الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورةآل عمران:102] يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [سورةالنساء:1]، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [سورةالأحزاب:70-71].
أما بعد:
فحديثنا في هذه الليلة بعنوان: رمضان فرصة للتعليم والتربية.
مقدمة
ولما كان رمضان قريباً وجب على الدعاة إلى الله تعالى الاستعداد لهذا الشهر الكريم، وإذا كان الناس يستعدون بما يكون من شؤونهم فالتجار يستعدون بتكديس البضائع، والمخرجون يستعدون بالمسلسلات والفوازير، وتستعد بعض المكتبات والتسجيلات بتجهيز ما يلزم لرمضان من بعض النواحي الشرعية... كان لزاماً على الدعاة إلى الله تعالى أن يستعدوا بتجهيز أنفسهم بقدوم هذا الشهر الكريم.
ولا شك أن طالب العلم، والداعية إلى الله تعالى عليه مسؤولية جسيمة في هذا الشهر الكريم؛ لأنه فرصة، فرصة فعلاً لتعليم الناس وتربيتهم، والمسألة قائمة على تحقيق التقوى التي ذكرها الله تعالى في كتابه فقال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورةالبقرة:183].
وتحقيق التقوى يتطلب الجهد المبذول من الدعاة إلى الله وطلبة العلم مع الناس وتفاعل الناس مع هذا، وقيام الجميع بالعبادة التي تحقق التقوى.
أصناف الجود في هذا الشهر الكريم
ووظيفة طالب العلم والداعية إلى الله في هذا الشهر الكريم تدور على مسألة مهمة وهي قضية الجود، الجود في هذا الشهر هو الذي سيكون عامل النجاح في الوظيفة التي هي مطلوبة من الداعية إلى الله وطالب العلم.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- "والجود عشر مراتب أحدها: الجود بالنفوس وهو أعلى مراتبه كما قال الشاعر:
يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها | والجود بالنفس أقصى غاية الجود |
والثانية: الجود بالرياسة، فيحمل الجواد جوده على امتهان رياسته والجود لها والإيثار في قضاء حاجات الملتمس.
والثالثة: الجود براحته ورفاهيته وإجمام نفسه، فيجود بها تعبا ًوكداً في مصلحة غيره.
ومن هذا جود الإنسان بنومه ولذته لمسامره، كما قيل:
متيمٌ بالندى لو قال سائله | هب لي جميع كرى عينيك لم ينمِ |
الرابعة: الجود بالعلم، وأنواع الجود هذه يكن تنزليها في رمضان بالنسبة للداعية وطالب العلم.
الجود بالعلم وبذله وهو من أعلى مراتب الجود، والجود به أفضل من الجود بالمال لان العلم أشرف من المال.
والناس في الجود بالجود به على مراتب متفاوتة، وقد اقتضت حكمة الله وتقديره النافذ أن لا ينفع به بخيلاً أبداً.
ومن الجود به -يعني بالعلم- أن تبذله لمن يسألك عنه، بل تطرحه عليه طرحاً.
ومن الجود بالعلم أن السائل إذا سألك عن مسألة استقصيتَ له جوابها جوابا ًشافياً، لا يكون جوابك له بقدر ما تدفع به الضرورة كما كان بعضهم يكتب في جواب الفتيا: نعم، أو لا مقتصرا ًعليها.
ولقد شاهدتُ من شيخ الإسلام ابن تيمية -قدّس الله روحه- في ذلك أمراً عجيباً؛ كان إذا سئل عن مسالة حُكمية ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة إذا قدِر، ومأخذ الخلاف، وترجيح القول الراجح، وذكَر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته.
فيكون فرحه بتلك المتعلقات واللوازم أعظم من فرحه بمسألته، وهذه فتاويه -رحمه الله- بين الناس، فمن أحب الوقوف عليها رأى ذلك.
فمن جود الإنسان بالعلم أنه لا يقتصر على مسألة السائل بل يذكر له نظائرها ومتعلقها ومأخذها بحيث يشفيه ويكفيه، وقد سأل الصحابة النبي ﷺ عن المتوضئ بماء البحر، فقال: هو الطُهور ماؤه، الحل ميتته[1]، فأجابهم عن سؤالهم وزاد عليهم بما لعلهم في بعض الأحيان إليه أحوج مما سألوه عنه.
وكانوا إذا سألوه عن الحكم نبههم على علته وحكمته، كما سألوه عن بيع الرطب بالتمر، فقال: أينقص الرطب إذا جفّ؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذن [2].
ولم يكن يخفى عليه ﷺ نقصان الرطب بجفافه، ولكن نبههم على علة الحكم، وهذا كثير جداً في أجوبته ﷺ، مثل قوله: إن بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئاً بما يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق.
وفي لفظ: أرأيتَ إن منع الله الثمرة بما يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق [3].
فصرّح بالعلة التي يحرم لأجلها إلزامه بالثمن، وهي منع الله الثمرة التي ليس للمشتري فيها صنع.
وكان خصومه -يعني شيخ الإسلام ابن تيمية- يعيبونه بذلك، ويقولون: سأله السائل عن طريق مصر مثلاً فيذكر له معها طريق مكة، والمدينة، وخراسان، والعراق، والهند، وأي حاجة للسائل إلى ذلك؟
ولعمر الله ليس ذلك بعيب، وإنما العيب الجهل والكبر، وهذا موضع المثل المشهور:
لقبّوه بحامض وهو خلّ | مثل من لم يصل إلى العنقود |
والخامسة من أنواع الجود: الجود بالنفع بالجاه، كالشفاعة، والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان ونحوه، وذلك زكاة الجاه المطالب بها العبد.
كما أن التعليم وبذل العلم زكاته -يعني زكاة العلم- زكاة العلم بذله.
السادسة: الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه كما قال ﷺ: يصبح على كل سلامة من أحدكم صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين اثنين صدقة، يعين الرجل في دابته فيحمله عليها، أو يرفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة يمشيها الرجل إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة [4].
السابعة: الجود بالعرض، وفي هذا الجود من سلامة الصدر وراحة القلب والتخلص من معاداة الخلق ما فيه.
وكذلك من أنواع الجود: الجود بالخلق والبشر والبسطة.
وهذا مهم في رمضان، حيث ربما يحمل الجوع الصائم على شيء من النزق والعصبية.
الجود بالخلق والبشر والبسطة وهو فوق الصبر والاحتمال والعفو، وهو الذي بلغ بصاحبه درجة الصائم القائم، وهو أثقل ما يوضع في الميزان، قال النبي ﷺ: لا تحقرنّ من المعروف شيئاً، ولو أن تلق أخاك ووجهك منبسط إليه [5].
وفي هذا الجود من المنافع والمسارّ وأنواع المصالح ما فيه، والعبد لا يمكنه أن يسعه في خلقه واحتماله.
العاشرة: الجود بتركه ما في أيدي الناس عليهم، فلا يلتفت إليه، ولا يستشرب إليه بقلبه، ولا يتعرض له بحاله ولا لسانه، وهذا الذي قال عبد الله بن المبارك: "إنه أفضل من سخاء النفس بالبذل"[6].
هذه بعض أنواع الجود وهو مدخلنا إلى الموضوع.
رمضان فرصة للتعليم والتربية، والداعية إلى الله وطالب العلم لا بد أن يجود بما عنده وبما أعده لأجل الناس في هذا الشهر، وسنتحدث في موضوع التعليم أولاً ثم في موضوع الدعوة ، ونتناول في موضوع التعليم عدداً من النقاط، ومنها: تبيين عظمة هذه الشريعة للناس، وتميزنا بعقيدتنا وشريعتنا عن غيرنا، وتربية الناس على المنهج الصحيح في تلقي العلم والفتوى وتعليم الناس يسر هذه الشريعة والكلام عن محاربة الشريعة للغلو، وآداب الصيام، وترك العقل لأجل النص، وعدم التلاعب، والقدوة من طالب العلم ورجمته للمستفتي، وإسماع الناس القرآن، ومنع تحول العبادة إلى عادة، ومسألة بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
ونتكلم في موضوع الدعوة إن شاء الله على قضية مراعاة الدعاة لواقعية هذا الدين وكيف يربي الصيام الإخلاص في النفس، ومراعاة الأئمة لحال الناس، وما يجليه شهر الصيام من التفاؤل في تغير الأحوال، وفرصة التقبل من قبل الصائمين، وتحميس الناس على العبادة، ومخاطبة الصيام لكل طبقات المجتمع، وكشف خطط الأعداء في هذا الشهر الكريم، والاهتمام بإخواننا المسلمين من الأعاجم وغيرهم، والكلام عن التوبة في رمضان، وتقوية الوازع الداخلي، والاهتمام بالمرأة والأولاد، وغير ذلك من النقاط.
تربية الناس على المنهج الصحيح في تلقي العلم والفتوى
فلنبدأ الحديث إذن عن موضوع التعليم، وهو واجب طالب العلم في هذا الشهر الكريم.
لا شك أن مبنى هذا على الجود كما قدمنا، ولكننا نقول: إن رمضان فرصة لتربية الناس على المنهج الصحيح في تلقي العلم والفتوى، فينتهز طالب العلم هذا الشهر الكريم في تلقين وإعطاء الناس الأحكام الشرعية.
ولا شك أن الناس سيسألون ويحتاجون إلى بيان الأحكام الشرعية، فهذه فرصة أن تعطى الأحكام بالميزان الشرعي الصحيح وأن نعلم الناس المنهج السليم في تلقي الأحكام، فمن ذلك مثلاً: الحرص على الدليل.
ثانياً: أن يكون الدليل صحيحاً.
ثالثاً: سؤال أهل العلم الأثبات.
رابعاً: عدم تتبع زلات العلماء ورخصهم، ومن تتبع رخص العلماء خرج من دينه.
وحتى في موضوع الصيام وقع هناك لبعض أهل العلم زلات، فمنهم من رأى أن أكل البرد في نهار رمضان لا يفطر، ومنهم من كان يرى أن الاستمناء في نهار رمضان لا يفطر.
وهذه بلا شك زلات واضحة.
فنحن نحتاج إن نعلم الناس فيما نعلمهم هذه القضايا المهمة، هذه قضايا منهجية، استغلال الشهر، انتهاز الفرصة في تعليم الناس المنهج في تلقي الأحكام قضية مهمة جداً ينبغي أن يقوم طالب العلم بها.
