبب تزيُّن بعضهم لبعض، هذه من آفات المجالس، أن الناس يتزينون لبعضهم، ولا يبدون أمام بعضهم البعض بكل صراحة ووضوح، وإنما يداري العيوب وتنكشف في أماكن أخرى، أحياناً يجلس الإنسان مع أخيه مثلاً في مجلس، فيظهر له بغاية البشاشة وبغاية اللُّطف، وبغاية الحسن في الأسلوب والكلام والأدب، فإذا انقلب إلى بيته وجدتَ علاقته بزوجته علاقة سيئة جداً، لا فيها لُطف، ولا فيها حُسن معاملة، ولا فيها أدب، ولا فيها شيء؛ بسبب التزيُّن الذي يحدث في المجالس، يتزيَّن بعضهم لبعض، هذه من المشاكل، المجاملات، وتزداد الخلطة بهؤلاء الناس عن مقدارها الذي تحتاج إليه، فتتحول إلى شهوة تلهي عن المقصود، وتعطِّل الإنسان عن القيام بالواجبات، هذه حاصلة، تجد بعض الناس يجتمعون مع بعض، ويجلسون مع بعض، وقد يكون فيهم خير، ليسوا من السيئين، ولا أهل منكرات وفسوق، لكن تطول بهم مجالس الاستئناس والارتياح فتلهيهم عن طلب العلم، وتلهيهم عن صلاة النافلة، وتلهيهم عن قراءة القرآن، وتلهيهم عن محاسبة النفس، وتلهيهم عن الدعوة إلى الله.

أيها الإخوة، لا بد أن نفكر جدياً أن هناك من يحتاج إلى أوقاتنا من الضائعين من المسلمين الذين يحتاجوننا بشدة أكثر مما يحتاجه فلان وفلان، عندما نجلس مع بعض لمجرد الاستئناس والارتياح، هذه الارتياحات والاستئناسات تفوت عليك أشياء عظيمة جداً وواجبات كبيرة، بدل أن تجلس يا أخي تتكلم في كلام لا نقول إنه حرام، بل مباح، قم من هذا المجلس واذهب إلى فلان هذا الحائر الضائع، وانصحه وكلمه، لعل الله أن يهديه على يديك، بدلاً من أن تجلس أنت وتضيع الوقت في الكلام والسوالف مع هؤلاء الناس.

وأحياناً؛ لأن طابع المجلس طابع إسلامي، فإن هذا الشيء يغبش على بعض الأنظار فلا ترى هذا الخطأ، فيقول الواحد في نفسه: أنا جالس مع إخواني في الله والحمد لله، وجالس مع ناس طيبين، لذلك لا يفكر في تغيير واقعه، وقد يكون فيه خطأ كبير، أقل ما فيه اشتغال بالمفضول عن الفاضل، وهي مدخل من مداخل الشيطان، الانطلاق في المجتمع أفضل من أن تجلس جلسات الارتياح والمؤانسة، انطلق يا أخي في المجتمع، هناك منكرات كثيرة تحتاج إلى تغيير بشتى أنواع التغيير، هناك أناس يحتاجونك بشدة، هناك أقارب لك يعيشون وهم بحاجة إلى واحد ينصحهم، وأحياناً عندما تأتي وتكلم الناس تجد أن هناك إقبال، هناك تعطش من كثير من الناس، لكن هذه الاستئناسات تشغلك عن هذه القضية، وهذا عيب كبير في المسلم أن يكون هذا وضعه.

ولذلك كان ابن الجوزي -رحمه الله- يحتال على زائريه، ناس يأتون ويزرون، لتضييع الأوقات، ابن الجوزي حسن الكلام والمفاكهة، فالآن يأتونه ليزورونه، وابن الجوزي -رحمه الله- من الناس الذين عندهم عصامية في القراءة وطلب العلم، فإذا كل واحد جاء يريد يكلمه، كل واحد جاء يريد يزوره، معنى ذلك: متى يقرأ لنفسه؟ ومتى يبحث لنفسه؟ ومتى يحاسب نفسه؟ متى يربّي نفسه؟ متى يذكر الله؟ متى يصلي الصلوات النافلة؟ إذا جاء كل واحد يريد يزورني طالع داخل عليّ في كل وقت، ماذا يحدث؟ فكان ابن الجوزي -رحمه الله- يحتال لهذا، فيقول: "فكنت أترك لزيارتهم الأشغال التي تحتاج إلى وقت ولا تحتاج إلى تفكير، كنت أترك هذه الأشياء التي تحتاج إلى وقت ولا تحتاج إلى تفكير، هذه أؤخرها إلى إذا جاني واحد من الناس، "مثل بري الأقلام، وتقطيع الأوراق"[صيد الخاطر: 13].

