الحمد لله الذي لم يزل عليماً قديراً، قد أحصى كل شيء، ولا يفوته شيء، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2]، لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103].
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
إخواني الأحبة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
فإنني أسأل الله كما جمعنا في بيته هذا، أن يجمعنا في دار كرامته ومستقر رحمته وفسيح جنته.
مقدمة
النفس -أيها الإخوة- تزكو بالذكر، والبلد يزكو بحلق الذكر ودروس العلم، فتصبح الملائكة في شوارعها وأحيائها تذهب وتجيء، وتصعد وتنزل ملتمسة حلق الذكر، فتتنزل السكينة وتعم الرحمة، وقد قال النبي ﷺ: إن لله ملائكة يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم الحديث إلى أن قال في آخره: أن الله يقول للملائكة: فأشهدكم أني قد غفرت لهم [رواه البخاري: 6408].
وفي رواية أحمد: إن لله ملائكة فضلاً يتبعون مجالس الذكر يجتمعون عند الذكر، فإذا مروا بمجلس علا بعضهم على بعض حتى يبلغوا العرش الحديث [رواه أحمد: 8704، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط مسلم"].
اللهم اجعلنا في هذه الساعة من أهل هذا الحديث يا رب العالمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر.
وقبل البداية -أيها الإخوة-: لابد من شكر المسؤولين والقائمين على هذه السلسلة الطيبة التي استمعتم إلى عدد من دروسها في هذا المكان الطيب، فجزى الله بالخير كل من تسبب في قيامها وتنفيذها، والإعانة عليها ابتغاء وجهه الكريم.
سبب الحديث عن هذا الموضوع
أيها الإخوة: موضوع درسنا لهذه الليلة: أحكام وعظات، ونظرات تربوية في استدراك ما فات.
وسبب الحديث عن هذا الموضوع: أن هناك ملحظاً فيما يخص مسألة التفويت والتضييع، والاستسلام لليأس، وعدم السعي إلى الإصلاح والاستدراك، أناس كانوا في جاهلية فهداهم الله.
وبعضهم كانوا في بدعة فأنقذهم الله، كيف يعوضون ما مضى من عمرهم؟
وآخرون تردت أحوالهم، وضعف إيمانهم، وانتكست مسيرتهم، وبردت هممهم، واعتراهم من الشيطان ما اعتراهم، ومسهم من كيده ما آذاهم، فوقفوا يتلمسون الطريق، ولهم أصحاب يدعونهم إلى الهدى: ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [الأنعام: 71].
وبعض هؤلاء يحاولون الرجوع.
وبعضهم لا يزالون في أمرهم يترددون فلنلق نظرة على هذا الموضوع.
وأجد أنه بحق -أيها الإخوة- موضوع مهم لنا جميعاً: "استدراك ما فات"، ننظر ماذا قال العلماء في هذا الموضوع، وكيف يمكن أن نستفيد منه في مسيرتنا وحياتنا.
العنوان مكون من جزأين: "استدراك ما فات".
الاستدراك في اللغة والاصطلاح
والاستدراك:
لغة: استفعال من درك، والدرْك والدرَك اللحاق والبلوغ.
وفي اللغة: استدرك الرأي والأمر إذا تلافى ما فرط فيه من الخطأ والنقص.
والاستدراك عند العلماء، وهو الذي يرد كثيراً في كلام الفقهاء: إصلاح ما حصل في القول أو العمل من خلل أو قصور أو فوات.
ويقولون: استدراك نقص الصلاة بسجود السهو، واستدراك الصلاة إذا بطلت بإعادتها، واستدراك الصلاة المنسية بقضائها، والاستدراك بإبطال خطأ القول وإثبات صوابه، إذا كنت تتحدث وأخطأت تستدرك كلامك وتأتي بالصواب.
ويقول العلماء أحياناً: التدارك، لفظة أخرى يستخدمها الفقهاء.
والتدارك في الأفعال: فعل العبادة المتروكة، أو فعل جزئها في محله المقرر شرعاً ما لم يفت، إذا فات انتهى، لكن إذا ما فات نحاول الاستدراك، كما في قول صاحب "كشاف القناع" -رحمه الله- من علماء الحنابلة: لو دفن الميت قبل الغسل، وقد أمكن غسله لزم نبشه، وأن يخرج ويغسل تداركاً لواجب غسله.
وكقول الرملي -رحمه الله-: إذا سلم الإمام من صلاة الجنازة تدارك المسبوق باقي التكبيرات بأذكارها.
وقوله: لو نسي تكبيرات صلاة العيد فتذكرها وقد شرع في القراءة فاتت فلا يتداركها؛ لأن هذا ممكن تداركه وهذا فات.