رمضان فرصة لتربية الناس أن يقدسوا النص الشرعي
وكذلك في رمضان فرصة لتربية الناس على التسليم، وعدم الرجوع إلى العقل مع وجود النص، التسليم للنصوص الشرعية، وأنه لا نقاش ولا اعتراض على النص، وإنما هو تسليم، ولما جاءت المرأة إلى عائشة -رضي الله عنها- وسألتها عن السبب في قضاء الصوم وعدم قضاء الصلاة؟ فقالت لها عائشة -رضي الله عنها-: "حرورية أنتِ؟"[7].
وهؤلاء أهل حروراء من الخوارج كان مذهبهم أن الحائض تقضي الصيام وتقضي الصلاة، وهذا لا شك من تنطعهم في دينهم، ولذلك كان من المهم للإنسان أن يسلّم، نعلّم الناس التسليم للنصوص، وعدم الاعتراض على النصوص فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [سورةالنساء:65].
لا بد لطالب العلم أن يضع في نفوس الناس قدسية النص، أن يضع في نفوس الناس احترام النص، يعلم الناس احترام النصوص الشرعية وعدم الاعتراض عليها، وكذلك عدم تقديم العقل على النص كما يفعل العقلانيون في هذا الزمان.
وكما قلنا قبل قليل: لماذا تقضي الحائض الصيام ولا تقضي الصلاة؛ لأنه هكذا ورد النص، وهذه إجابة عائشة: كنّا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة.
هناك أشياء أخرى يمكن أن تستنبط في الموضوع، لكن ما هو الشيء الأساسي؟ النص، أن يُقدم النص.
وكذلك من هذا الباب مسألة تقديم النص على العقل: أن دخول الشهر يعتمد فيه على رؤية الهلال، وليس على قضية الحسابات، ولذلك الذي يدع مسألة الرؤية لقول الحاسب الجاهل الذي قد يصيب وقد يخطئ، ويريدون تعليق الناس بأمور قد تكون خفية، فقد يكون للسماء غيم ولا يرى أحد الهلال ومع ذلك يقولون لهم: صوموا؛ لأن حساباتنا تقول إن هذا هو أول الشهر، ونحو ذلك من الترهات، ولذلك لا بد أن نعلم الناس مسألة أن النص هو الأساس، هو المقدّم، ولو أنه قد طرأ في عقول بعض الناس أشياء وأسباب، ولكنها لا يمكن تقديمها على النص بحال.
تعليم الناس يسر الشريعة وسهولتها
وكذلك من الأمور المهمة لطالب العلم أن ينتهز فرصة رمضان ليعلمها للناس قضية يسر الشريعة، وهذه المسألة في غاية الأهمية وذلك؛ لأنه قد استقر في أذهان كثير من الناس أن في الدين صعوبات، وأن الدين هو صعوبات وتشديدات وتعقيدات.
وكأنهم يصورون أن الله ينتقم من الناس أو يعذبهم بهذا الدين، ويقولون: لماذا يحتوي هذا الدين على هذه التشديدات؟ لماذا كل هذا التشديد والتعقيد؟ هذه فكرة بعض الناس عن الدين.
وهذه الفكرة التي يروّج لها العلمانيون وغيرهم في مقالاتهم وكتبهم، أن الدين قيود، فنحن ننتهز الفرصة في رمضان لنعلم الناس أن الدين يسر، ونضرب لهم أمثلة من واقع رمضان والأحكام فيه.
النبي ﷺ بُعثُ بالحنيفية السمحة، وأن الله تعالى ما جعل عليكم في الدين من حرج، فمثلاً نقول: تأملوا يا أيها الناس، لا يجب الصيام على الصغير، ولا المريض، ولا على الحائض، ولا الحامل، ولا المرضع.
وكذلك يجوز قضاء أيام الصيام أيام الصيف في الشتاء، إذا كان رمضان في الصيف وحصل العذر فيجوز القضاء في الشتاء، مع أنه أبرد ونهاره أقصر، ومع ذلك من رحمة الله ويسر الشريعة يجوز أن تقضي أيام الصيف في الشتاء.
وكذلك أن الراجح عدم وجوب التتابع في القضاء، وأنه إذا كان الصوم يجلب المرض أو يزيده أو يؤخر البرء فإنه لا صيام على الإنسان في هذه الحالة، وكبير السن الذي أصابته الشيخوخة لا صيام عليه، وإنما يخرج الفدية.
فإذا ذهب عقله وأصيب بالخرف فإنه لا صيام، ولا قضاء، ولا فدية، وليس على أوليائه شيء، وكذلك أن من مات وهو ينتظر الشفاء من مرض يرجى برؤه فليس عليه ولا على أوليائه شيء، من مات وهو ينتظر البرء لأجل أن يقضي فليس عليه ولا على أوليائه شيء، وأن من ذرعه القيء فلا شيء عليه، وأن من أكل أو جامع ظانّاً بقاء الليل ثم تبين له أن الفجر قد طلع فلا شيء عليه لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [سورةالبقرة:286].
وأنه لا بأس بالتبرّد بصبّ الماء على الرأس، والاغتسال، ودخول البرْكة، ونحو ذلك، وأن دخول الماء عند المضمضة بغير عمد لا يفطّر، ودخول الغبار وما ينتج عن غربلة الدقيق والطيب، شم الطيب، وقطرة العين، والكحل على الراجح لا تفطر، وبلع الريق كذلك، والاحتلام لا يضر بالصوم، والادّهان لا حرج فيه، وذوق الطعام دون بلعه عند الطبخ، أو الشراء جائز، ودخان القدر الذي ربما تشمه المرأة عند الطبخ لا يضر بصومها، وتحليل الدم جائز، وطلوع الفجر عليه وهو جنب لا حرج فيه، ومن أصابه جرح لا يفطّر، فهذه أمثلة ذكرها العلماء في الأحكام، أحكام الصيام تدل على يسر الشريعة، ينبغي انتهاز الفرصة لتعليم الناس أن هذا الدين يسر.
ولكن في الوقت نفسه الدين ليس تلاعباً والشريعة لا يجوز فيها التلاعب.
فبعض الناس تصل بهم قضية اليسر إلى أن يخرج بالشريعة عن معناها وحدودها، ويجعل المسألة مسرحاً للتلاعب، وهذا لا شك استهزاء، وهذه طريقة بني إسرائيل الذين حرّم الله عليهم الصيد يوم السبت فنصبوا الشباك يوم الجمعة، ورفعوها يوم الأحد، ويحضرني في هذا مثال جيد لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- ذكره في الفتاوى، سئل شيخ الإسلام -رحمه الله- عمن أراد أن يجامع في نهار رمضان فأفطر بالأكل أولاً، ثم جامع، هل تجب عليه كفارة الجماع المغلظة أم لا؟
ما هي الطريقة للهروب في نظره من كفارة الجماع؟
قال: آكل أولاً، أفطر بالأكل ثم أجامع وأنا مفطر، فيكون ما علي إلا القضاء والتوبة.
فهل هذا صحيح؟
أجاب -رحمه الله تعالى- بإيجاب الكفارة عليه؛ لأنه هتك حرمة الشهر، وهتك حرمة الشهر حاصلة في كلتا الحالتين، بل هي هنا أشد، الذي أكل ثم جامع أشد؛ لأنه عاصٍ بفطره أولاً، ثم بالجماع ثانياً، فصار عاصياً مرتين، فالكفارة عليه آكد، يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: "ولأنه لو لم تجب عليه الكفارة هنا -في هذه الحالة- لصار ذريعة أن لا يكفر أحد، فإنه لا يشاء أحد أن يجامع في رمضان إلا أمكنه أن يأكل، ثم يجامع، بل هو أعون له على مقصودة" يعني يأكل ويتقوّى على الجماع ويجامع ثم يقول: لا، ما عليك إلا القضاء، أبداً، لا يمكن.
قال: "فيكون قبل الغداء عليه كفارة" لو جامع قبل الغداء عليه كفارة، وإن تغدى مع امرأته ثم جامعها فلا كفارة عليه؟ "هذا شنيع في الشريعة ولا ترد بمثله"[8].
وكذلك سأل رجل عليه الصيام بأنه لا يستطيع أن يصوم لأجل أنه ابتلي بالتدخين، فهل هذا عذر؟
فكان جواب الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- ونفع به بأنه لا عذر له بمعصية.
يُعذر بمعصية؟ يقول أنا مبتلى بالتدخين لا أستطيع الصيام، أريد إخراج الفدية، نقول: أبداً! لا يمكن أن تعذر بمعصية.
فهذا مثال على قضية التلاعب أيضاً.
وفي الجانب الآخر فإننا نعلّم الناس من خلال أحكام الصيام أن الشريعة تحارب الغلو في الطرف الآخر، فهي تحارب التلاعب من جهة، وتحارب الغلو في الطرف الآخر، ومن أمثلة ذلك: أنه لا يجوز صيام يوم العيد، الزيادة على العبادة غلو، وتعدي رمضان بصيام غلو، لا يجوز صيام العيد.
وكذلك النهي عن الوصال، أن يصل يوماً بيوم في رمضان دون إفطار بينهما، يل يوم بيوم، الثاني بالثالث، هذا الوصال الذي نهى ﷺعنه؛ لأنه غلو، ولذلك همّ النبي ﷺ أن يواصل لما رآهم واصلوا، أن يواصل وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم، صياما ًيجعل المتعمقين يدعون تعمقهم وغلوهم.
تعليم الناس عظمة الشريعة وتميزها عن غيرها
وكذلك رمضان فرصة لطلبة العلم لتعليم الناس عظمة هذه الشريعة، فمن عظمتها استيعابها لجميع المستجدات في أحكام الصيام، فمثلاً: إذا جئت إلى المسائل المستحدثة، مثلاً غسيل الكلى، والبنج، وموانع الدورة الشهرية، وحشو عصب السن، ومعجون الأسنان، والسفر في الطائرة، والتطعيمات، ونقل الدم، ونحو ذلك، ودواء الربو، والمغذيات... كلها تجد لها جواباً موجودا ًفي الشريعة بالنص أو القياس علمه من علمه وجهله من جهله، وهذا يدل على سعة هذه الشريعة عظمتها وأنها صالحة لكل زمان ومكان، وفيها متابعة لكل ما يستجد.