هذه كان يتركها عندما يدخل عليه الناس، قال: لأني أقع في مشكلة إذا رددت الناس قالوا: لماذا يردنا؟ هذا متكبر، ولا يريدنا، وإذا أدخلتهم وجلسوا ضاع الوقت وذهبت القضية في كلام وسوالف، فصار يرجئ قضية بري الأقلام وتقطيع الأوراق، إذا جاء الناس جلس يقطع ويبري وهذا، ويتكلم معهم حتى ينصرفوا، لا بد من الحكمة في تصريف الأمور، ما يأتي الواحد تقول: انتهى بعد اليوم لن أجلس معك، هذه كلها مجالس كلام فاضي، لن أجلس، لا بد من الحكمة والتروي واتخاذ الأسلوب المناسب.

التعامل الشرعي مع الأخ المخطئ

00:56:50

من القضايا كذلك التي تحدث في أوساط الإخوة: قد يستزل الشيطان مسلماً من المسلمين فيوقعه في فاحشة من الفواحش، أو منكر من المنكرات، أو خطأ شرعي، قد تضعف نفس هذا الأخ المسلم في وقت من الأوقات فيقع في فاحشة أو منكر، يرتكب معصية، يكون وقْعُ هذه المعصية على نفوس إخوانه كبيراً جداً؛ لأنه هو الآن من المفترض أنه يبتعد عن هذه الأشياء، لكن الضعف البشري صفة ملازمة للبشر؛ لأن النقص في بني الإنسان مسألة موجودة، فإذا وقع واحد من إخوانك المسلمين في هذا الخطأ، أو في هذه المعصية، ماذا يحدث؟

في الحقيقة -أيها الإخوة- أن ردود الفعل تتفاوت، فمن ردود الفعل الخاطئة والخاطئة تماماً، بل هي الخطيرة جداً، بل إن عواقبها وخيمة للغاية، أن هؤلاء الناس المحيطون بهذا الرجل إذا عرفوا أنه قد وقع في هذه الخطيئة، أو في هذه المعصية، يتبرءون منه حالاً، وينفضون عنه، لا يجالسونه، ولا يكلِّمونه ويقاطعونه، ولا يسلِّمون عليه، ولا يسألون عنه، وقع في المعصية صار فاسقاً، ما عاد هناك علاقة معه، هذا التصرف تصرف خطير جداً، بل إن أعز أمنيات الشيطان أن يتصرف المسلمون مع أخيهم المسلم الذي وقع في المعصية هذا التصرف، هذا ود الشيطان أن يصل إلى هذه النتيجة؛ لأن ذلك المسلم المخطئ الذي ارتكب هذا المنكر، عندما يرى انفضاض إخوانه من حوله، سيبتعد عنهم، وسيجتذبه أعوان الشر وإخوان الشياطين، فيلحقونه في ركابهم، ويذهب إلى غير ما رجعة، بينما لو كانت الأمور أخذت بسلوك آخر لكان الوضع قد تلافينا الوضع ورجعت المياه إلى مجاريها بغير هذه النتائج الخطيرة، قال رسول الله ﷺ في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم  واحد من الصحابة أخطأ وعصى الله وشرب الخمر، أُتي به ليُجلد، والصحابة يجلدوه صاروا يسبّونه: يا فاسق، لعنة الله عليك، ما أكثر ما يؤتى بك، الرسول ﷺ ماذا قال للصحابة، قال:  لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم [رواه البخاري: 6780، ولفظه: لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ إنه يحب الله ورسوله من المستفيد؟ أنت الآن عندما تشتمه علناً وتسبُّه وتلعنه وبعد ذلك تقاطعه المستفيد هو الشيطان، حزب الشيطان هم المستفيدون الوحيدون من هذه المعاملة.