وقد يقع الغلط في القول فيحتاج الإنسان إلى تداركه، بأن يبطله ويثبت الصواب، ولذلك طرق، ومنها: قولهم: "بل" فيقول كلاماً فيتذكر أو يعرف أنه خطأ، فيغير ويقول: "بل"، ويأتي بالصواب، هذا الاستدراك.
أما الفوات استدراك ما فات، فات من الفوت والفوات، يقال في اللغة: فاته الشيء إذا ذهب عنه كما في اللسان.
الفوات في الأمور الدنيوية والدينية
والفوات منه ما يكون في أمور الدين، ومنه ما يكون في أمور الدنيا.
أما فوات الدنيا -أيها الإخوة- فهو شيء قريب سهل ويسير يمكن تعويضه، من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به عليه كتبه الله شاكراً صابراً.
ومن نظر في دينه إلى من هو دونه، ونظر في دنياه إلى من هو فوقه، فأسف على ما فاته منه، سيأسف على ما فات من الدنيا قطعاً، لم يكتبه الله شاكراً ولا صابراً.
علاج الألم النفسي المترتب على الفوات
وقد تولى الله علاج الألم النفسي الذي يترتب على الفوات.
تولى الله علاج ما حصل من ذلك في نفوس الصحابة في غزوة أحد، فقال الله تعالى: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران: 153]، فقوله تعالى: فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ أي: فجزاكم غماً على غم.
وقال عبد الرحمن بن عوف : الغم الأول بسبب الهزيمة، والغم الثاني: حين قيل: قتل محمد ﷺ، كان ذلك عندهم أشد وأعظم من الهزيمة.
فإذاً، كان ألماً عظيماً بالهزيمة والقتل والجراح، لما قيل: قتل محمد ﷺ، هذا غم غطى على الغم الأول فنسوا الغم الأول.
ثم تبين أن محمداً ﷺ حي، فسروا وكان الغم الأول قد نسي في غمرة الغم الثاني. وهذه حكمة إلهية بديعة قدرها الله -تعالى- في أحداث هذه الغزوة: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ [الحديد: 23] أي: على ما فاتكم من الغنيمة، والظفر بعدوكم، ولا ما أصابكم من الجراح والقتل.
إذاً، الفوات في نفوس المؤمنين فوات الدين هو الأعظم، ويحصل فوات للدنيا لأنهم بشر، الإنسان إذا فاته شيء من الدنيا ربما يتألم، لكنه ينبغي أن يعلم أن فوات الدين أعظم بكثير من فوات الدنيا.
ومما يساعد على التغلب على ألم الفوات إذا فاتك شيء مال نجاح أي شيء فاتك من الدنيا: الإيمان بالقضاء والقدر، ولذلك قال الله -تعالى- في سورة الحديد: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد: 23] أخبر أنه كتب كل المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض، وكل مصيبة قبل أن تحدث مكتوبة عند الله، قال: لِكَيْلَا فعلنا ذلك وكتبناه وقدرناه من قبل أن نخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد: 23] فأعلمناكم كما يقول ابن كثير في تفسيره -رحمه الله- بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل كونها، وتقديرنا الكائنات قبل وجودها لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم، وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم، فلا تأسوا على ما فاتكم؛ لأنه لو قدر شيء لكان.
فداحة فوات الأمور الدينية
فوات الدين إذا فاتتك عبادة إذا فاتك علم هو الذي يحزن عليه حقاً، فوات الدين هو المصيبة؛ كما جاء عن نوفل بن معاوية: أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله [رواه النسائي: 478، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 481] فكأنما فقد أهله وماله، فوات صلاة العصر، هذه هي المصيبة.
أما الدنيا تحصل، حدثني أحد التجار في الحج قال: أنا نزلت إلى تحت الصفر وطلعت إلى مئات الملايين، ثم نزلت إلى تحت الصفر ثم طلعت إلى مئات الملايين أربع مرات في حياتي، فالدنيا تذهب وتجيء، تذهب وتجيء، لكن الدين إذا ذهب.
لكل شيء إذا ضيعته عوض | وما من الله إن ضيعته عوض |
وهناك آية في سورة الفرقان تذكر المؤمنين المسلمين بقضية استدراك ما فات، قال الله : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: 62].
قال المفسرون في قوله: خِلْفَةً يعني: من فاته من الليل عمل أدركه بالنهار، أو فاته بالنهار أدركه بالليل ، خلفة.
من رحمة الله بهذه الأمة: أنه لما علم قصر أعمارها، وضعف أجسادها بالنسبة لمن سبقها، عوضهم تعالى بالمناسبات تضاعف فيها الأجور، يدركون بها من سبقهم ويسبقونه، ليلة القدر خير من ألف شهر، صيام عرفة يكفر سنتين، وعاشوراء يكفر سنة، وصيام شوال بشهرين، الحسنة بعشر أمثالها.
