الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده، ورسوله.
العزة لله ولمن والاه
الحمد لله العزيز، الذي عز كل شيء فغلبه، والحمد لله الذي هو عزيز ذو انتقام، ، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، أعز المؤمنين بطاعته، وأذل الكفار بمعصيته، وشرع لنا دينا قيما نعتز فيه، ولنا العزة به، وله الحمد ، الذي أعز أولياءه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌسورة المائدة54. أذلة على المؤمنين؛ أي يرأفون بالمؤمنين، ويرحمونهم، ويلينون لهم، قال ابن عباس: "هم للمؤمنين كالوالد للولد، والسيد للعبد"، أعزة على الكافرين؛ أي يغلظون على الكافرين، ويعادونهم، وهم في الغلظة على الكفار كالسبع على فريسته، كما قال الله : أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْسورة الفتح29. هذه العزة في نفس المسلم، هذه العزة، والاعتزاز بالدين؛ عندما يكون رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، منبع العزة من اسم الله العزيز، والعزة يأخذها المسلم، ويرومها، وينالها، ويلتمسها من العزة التي هي صفة الله ، فهو يعتز بربه، ويطلب العزة منه إنه عزيز بجناب الله، وقد نهى الله المؤمنين عن الهوان، وجعلهم أعزة وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَسورة آل عمران139. فلا تضعفوا بسبب ما جرى لكم من الهزائم في أحد وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ ستكون العاقبة لكم، والنصرة من نصيبكم يا أيها المؤمنون فلكم العقبى في الظفر، والانتصار على الأعداء.
العزة: آية الله التي منحها لعباده المسلمين، واختصهم بها، وهي اللباس العظيم الذي خلعه على عباده؛ كما خلع على أعدائه أهل الكفر خلع الذل والمهانة مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًاسورة فاطر10. ولذلك كان الذين يبتغون العزة من الكافرين حقراء، أذلاء، ولو ظهروا أمام الناس بمظهر المنتصر؛ فإنهم في حقيقة أنفسهم أذلاء يحقرون أنفسهم الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًاسورة النساء139.
يستمد المسلم إذاً عزه من قوة ربه، يستمد قوته من إيمانه بالله، فكلما كان أقوى إيمانا؛ كان أعز، وأمنع وأغلب.
وهؤلاء سحرة فرعون! طلبوا العزة من غير الله، ثم بعد ذلك رأوا أن العزة بالله وحده، فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَسورة الشعراء44-48. العزة من الله ، يعز من يشاء، ويذل من يشاء.
المسلم عزيز حتى في زمن الاستضعاف
كان المسلم عزيزا حتى في زمن الاستضعاف، تظهر عزة المسلمين بمكة أمام الكفار، مع أن الكفار يغلبونهم بالماديات، والسلطة، والقهر، ولكن عزة المسلم في نفسه لا تفارقه.
لما سمع أمية بن خلف أن عبده بلالا أسلم، واتبع محمدا ﷺ اشتد غضبه، وغلى قلبه بنار الحقد، والكراهية، وأسرع يسأل بلالا فيجيبه بالإيجاب دون تردد، أو خوف بالشهادتين أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، وهو يعلم أن رحلة العذاب ستبدأ معها، وأن سيده سيذيقه من ألوان العذاب ما يذيقه، يخرجه إلى حمية الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يضع الصخرة العظيمة على صدره ويقول: لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد وتعبد اللات، والعزى. ولكنه يقول: "أحد أحد" فيغضب السيد بزيادة، ويزداد عذابا لهذا العبد المسكين، لكنه عزيز بإيمانه بالله، وإسلامه، ويقول: "أحد أحد"، لو يعلم كلمة أغيظ على سيده منها لقالها، أحد أحد، لا إله إلا الله، الواحد الأحد، ولا يزال يرددها فيضع سيده حبلا في عنقه، ويأمر السفهاء أن يطوفوا به بين جبلي مكة، وهو لا يتراجع. قال الشعبي رحمه الله: "كان موالي بلال يضجعونه على بطنه ويعصرونه ويقولون دينك اللات والعزى فيقول ربي الله أحد أحد ولو أعلم كلمة أحفظ لكم منها –أي أغيظ- لقلتها، فمر أبو بكر بهم فقالوا اشتري أخاك في دينك فاشتراه بأربعين أوقية فأعتقه فقالوا: لو أبى إلا أوقية يعني 39 لبعناه، قال وأقسم لو أبيتم إلا بكذا وكذا بشيء كثير لاشتريته".