لذلك يقول عبد الله بن مسعود : "إذا رأيتم أخاكم قارف ذنباً فلا تكونوا أعواناً للشيطان عليه، أن تقولوا: اللهم أخزه، اللهم العنه"، يعني: لا تكونوا عوناً للشيطان بأن تقولوا: اللهم أخزه، اللهم العنه، "ولكن سلوا الله العافية"، لأنك قد تقع في الخطأ الذي وقع فيه، لست معصوماً، ربما تزل قدمك في يوم من الأيام وتضعف نفسك لا سمح الله وترتكب هذا الخطأ الذي وقع هو فيه والآن أنت جالس تنتقص منه وتخاصم وتعاديه وتقطع علاقاتك معه من أجل هذا الخطأ، أنت قد يبتليك الله في يوم من الأيام بما وقع فيه.

فإذن، في هذه الحالة ماذا يكون التصرف الصحيح؟

من قواعد الشريعة -أيها الإخوة- كما قال علماؤنا، -هذا كلام مهم جداً- من قواعد الشرع: "أن من كثرت حسناته وعظُمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر فإنه يُحتمل منه ما لا يُحتمل من غيره، ويُعفى عنه ما لا يُعفى عن غيره، كلام ابن القيم -رحمه الله- كلام جميل، ثم يقول: "فإن المعصية خَبث، والماء إذا بلغ القُلّتين لم يحمل الخبث" [مفتاح دار السعادة: 1/176]. انظر الاستدلال الجميل جداً، الماء إذا بلغ قُلّتين ووقع فيه شيء من النجاسة، هل تظهر فيه النجاسة؟ لا؛ لأنه ماء كثير، هذا رجل من إخوانك في الله له محاسن كثيرة، وله أفضال كثيرة، وله جهود مشكورة، عندما يقع في خطأ، هذا الخطأ السيئ التي وقع فيه بجانب الحسنات الكثيرة التي عنده، تكون نقطة في شيء كثير من الماء.

فلذلك يقول ابن القيم -رحمه الله-: "ومن هذا قول النبي ﷺ لعمر: وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم قالها في قصة حاطب، حاطب بن أبي بلتعة صحابي جليل جداً شهد معركة بدر، وقاتل مع المسلمين، وأهل بدر غفر الله لهم  حاطب بن أبي بلتعة فعل خطأ عظيماً، لقد أرسل رسالة إلى كفار قريش يخبرهم فيها بأن رسول الله ﷺ عازم على المسير إليهم في فتح مكة، وهذا الخطأ خيانة كبيرة للمسلمين، إرسال خبر إلى الكفار، فيستعد الكفار ويتأهبوا وتضيع الفرصة على المسلمين خيانة عظيمة، خطأ كبير جداً، لكن هذا الرجل -حاطب له حسنات هائلة، صحابي جليل، وناصر الرسول ﷺ وناصر الإسلام، وخرج في معركة بدر وقاتل وفي غيرها من المعارك، ونصر الله ورسوله في مواقف كثيرة جداً، ويطلب العلم مع المسلمين ويدعو معهم إلى الله ، مرة حصل له خطأ، وقع في ضعف، حصل له ضعف نفسي، وقع في الخطأ، كيف عالج الرسول ﷺ الأمور؟

عمر كان غضوباً، قال: "أقتل الرجل"، هذا نافق، هذ جاسوس، سأقطع رأسه الآن.

الرسول ﷺ قال لعمر مهدئاً:  وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم  هذا لعمر، أما لحاطب، فالرسول ﷺ أُتى به بهدوء، قال له: ما حملك على هذا؟  معرفة الأسباب، هذا من أوائل الأمور، كيف نواجه الأمر؟

إذا وقع واحد من إخواننا المسلمين في خطأ أو معصية، هذا منهج مهم جداً نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لاتباعه.

أولاً: لا نواجه هذا المخطئ أو هذا العاصي الذي وقع في المعصية بالسب والشتم واللعن ونصفه بالفسق والفجور.

ثانياً: لا نغير علاقاتنا معه ونقطع علاقاتنا معه، كما ذكرنا قبل قليل.

ثالثاً: لا بد أن نعرف عذره، كيف وقع في هذا الخطأ، كيف ارتكبه.

أحياناً قد يكون الرجل عنده عذر قوي، حاطب -رضي الله عنه- كان عنده بعض العُذر.