حال السلف إذا فاتهم شيء من الطاعات
كيف كان حال السلف -رحمهم الله- في موضوع الفوات، إذا فاتهم شيء من الطاعات؟
نحن الآن نتكلم -أيها الإخوة- في غمرة أحوال تفوت فيها علينا أشياء كثيرة من الطاعات، وربما يكون عندنا ضعف من الإيمان، يتبلد الإحساس، فلا نحزن على ما فات من الطاعات، كيف كان شعور سلفنا -يا ترى- في مسألة فوات الطاعات؟
إذا فات الواحد منهم مشهد، غزوة، ماذا كان يفعل يا ترى لاستدراك ما فات؟
مثال: فوت ملاقاة العدو،
والصحابة كثير منهم يفوتهم أشياء لعذر ويتأسفون ويريدون التعويض.
ونحن تفوتنا أشياء لغير عذر وربما لا نحزن ولا نتألم، ولا نسعى للتعويض.
عن أنس قال: "غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني أصحابه، أي: المسلمين، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني: المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد. قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع. قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل، وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه [رواه البخاري:2805، ومسلم: 1903].
الآن الذي تصبح فيه بضعاً وثمانين ضربة وجرح، كم عمل حتى ضرب هذه الضربات؟ فوق الثمانين، كم تحامل على نفسه وواصل في القتال حتى يضرب هذا العدد؟
ومن حنقهم عليه مثلوا به هذا التمثيل، قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23] الآية، وهذا الحديث رواه البخاري -رحمه الله-.
وروى النسائي عن عاصم بن سفيان الثقفي: أنهم غزوا غزوة السلاسل ففاتهم الغزو، فرابطوا ثم رجعوا إلى معاوية وعنده أبو أيوب وعقبة بن عامر، فقال عاصم: يا أبا أيوب فاتنا الغزو العام، وقد أخبرنا أنه من صلى في المساجد الأربعة غفر له ذنبه، فقال: يا ابن أخي أدلك على أيسر من ذلك، إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: من توضأ كما أمر، وصلى كما أمر، غفر له ما قدم من عمل أكذلك يا عقبة؟ قال: ((نعم)) [رواه النسائي: 144، وابن ماجه: 1396، وقال محققو المسند: 23595]، وشهد معه على الحديث.
إذاً، هناك تحسر على ما فات ورغبة في التعويض، وسؤال واستفتاء كيف نعوض؟
تحسر السلف على فوات لقاء الشيوخ والعلماء
من الأشياء أيضاً التي نلاحظها في سير السلف: ألمهم لفوات لقاء الشيوخ والعلماء.
-طبعاً- على رأس هؤلاء محمد ﷺ الذي كان بعض التابعين يريدون اللحاق به ليصبحوا صحابة فلم يقدر لهم؛ كما حدث لأبي مسلم الخولاني -رحمه الله تعالى-، رحل إلى المدينة ليرى رسول الله ﷺ، فلما دخل المدينة إذا الصحابة قد فرغوا من دفنه ﷺ لتوهم.
وأبو ذؤيب الهذلي الشاعر المشهور، ذكر ابن حجر -رحمه الله- في "الإصابة" عنه، قال: قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلوا جميعاً بالإحرام، إذا لبى الحجيج كلهم كيف يكون الصوت؟ قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلوا جميعاً بالإحرام، فقلت: مه، ما الأمر؟ فقالوا: قبض رسول الله ﷺ [الإصابة في تمييز الصحابة: 7/111].
هذا الرجل كان أصاب الطاعون خمسة من أولاده فماتوا في عام واحد، وكانوا رجالاً ولهم بأس ونجدة، فقال في قصيدته التي أولها:
أمن المنون وريبها تتوجع | والدهر ليس بمعتب من يجزع |
وتجلدي للشامتين أريهم | أني لريب الدهر لا أتضعضع |
وإذا المنية أنشبت أظفارها | ألفيت كل تميمة لا تنفع |
والنفس راغبة إذا رغبتها | وإذا ترد إلى قليل تقنع |
[الإصابة في تمييز الصحابة: 7/111، والوافي بالوفيات: 13/275].
السلف -رحمهم الله- المحدثون ذهبوا في المدن يجوبون الطرق، يرحلون لطلب العلم وسماع الحديث، فكيف حصل لبعضهم عندما يفوته الشيخ؟
روى السمعاني -رحمه الله- عن رجل من المحدثين رحل إلى ابن خلف، وهو من مشاهير المحدثين، رحل إليه، فقال: دخلت نيسابور وأنا أعدو إلى بيت أحمد بن خلف، فلقيت أحد طلابه، فعاتبني وقال: تعال أطعمك أولاً، فقدم طعاماً وأكلنا، وأخرج لي مسموعاته من ابن خلف، وقال: مات ودفنته، قال: فكادت مرارتي تنشق لفوت الشيخ [ينظر: طبقات الحفاظ، للذهبي: 4/56]
كيف فات الشيخ، ومات الشيخ قبل أن يدركه.