ومن أهم الأمور التي يعلمها طالب العلم للناس وينتهز فرصة رمضان لذلك أيضاً: تميزنا بعقيدتنا وشريعتنا عن غيرنا، قال الله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورةالبقرة:183].
هذا مشابهة الفرضية بالفرضية وليس الكيفية بالكيفية، ونحن لما فرض علينا الصيام، نحن نعلم أنه فرض على اليهود والنصارى من قبلنا لكن اليهود والنصارى غيروا وبدلوا وحرفوا.
اليهود والنصارى نقلوه من الصيف إلى الربيع، أول ما فرض عليهم كان في الصيف فشق ذلك عليهم، فماذا حصل؟ نقلوه إلى الربيع، وزادوا عشرة أيام بزعمهم كفارة للتحريف، صارت أربعين يوماً.
ثم بعد ذلك صار عندهم أزمة اقتصادية في قضية اللحم والجبن والبيض والمشتقات الحيوانية، فأمر بعض ملوكهم بأن يُصام عن هذه المشتقات في الصيام، وصار هذا المرسوم هو الصيام عندهم.
فلذلك تجد الصيام الآن أحلى ما يمكن، فإنك تأكل ما شئت من غير هذه الأشياء وأنت تعتبر صائم وقائم بالفريضة والدين عندهم.
فانظر إلى تحريفهم سواء في الوقت أو في الكيفية حصل عندهم في التبديل والتغيير.
ونحن ولله الحمد عقيدتنا متميزة عن عقيدتهم وشريعتنا متميزة عن شريعتهم فلا تغيير ولا تبديل، وتبقى الأحكام الشرعية للصيام معروفة عند المسلمين غير قابلة للتحريف والتبديل.
كذلك فإن طالب العلم يجب أن يدرك في رمضان وفي غير رمضان أن القضية الأساسية أن يكون قدوة لناس، وأنه إذا لم يكن قدوة فإن ذلك ربما يلحق الضرر في نظرة الناس إلى الدين، وأنه يقتدى به في الأشياء، ولذلك ربما وهو لا يشعر يقتدى به، فإذن، لا بد أن يحرص في كل لحظاته أن يكون مطبقاً لأحكام الشريعة وممتثلاً لها، حتى إذا نظر إليه الناس ينظرون إليه وهو على صواب، وكان النبي ﷺ كذلك، وكان قدوة بأفعاله قبل أوامره ونواهيه، عن أبي سعيد الخدري قال: "سافرنا مع رسول الله ﷺ إلى مكة عام الفتح، فصام حتى بلغ كراع الغميم، وصام الناس معه، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون ماذا فعلت.
موضع الشاهد، وأن الناس ينظرون ماذا فعلتَ؟ فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون إليه، وقال: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم [9].
الرحمة بالمستفتي والسائل
وكذلك من سمات طالب العلم في هذا الشهر وفي غيره الرحمة بالمستفتي، الرحمة بالسائل.
وهذا جانب مهم، فلا بد لطالب العلم من التماس الرحمة للناس، هذا رسول الله ﷺ يرأف بأحد أصحابه لما رأى من معاناته فيقوم ببيان الحكم له بالتخفيف عنه.
روى الإمام مسلم -رحمه الله- عن كعب بن عجرة قال: "أتى علي رسول الله ﷺ زمن الحديبية، وأنا أوقد تحت قدر لي، والقمل يتناثر على وجهي.
تصور هذا المشهد وتأمل فيه، الصحابي كعب بن عُجرة يوقد تحت قدر له، والقمل يتناثر على وجهه، أحرم ولم يعد بالمقدور الآن حسب أحكام الإحرام أن يأخذ من شعره شيئاً حيث أن حلق الشعر من محظورات الإحرام.
فصار القمل يتناثر على وجهه ، فالنبي ﷺ مر به وهو على هذه الحالة، فقال: أيؤذيك هوامّ رأسك؟ وهذا لا شك أنه سؤال فيه معاني الرحمة والعطف والشفقة والرأفة بهذا الصحابي.
قال: قلت: "نعم"، قال: فاحلق، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة.
قال أيوب: "فلا أدري بأي ذلك بدأ"[10].
وأنت قد يأتيك شخص مصاب بقرحة، قد يأتيك شخص مصاب بمرض، أو داء صرع، ونحو ذلك، فهنا لا بد أن يبدي طالب العلم الرأفة بحاله والشفقة، وبالإضافة للجواب يبدي مشاعره، وهذه مسألة مهمة.
إبداء المشاعر، إظهار المشاعر، فأحياناً الإنسان طالب العلم يواسي الشخص، يدعو له بالإضافة إلى إعطائه الحكم، وهذه قضية أيضاً مهمة لا شك أنها تجذب الناس إلى أهل الدين.
تعليم الناس أنه لا حياء في الدين
كذلك مما ينتهز رمضان من أجله تعليم الناس أنه لا حياء في الدين، رمضان فرصة لتعليم الناس أنه لا حياء في الدين، هناك بعض الناس يقعون في أخطاء نتيجة الخجل، فيعلمهم طالب العلم أنه "لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر" كما قال مجاهد -رحمه الله تعالى-[11].
لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر، إذا كان الخجل سيمنعك من رفع السؤال وإبداء مع عندك، فمعنى ذلك أنك ستبقى في جهل عظيم، مطبق، ونحن نلاحظ من بعض الأسئلة التي تأتي في رمضان ما يلي:
بنت لم تصم أيام العادة في أول سنة جاءتها الدورة خجلاً من أهلها، خجلت من أتقول لهم أنها قد بلغت، فواصلت على الإفطار، لا تريد أن تعلمهم بأنه وجب عليها.
وكذلك حالة أخرى: بعض الفتيات تبلغ فلا تخبر أهلها بذلك خجلاً وتبقى على صيام أيام الدورة، ولا تقضي.
تصوم الأيام ولا تقضي، ولا تخبرهم أنها قد بلغت، وتبقى على الصيام إذا كانت أصلاً تصوم حتى قبل البلوغ تصوم، تواصل على الصيام أيام الدورة ثم لا تقضي، وتقول: كنت متحرجة وكنت خجلة، ونحو ذلك.
فنقول: هذا مما لا يمكن السكوت عنه، وبعض الناس قد يقع في أشياء من استجلاب دواعي الشهوة وخروج الماء ونحو ذلك، ويخجل أن يسأل وربما أنه يأتي عليه رمضان الذي بعده وما فعل شيئاً من أجل ذلك اليوم.
وبعضهم قد يخجل عن السؤال من أحكام المذي، وبعضهم يخجل يسأل عن الاحتلام، ونحو هذه الأشياء التي يكون فيها حساسية عند بعض الناس، فنقول: إن الشريعة جاءت في تنمية الحياء وحفظه، وهناك فرق بين الجهر بالسوء من القول والفحش، وبين أن يسأل الإنسان أهل العلم.
ونحن لا نمانع أن الشخص قد يكون عنده حياء فلا يسأل لنفسه فيوكل أن يسأل غيره، لا مانع من ذلك، المهم أن يصل إلى الجواب، أن يحصل على الجواب، الفتوى، نتيجة.
وقد سأل علي المقداد أن يسأل له رسول الله ﷺ عن المذي، قال: "فاستحييت أن أسأله لمكان ابنته مني". لكن المهم أنه وصل إلى الجواب في النهاية.
تنبيه الناس على الأحاديث الضعيفة والموضوعة
وكذلك فإن الشهر الكريم فرصة لتنبيه الناس على بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ فيهم، ولا شك أن انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة في المجتمع له سلبيات كثيرة.
وهناك أحاديث متعلقة بالصيام ورد فيها بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وبعضها قد يترتب عليه سيء من جهة الفساد، وبعضه قد لا يترتب عليه، لكن يكفي فساداً نسبته إلى النبي ﷺ والجزم بذلك، والنبي ﷺ ما قاله، أو ما ثبت أنه قاله.
فمثلاً: حديث: "نوم الصائم عبادة،" حديث مشهور بين الناس، رواه ابن منده والبيهقي، وهو حديث ضعيف.
وحديث: "صوموا تصحوا" لا يكاد يوجد من الوعاظ من يريد أن يحث الناس على الصيام والصيام إلا ويأتي لهم بحديث صوموا تصحوا الذي رواه ابن عدي وهو حديث ضعيف جداً.
ويدخلون على الناس من باب الصحة وإن تصم تصح.
وكذلك حديث: "من أفطر يوما ًمن رمضان من غير عذر لم يجزه صيام الدهر كله ولو صامه".
وهذا الحديث يترتب عليه أن الشخص الذي حصل له إفطار في رمضان، يقول: ما دام أنه لا يجزئني أن أصومه إذن لا أصوم، ما الفائدة؟
من أفطر يوما ًمن رمضان من غير عذر لم يجزه صيام الدهر كله ولو صامه.
يقول: إذن لماذا أصوم؟
والحديث رواه الأربعة من حديث أبي المطوس وهو مجهول.
فالشاهد: أن هناك فرصة لتعليم الناس ما يتعلق بمسألة الالتزام بالأحاديث الصحيحة وعدم نسبة أحاديث النبي ﷺ ليس المرء متأكداً منها، وأن هذه الأحاديث قد ينبني عليها بعض المفاسد.
وكذلك فإن تعليم الناس الاهتمام بالسنة من الفرص التي تنتهز في رمضان، قضية الاهتمام بالسنة مسألة منهجية ومهمة، وبعض الناس يقولون: لا نريد إلا الواجبات.
اما السنن فلا يسألون عنها ولا يريدونها.
نقول: السنن في غاية الأهمية، السنن تكمل الفرائض.
يعني هل وجدت أن صيامك يا أيها المسلم خالياً من كل محظور؟ وأنه كامل؟ أو أن فيه نقص؟
فإذا كان فيه نقص فمن أين يكمل؟ يوم القيامة ما الذي يكمله؟
فمن سنن الصيام التي يعلَمها الناس: السحور، لحديث تسحروا فإن في السحور بركة[12].
يعني لو ما تسحروا ما يأثم، لكن السحور سنة فلماذا لا يحرص عليه؟
كذلك تأخير السحور وتعجيل الفطر لقوله ﷺ: لا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر [13].
كذلك استحباب أن يكون الفطر على رطبات، فإن لم تكن فعلى تمرات، لحديث أنس: "كان رسول الله ﷺيفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات حسى حسوات من ماء" رواه الترمذي وهو حديث حسن[14].