هكذا كان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يجهر بسورة الرحمن بين ظهراني الكفار الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَسورة الرحمن1-4. يتأملون، ويقولون ما يقول ابن أم عبد؟ قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إليه فجعلوا يضربونه في وجهه، وهو يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله ثم رجع إلى أصحابه، وقد أثر الضرب بوجهه، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك، قال: "ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن لأن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا" قالوا: "لا حسبك فقد أسمعتهم ما يكرهون".
وهكذا أبو ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه عزة الإسلام في نفسه، يقوم إلى هؤلاء الكفار، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، وكان سأل عن محمد ﷺ، فمال عليه أهل الوادي بكل مذرة، وعظم حتى خر مغشيا عليه، فارتفع لما ارتفع كأنه نصب أحمر من الدماء التي غطت جسده، ولكنه عاد في اليوم التالي بمثل ذلك فعادوا عليه بمثل ذلك الضرب، وهكذا كانت عزة ا لمسلمين أمام الكفار.
عزة المسلم إمام الكفار
كان المسلمون يرون الكفار العزة في دينهم، وعندما يأتي عروة بن مسعود، ويخاطب النبي ﷺ بكلام في الحديبية لكي يرجع عن مكة، ولا يدخلها – ويمد يده إلى لحية النبي ﷺ وهو يكلمه والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي ﷺ ومعه السيف، وعليه المغفر فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي ﷺ رفع عروة نعل السيف وضرب يد الكافر، وقال: "أخر يدك عن لحية رسول الله ﷺ"، وهكذا لما قتل سبعون من المسلمين في أحد، وحصل ما حصل من المصيبة في وقت هذا الضعف الشديد، وهذه المصيبة الفادحة يقوم أبو سفيان وكان رأس الكفار فيقول معلنا باطله وشركه يقول: أفي القوم محمد أفي القوم ابن أبي قحافة أفي القوم ابن الخطاب" ثم قال: إن هؤلاء قتلوا، ثم قال: لو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه، وقد امتلأت بعزة الإسلام، فيقول له: "كذبت يا عدو الله، أبقى الله عليك ما يخزيك".
ولما أعلن أبو سفيان الباطل فقال: أعل هبل –لا يمكن للمسلم العزيز أن يسكت- فقال النبي ﷺ أجيبوه قولوا: الله أعلى، وأجل، فيقول أبو سفيان: لنا العزى، ولا عزى لكم. فيقول النبي ﷺ: أجيبوه قال: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم، وهكذا لما عثر الكفار على بعض المسلمين فأوثقوهم، وأرادوا أخذهم، رفض عاصم بن ثابت فقال: "أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر" وقال: "اللهم أخبر عنا نبيك، وقتل عاصم" ونزل ثلاثة من المسلمين على العهد، والميثاق منهم: خبيب وزيد، ابن الدثنة، ورجل آخر، ولما أخذوهم إلى مكة، وأخرجوا خبيبا من الحرم إلى الحل ليقتلوه ماذا كانت النتيجة؟ وماذا قال ذلك الرجل رضي الله تعالى عنه، وهم يقولون له وهو مربوط على الخشبة، على خشبة القتل: أيسرك أن محمد مكانك؟ فماذا يقول؟ يرفض ذلك بإباء، ويصلى ركعتين قبل القتل، ويقول بعزة المسلم: "والله لولا أن تحسبوا أنا بي جزع لزدت، ثم قال: "اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبقي منهم أحدا"، ثم أنشد يقول:
ولست أبالي حين أقتل مسلما | على أي جنب كان في الله مصرعي |
وذلك في ذات الإله وإن يشأ | يبارك على أوصال شلو ممزع |
فقام أبو سروعة عقبة ابن الحارث الكافر فقتله. وهكذا، وحمى الله جثة عاصم بنحل أضل عليه فلم يتمكن الكفار من قطع شيء من جسده، وكانوا يريدون شيئا مميزا من جسده ليأخذوه إلى مكة برهانا على أنهم قتلوه.