الرسول ﷺ استفهم من حاطب، أجلس حاطباً وقال: ما حملك على هذا؟ ما حملك على ما صنعت؟ [رواه البخاري: 3007، ومسلم: 2494]. لأنك أحياناً إذا تبين لك عذر الشخص، قد يتلاشى كل ما في نفسك عليه، ربما تعذره في هذا الشيء الذي وقع فيه، قد يكون ما وقع فيه بغير إرادته، قد يكون وقع فيه بغير إرادته فعلاً، قد يكون الشيء الذي صورته أنت غير صحيح عن وضعه، فلا بد إذن من معرفة العذر، ثم بعد ذلك تُقدّر الأمور وينظر إلى عذر هذا الرجل، ما هي قوته؟ هل يعاتب معاتبة؟ هل يوبّخ؟ والتوبيخ من وسائل التعزير، إذا كانت مقاطعته مفيدة مثلما فعل الرسول ﷺ مع كعب بن مالك تُفعل. [رواه البخاري: 4677، ومسلم: 2769]. لكن -أيها الإخوة- في خِضم المحيط الذي نعيش فيه، كعب بن مالك قاطعه الرسول ﷺ لما كان مجتمع المدينة كله مسلماً تقريباً، لا يوجد تقريباً إلا المسلمين، قاطع الرسول ﷺ كعباً، أفادت القطيعة، الآن إذا قاطعت واحداً من المسلمين من الذين أخطئوا، النتيجة: آلاف من أهل الشر ينتظرونه ليتلقفونه، فإذن مقاطعته في هذه الحالة تكون من عدم الحكمة، فلذلك لا بد من الإحسان إليه، ونعظه في الله موعظة، ونذكره بعقوبة هذا الجرم الذي وقع فيه عند الله، وإذا تاب واستغفر وحسُنت حاله، فقد يرجع التائب إلى درجة أعلى من الدرجة التي كان فيها قبل الذنب، كما ذكره ابن القيم -رحمه الله-، يقول: "من التائبين من يعود إلى درجة أعلى مما كان عليه قبل أن يقع في الذنب، ومنهم من يرجع إلى نفس الدرجة، ومنهم من يرجع إلى أقل منها، بحسب حاله وتوبته وإنابته" [مدارج السالكين: 1/302].

فلا بد -أيها الإخوة-، هذه قضية أخرى، لا بد من إحسان الظن بالإخوة، لا بد أن نُحسن الظن بإخواننا ونلتمس الأعذار لهم، وأن نحمل الأمر على أحسن أوجهه، حتى نحصل على أفضل النتائج، ونسد أيّ ثغرة من الثغرات التي يفتحها الشيطان، يقول أحد السلف: "إذا تغيّر أخوك وحال عما كان عليه، فلا تدعه لأجل ذلك، فإن أخاك يعوّج مرة ويستقيم أخرى، وقيل لأحد السلف كان له صاحب انقلب عن الاستقامة، قيل له: ألا تقطعه وتهجره؟ هذا الرجل صار عاصياً، ألا تقطعه وتهجره؟ فقال: "إنه الآن أحوج ما كان إليّ" [إحياء علوم الدين: 2/183].

لما وقع في عثرته أن آخذ بيده، لما كان الواحد يمشي مستقيماً ما كان يحتاج أن يأتي من يأخذ بيده، وعندما يقع في الخطيئة ويقع في المعصية تكون حاجته لإخوانه في الله أكثر من حاجته من قبل المعصية بكثير، لا بد من تقدير هذه النقطة، إذا ما قدرت ضاع هذا المسكين، حاجة المخطئ لإخوانه بعد الخطيئة أعظم من حاجته إليهم قبل أن يخطئ، فعلاً يحتاج الآن إلى انتشال، يحتاج إلى إصلاح، يحتاج إلى تغيير حاله وإعادته مرة أخرى.

كذلك بعض الناس إذا كانت المناسبات مثلاً مناسبات لعب، مناسبات عزائم، فإنهم يحضرون كلهم في المجلس، أما إذا كانت مناسبة علم شرعي مناسبة جدية، فإنك ترى بعضهم يتخلّفون، إذا كانت قضية استئناس، قضية عزائم وأفراح وولائم، تجد الناس يأتون، فإذا كانت القضية جلسة علم، ذكر لله -عز وجل- تجد الناس لا يأتون، هؤلاء ليسوا بإخوة في الله حقيقة، وإلا لحرصوا على ما يرضي الله، لاجتمعوا عليه وتفرقوا عليه.