الدعاء عند الإفطار سنة والذكر الذي يقال بعد الإفطار لحديث ابن عمر أن النبيﷺ كان إذا أفطر قال: ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله [15].
إذا أفطر قال هذا الدعاء، فنعلمهم الأدعية والسنن التي تكمل الفرائض والفريضة.
ثم أيضاً من الناحية العلمية، رمضان فرصة حتى لاختبار الطلاب بالألغاز الفقهية، وكان بعض المشايخ يفعل ذلك، فهذه من المسائل:
رجل مكلّف مسلم -مكلّف يعني ليس بخرف-، ولا يفقد عقله، ولا هو صغير- أفطر في نهار رمضان، ولم يلزمه قضاء ولا كفارة؟ ليس عليه لا قضاء ولا فدية، ليس عليه شيء، ليس عليه لا قضاء ولا كفارة. من هو؟ إذا أفطر عمداً؟ مسافر؟ عليه القضاء، مجنون؟ ليس مكلفاً، والسؤال يقول: مكلف مسلم.
المريض عليه القضاء إذا برئ، وإذا ما يبرأ، مرض مزمن عليه الإخراج.
الناسي... ذكرنا الجواب عنه؛ إنه هذا الرجل متعمد.
عليه القضاء رجل المطافئ، دخل في إطفاء الحريق واستلزم أن يفطر عليه القضاء.
غير مختار ليس بمكلف والسؤال يقول: رجل مكّلف مسلم.
أفطر عمداً في النهار، ليس في الليل، أفطر عمداً في النهار.
الجواب: هذا رجل مسلم كبير لا يطيق الصيام، أو مريض لا يرجى برؤه إذا سافرا.
فهو لا يطيق الصيام، أو مريض لا يرجى برؤه، إذا سافرا فلا تلزمهما لا قضاء ولا كفارة، ذكرها الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- في فتاواه.
العلاج الشرعي لمسألة تحول العبادات إلى عادات
هنا مسألة أيضاً مهمة هي بين قضية التعليم والدعوة معاً، ألا وهي: مسألة منع تحول العبادات إلى عادات، أو تحول الصيام من عبادة إلى عادة. ما هي الوسائل لمنع هذا التحول؟
الفرصة لطالب العلم والداعية إلى الله في هذا الشهر أن ينبّه إلى هذا المفهوم المهم؛ لأن بعض الناس تتحول عندهم العبادات إلى عادات، وبالتالي تتفرغ من مضمونها، ولا يكون لها تأثير، وتصبح مجرد عادة.
فمن الوسائل لذلك:
أولاً: التذكير بفضائل رمضان؛ لأننا إذا ذكرنا الناس بالفضائل يحصل عندهم نية احتساب الأجر الوارد في هذه الفضائل. من أهمية ذكر الفضائل اتجاه النية لأجل تحصيل الأجر الوارد في الفضائل، فتحدث عملية احتساب أثناء العبادة، فمن الأحاديث الواردة في ذلك: من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه[16] إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد[17].
وهذه قضية الاختصاص، أنك تشعر الشخص بأن هذا الأجر مختص بهذا العمل، فإذن، لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال هذا العمل، فلا بد أن يقصد العمل لكي يحصل على الأجر.
خلوف فم الصائم أطيب عند الله من رائحة المسك [18].
أن الصوم قد اختصه الله لنفسه وأنه يجازي به، وأن الصوم جُنه ووقاية من النار.
وأن للصائم فرحتان، إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه، وأن الصيام يشفع للعبد يوم القيامة، وأن من صام يوماً ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة، وأن الصوم لا عدل له، وأن من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً [19].
وفي رواية: مسيرة مائة عام [20].
وأنه تصفّد فيه الشياطين، وهم مردة الجن، وأن هناك ثلاث دعوات مستجابات منها دعوة الصائم.
هذه بعض الفضائل الواردة في هذا الشهر.
وكذلك من أجل منع تحول العبادة إلى عادة نذكر الناس ببعض الحكم الموجودة في الصيام، فمن ذلك أنه وسيلة للتقوى، فإن النفس إذا امتنعت عن الحلال طمعا ًفي مرضاة الله تعالى، وخوفاً من عقابه، فإن ذلك يكون دافعاً لها بأن تكون أولى بالامتناع عن الحرام.
وكذلك نذكّر بفوائد الصيام، مثل أن الإنسان إذا جاع بطنه انتفع جوعه بكثير من حواسه، فإذا شبع بطنه جاع لسانه، وعينه، ويده، وفرجه، هذه علاقة عكسية؛ إذا جاع البطن شبعت الحواس، إذا شبع البطن جاعت الحواس.
فكان تشبيع النفس تجويعاً لهذه المذكورات.
ومنها أنه إذا جاع علم حال الفقراء في جوعهم فيرحمهم ويعطيهم ما يسد به جوعهم، إذ ليس الخبر كالمعاينة، ولا يعلم الراكب مشقة الراجل إذا ترجل، وأن الصوم موجب للرحمة بهم والعطف عليهم، وأن فيه قهراً للطبع وكسراً للشهوة، ولذلك فهو يؤدي إلى اجتناب الهوى وترك المعاصي، وفيه قهر للشيطان كذلك، وفيه فوائد اجتماعية من جهة إشاعة خلق المواساة والإيثار، وكان بعض السلف يحضر إفطاره، وقت الإفطار، فيدق الباب سائل، فيتصدق عليه بإفطاره ويبقى من غير طعام.
شرح هذا الموضوع مهم للعامة لأجل المساهمة في منع تحول العبادات إلى عادة.
وكذلك في موضوع عمل الدعاة إلى الله تعالى في هذا الشهر، تأديب الناس بالآداب الشرعية في موضوع الصيام، تأديب الناس بالآداب الشرعية.
قال ﷺ: ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابّك أحد أو جهل عليك، فقل: إني صائم، إني صائم[21].
وكذلك قال ﷺ:لا تسابّ وأنت صائم، وإن سابّك أحد فقل: إني صائم، وإن كنت قائماً فاجلس[22].
فإذن، لا بد أن يكون هناك صيام مع الصيام، امتناع عن الكذب والنميمة والغيبة والغش، وبالتالي أيضاً كل المحرمات من سماع آلات اللهو والغناء، ولعب الورق، وغير ذلك.
ويكون عند الإنسان خلق البر والمواساة والرحمة، وينبغي تأديب الناس بهذه الآداب.
أيضاً من المهم للداعي إلى الله تعالى: أن يكون قدوة كما أن طالب العلم والداعية إلى الله قدوة ينبغي أن يكون طالب العلم، وطالب العلم ينبغي أن يكون داعية إلى الله، وليس هناك تفريق بينهما، والعملية متداخلة لكن نحن نتكلم من جانب الدعوة، من جانب التعليم ومن جانب الدعوة من أن الشخص واحد، المفروض أن يكون واحداً.
وكان السلف -رحمهم الله تعالى- يبدون من حسن خلقهم ومظهرهم في رمضان أشياء، فمن ذلك فعلهم في ليالي العشر من الاغتسال والتطّيب.
قال حمّاد بن سلمة: "كان ثابت البُناني وحميد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما ويتطيبان"[23].
والله تعالى أحق أن يُتزين له من الناس، وقال : خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [سورةالأعراف:31].
من المهم بالنسبة للدعاة إلى الله تعالى، نحن الآن على أبواب رمضان، شحن النفوس للاستعداد للشهر، وهذا يأتي من خلال المواعظ والخطب، لا بد أن يحضّر الدعاة للخطب؛ لأجل حث الناس على الاستعداد للشهر، فيكثر الكلام عن الشهر ومزاياه وفضائله وما ينبغي أن ينتهز من أجله فيه، ويفعل فيه وينتهز من أجله، لا بد أن يكون هناك خطب معدة مسبقاً، كلمات مواعظ معدة سلفاً.
ولذلك إشهار دخول رمضان، هذا فيه إعطاء دفعة قوية للناس بأن هناك شيئاً قد حدث، وأنه لا بد من حدوث تغيير، وكان الصحابة يتأهبون ويستعدون بترائي الهلال، وقد قال ابن عمر : "تراءى الناس الهلال"[24].
معنى ذلك أنهم كانوا يخرجون ويحاول كل منهم أن يراه، كان هناك تشوّق للشهر، وكان الكل يبحث في السماء عن الهلال، تراءى الناس الهلال، تراءوه يعني محاولة رؤية الهلال، هذه قضية وقع التفصيل فيها الآن من أكثر الناس، فتجد الواحد يعتمد على الخبر من الراديو، يعتمد على واحد يأتي من الصحراء يخبر القاضي في المحكمة.
وليس هناك منهم من يحاول أن يراه بنفسه، أو أن الناس يقبلون على هذا الأمر.
عدم الإقبال عليه معناه أنه ليس هناك التشوّف الكافي والترقّب لدخول الشهر، وهذه قضية تدل على تقصير.
وبعض الناس عندهم نفوس شيطانية تستاء من دخول الشهر، لأنهم يعتبرونه شهر حرمان، أنه سيحرم الآن من الملذات والشهوات وسيقيّد، وطبعاً هذا مما يخفف منه ويعدل هذه النظرة قضية ذكر الأجور الواردة في رمضان.
المهم أن الداعية الناجح لا بد أن يستعد، نحن مشكلتنا أننا نبقى إلى اللحظة الأخيرة، ما نستعد، لا الخطباء يستعدون بخطب، ولا طلبة العلم يستعدون بمراجعة الأحكام الشرعية، مراجعة الكتب، مراجعة ما سبق أن حضّروه في موضوع أحكام الصيام، وكذلك يوجد تقصير في كتابة الأشياء، مسائل أحياناً قد تستجد، في كل شهر قد تأتي مسائل جديدة، فلا بد أن يسأل عنها أهل العلم وتحفظ الأجوبة.
أسباب عدم التأثر والبشر بقدوم رمضان
من أسباب عدم وجود التأثير الكافي في رمضان، عدم إحسان الاستعداد، تجد تقصيراً في الاستعداد، حقيقة فيه تقصير في الاستعداد من الخطباء وطلبة العلم، وهذه قضية لا شك أنها تدل على على ضعف وعجز.
ونحن نرى من خلال هذا الشهر الكريم أن رمضان يبعث الأمل في نفوس الدعاة، بإمكان التغير للأحسن، واحد قبل أيام كان يقول لواحد من إخوانه: الناس ما عاد هناك فائدة من الدعوة، والناس ما يستجيبون، انتهت.