أيها المسلمون يا عباد الله: لقد كانت تلك العزة ملازمة للمسلمين أمام الكفار، عزة الإسلام تعلن ويقال للكافر ها هو الإسلام وها هو نحن المسلمون وها نحن أمامكم واقفون حتى في زمن الضعف حتى في زمن المسكنة كانت العزة في النفوس قائمة قوية، ولما جاءت جيوش المسلمين إلى فارس، وفارس أكثر عددا، وعدة، ويطلب رستم رجلا من المسلمين ليتفاهم معه رسولا فيأمر سعد يأمر ربعيا أن يقوم إليه، ويقول له: لا تغير من ثيابك شيئا لا تغير من ثيابك شيئا، لأننا قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله، هكذا كانت القاعدة لديهم، نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله، فيخرج إليهم، وقد أظهروا له الزبرج، وبسطوا البسط، والنمارق، ووضعوا السرير الذهب لرستم، وألبسوه زينته من الأنماط، والوسائد المنسوجة بالذهب إرهابا، وكسرا لنفس رسول المسلمين الذي سيقدم عليهم، فأقبل ربعي يسير على فرس له زباء قصيرة، معه سيف له مشوك، وغمده لفافة ثوب خلق، ورمحه معلوب بقد معه حجفة من جلود البقر على وجهها أديم أحمر مثل الرغيف، ومعه قوسه، ونبله فلما غشي الملك، وانتهى إليه، وإلى أدنى البسط قيل له انزل، فحملها على البساط، فلما استوت عليه -أي الدابة- نزل عنها، وربطها بوسادتين فشقهما، ثم أدخل الحبل فيهما، فلم يستطيعوا أن ينهوه، وإنما أروه التهاون وهو أراد استحراجهم، وعليه درع كأنها أضاة يلقمه عباءة بعيره قد جابها، وتدرعها، وشدها على وسطه، وشد رأسه بمعجرته ومعجرته نسعة بعيره، ولرأسه أربع ضفائر قد قمن قياما كأنها قرون الوعلة، فقالوا له ضع سلاحك، فقال: إني لم آتكم فأضع السلاح بأمركم، أنتم دعوتموني فإن أبيتم أن آتيكم كما أريد رجعت، فأخبروا رستم فقال إذنوا له، هل هو إلا رجلواحد! فأقبل يتوكأ على رمحه، وزجه، يقارب الخطو ويزج النمارق، والبسط فما ترك لهم نمرقة، ولا بساطا إلا أفسده، وتركه منهتكا منخرقا، فلما دنا من رستم، تعلق به الحرس وجلس، وركز رمحه بالبساط، فقالوا: ما حملك على هذا؟ قال إنا لا نستحب القعود على زينتكم هذه فرش الحرير.كلمه قال ما جاء بكم؟ قال: "لله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد، إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه، ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه، يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدا، حتى نفضي إلى موعود الله"، قال: وما موعود الله؟ قال: "الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي"، فقال رستم: سمعت مقالتكم فهل لكم أن تأخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال نعم. كم أحب إليكم أيوما أو يومين؟ قال: لا، بل حتى نكاتب فيه أهل رأينا، ورؤساء قومنا. فقال: "إن مما سن لنا رسول الله ﷺ، وعمل به أئمتنا: أن لا نمكن الأعداء، ولا نؤجلهم أكثر من ثلاث، فنحن مترددون عنكم ثلاثا، فانظر في أمرك، واختر، واحدة من ثلاث بعد الأجل؛ اختر الإسلام، وندعك وأرضك، أو الجزاء –أي الجزية- فنقبل ونكف عنك، وإن كنت عن نصرنا غنيا تركناك منه، وإن كنت إليه محتاجا منعناك، أو المنابذة في اليوم الرابع، ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبينك في اليوم الرابع إلا أن تبدأنا، أنا كفيل لك بذلك على أصحابي، قال: أسيدهم أنت؟ قال لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد بعضهم من بعض، يجير أدناهم على أعلاهم، ولما اغتاظ رستم منه، وأجبره على حمل تراب على رأسه وهو خارج قال ربعي: "هذه الغنيمة إن شاء الله تسليم أرضك وديارك"، أي الفأل عليك أخذت تراب أرضكم، والفأل هزيمتكم، وأخذ أرضكم إن شاء الله، فلما سمع بذلك المسلمون كبروا وكان كلامه غيظا على الكافرين.