الغلو بين الإخوة لحد العشق المحرّم

00:00:00

كذلك من الممارسات الخاطئة في قضية الأُخوّة: أن تتحول أحياناً الأخوة في الله إلى شكل آخر من أشكال التي لا ترضي الله، فقد يحصل الغلو في باب الأخوة لدرجة أنها تخرج عن مفهومها الإسلامي الصحيح، وتتحول من أخوة في الله إلى لون من ألوان التعلُّق القلبي بالمخلوقين وصورهم، فتجد بدلاً من الجلوس، وبدلاً من العلاقة الأخوية القائمة على التناصح والاستفادة، تنقلب هذه العلاقة إلى علاقة تعلُّق وتجاذب بين المتجالسين، أو المتآخين، تخرج بها عن الحدّ الشرعي، وتوقع الإنسان في مهاوٍ كثيرة، فتفسد عليه قلبه.

فأحياناً يتعلّق شخص بشخص آخر تعلقا مذموماً، لدرجة أنه قد يفكر فيه في الصلاة، فهو في الصلاة ما يدري متى تنتهي الصلاة حتى يذهب ويقابل هذا الرجل؛ لأنه الآن تعلّق فيه تعلُّقاً قلبياً، تعلُّق بشخصيته، ما تعلَّق بعمله الصالح ولا بمنهجه وطريقته وعلمه، ولا تعلَّق به كقُدوة، لكن تعلق به كصورة وشكل، أو كظرافة وخفة دم مثلاً، فهنا تنقلب القضية من أخوة في الله إلى أشياء أخرى خطيرة، فتأخذ الأمور مجرى آخر، ويصبح الإنسان قلبه متعلق بشخصية هذا الرجل، فدائماً يطرأ على باله فيتذكره ويتعلق قلبه به، ويشتغل قلبه عن حب الله بحب هذا الرجل محبة غير شرعية ولا صحيحة ولا ترضي الله ، وينشغل قلبه به عن الصلاة مثلاً وعن ذكر الله تعالى، ويكون همه هو الجلوس إلى هذا الرجل والاستئناس إليه، وقد يحدث هذا الأمر في نطاق النساء كثيراً؛ لأن النساء فيهن عاطفة بطبعهن، ولذلك تجد أشكالاً كثيرة من الانجذاب.

بعض الناس أحياناً يصل بهم الأمر لدرجة التعلق لدرجة أنه لا يستطيع فراق الشخص الآخر مطلقاً، فإذا غاب عنه ما يدري متى يرجع إليه، وإذا فقد صوته تجده أحياناً يتصل بالهاتف على هذا ليسمع صوته فقط، ويكلمه كلاماً عادياً، أكمل الموضوع أغلق التلفون، بعد شوي ما يقدر الآن يفارق صوته يتصل مرة ثانية يسمع صوته لكن ما عنده كلام فيقفل التلفون، يتصل مرة ثالثة، وهكذا تأخذ القضية أشكالاً عجيبة وصوراً لا ترضي الله -عز وجل-، هذه الأشكال أو هذه القضايا من التعلُّق من أحسن من كتب فيها في علاجها ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه العظيم: "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي"، فإن السؤال الموجّه إليه في هذا الكتاب هو قضية التعلُّق، فأجاب عنها -رحمه الله- إجابة شافية وافية، وذكر أشياء كثيرة في النصف الثاني من الكتاب، فليراجعها من شاء، المهم أن نفرّق بين الأخوة وبين التعلُّقات الشخصية، وألّا يُلبس التعلُّق الشخصي لُبوس الأُخوّة في الله، ولا يُلّبس على المسلمين هذا الأمر، فتخرج القضية عن حدودها الشرعية.