هذا البث المباشر، وهذا الشهوات والأهواء، لا توجد هناك استجابة، وأنه لا في فائدة من الكلام.
يقول: لا فائدة من الكلام، لا تتعب نفسك.
مثل النفسيات المتشائمة هذه يأتي رمضان ليثبت العكس، فيبعث الأمل في نفوس الدعاة بإمكان التغيير للأحسن؛ لأنه بمجرد دخول الشهر يقبل الناس على المساجد، تكثر الصدقات، تزداد العبادات والطاعات، وصفوف المصلين تزداد، وناس ما كانوا يصلون الفرائض ربما يأتون للتراويح.
يعني معناها ممكن، التغيير ممكن، المقصود الآن التغيير ممكن، ناس ممكن يتحسنون، ولا مانع أن يكون جهدنا مضافاً في أوقات المواسم، وإذا صارت المسألة فيها شيء من الإعراض، الإنسان ربما لا يجد المجال الكافي للدعوة، ومع ذلك لا بد أن يقوم بالدعوة كما فعل نوح في الدعوة بجميع الحالات.
وهنا فرصة أن بعض ما في نفوس الناس ينكسر بالصيام فيحدث التقبّل، وهذه القضية لا بد من استغلالها في الدعوة، فإن الشبع والريّ ومباشرة النساء تحمل النفس على الأشر والبطر والغفلة، وتقسّي القلب وتعميه، وخلو الباطن من الطعام والشراب ينوّر القلب، ويوجب رقته، ويزيل قسوته، فتنكسر حدّة الإعراض والعناد عند كثير من الناس، ويزول كثير من الكبر. لاحظوا الآن؛ الله جعل الصيام إعانة للدعاة إلى الله، من أكثر من وجه.
أولاً: تصفيد مردة الجن، وهذا فيه عون من الله للدعاة، إغاثة من الله للدعاة.
تصفيد مردة الجن لأجل أن يكون المجال للدعوة فسيح، والنفوس تتقبل أكثر، تصفد مردة الجن.
وكذلك ما يحصل من الجوع يكسر قضايا في نفوس الناس من البطر، ويزيل الغفلة، وقضية العناد التي تمنع من استجابة الناس للداعية، هذه تنكسر حدتها أيضاً، الإعراض والعناد ينكسر، ولذلك الناس يتقبلون في رمضان ما لا يتقبلون في غيره، وربما تعطي منها واحداً في رمضان، كتيب، أو شريط، أو رسالة فيقول: ما في داعي، شكراً، أعطيها لغيري، لسنا فارغين لهذه الأشياء، في رمضان يقبل ويأخذ، في الغالب يقبل ويأخذ، ولذلك لا بد من انتهاز الفرصة، نعود ونذكر بالعنوان: رمضان فرصة للتعليم والدعوة.
رمضان فرصة للدعاة في فهم نفسيات الناس
كذلك رمضان فرصة للدعاة في فهم نفسيات الناس، فلماذا مثلاً بعض الناس يحرص على الصيام أكثر من حرصه على الصلاة؟ قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "إن هناك صنف من الناس لو ضرب بالسياط على أن يفطر رمضان ما أفطر، ولو ضّرب على الصلاة ما صلّى"[25].
فهذه معناها -لو تأتي تحللها نفسياً-، بعض الناس يشعرون أن الصيام فيه تحدي للنفس، تحدي للإرادة، فلذلك يدخل في عالم التحدي، هذا وهو يريد إكمال اليوم والامتناع، يشعر كأن هناك استدعاء له لتصوير نفسه على هذه القضية.
وربما لا يشعر في عبادة أخرى كالصلاة، ولذلك تراه يمسك، قوة الأحجام قوية في الصيام، بينما قوة الإقدام في الصلاة ضعيفة.
علاج الداعية للمفارقات عند بعض الناس
كذلك نجد أحياناً مفارقات، هذه أيضاً من وظيفة طالب العلم والداعية، المفارقات مثلاً أن بعض الناس تراهم يتحرجون من معجون الأسنان، وطعم السواك، وبلع الريق، وهم مع ذلك يأكلون الربا، ويغتابون، وينظرون للحرام، ويسمعون الحرام، وربما يقعون في الفواحش أيضاً، ومع ذلك تجده يسأل هو نفسه الذي يرتكب الفواحش في الليل، أو يعمل محرمات في الليل، يأتي يقول: بلعت ريقي! استعملت معجون أسنان، وما حكم معجون الأسنان؟
فهذه هنا تأتي قضية ابن عمر لما جاءه بعض أهل العراق يسألونه عن قتل الزنبور للمحرم، فتعجب منهم عبد الله بن عمر يعني يقتلون ابن بنت النبي ﷺ ويسألون عن دم البعوض ودم الزنبور" وحكم قتل الزنبور للمحرم![26].
فهنا تأتي مسألة إعطاء شرح قضية الأولويات للناس وأن التحرج من الحرام الأكبر ينبغي أن يكون أكبر.
وأن وجود هذه المفارقات عيب عند المسلم، أن يكون كذلك.
وظيفة الدعاة إلى الله في شهر رمضان
في موضوع وظيفة الدعاة إلى الله في شهر رمضان، وهم ينتهزون فرصة هذا الشهر الكريم لتربية الناس على الإخلاص، لان الصيام سر بين العبد وربه، فالصوم عبادة خفية ليس فيها عمل يشاهد كما في سائر العبادات والطاعات، فسائر العبادات، أغلب العبادات يمكن أن تكون على مرأى من البشر، أما الصوم فلا يراه إلا الله ، ولا شك أن هذا المعنى اللطيف الذي هو أن الصيام سر بين العبد وربه، هذا يساعد في تنمية الإخلاص في النفس، وأن الإنسان يقصد الله تعالى بأعماله، وأنه لا يجعل معه شريكاً في العبادة، وينبغي أن تكون هذه النية صافية، ولذلك من الخطأ الذي يقع فيه بعض الدعاة إلى الله تعالى: الإتيان ببعض الأشياء التي تعكر صفو النية.
مثل تضخيم قضية المنافع الصحية للصيام، أو كأنه يجعلها هي الأساس قبل قضية التقوى.
وبالتالي ربما يقع عند بعض الناس أو أن هذا شيء ينبغي أن يذكر به الناس ابتداءً، أنه يا أيها الناس أنتم تصومون يعني لا حمية أو تخفيفاً للوزن، أنتم لا بد أن تقصدوا الله ، تقصدوا الأجر، وتقصدوا التقوى.
ثم إن هذا الصيام أيضاً يمكن أن يكون فرصة للدعاة إلى الله تعالى، هذه مسألة في قضية تقوية الوازع الداخلي، فإن في الحدود، أو خوف الإنسان من الفضيحة، أو قسر الوالدين وسائر العبادات ما يمنع المرء من ارتكاب المحرمات علناً، لكنه لو خلا بمحارم الله انتهكها؛ وذلك نظراً لضعف الوازع الداخلي في قلبه الذي سماه النبي ﷺ: واعظ الله في قلب كل مسلم[27].
فيأتي الصيام ليذكر العبد بأهمية الواعظ الداخلي وتقويته وينميه عنده، فهو لا يأكل وإن لم يره أحد، وأنت تذكر الصائم، تقول: يا أيها الناس أنتم لا تأكلون مع أن أحداً لا يراكم.
بل أنك يمكن أن توقف النية، تبطل نية الصيام بقلبك، ومع ذلك لا تفعل ذلك؛ خوفاً من الله تعالى.
هذا في السر أنت تلاحظ الله وتراقبه، فإذن، لماذا ما تكون القضية ليس فقط في الصيام، وإنما حتى في المحرمات الأخرى تمتنع عنها في السر، وليس فقط تحفظ الصيام أو تمتنع عن المحرمات من الأكل والشرب والجماع في الصيام، فتمتنع عن المحرمات الأخرى.
الكلام على قضية تقوية واعظ الله تعالى في النفس.
أيضاً مسألة أخرى يمكن أن تُنتهز لها فرصة الصيام في تربية الإرادة وتقوية الإرادة؛ لأن الصيام في الحقيقة هو قوة إرادة، فالعبد يقهر عدوه ويصابر نفسه ضد الشهوات، من الأكل والشرب والشهوة، ويصبر على الجوع والعطش.
ولا شك أن هذا فيه فطم للنفس عن المألوفات، لأن النفس ما تعودت على الامتناع عن الطعام والشراب فترة طويلة، فيأتي رمضان ليعلم الناس قضية الإرادة، أو يجعل فيهم إرادة، يكون عندهم إرادة للامتناع عن هذه الأشياء.
والنفس كالطفل إن تهمله ينشأ على حب الرضاع، وإن تفطمه ينفطم.
ولذلك لا بد من لفت النظر، الالتفات إلى قضية فعل الصيام في تربية الإرادة.
والمسألة هذه مهمة لبعض الناس الذين عندهم استخفاف بحرمة الشهر وربما يقول أن عنده شيء من الشهوات القوية فربما وطئ زوجته لأدنى شهوة.
وعدد من الناس يفسدون صيامهم بهذه القضية، المسألة إذن ضعف إرادة.
فينبغي أن ننتبه لقضية تقوية الإرادة وتنمية الإرادة في النفس، ورمضان فرصة عظيمة لذلك.
الحث على أهمية التوبة في شهر رمضان
أيضاً من الموضوعات المهمة جداً أن تطرح في رمضان: التوبة.
وإذا لم يطرق في هذا الشهر فمتى يطرق؟ وبطبيعة الحال الذي لا يتوب في رمضان متى يتوب؟
كما قال ابن رجب رحمه الله وغيره من العلماء، القلوب في قضية الفرصة، فرصة التوبة في رمضان، إذا لم تحصل متى تحصل؟ ولذلك لا بد من الدعاة إلى اله تعالى أن يهيئوا أنفسهم في الحديث عن التوبة وأن يعدوا الموضوعات، وأئمة المساجد والخطباء للحديث عن التوبة، إلقاء الكلمات، مصليات، مساجد، وفي مجتمعات الناس؛ لأن هذه الفرصة لا يأتي مثلها إلا العام القادم، ولذلك لا بد من إعداد موضوعات جيدة عن التوبة، وأحكام التوبة، وشروط التوبة، ومواعظ، المسألة ما هي أجوبة علمية، والمسألة لا بد أن يكون فيها أشياء تحرك القلوب، لا بد أن يكون فيها مواعظ.