عباد الله: إن عمر بن عبد العزيز همَّ أن يخفف من بنيان جامع دمشق، وكانت أنفقت فيه أموالا حتى جاء عشرة رجال من ملك الروم إلى دمشق، وسألوا إذنا خاصا في دخول المسجد فأذن لهم أن يدخلوا من باب البريد، ووكل بهم رجلا من المسلمين يعرف لغتهم، ويسمع كلامهم، وينهي قولهم إلى عمر بن عبد العزيز من حيث لا يعلمون فمروا بالصحو حتى استقبلوا القبلة فرفعوا رؤوسهم إلى المسجد فنكس رئيسهم رأسه، واصفر لونه، فقالوا له في ذلك، قال: إنا كنا معاشر أهل رومية نتحدث أن بقاء العرب قليل، فلما رأيت ما بنوه علمت أن لهم مدة لا بد أن يبلغوها، فأخبر عمر بن عبد العزيز. فقال: إني أرى مسجدكم هذا غيضا على الكفار، وترك ما هم به.
هذه العزة، العزة الإسلامية، عزة الإسلام في نفس المسلم، تظهر حتى على الأقارب من الكفار، لما جاء أبو سفيان إلى المدينة، ودخل على ابنته أم حبيبة زوج النبي ﷺ، وذهب ليجلس على فراش رسول الله ﷺ، طوته عنه، فقال يا بنية لا أدري أرغبت بي عن هذا الفراش؟ أم رغبت به عني لأنه أقل من مستواي؟ قالت: "بل هو فراش رسول الله ﷺ، وأنت رجل مشرك نجس، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله ﷺ.
كانت العزة في نفوسهم عظيمة، وحتى لو مرَّ المسلمون في زمن ضعف؛ فإن عزة الإسلام موجودة في نفوسهم متمثلة في أنهم لا يتنازلون عن الدين أبدا، ولا عن شيء منه، ولا يتكلمون بالباطل، ولو كانوا في ضعف فإنهم يعلمون أن الله سيظهر دينه، ولو كره المشركون، وسيتم نوره، ولو كره الكافرون، وأن الله وعد المؤمنين بالنصر سيأتي عاجلا أم آجلا، ووعد بالتمكين في الأرض، ووعد أن يبلغ الإسلام ما بلغ الليل والنهار، شرقا وغربا، وسيدخل كل بيت من مدر أو وبر، بعز عزيز، أو بذل ذليل، قال ﷺ: عزا يعز به الإسلام، وذلا يذل به الكفر، وقال ﷺ: بشر هذه الأمة بالسناء، والنصر، والتمكين، ومن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب.
إذاً ستأتي البشائر من الله كما وعد، ويأتي النصر ولا بد، وإن كان المسلمون اليوم في زمن هزيمة، وضعف لكنهم يعلمون أن الله ناصر دينه، وأن الله ما أنزل هذا الدين ليهزم ما أنزل هذا الكتاب لكي يتوارى عن الحكم بل لكي يحكم به إنما هي تقلبات، وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِسورة آل عمران140.وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ.