وذيل الخطيب البغدادي -رحمه الله-، كتابه: "الرحلة" بذكر من رحل إلى شيخ يبتغي علو إسناده، فمات قبل ظفر الطالب منه ببلوغ مراده.
وذكر أن عبد الله بن داود الخُريبي قال: كان سبب دخولي البصرة لأن ألقى ابن عون، فلما صرت إلى قناطر بني دارى تلقاني نعي ابن عون، فدخلني ما الله به عليم [الرحلة في طلب الحديث، للخطيب البغدادي، ص: 177].
فهكذا كان شعورهم في فوات الشيوخ.
فوات مجالس العلم، كان المحدثون يحدثون فترة في الحلقة ثم ينتهي الدرس، فبعض الناس يأتون بعد الدرس ما سمع الشيخ، متى الآن يسمع الشيخ؟ ربما لا يسمع الشيخ، فاته الحديث، الشيخ سيحدث بأحاديث أخرى، فكان فوات المجلس عليهم أثره عظيم، خصوصاً أن المشايخ في ذلك الوقت كانوا يشعرون الطلبة بأهمية الدرس، ولا يعيدونه حتى يقول واحد، يقول مثل بعض الناس يقول: أنا يا أخي ما لحقت على الجماعة الأولى فيمكنني اللحاق بالجماعة الثانية، الحمد لله المسجد فيه جماعات متوالية، يعني المسألة عندهم يسيرة، أين أجر الجماعة الأولى من أجر الجماعة الثانية؟ أين أجر الثانية من الأولى؟
كان المشايخ يعلمون الطلبة قيمة الدرس، وكان الناس في الخير الذي هم فيه يتأملون ويحسون، جاء رجل إلى الأعمش فقال: يا أبا محمد اكتريت حماراً بنصف درهم وأتيتك لأسألك عن حديث كذا وكذا، بعد ما انتهى من المجلس، فقال: اكتر بالنصف الآخر وارجع [ذم الثقلاء، لأبي بكر المحولي، ص: 58].
وقال يحيى بن معين: كنا عند ابن عيينة، فجاء رجل وقد فاته إسناد حديث، فذكر الشيخ المتن، فقال هذا الآتي: إسناده، هات لي الإسناد، ما سمعت الإسناد، فقال: قد بلغتك حكمته، ولزمتك حجته، ولم يحدثه، ليتعلم يأتي مبكراً مرة أخرى.
وكان يزيد بن هارون -رحمه الله- إذا جاءه من فاته المجلس، قال: يا غلام ناوله المنديل، إذا جاءه من فاته المجلس، قال: يا غلام ناوله المنديل، يعني: أكلنا وغسلنا والآن في التنشيف، أعطه المنديل.
وكان يزيد بن هارون يقول لرجل من ولد عمر بن الخطاب من نسله، جاء وقد فاته المجلس وسأله أن يحدثه، فقال له: يا أبا فلان أما علمت أنه من غاب خاب، وأكل نصيبه الأصحاب؟
وقال الخطيب -رحمه الله-: وقد كان خلق من طلبة العلم بالبصرة في زمن علي بن المديني يأخذون مواضعهم في مجلسه في ليلة الإملاء، في الليل، ويبيتون هناك حرصاً على السماع وتخوفاً من الفوات.
قال جعفر بن درستويه: كنا نأخذ المجلس في مجلس علي بن المديني وقت العصر اليوم لمجلس غد، فنقعد طول الليل مخافة ألا نلحق من الغد موضعاً يسمع فيه، من العصر يمسكون المكان إلى ثاني يوم.
والآن بعض المشايخ لا يجدون طلاباً للدروس، وتفتح الدروس ثم تغلق، وتبدأ لتنتهي، ما في طلاب، ثلاثة أربعة، خمسة، من ضعف الهمم، من عدم الحرص على العلم.
حرص الصحابة على فعل الأفضل
ثم لننتقل إلى جانب آخر، مسألة تحصيل ما فات، كثير من الصحابة -رضوان الله عليهم- أسلموا بعدما تقدم بهم العمر، فكانت سنين طويلة من حياتهم قد ذهبت في الجاهلية، ما عاش في الإسلام إلا فترة يسيرة، أو عاش سنين، لكن هذه السنين اغتنموها فعلاً إلى الحد الأقصى.