وهذه في الحقيقة أيها الإخوة نقطة ضعف موجودة عند الكثير من الدعاة أنهم لا يتقنون فن الموعظة، مع أن الموعظة هي التي تحرك القلوب في الحقيقة.
وكذلك يلفت النظر في أثناء الكلام عن التوبة إلى مسألة فرصة رمضان لترك المحرمات، وأن يقال للناس: ما دمتم قد امتنعتم عن الطعام، والشراب، والنكاح في النهار وهي في الأصل مباحة فأولى أن تمتنعوا عن ما هو محرم في رمضان أو غيره، كالزنا وشرب الخمر وأخذ الأموال بغير حق، وغير ذلك..
لأنه يسخط الرب في كل حال، وزمان، ومكان.
وكذلك فإن رمضان فرصة للارتقاء بكره الناس للمعصية حتى يكون كره الرجوع في الكفر والمعاصي كما يكره أن يقذف في النار أو أشد، وقد قال يوسف : رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [سورة يوسف:33].
فالتقرب إلى الله بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات، وبهذه المناسبة نلفت النظر للإخوان الدعاة إلى الله والخطباء إلى مسألة واقعية هذا الدين وعدم الغلو في مسألة الكلام مع الناس في موضوع الجهاد في شهر رمضان، فمثلاً بعضهم يقول الآن، يقول في خطبه ومواعظه: لقد صار رمضان عندكم يا أيها الناس شهر النوم وكسل، بخلاف المسلمين الأوائل، فإن رمضان كان شهر نشاط وجهاد، ومعركة بدر حصلت فيه، في شهر الصيام، وفتح مكة، وحطين، كلها حصلت في رمضان.
هل المسلمون لما قاتلوا في رمضان كانوا صياماً، أو أفطروا لأجل العدو؟ إنكم تلقون عدوكم والفطر أقوى لكم[28].
فلا يناسب أن يقال للناس مسائل مصادمة للواقع، أن يقال للناس أن المسلمين جاهدوا وهم صائمون، ليس صحيحاً، ولذلك لا بد أن يكون الكلام بمقدار، أن يكون كلاما ًموزوناً، ولا نتعدى في التوجيه فيحس بعض الأذكياء أننا مجانبون للواقعية، وأننا نتكلم عن أشياء لا يمكن تطبيقها.
كذلك من الفرص العظيمة في رمضان تنشغل أوقات الناس بالعبادات المتوالية، فصيام، وصلوات، وإفطار، قيام، سحور، ويتخللها تلاوة قرآن، وعمرة في رمضان، زكاة الفطر، وزكاة المال، ودعاء، كالقنوت، واعتكاف.
فالناس يقومون بعبادات في الحقيقة في رمضان تشغل أكثر اليوم بالطاعة والعبادة وخاصة في العشر الأواخر، هذه تربية، نبين أن "نفسك إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية".
ونقول: يا أيها الناس شغلتم أنفسك بطاعات كثيرة، ورأيتم لذة الطاعة وحلاوة العبادة، ورأيتم كيف أن نفوسكم لما أشغلتموها بالطاعات في النهار ما كان عندكم وقت للمعصية.
وهكذا أنتم تتعلمون عملياً، وترون بأنفسكم فائدة الانشغال المتوالي بالطاعات، وهذا يقودنا إلى النقطة التالية: انتهاز رمضان فرصة لتعليم الناس الاستمرارية في العبادة.
إذا نظرتَ إلى الصيام فإنك ترى أنه إذا انتهى الشهر لا ينتهي الصيام المشروع، فإنه يأتي بعده ستٌ من شوال، وكذلك شرع عرفة، وعاشوراء، وصيام الاثنين والخميس، والأيام البيض، والإكثار من صيام محرم وشعبان.
وكان السلف يستعدون لرمضان ستة أشهر ويسألون الله أن يبلغهم إياه، ثم إذا جاء اجتهدوا فيه وسألوا الله القبول بعده، فالمسألة فيها استمرار بالعبادة، وعند خروج الشهر، قرب خروجه ينبغي أن يكون للخطباء والدعاة وقفة مع الناس في قضية ماذا بعد رمضان لأجل هذه النقطة؛ وهي المتابعة والاستمرارية في العبادة والطاعة.
ثم ليلاحظ الدعاة إلى الله أن الصيام وأحكام الصيام يخاطب طبقات المجتمع كلها، وهذا يعطينا درس في شمولية الدعوة، فمثلاً أنت ترى في أحكام الصيام لو استعرضتها، أحكام تتعلق بالمسافر، والمريض، والهرم، والحائض، والنفساء، والحامل، والمرضع، والصغير، والكبير، والسجين، والمجاهد، وأصحاب المهن الشاقة، كل هؤلاء لهم أحكام.
فأنت ترى أن أحكام الصيام موجهة إلى جميع طبقات المجتمع، وهذا درس للدعاة إلى الله أن يوجهوا الدعوة لجميع طبقات المجتمع، ومن ذلك: رمضان فرصة للاهتمام بالمرأة، فهو فرصة لإيصال الموعظة للمرأة التي قد لا تصلها إلا في رمضان، لغشيانها المساجد التراويح والقيام.
ولذلك يكون عند الإمام فرصة عظيمة لوصول النساء إلى المسجد.
هذه الفرصة التي ربما لا تتكرر في غير هذا الشهر من السنة، ولا بد من بيان بعض الأشياء وإعداد كلمات يا إخوان، لا بد من إعداد أشياء سلفاً، ماذا يقال للنساء في رمضان؟
ما دام النساء يأتين إلى المسجد، ماذا أعد الدعاة إلى الله من أجل ذلك؟ يكلمون النساء عن أي شيء؟ عن أي موضوع؟ كيف تُشعر المرأة أنها شقيقة للرجل، لها ما له من الحقوق، وعليها ما عليه من الفرائض والواجبات، وأنها مخاطبة ومكلفة، وأنها ينبغي أن ترضى بما قضى الله لها وعليها من الحيض والنفاس، فلا تصوم مع القضاء وتقضي بعد ذلك، وأن بقاءها على طبيعتها خير لها وأكثر أجراً من تعاطي الحبوب التي تمنع الحيض والتي يكون لها أضرار وتسبب اضطرابات في الجسم، وهذا أمر قد كتبه الله على بنات آدم.
وكذلك أن الله يتقبل عملها، ويؤتيها نصيبها من ليلة القدر ولو كانت حائضة.
فهذا جويبر يقول: "قلت للضحّاك: "أرأيت النفساء والحائض والمسافر والنائم، ألهم في ليلة القدر نصيب؟
قال: "نعم، كل من تقبّل الله عمله سيعطيه نصيبه من ليلة القدر"[29].
وعندما تذهب المرأة إلى المسجد لا بد من تذكيرها بطبيعة الحال بقضايا الشروط الشرعية للخروج من ترك التعطر والتبخر، ولا تأتي مع السائق في خلوة، أو ترتدي ملابس الزينة ومكياج، وتمر بين الرجال، وبعضهن ربما لا تلبس عباءتها إلا عند نزولها من السيارة، وكذلك تنبه إلى قضية عدم تضييع الوقت ومال الزوج في المأكولات والتفنن بالأطباق والصحون فإن الله لا يحب المسرفين، وأنها لا تنشغل في إعداد الأطعمة عن العبادة وتستشعر حلاوة الطاعة بالتفرغ لها مع احتساب الأجر في تفطير الصائمين لبيتها؛ لأن خدمة المرأة لزوجها مسألة واجبة على الراجح.
وهي تطبخ للزوج والأولاد وتؤجر على ذلك، وكذلك الضيوف والمساكين أمام المسجد، وتستشعر أجر من فطر صائماً فله مثل أجره[30].
وكذلك أن لا تنشغل بالصفق في الأسواق، وتضيع أثمن الأوقات وأجل المواسم تسكعاً في الأسواق، مع أنه بإمكانها قضاء هذه الحاجيات قبل دخول الشهر، وعدم الإكثار من غشيان الأسواق؛ لأجل التفرغ للعبادة.
رمضان فرصة لتربية أولادنا على الصيام
أيضاً في موضوع تربية الأولاد، رمضان فرصة لتربية أولادنا، وذلك بتدريب من أطاق منهم الصيام على الصيام، فيؤمر به لو أطاقه، كما قال العلماء: يؤمر الصبي بالصيام لسبع كما يؤمر بالصلاة إلا أطاق الصيام، ويضرب على تركه لعشر. ذكر ذلك ابن قدامة -رحمه الله- في المغني وغيره.
ومن الأمثلة على تعويد الصحابة لأولادهم على الصيام وتربيتهم عليه منذ صغرهم ما روى البخاري -رحمه الله- عن الربيّع بنت معوّذ -رضي الله عنها- قالت: "أرسل النبي ﷺ غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم"[31].
قالت -هذا الشاهد- قالت الربيّع -رضي الله عنها-: فكنّا نصومه بعد ونصوّم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند إفطار.
إذن: كانوا يستعملون الألعاب من العهن، الصوف، يستعملونها ملهاة للولد عن الجوع وألمه، فإذا بكى لأجل الألم من الجوع أعطوه اللعبة حتى المغرب.
وبعض الناس الآن يريد ولده الصيام يقول له: لا! ويمنعه من الصيام مع أن الولد يطيق بزعم إشفاقاً عليه، والإشفاق في الحقيقة أن يدربه على الصيام لا أن يمنعه منه.
هناك موضوعات أيضاً، موضوعات يحتاج الدعاة الحديث عنها ليست متعلقة بالصيام لكن تحتاج إلى إعداد وتحتاج إلى طرق في الخطب والكلمات والمواعظ، مثل قضية: الدعاء.
الدعاء هذا موضوع مهم جداً؛ لأن الناس في رمضان يشعرون بالحاجة الملحة، يتوجهون إلى الله تعالى بالدعاء ويؤمنون على دعاء الإمام في القنوت.
فتطرق قضية الدعاء، المشروعية، والفضل، والكيفية، والسنة فيه، وجوامع الدعاء، أدعية النبي ﷺ موانع الإجابة، السنن فيه، ونحو ذلك.
كذلك القيام، صلاة القيام، قيام الليل في الكيفية، السنة فيها، الخشوع، تنويع الأذكار، ونحو ذلك.