فالعجب كل العجب: من الذين يذلون، والله هو العزيز، قد أعزهم بدينه، ولو غلبوا فإنه يجب أن تبقى عزة الإسلام في أنفسهم، على الحق يثبتون، وبالباطل لا يتكلمون، ويرون الكفار العزة من أنفسهم، ويصبرون على الأذى الذي ينالهم.
اللهم إنا نسألك أن تعزنا بطاعتك، اللهم إنا نسألك أن تعزنا بالإسلام، ولا تذلنا بالبدعة، والكفر، والمعصية، اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أشهد أنه لا إله إلا هو، وحده لا شريك له، العزيز ذو انتقام، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، اعتز بدين الله، وكان عزيزا بربه، وعلم أمته العزة، ورضي الله عن أصحابه الأعزاء بدين الله، الذين كانوا أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يقاتلون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم.
ذلة أهل الذمة
عباد الله: إن من عزة المسلمين التي ظهرت في قرونهم السابقة: ما كانوا يجعلونه على أهل الذمة من الكفار الذين يعيشون بين ظهرانيهم.
كان الكفار يعيشون بين المسلمين بشروط إذا التزموا بعقد الذمة؛ فلابد أن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، يدفعوا الجزية لبيت مال المسلمين، لا تقبل منهم بحوالة ولا أن يرسل بها مع ابنه، أو خادمه، وإنما يأتي بها بنفسه ليوقف عند بيت المال فيطال وقوفه، ثم تؤخذ منه بعنف لأن الله قال: حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَسورة التوبة29.
وهذا التمييز في المعاملة واجب بين المسلم والكافر، هذا التمييز في المعاملة، الذي لا يرضاه كثير من المنهزمين اليوم واجب؛ لأن الله ميز بينهم، وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاًسورة النساء141. ولا بد أن يكون هناك فرق بين المسلم والكافر؛ لا يمكن أن تكون هناك معاملة واحدة للطرفين، مستحيل، لأن هذا مسلم وهذا كافر.
وكان من عزة أهل الإسلام فيما سبق أن الذمي الذي يعيش بينهم مفروض عليه شروط فلا يظهرون خمرا، ولا خنزيرا في أمصار المسلمين، ولا يظهرون شعائر كفرهم، ولا الفواحش، ويلزمون بالتميز عن المسلمين في زيهم ومراكبهم، وملابسهم، ولا يصدرون في المجالس، وذلك إظهارا للصغار عليهم، وصيانة لضعفة المسلمين عن الاغترار بهم، وكانوا لا يجوز لهم أن يولوا شيئا من أمور المسلمين،وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْسورة المائدة51.
وكذلك لما اتخذ أبو موسى كاتبا نصرانيا، وبلغ عمرا غضب، وقال: "لا تعزّوهم بعد أن أذلهم الله، ولا تأمنوهم بعد أن خونهم الله، ولا تصدقوهم بعد أن كذبهم الله".
وقد بين ابن القيم رحمه الله شروط أهل الذمة في كتابه العظيم، ومن هذا من العزة الإسلامية، أن الكافر لا يجوز أن يتولى على ابنته المسلمة في النكاح.
سئل الإمام أحمد رحمه الله عن نصراني، أو يهودي أسلم في بلاد الروم، أيزوجها أبوها، وهو نصراني، أو يهودي؟ فقال: "لا يزوجها إذا كان نصرانيا، أو يهوديا"، فقيل له: فإن زوجها، قال: "لا يجوز النكاح"، يرد النكاح، يعاد العقد، لا يجوز النكاح، وكتب عمر ابن الخطاب إلى المسلمين في الشام لما صالحوا النصارى أن يشترطوا عليهم أن لا يحدثوا في مدينتهم، ولا ما حولها ديرا، ولا كنيسة أي جديدة، ولا يجددوا ما خرب، إذا خربت كنيسة تبقى على خرابها، ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال، يعني في طرق السفر يرغمون على ضيافة المسلمين، ولا يؤووا جاسوسا، ولا يكتموا غشا للمسلمين، ولا يظهروا شركا، ولا يمنعوا ذوي قراباتهم من الإسلام إن أرادوه، فلا يمنع الأب ولده إذا أراد الإسلام، وأن يوقروا المسلمين، وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس، ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم، ولا يتقلدوا سيفا، فلا يحمل الكافر سلاحا، ولا يظهروا صليبا ولا شيئا من كتبهم في شيء من طرق المسلمين، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم، فموتى الكفار في مقبرة منفصلة، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربا خفيا، ولا يرفعوا أصواتهم مع موتاهم، إلى آخر الشروط العمرية، رضي الله عن عمر.