التساهل في قضية الدخول من غير إذن

01:13:31

كذلك -أيها الإخوة- من الأشياء الخاطئة التي تقع في أوساط الإخوة في الله: التساهل في العلاقات بأهل الأخ في الدخول عليه وعلى بيته، فأحياناً الواحد يكون مع أخيه يدخل ويخرج على بيته، قد يكون الأخ موجوداً، قد يكون في البيت نساء، قد يتساهل الإنسان في الدخول، قد يظهر أمامه أشياء لا يجوز له أن يراها، قد يطِّلع على عورات لا يجوز له الاطلاع عليها، أحياناً يصير من كثرة الدخول والخروج نوع من الألفة، انتبهوا هذه قضية واقعية، يصير فيه نوع من الأُلفة بين الرجل وبين النساء في بيت أخيه، فيكون داخلاً خارجاً، وأحياناً قد يفتحون له الباب فيرى أحياناً شكل المرأة أو منظرها مثلاً، وهذه قضية لا تُرضي الله ، فلا بد من المحافظة على الحدود الشرعية، صح هذا بيت أخي ولي الحق أن أدخل فيه وأجلس وأستريح، ولكن هذا لا يعني أني أطلّع على حرماته ويحصل هذا التساهل وهذه الأُلفة التي تؤدي إلى انكشاف العورات وأن أرى ما لا يُرضي الله تعالى، وأحياناً تحدث قصص ومآسي تكون بدايتها هذه القضية.

التساهل بين الإخوة في قضية الاختلاط

01:14:51

كذلك يحصل التساهل أحياناً بين بعض الإخوة في القعود مع بعضهم ومع أهليهم، مثلاً يخرجون في رحلة إلى البحر، هذا يأخذ زوجته وهذا يأخذ زوجته، وهذا يأخذ زوجته، هؤلاء ناس يفكر أنهم إخوان في الله وكذا، فيحصل في النهاية اجتماع عام، وتصير القضية خلطة، وتصير المسألة مجلس منكر من المنكرات، ويتداخل الرجال مع النساء، بفعل تطور الأمور، التي قد تكون بدايتها طيبة لكن تكون النهاية مأساوية، فيجب التزام حدود الشرع، فصل الرجال عن النساء فصلاً كاملاً، وعدم نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية.

الالتزام بالآداب الشرعية بين الإخوان

01:15:36

كذلك -أيها الإخوة- الأُخوّة في الله لا تعني عدم التزام الآداب الإسلامية مع الأخ المسلم.

مثلاً: إهمال قضية السلام، إهمال قضية الاستئذان، الآن من الآداب الإسلامية: الاستئذان، أن تستأذن قبل أن تدخل، أحياناً يصير الواحد آخذ على أخيه المسلم فيدخل عليه من غير أن يستأذن، قد يكون الأخ في حالة لا تسمح له باستقبال الناس، وهذا داخل على غرفته أو داخل على بيته وينظر، هذا غير صحيح، صحيح أنه أخوك في الله وعِشرة عمر، ولكن في نفس الوقت لا بد أن تحافظ على آداب الاستئذان، لا بد أن تستأذن، ولا تدخل حتى يسمح لك بالدخول، ولا تصير العشرة تؤدي كثرة الخلطة إلى هذه القضية.

كذلك مثلاً التصرُّف في ممتلكات الأخ بغير إذنه أو استشارته، أحياناً واحد يقول: هذا أخوي في الله، آخذ سيارته وهو ما يدري، ويأتي هذا الأخ مثلاً يحتاج السيارة في وقت عصيب وضيق لا يجد السيارة، من الذي أخذها؟ فلان من الناس، لماذا؟ يقول: أنا وإياك شيء واحد، وسيارتي سيارتك، وكذا، وأنا أخذت سيارتك!

يا أخي مهما كان لا بد تستأذن؛ لأن الرسول ﷺ يقول في الحديث الصحيح:  لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه  [رواه أحمد: 20695، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 7662].

لا يحل لك أن تأخذه، واحد وضع كتاباً، يحتاج إلى كتاب دراسي أو علمي إلى آخره، يأتي آخر يدخل إلى بيته أو مثلاً إلى مكانه، فيأخذ الكتاب يحتاج إليه ويأخذه من غير استئذان، وبعد ذلك يأتي ذلك المسكين يبحث عن كتابه، فلا يجده، قد يكون عنده امتحان، قد يكون عنده واجب، فلا يدري أين الكرّاس أو الكتاب، أو هذا الشيء، هذا ليس صحيحاً، الأخوة في الله لا تعني أني آخذ ممتلكات هذا الشخص بغير إذنه.