وما يتبع ذلك التراويح، كذلك الزكاة.
لما درج الناس على إخراج زكواتهم في رمضان فإننا لا بد أن نتكلم عن أحكام الزكاة لأن هذا وقت طرحها مع أنها موضوع لا علاقة له بالصيام، لكن لما كان الناس يحرصون على ذلك فإنه ينبغي إذن ما داموا يخرجون زكواتهم في رمضان، ينبغي أن نبين لهم بعض أحكام الزكاة في هذا الشهر.
وكذلك قراءة القرآن، يعني فضل التلاوة، آداب التلاوة، أحكام التلاوة.
التلاوة صحيح أنها مسألة ليس لها علاقة بالصيام علاقة مباشرة، لكن حيث أن الناس يكثرون من قضية تلاوة القرآن في رمضان، فمعناها أنه من الحكمة أن الدعاة وطلبة العلم أن يبينوا للناس هذه المسائل المتعلقة بقضية تلاوة القرآن الكريم، وكذلك الكلام على مسألة السهر فيما لا يفيد، نظراً لأن كثيراً من الشباب في رمضان يسهرون في الساحات والباحات وعلى الأرصفة والصفق بالأسواق يشغلهم ربما، وينطلقون بالمعاصي، مردة الجن مصفدون، لكن مردة الإنس يشتغلون، وكذلك موضوع الإسراف في المآكل وخطورة تعويض ما فقده الإنسان من الطعام في النهار، كذلك يحتاج أن نتكلم عن موضوع أحكام الاعتكاف، الناس يفعلونه في رمضان، وكذلك يحتاج أن نتكلم عن أحكام العمرة؛ نظراً لأن الناس يحرصون على القيام بعمرة في رمضان، فنظراً؛ لأن العمرة في رمضان تعدل حجة[32] وحث الناس عليها شيء طيب، وربما يكون الشخص متردد في السفر فتأتي كلمة من داعية أو خطبة من خطيب فتجعله بعزم ويحرص الإتيان بعمرة في رمضان .
ومن الناس من يستعد لذلك قبل رمضان بفترة، وكذلك من الأشياء أيضاً إعداد الكتب التي يقرأ منها الإمام، الإمام ماذا يقرأ على الناس في رمضان؟ مثلاً بعد صلاة العصر فرصة للقراءة، ناس ما عندهم شغل وليس هناك وقت وجبة ولا عمل عند كثير من الناس، ماذا نقرأ عليهم؟ ما هي الكتب؟ العلماء لهم كتب كابن رجب -رحمه الله- مثلاً كتابات جيده، وهناك كتابات حديثة للعلماء والدعاة إلى الله تعالى في هذا، ومواعظ.
وبعض طلبة العلم جمع مجموعة جميلة جداً في موضوعات كلمات تلقى، وطبعت في كتاب كبير يمكن أن يقرأ منه الشخص أو الإمام أو الواعظ، أو حتى موظف في شركة أو في دائرة يقرأ بعد الصلاة ولا يطيل، دقائق معدودة لأجل تذكير الناس ووعظهم.
فإعداد الكتب، وإعداد الكلمات هذه من مسؤولية الدعاة إلى الله ، كذلك شرح الجانب الجماعي للصيام، هذه مسألة لطيفة جداً وهي أن يقال: إن المجتمع كله يقوم بالعبادة المشتركة، فلم لا يكون عندنا اشتراك في مقاطعة المنكرات والمحرمات والسلع المحرمة والأعمال المحرمة، ما دام كلنا نحن المجتمع صمنا وقمنا بعبادة واحدة معاً.
فإذن، لماذا لا يكون لنا دور إيجابي جماعي مثل هذه العبادة الجماعية في قضية الهجر والمقاطعة لكل ما هو حرام حتى يرتدع من يقوم به أو يروجه.
عبادات نفعها متعد في رمضان
كذلك فإن صيام رمضان فرصة لأداء أشياء فيها نفع للآخرين، الصيام فيه نفع للشخص، لكن هناك عبادات في الصيام فيها نفع متعدد، مثل تفطير الصائمين، من فطّر صائماً له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء قاله النبي ﷺ رواه الترمذي وهو حديث حسن وصحيح[33].
تفطير الصائمين، هناك بعض المساكين وبعض الفقراء وربما يأتون إلى المساجد ويجتمعون أمام المساجد وهنا تكون وظيفة الإمام أن يذكر الناس وأهل الحي بمسألة الاحتساب في الإتيان بالطعام لهؤلاء الفقراء والمساكين.
وحتى يتواضع أهل الحي في الجلوس مع هؤلاء الفقراء وهذا في تربية للنفس.
كونك تجلس تتناول طعام الإفطار مع الفقراء في الحي، هذا تربية للنفس لأن بعض الناس يعني مثل نفسية كفار قريش، قالوا: نجلس مع هؤلاء الأعبُد؟
يقولون للنبي ﷺ: ما نجلس معك حتى تقيم هؤلاء؛ عمّار، وبلال، وصهيب، وخبّاب، هؤلاء موالي وعبيد، نحن ما نجلس معهم، مستوانا ما نجتمع مع هؤلاء.
فقال الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [سورةالكهف: 28]. وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [سورةالأنعام: 52].
لا تطردهم واصبر، فالجلوس معهم فيه تربية للنفس، بعض الأيام الإنسان المسلم يجلس معهم.
كذلك قضية الاهتمام بالجاليات، يوجد كثير من الأعاجم يعيشون بيننا، وهؤلاء الكفرة منهم يحتاجون إلى دعوة، والمسلمون منهم يحتاجون إلى تعليم ووعظ، وبعضهم يأتي من بلاده ببدع كثيرة نظراً لجهله.
فعندهم أذكار بدعية، وأدعية بدعية، أشياء من المعتقدات الباطلة، فهؤلاء نلاحظ توافدهم بالذات في صلاة المغرب، صلاة المغرب في رمضان تكون الأعمال متوقفة فالعمال بطبيعة الحال يأتون بكثرة.
هؤلاء لا بد أن يكون لهم من الدعاة نصيب، فلا بد من رعاية فقرائهم، وتعليم جاهلهم، ونصح غافلهم، والترفق معهم، وتحديثهم عما في بعض بلادهم من البدع، ورفع معنوياتهم لأنهم إذا رأوا الأئمة والخطباء أو الناس يتكلمون معهم يلتفتون إليهم، يسلمون عليهم، يتعرفون إليهم، ارتفعت معنوياتهم، وأحسوا فعلاً بجماعية هذا الدين، وأن هذا الدين دين عظيم.
وكذلك بعضهم ربما يصوم هنا ويذهب ليفطر إلى بلده، فيفطر هناك والعيد هناك، ويحتاج أن يعرف ماذا يفعل، بعضهم قد يصوم في بلده ويأتي هنا يحتاج أن يعرف ماذا يفعل إذا زاد عدد الأيام عن ثلاثين أو نقص، ما هو الحل؟
كذلك من وظيفة الدعاة إلى الله تعالى التنبيه على الأخطار المحدقة التي يقوم بها أعداء الدين في صرف الناس عن حقيقة رمضان، فمن برامج الطبخ وطبق اليوم ولإلهاء ربات البيوت والتفنن في تحضير الأطعمة إلى الفوازير وما فيها من مجون وإضاعة للوقت والسهرات والمسلسلات والبرامج المنظمة لإلهاء المسلمين عن الدين وتحويل الشهر إلى شهر فسق ومجون ولهو وسهر في المعاصي.
هذه نقطة خطيرة يجب أن يقوم الدعاة إلى الله تعالى ببيانها للناس.
كسب مسلمين جدد وضم مسلمين جدد
كذلك فإنه لا بد من السعي لكسب مسلمين جدد، وضم مسلمين صادقين إلى حوزة الدين، فإن الناس يتأثرون كثيراً بالجو الإيماني في شهر رمضان، فلا بد من توجيه الخطاب إلى هذا الذي جاء إلى المسجد لأول مرة.
هناك أناس سيأتون في رمضان إلى المسجد لأول مرة، أو أنهم لا يأتون إلا في رمضان، فهم عندهم عادة سنوية، الإتيان إلى صلاة الجماعة في رمضان، هؤلاء ما هو الخطاب الذي سيوجه إليهم؟
أو أناس كانوا في الملاهي والمحرمات جاءوا الآن عندهم شيء من التوبة، شيء من الأوبة والعودة، ماذا سنقول لهم؟
إن الداعية إلى الله، الداعية الناجح، الخطيب الذي يخرج من رمضان بمصلين جدد يواظبون معه في المسجد، فهذا مكسب عظيم جداً، الحرص عليه أمر في غاية الأهمية، هذا من معايير نجاح الداعية إلى الله.
ثم لا بد من مراعاة الأئمة لحال الناس في موضوع القراءة -مثلاً- في الصلوات، لا بد أن نعرف الفرق، وضع الناس الآن ما هو وضع الناس أيام السلف.
لما قيل للإمام أحمد -رحمه الله-: إن عمر جمع ثلاثة قرّاء فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ للناس ثلاثين، وأوسطهم بخمس وعشرين، وأبطأهم بعشرين، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "في هذا مشقة على الناس، ولاسيما في هذه الليالي القصار، وإنما الأمر على ما تحمله الناس".
وقال أحمد لبعض أصحابه وكان يصلي بالناس في رمضان: "اقرأ خمساً، ستاً، سبعاً".
قال: "فقرأتُ فختمتُ ليلة سبع وعشرين".
لا شك أن الناس الآن أضعف مما كانوا عليه في عهد الإمام أحمد -رحمه الله-، فإن كانوا يطيقون الختمة في رمضان أكثر من مرة حتى كانوا في زمن التابعين يقرؤون البقرة في قيام رمضان في ثمان ركعات.
فإن قرئ بها في اثنتي عشرة ركعة رأوا أن الإمام قد خفف.
الناس الآن لا يطيقون ذلك، وبعضهم ربما لا يتحمل ختمة في الشهر، ختمة ما يتحملها، مع أن من المناسب جداً للإمام أن يسمع الناس الختمة، لذلك قال بعض أهل العلم: يشرع للإمام أن يسمع الناس القرآن كاملاً في رمضان، في صلاة التراويح مثلاً.
وكان النبي ﷺ يقرؤه في رمضان مع جبريل مرة، وفي السنة التي مات فيها مرتين.