ولذلك نحن نعيش الآن عشرات السنين في الإسلام ولا ندرك شيئاً مما فعلوا.
من الأسباب التي رفعتهم: أنهم نظروا في أعمارهم فعرف الواحد منهم أنه لم يبق إلا القليل، فليغتنم هذا القليل في أي شيء؟ في أفضل ما يمكن.
ولذلك إذا استعرضت كلمة أفضل في بعض المعاجم الحديثية، وجمعت الأحاديث التي فيها كلمة: أفضل، ستلاحظ أمراً واضحاً في حرص الصحابة -رضوان الله عليهم- ليس فقط على الخير، وإنما على الأفضل؛ لأنهم قالوا: هذا العمر قصير! فينبغي أن نستغله في الأفضل!
فمثلاً: قال عبد الله بن مسعود : سألت رسول الله ﷺ قلت: يا رسول الله، رجل مثل عبد الله بن مسعود إذا سأل سؤالا سؤاله له معنى كبير؛ لأنه رجل فقيه، ليس كسؤال أحد من الأعراب، قال: يا رسول الله أي العمل أفضل؟ ماذا وراء هذا السؤال؟ أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله فسكت عن رسول اللهﷺ، ولو استزدته لزادني [رواه البخاري: 2782، 527 ، ومسلم: 85].
وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: إيمان بالله ورسوله قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور [رواه البخاري: 26 ، ومسلم: 83].
عالم تبحث عن الأجر المضاعف، ليس فقط عن الأجر، عن الأجر المضاعف، عن أفضل الأشياء، عن أبي موسى قال: قالوا: يا رسول الله أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده [رواه البخاري: 10، ومسلم: 40].
ثم لم يقتصر الأمر على السؤال عن الأفضليات في الأمور عامة، وإنما سألوه عن الأفضل في الأبواب المخصوصة المعينة، ففي الصلاة مثلاً روى جابر قال: سئل رسول الله ﷺ: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت [رواه مسلم: 756].
وفي العتق سأله أبو ذر فقال: يا رسول الله فأي الرقاب أفضل؟ قال: أعلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها [رواه البخاري: 2518].
وفي الصدقة جاء عن أبي هريرة قال: قال رجل للنبي ﷺ: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح حريص تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان [رواه البخاري: 1419، ومسلم: 1032].
فإذا بلغت الحلقوم لا تنفع الوصية، تقول: وزعوا كذا، وأعطوا فلاناً كذا، وضعوا في الأيتام كذا، وفي المساجد كذا، وفي أبواب الخير الفلانية كذا، انتهى، إذا وصلت الروح الحلقوم صار في حكم الميت.
وقوله ﷺ: وقد كان لفلان يعني: المال قد أصبح لمن الآن؟ للورثة، انتهى الآن أقفل باب التوزيع.
وفي الذكر، روى أبو ذر أن رسول الله ﷺ سئل: أي الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده [رواه مسلم: 2731].
وفي أبواب من الخير مجموعة: روى عبد الله بن حبشي الخثعمي أن النبي ﷺ سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان لا شك فيه، وجهاد لا غلول فيه، وحجة مبرورة قيل: فأي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل [رواه النسائي: 2526، وأحمد: 15401، وقال محققو المسند: "إسناده قوي"].
الآن لو واحد عنده ألف ريال تصدق بخمسمائة، بكم تصدق؟ بنصف ماله.
واحد عنده مائة مليون تصدق بمائة ألف ريال، كم تصدق؟ بالنسبة.
إذاً، أيهما أفضل؟
جهد المقل.
وقيل: فأي الهجرة أفضل؟ قال: من هجر ما حرم الله -عز وجل- قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: من جاهد المشركين بماله ونفسه قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: من أهريق دمه، وعقر جواده ذهب كل ما لديه [رواه النسائي: 2526، وأحمد: 15401، وقال محققو المسند: "إسناده قوي"].
ومما يدلك على أن القوم كانت هممهم متصاعدة لعمل الأفضل وليس لعمل الفاضل فقط، هو الخير فقط أن المناقشات كانت تدور بينهم على هذه الأشياء.
أنت تنظر الآن في المناقشات التي تدور بين الإخوان وبين الأصحاب، على أي شيء يتناقشون؟ تعرف ما الذي يشغل بالهم.
جاء عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله ﷺ، فقال رجل: ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر ، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ﷺ وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله : أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 19] [رواه مسلم رحمه الله في صحيحه: 1879].
ومباحث المفاضلة في كتب العلماء هذا أفضل أم هذا كثيرة مما يدل على أن المسألة لها وزن واهتمام.