الانهزامية النفسية
يقوم بعض الجهلة اليوم وبعض الأذلاء من المسلمين في خطوات تراجعية عجيبة في إلغاء التمييز بين المسلم والكافر، ويريدونها وحدة إنسانية، دمج بين الإسلام، والكفر، يريدون محو الفوارق، كيف تمحو شيئا قد فرق الله به بين المسلم، والكافر، ويفتي بعض هؤلاء المنهزمين، بتغيير الأسماء الإسلامية عن الكفار، فلا يسمون بأهل ذمة، ولا تؤخذ منهم جزية، وكذلك يفتون بأن هؤلاء الكفار تجوز تهنئتهم في أعيادهم، وتكتب لهم البطاقات، وأن مجاملتهم جائزة، وأن مناداتهم بالإخوة جائزة، ويقول لا حرج من أن نطلق على أحدهم أخونا فلان، أو إخواننا النصارى، ونحو ذلك.
سمعنا كثيرا من هذه الفتاوى التي تسبب القيء من المسلم العزيز في دينه، قيء من هذا الذل الذي أصاب بعض أصحاب العمائم، ذل حتى صارت فتاواهم تريد المساواة بين المسلم، والكافر وإلغاء الشروط العمرية.
واعجباً ألهذا الحد يصيبنا الذل؟ أن نصل بخلاف ما قرره أهل العلم وأن نذيع ذلك لأجل أن نثبت للكفار أننا لا نفرق، ولا نميز؟ وليس عندنا تمييز في المعاملة. لماذا؟ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَسورة التوبة62. لماذا السعي لإرضاء الكفار على حساب سخط الله لماذا؟ ولو كنت يا عبد الله: لا تستطيع تطبيق حكم شرعي، فإنك لا تكون بعبده تقول: هذا حكم الله لكنني لا أستطيع تطبيقه أنا عاجز أنتظر اللحظة التي أستطيع أن أطبق فيها حكم الله، أتمنى أن تأتي هذا هو الدين هكذا هي الأحكام الشرعية، لكن هذا أنا عاجز عنه، لو كنت حقيقة عاجز عنه، أما أن نقول بالباطل استرضاء للكفار فبئس الكلام هو كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا.
ثم أيها الأخوة: إن قضية الاغترار بالكفار؛ بأن عندهم أسباب من القوة المادية من السلاح، والمال، والاقتصاد، وغيره، والاختراعات، والتقدم، هذا نوع هزيمة نفسية؛ لأن هذا الشرك الذي عندهم يغطي على كل شيء حسن يمكن أن يكون لديهم، وهذه القوة زائفة؛ لأنهم يستمدونها من الشيطان، والغلبة عليهم قادمة، ولا بد وهم يعرفون ذلك، هم يعرفون بدراساتهم، وإحصاءاتهم أن المد الإسلامي سيستمر، وأن النصر للمسلمين قادم، وبحسب المعدلات؛ فإنهم سينهزمون، وسيرجع المسلمون، ويعترف بعضهم بذلك خفية.