هذا يدل على مشروعية الختمة في رمضان.
فأقول: إنه إذا استطاع أن يقرأ بهم ختمة وأطاقوا ذلك فعل هو مستحب في حقه، وإلا انتقى بهم سوراً وآيات أو يقرأ بهم نصف القرآن أو أكثر بحسب الحال.
والإمام يراعي حال الناس وإذا بكى الصبي لحال أمه.
وكذلك من الأشياء التي تراعى قضية الكسل، ظاهرة الكسل في العشر الأواسط، ففي بداية العشر الأوائل يكون لرمضان جِدّة واشتياق الناس بالشهر وفرحتهم به، لذة جديدة وعبادة جديدة، ولذلك يحدث إقبال وإتيان إلى المسجد، فإذا مضت العشر فيحدث فتور، فتور في وسط الشهر بالذات، إذا جاءت العشر الأواخر بميزاتها وفضائلها وترجي ليلة القدر بحدث نشاط آخر، قفزة، هذه الفترة فترة الخمول، فترة الضعف، فترة الفتور تحتاج إلى عناية، فتخص بقضية مرغبات ومذكرات، منبهات، محمسات، دوافع لأجل الاستمرار في العبادة، ونلاحظ هذا في رمضان بشكل واضح، الضعف الذي يصيب الناس في العشر الأواسط.
كذلك فإن الإمام من مسؤوليته أيضاً أنه ينبه الناس إلى التنبيهات التي يحتاجونها في المسجد، ولا بد من إعداد المساجد، وتنظيفها، وتطييبها، وعمرانها، وتهيئتها للصيام والقيام، ويحتاج إليها من إنارة وتكييف تهوية، ونحو ذلك...
هذا من ناحية العمران، العمران البناء المادي، لكن هناك أشياء معنوية مهمة جداً وتوجيهات ينبغي أن يبذلها الإمام للناس.
نصائح وتنبيهات للإخوة والأخوات المصلين صلاة التراويح
وكنت قد كتبت بعض النصائح والتنبيهات للإخوة والأخوات المصلين صلاة التراويح معنا في المسجد، فأقرؤها لمن يريد أن يستفيد منها.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد أدركتنا نعمة الله العظيمة بدخول شهر رمضان المبارك نسأل الله أن يجعله بركة علينا ورحمة ومغفرة وعتقاً من النار، وأن يعيننا فيه على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وإن من شعائر هذا الشهر العظيم صلاة التراويح جماعة في المسجد كما ثبت ذلك في سنة النبي ﷺ، وأحياها خلفاؤه من بعده.
وحتى نقوم بهذه العبادة كما ينبغي لا بد من الاعتناء يحسن الأداء والخشوع، ولتحقيق ذلك لا بد من مراعاة أمور منها:
أولاً: التراصّ في الصفوف، وإتمامها، وهذا واجب يحصل التفريط فيه خصوصاً عند النساء، من وجود الصفوف الناقصة والفراغات المتعددة في الصف الواحد.
وليس من مجال الآن لمزيد من الراحة، فليني بأيدي أخواتك الناصحات.
ثانياً: الحذر من إيذاء ملائكة الرحمن وعباد الله المصلين بالروائح الكريهة.
وقد شدد النبي ﷺ على من يأتي إلى المسجد وقد أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً، والمخالفون اليوم لنهيه ﷺ كثير، الذين يأكلون ذلك في إفطارهم وعشائهم ويأتون المساجد، وبعضهم تفوح منه رائحة التدخين المنتنة، أو رائحة العرق الكريهة، وبعض النساء تأتي بملابس المهنة تنبعث منها روائح الطبخ المختلفة.
ويجوز لمن لم يتحمل رائحة من بجانبه أن يقطع صلاته ويتحول إلى موضع آخر يستأنف فيه الصلاة مع النصيحة بالحسنى.
ثالثاً: الحذر من تقذير المسجد بالأوساخ والنجاسات كما تفعل بعض النساء من إهمال الأولاد الذين اصطحبتهم بتركهم يبولون على الفرش والسجاد أو إلقاء الحفاظات النجسة عليها، وكذلك إعطاؤهم سائر المطعومات والسوائل التي تلحق الضرر بفرش المساجد.
رابعاً: الحذر من التشويش على الإمام والمأمومين برفع الأصوات في المسجد أو إهمال الأطفال الذين يصيحون ويصرخون بحيث لا يسمع من حولهم قراءة الإمام وتكبيراته.
وينبغي على ولي أمر الولد المميز أن يعتني بضبط ولده في صف الصلاة، والحيلولة دون تحويل ما خلف الصفوف إلى ساحة من اللعب والجري والصياح، ومن التشويش رفع بعض النساء أصواتهن في الكلام أثناء الدرس، فلا تتمكن بقية النسوة من السماء، بل قد تصل الأصوات إلى الرجال.
ومما تفيد أيضاً معرفته في تجنب التشويش أن الذي فاتته صلاة العشاء في الجماعة الأولى وابتدأ الإمام في صلاة التراويح أنه يجوز له أن يدخل مع الإمام بنية العشاء, فإذا سلم الإمام من ركعتيه أتى هو بالباقي.
نسأل الله أن يتقبل منا الصيام والقيام وأن يرزقنا حسن المقام في دار السلام، وصلى الله على نبينا محمد.
وأخيراً: ربما تكون النقطة هي من أهم ما يمكن أن يقال لطالب العلم والداعية إلى الله في هذا الشهر، مع أن الكلام كله كان ينصب على قضية العطاء والبذل من قبل الداعية وطالب العلم، ولكن النقطة المهمة والمهمة جداً أن رمضان لا بد أن يكون فرصة للداعية إلى الله للتفرغ للعبادة، لقراءة الأوراد، الإتيان بالنوافل، وأن لا يستهلك الناس وقته، وأن لا يكون في عطاء للآخرين وينسى نفسه هو.
وقد قال النبي ﷺ: ومثل الذي يعلّم الناس الخير وينسى نفسه كمثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها[34].
هذا الحديث يبين لنا فلعاص حال الداعية إلى الله، يجتهد في تعليم الناس ويتابع الناس ويعلم الناس، ولكنه ينسى نفسه، فلا خلوة له لربه، وأدعية، ولا أوراد، أو ختمة، قراءة قرآن ونحو ذلك.
ولذلك فإن هذا الاعتناء مهم، والإنسان يحافظ، ليس معنى ذلك أن يترك الإنسان ثغرة كما يفعل بعض الأئمة، يتركون مساجدهم في رمضان ويذهبون للعمرة، ويبقى المسجد في تخبط، وليس هناك من يقوم بالواجب، هذا هو الواجب، الثغرة هي الواجب، ربما يغيب يوم أو يومين ويوكل ثقة، لكن أن يغيب الشهر أو نصف الشهر وأكثر ويترك المسجد هذا خطأ؛ لأن هذا هو الواجب الآن في حقه.
تهذيب الداعية وطالب العلم لنفسه
وينبغي أن يعلم الداعية إلى الله تعالى أن المكسب مكسبه هو في أن يحقق هو ارتقاء بنفسه في هذا الشهر، وقد كان السلف يتعاهدون أنفسهم في رمضان، فهذا ابن الحكم يقول: إن مالك كان إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
نعم، هناك جاهل قد يأتي يحتاج إلى تعليم، ولكن هذا شيء عرضي، وإنما الأساس أن الإنسان يشتغل بنفسه مع الحرص قدر الإمكان على إعطاء الآخرين، المقصود إحداث توازن.
لا أنك تعتكف وأنت قادر على الإفادة، تحبس نفسك عن الإفادة للآخرين، ولا أن إفادة الآخرين تشغلك عن نفسك، فلا بد من الشغل في الليل بالقيام والسحر بالدعاء والاستغفار، والذكر من قبل الداعية إلى الله، طالب العلم يهذّب نفسه في هذا الشهر الكريم.
هذا ختام الكلام في هذا الموضوع أن رمضان فرصة للتعليم والدعوة إلى الله .
نسأل الله أن يبلغنا وإياكم هذا الشهر وأن يرزقنا فيه ذكره وشكره وحسن عبادته.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
- ^ رواه أبو داود: (83)، والترمذي: (69)، وابن ماجه: (386)، والنسائي في السنن الكبرى: (58)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (2877).
- ^ رواه أبو داود: (3359)، 3359)، والترمذي: (1225)، والنسائي: (4545)، وابن ماجه: (2264)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي: (1225).
- ^ رواه البخاري: (2198)، ومسلم: (1555).
- ^ رواه البخاري: (2989)، ومسلم: (720).
- ^ رواه أبو داود: (4084)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: (1109).
- ^ مدارج السالكين: (2/ 279).
- ^ رواه البخاري: (321)، ومسلم: (335).
- ^ الفتاوى الكبرى: (2/ 472).
- ^ رواه أبو داود: (2406)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: (2081).
- ^ رواه مسلم: (1201).
- ^ صحيح البخاري: (1/ 38).
- ^ رواه البخاري: (1923).
- ^ رواه البخاري: (1957).
- ^ رواه الترمذي: (696)، وصححه الألباني في المشكاة: (1991).
- ^ رواه أبو داوود وحسّنه الدارقطني.
- ^ رواه البخاري: (35)، ومسلم: (760).
- ^ رواه البخاري: (1896)، ومسلم: (1152).
- ^ رواه البخاري: (5927)، ومسلم: (1151).
- ^ رواه البخاري: (2840)، ومسلم: (1153).
- ^ رواه النسائي في السنن الكبرى: (2574)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: (2565).
- ^ رواه الحاكم في المستدرك: (1570)، وابن خزيمة في صحيحه: (1996)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: (1082).
- ^ قال في الإرواء: سنده جيد. رواه أحمد: (9532)، وقال الألباني في الإرواء: هذا سند جيد.
- ^ لطائف المعارف لابن رجب: (189).
- ^ رواه أبو داود: (2342)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: (2028).
- ^ صيد الخاطر: (244).
- ^ رواه البخاري: (5994).
- ^ رواه أحمد: (17634)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (3887).
- ^ رواه أبو داود: (2406)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: (2081).
- ^ لطائف المعارف لابن رجب: (192).
- ^ رواه الترمذي: (807)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (6415).
- ^ رواه البخاري: (1960).
- ^ رواه مسلم: (1256).
- ^ رواه الترمذي: (807)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (6415).
- ^ رواه الطبراني في الكبير: (1681)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (5831).