وسائل استدراك ما فات في الشريعة
فإذا جئنا -أيها الإخوة- الآن إلى صعيد آخر لننظر ما هي الوسائل التي جاءت بها الشرعية للاستدراك؟
الله -عز وجل- يعلم أن البشر ضعفاء، وأن البشر تعتريهم عوامل النقص والضعف، والنسيان، والمعصية، فإذا الواحد قصر في عبادة، ما هي السبل المتاحة له وأمامه لكي يعوض ما فاته في هذه العبادة؟
سنجد في كتب الفقه أبواباً وأنواعاً، فمن ذلك: القضاء والإعادة والفدية والكفارة.
والعلماء يعرفون القضاء بأنه: فعل الواجب بعد وقته.
والإعادة: فعل الواجب في وقته مرة أخرى لخلل حصل في المرة الأولى.
وأما الأداء فتعريفه فعل الواجب في وقته.
القضاء: فعل الواجب بعد وقته.
الإعادة: فعل الواجب في وقته مرة أخرى لخلل حصل في الأولى، كمن صلى الظهر بدون وضوء، بعد الصلاة تذكر أنه صلى بدون وضوء فعليه أن يعيد.
وهذا القضاء والإعادة لاستدراك ما فات في العبادة.
أحياناً يكون لا سبيل إلى فعل شيء للاستدراك من جهة الإعادة أو القضاء، لا سبيل إلى ذلك، مثلاً: واحد ترك الرمي حتى انتهت أيام التشريق، غربت شمس يوم الثالث عشر، انتهى وقت الرمي، هل يمكن أن يقضي الرمي، ويرمي في اليوم الرابع عشر؟ انتهى، طيب هذا هل له حل في الشريعة؟
نعم.
وهناك أشياء يرتكبها الإنسان مثلاً يفعل محظوراً من محظورات الإحرام، له حل في الشريعة، من رحمة رب العالمين، فقد جاءت الشريعة بما يقضي الفوائت، وتعوض الناس عما فاتهم، فمثلاً: عندنا الفدية، وهو البدل الذي يتخلص به المكلف من مكروه توجه إليه، وقع في أمر مكروه، كيف يدفعه عن نفسه؟ بالفدية.
الكفارة ما يغطي الإثم، وهي أخص من الفدية.
فهناك الفدية، وهناك الكفارة، لكي يغطي النقص.
كفارة اليمين، كفارة الظهار، كفارة قتل الخطأ.
هناك أشياء جاءت بها الشريعة لتعويض النقص الذي هو من طبيعة البشر، الصلاة مثلاً لو جئنا إلى موضوع الصلاة، بعض الناس تركوا صلوات متعمدين، ماذا يفعل الواحد منهم. خصوصاً إذا عرفنا مثلاً أن القول الراجح: أن من تعمد ترك صلاة حتى خرج وقتها لا سبيل إلى قضائها، وكيف يعيد الوقت ليصلي فيه، والله لا يقبلها في غير وقتها، وإن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وعمل في النهار لا يقبله بالليل، هل هناك يا ترى فرصة؟
يأتيك الآن تائب يقول لك: يا أخي أنا ضاعت علي صلوات، أنا -عفا الله عني- تركت الصلاة سنين، كنت في جاهلية، ما هو الحل؟
وأنت مثلاً تعرف هذا القول الراجح في عدم القضاء.
الحل: عن حريث بن قبيصة قال: قدمت المدينة، فقلت: اللهم يسر لي جليساً صالحاً قال: فجلست إلى أبي هريرة، فقلت: إني سألت الله أن يرزقني جليساً صالحاً، فحدثني بحديث سمعته من رسول الله ﷺ لعل الله أن ينفعني به، فقال سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيء وهو سؤال صاحبنا قال الرب : انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك [رواه الترمذي: 413 وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 540].
ورواية النسائي عن حريث بن قبيصة قال: قدمت المدينة، قلت: اللهم يسر لي جليساً صالحاً، فجلست إلى أبي هريرة فقلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليساً صالحاً، فحدثني بحديث سمعته من رسول الله ﷺ لعل الله أن ينفعني به، فقال رسول الله ﷺ، فذكر الحديث وفيه: فإن انتقص من فريضته شيء قال: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل به ما نقص من الفريضة، ثم يكون سائر علمه على نحو ذلك [رواه النسائي: 465، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 1330].
ورواه أبو داود -رحمه الله- أيضاً، وقال فيه: انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع؟ قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم [رواه أبو داود: 864، وأحمد: 9494، وقال محققو المسند: "حديث صحيح"].
وفي رواية قال: ثم الزكاة مثل ذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك [رواه أبو داود: 866، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 1330].
هذا الأعمال يعني الزكاة واحد نقص من الزكاة وما عوض ، يوم القيامة ينظر في صدقاته.