كذلك مناداته بأحب الأسماء إليه، أحياناً الناس يأخذوا على بعض يعني أخذاً مذموماً، يسقط الاحترام والهيبة، وهذه مسألة مهمة، أحياناً الناس الذين يعيشون في أجواء الأُخوّة تسقط فيما بينهم قضية احترام المسلم لأخيه المسلم، فيتعدّى عليه بألفاظ، قد يناديه باسم قبيح، قد يغلط عليه في الأسلوب، وبعد ذلك يقول: لا مشكلة، وأُخوّة، ومزح، الأخوة لا تعني أن تسقط هيبة أخيك المسلم من نفسك، لا بد أن يكون له احترامه وتقديره، وأحياناً أمام الناس تجد الواحد يتكلم مع أخيه المسلم بكلام غير لائق وأسلوب غير مناسب؛ لأنه أخذ عليه كثيراً حتى لم يعد هناك احترام، وهذه من الأشياء الواقعة التي ينبغي الانتباه إليها، أو المزاح الثقيل، يمزح الواحد مع أخيه يقول: هذا أخي في الله يمزح معه مزحاً قد يؤلمه، قد يجرح شعوره، بينما لو راح يمزح مع شخص آخر تجده لبِقاً، وتجده يستخدم ألفاظاً مناسبة في مكانها، لكن إذا جلس مع أخيه المسلم تعوّد عليه، فجلس يظهر كلاماً غير موزون.

التساهل في المواعيد بين الإخوة

01:19:04

كذلك من الأمور التي تحدث: التساهل في المواعيد، يقول: ما دام هذا أخي في الله مقدّر ظروفي، دعنا نتأخر نصف ساعة، ساعة، ليس مهماً، هو إن شاء الله أخي في الله، ويقدِّر إن شاء الله الظروف، فيتساهل الإنسان في مواعيده، بحيث لو كان في نفس الشغل الذي هو فيه، ولكن إذا واعد رجلاً آخر ما بينه وبينه معرفة كبيرة، تجده يأتي بالضبط وبالدقة في الموعد، يريد أن يعطي الشخص الآخر فكرة مهمة عن احترام المسلم للمواعيد وكذا  وإذا وعد أخلف  [رواه البخاري: 33، ومسلم: 58]. وأن هذه من صفات المنافق، لكن إذا جاء مع أخيه يقول: هذا أخي، سنتأخر، لا مشكلة، هو سيسامحنا أصلاً، غير صحيح.

التساهل في تقديم الخدمات لإخوانك المسلمين

01:19:51

كذلك من القضايا التي تحدث: التساهل في تقديم الخدمات لإخوانك المسلمين، بحجة أن هذا أخ مسلم ولا يحتاج أني أبذل معه جُهداً وأقدّم له، قد أدعو واحداً إلى عشاء وأتكلّف له؛ لأنه غريب عني، لكن أخي المسلم القريب مني ممكن أطعمه أي شيء، أو مثلاً لا أتكّلف بأن أدعوه إلى الوليمة وهذا قريب وما يحتاج، ألم يقل الرسول ﷺ في الحديث قبل قليل: أو تطرد عنه جوعاً  [رواه الطبراني في الأوسط: 861، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 176]. وهل الأخ المسلم القريب منك والملتزم بالإسلام أكثر أليس من واجبك أن تكرمه؟ ألم يقل النبي ﷺ:  لا تصحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي  [رواه أحمد: 11337، وأبو داود: 4832، وابن حبان: 554، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 7341].

هل المعنى الآن عندما يأتي غريب تكرمه وتضيّفه، وعندما يأتي أخوك المسلم تقدم له أي شيء؟

الحسد بين الإخوة في الله

01:20:42

كذلك -أيها الإخوة- من المشاكل التي تقع أحياناً بين الإخوة في الله قضية الحسد وهي تنتج، وسبق أن تكلمنا فيها، نتيجة بروز موهبة عند هذا الأخ مثلاً في حسن صوته، أو جمال خطه، أو فصاحته، أو جودة أسلوبه، أو جاذبيته، أو نجاحه في الدعوة إلى الله -عز وجل-، هنا يأتي الشيطان فيثير هذه الأشياء، فيقول: لم فلان أحسن مني؟ ولم كذا؟ فتنطلق الأحقاد ويحس المسلم بشعور الحسد نحو أخيه، هذا خطأ عظيم، الإحساس بالحسد، الحسد من الأمراض القاتلة التي تحرق الحسنات، المفروض أن الإنسان يفرح إذا ظهرت موهبة من أخيه المسلم يستفيد الإسلام منها، المفروض أن تفرح من هذا الشيء، أن تفرح لهذه الموهبة التي ظهرت.

سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله أولاً وآخراً.