عباد الله:
الكفار أذلاء، ولا يمكن أن يعيشوا حياة كريمة
إن في ما يحصل من بعضهم على العز الدنيوي؛ دليل على أن هؤلاء لا يمكن أن يعيشوا حياة كريمة بالكفر الذي هم عليه، فقد نشرت الصحف قريبا أخبار أحد كلاب الكفار الذين يزعقون بالغناء، مشهور بينهم، وثروته بالبلايين، يعاني مايكل جاكسون من حالة اكتئاب شديدة لدرجة أن والدته تقول لأصدقائه: أنه بدأ ينهار، وقد أقنعته أن يبدأ سرا علاجا نفسيا في المنزل، وكشف مصدر مقرب أن مايكل منزعج بشدة من مجموعة أشياء تركته في حالة انهيار فهو لا يستطيع أن يتخلص من صورة أنه يسيء معاملة الأطفال! كما أن حياته العملية تبدوا مجمدة، وهو في حالة شجار مع إخوته بعد ما حنث بوعده بالانضمام مجددا، من أجل جولة لفرقة جاكسون فايف، وهو يعاني من المشاكل الشخصية الأخرى التي يحاول معالجتها، ووالدته كاترين في حالة انزعاج شديد عليه وهي تطلبه هاتفيا يوميا للتأكد من أنه على ما يرام، وأنه لا يحاول القيام بشيء أحمق – أي أنها تخشى من محاولة لجوئه للانتحار، وكان المغني البالغ من العمر 40 عاما اعترف في مقابلة أنه قد فكر في الانتحار، وأن والدته يوما اندفعت إلى منزله في الليل مرات، وجلست بجواره خوفا من أن يقتل نفسه، وتقول أنها أقنعته الآن بمراجعة طبيب نفساني وذكرت والدته لأحد أصدقائه أن مايكل يصرخ كالطفل، وهو بحاجة إلى مساعدة مهنية متخصصة، وأنه وعدها بأنه سيراجع طبيبا نفسانيا بصورة سرية جدا، حتى لا يعتقد الناس أنه مصاب بالجنون.
هذا مثال واحد على شخص عندهم في نظرهم عزيز صاحب ملايين، وثروة طائلة، وشهرة، وتعظيم من الناس، لكن أي ذل يعيشه هذا الشخص؟ وأي كرب يحس به؟ وأي بلاء نزل؟ هكذا يذل الله من يشاء، ولذلك ذكر السلف هذا الأمر ذكروه وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإن الله جعل العزة لمن أطاعه، والذلة لمن عصاه" وقال بعض المسلمين: "الناس يطلبون العز بأبواب الملوك، ولا يجدونه إلا في طاعة الله"، وقال الحسن البصري: "وإن هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم ذلل البغال، -أي المراكب العالية- فإن ذل المعصية في رقابهم أبى الله إلا أن يذل من عصاه"
عباد الله: يريد كثير من المسلمين الحياة المادية الرغيدة، بأي ثمن، ولو بالهوان للكفار، والتنازل للكفار، واسترضاء الكفار، والموافقة على مطالب الكفار، وشروط الكفار
لا تسقني كأس الحياة بذلة | بل فاسقني بالعز كأس الحنظل |
أي حياة ترام في ذل الكفار، ولو كانوا يأكلوا، ويشربوا المأكولات العالية، والملبوسات العالية، والقصور الفارهة.
عباد الله: مسألة مهمة جدا في سعادة الروح العزة بالإسلام، العزة بهذا الدين، وينظر المسلم المغلوب إلى غالبه من علٍ، وهو يعلم بأنها فترة مؤقتة تذهب، وأن للإسلام كرة وستعود، وأن الله يري في الواقع انتصارات، وإن كانت قليلة للمسلمين، أو محدودة دليل على أنه يمكن يمكن في المستقبل الهزيمة الشاملة للكفار إن شاء الله.
اللهم إنا نسألك أن تعز دينك، وأولياءك، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، اللهم إنا نسألك يوما قريبا تعز فيه دينك بنصر أوليائك على المشركين، اللهم عجل بنصر المسلمين يا أرحم الراحمين، واخذل اليهود، والنصارى، والصليبيين، والمشركين، والهندوس، وسائر المنافقين، اللهم اجعل بأسهم بينهم، واجعل تدبيرهم تدميرا عليهم، اللهم إنا نسألك أن تعزنا بطاعتك، وأن تجنبنا معصيتك.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.