واحد نقص في الصيام جرح صيامه، عمل فيه معاصي، ينظر في صيام نوافله تعوض ما فاته من رمضان.
إذاً، -يا إخوان- من الوسائل المهمة جداً في استدراك ما فات: الإكثار من النوافل، وحتى النوافل نفسها لو فاتت فتحت الشريعة فيها أبواباً للتعويض، مثلاً: بسم الله، في الوضوء واجبة، إذا نسي بسم الله في أوله وذكر أثناء الوضوء، ماذا قال العلماء؟ فإن نسي في أوله وذكر أثناءه سمى بقوله: باسم الله، يأتي بها في أثنائه تداركاً لما فاته، كما في كتاب نهاية المحتاج [نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: 1/184].
وبعضهم قاس على الطعام فقال: بسم الله أوله وآخره.
لكن إذا فاتته ولم يتذكر إلا بعد نهاية الوضوء فات محلها، فيكثر من ذكر الله، الأذكار العامة.
غسل الميت تقدم معنا، لو دفن ميت دون غسل وقد أمكن غسله لزم نبشه، وأن يخرج ويغسل تداركاً لواجب غسله، ما لم يخش تغيره، وهذا قول الجمهور.
تدارك المتروك في الصلاة، واحد أثناء الصلاة نسي سجدة، التشهد الأول، ماذا يفعل؟
إن كان ركناً عاد إليه وجوباً لا بد، فأتى به وما بعده على الترتيب، وواجبات الصلاة عند الحنابلة كالتشهد الأول وتكبيرات الانتقال، وتسبيح الركوع والسجود، إن تركه سهواً فيجب عليه تداركه ما لم يفت محله، قبل أن يرفع من الركوع تذكر أنه ما قال سبحان ربي العظيم، إذاً يأتي بها.
ويفوت محله بالانتقال لما بعده، فإذا اعتدل من الركوع وقد نسي سبحان ربي العظيم فلا يعود؛ لأنه دخل في الركن فلا يعود للواجب، ولكن كيف يستدرك؟
سجود السهو، سبحان الذي شرعه.
فإذا لم يعتدل رجع إلى الركوع فأتى بالتسبيح.
وكذلك التشهد الأول يرجع إليه ما لم يعتدل قائماً، فإذا اعتدل فلا يرجع وعليه سجود السهو.
وأما السنن فقد جاء في "كشاف القناع": لا تتدارك السنن إذا فات محلها، كما إذا ترك الاستفتاح حتى تعوذ، أو ترك التعوذ حتى بسمل، أو ترك البسملة حتى شرع في القراءة، أو ترك التأمين حتى شرع في السورة، وسألت والدنا وشيخنا العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز عن بعض هذه المسائل فقال: إذا تجاوز الاستفتاح يرجع إليه ولو شرع في الاستعاذة، ويرجع إلى الاستعاذة ولو شرع في البسملة، ويتدارك السنن، قال: وما المانع؟ إلا إذا كان مأموماً وشرع الإمام في القراءة فإنه ينصت.
لو نسي سجود السهو يرجع فيأتي به.
شيخ الإسلام يقول: ولو في بيته، ولو ما تذكر إلا بعد فترة.
والجمهور يقولون: إذا تذكره عن قرب رجع إليه فأتى به.
إذا نسي تكبيرات صلاة العيد حتى شرع في القراءة، فلا يتداركها لأنها سنة فات محلها، وهذا قول الشافعية والحنابلة.
غير أن الشافعية قالوا: يتداركها في الركعة الثانية مع تكبيراتها.
واحد دخل في صلاة الجنازة، الإمام في التكبيرة الثالثة، ماذا يفعل؟
سألت شيخنا نفع الله بعلومه عن هذه المسألة، فقال: ما أدركه المأموم مع الإمام هو أول صلاته، ثم يتم الباقي إذا سلم الإمام، فإذا دخلت مع الإمام في صلاة الجنازة وهو في التكبيرة الثالثة، هو ماذا يقول؟ الدعاء للميت، أنت ماذا تقول؟ سورة الفاتحة.
إذا ترك شوطاً في الطواف أو بعض شوط كمن دخل في الحجر وخرج منه أثناء الطواف، فعليه أن يأتي بما تركه إذا كان في وقت قريب عند الحنابلة؛ لأنهم يشترطون الموالاة بين الطوافات.
وأما لو ترك شوطاً من السعي أو بعض شوط، فعليه تداركه بالإتيان به ولو بعد مدة؛ لأنه لا يشترط فيه موالاة الطواف كما ذكره ابن قدامة -رحمه الله- في المغني.
إذا نسي الرمل في الأشواط الأولى من طواف القدوم، وهو سنة للرجال، فات محله.
لكن لو تذكر في الشوط الثاني أنه لم يرمل وبإمكانه أن يرمل، هل يقول: فاتنا الأول فنكمل على الأول؟
نقول: لا، انتهز الفرصة أكمل الرمل في الثاني، تذكرته الآن هاته.
ولا يشرع له تدارك الهرولة في السعي بين العلمين الأخضرين في الصفا والمروة إذا فات؛ لأنه تعدى الموضع فلا يهرول بعدما تعدى الموضع.
إذا فاته الاضطباع في طواف القدوم فات، لكن إذا تذكر أثناء ولو أثناء الشوط السابع، واحد انتبه لنفسه أثناء الشوط السابع في طواف القدوم أنه لم يضطبع، ماذا يفعل؟ يتحرك بسرعة، يخرج كتفه الأيمن ويكشفه، ولا يقول: فاتني ستة أكمل، لا، انتهز الفرصة هات ما بقي، وهكذا..
وهكذا من الأشياء في طواف الوداع إن خرج دون أن يأتي به فعند الشافعية والحنابلة يجب عليه الرجوع لتداركه إن كان قريباً دون مسافة القصر، ويسقط عنه الإثم والدم، فإن تجاوز مسافة القصر لم يسقط عنه الدم.
من تجاوز ميقات دون إحرام، إذا رجع إليه فأحرم فلا يلزمه شيء.
نلاحظ عموماً -أيها الإخوة، أن المبادرة بالتدارك تنقذ الشخص من الإثم أو التبعات كالكفارة أحياناً، حتى في مجال الآداب قال ﷺ: إذا أكل أحدكم طعاماً، فليقل: بسم الله، فإن نسي في أوله فليقل: بسم الله في أوله وآخره يتدارك [رواه الترمذي: 1858، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 4202].
طيب في النوافل؟ عن عائشة: أن رسول الله ﷺ «كان إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع، أو غيره، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة" [رواه مسلم : 746].
فإذاً، يصليها في النهار.
من فاتته صلاة الجماعة: قال البخاري في صحيحه: "باب فضل صلاة الجماعة، وكان الأسود إذا فاتته الجماعة ذهب إلى مسجد آخر" [صحيح البخاري: 1/131]
صلاة العيد: قال البخاري -رحمه الله-: باب: إذا فاته العيد يصلي ركعتين، وكذلك النساء، ومن كان في البيوت والقرى [صحيح البخاري 2/ 23] لقول النبي ﷺ: هذا عيدنا أهل الإسلام وقال عطاء: "إذا فاته العيد صلى ركعتين" [صحيح البخاري: 2/23].
هناك نوافل، هناك صلوات إذا فاتت انتهت مثلاً: انتهى الكسوف، الخسوف انتهى، لا يمكن الصلاة، العيد إذا فاتته صلى ركعتين.
وهكذا النوافل المؤقتة كالعيد والضحى والرواتب التابعة للفرائض الأظهر أنها تقضى، وسألت شيخنا الشيخ عبد العزيز -نفع الله به- عمن دخل المسجد فجلس، هل تفوته التحية؟ فقال: يقوم فيصلي ركعتين كما أمر رسول الله ﷺ بذلك.
حتى قضاء الحقوق، قال العلماء: يتدارك بقضاء ما عليه كالنفقة الواجبة عند الجمهور نفقة الزوجة، واحد تركها وما أنفق عليها ترك المرأة، ما أنفق عليها وأهملها، لا تسقط النفقة، وتبقى ديناً على الرجل لزوجته لا يسقط بمضي الزمن.
وحتى مسألة المبيت والعدل بين الزوجتين، قالوا: والزوج إذا لم يبت عند ذات الليلة لعذر أو لغير عذر قضاه لها عند الشافعية والحنابلة، قضاه لها، يتدارك ما فاته.
وأما قواعد أصول الفقه تشهد لهذا أيضاً، فإننا إذا استعرضنا القواعد وجدنا أن من بينها: ما لا يدرك كله لا يترك كله، والميسور لا يسقط بالمعسور، واستدلوا له بحديث البخاري: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم [رواه البخاري: 7288، ومسلم: 1337].
وللقاعدة ألفاظ: "ما لا يدرك كله لا يترك جله"، "ما لا يدرك كله لا يترك باقيه"، وهذا منها: "ما لا يدرك كله لا يترك كله" تأتي بما تستطيع.
ومثلوا لها بأمثلة: إذا كان مقطوع بعض العضو يجب عليه غسل ما بقي.
إذا قدر على ستر بعض العورة لزمه ذلك.
من قدر على بعض صاع في الفطرة أخرجه.
لو عجز عن سداد كل الدين أدى ما قدر عليه.
وهذه مسألة يخطئ فيها كثير من الناس، بعض الناس قد يستلف عشرة آلاف، جاء وقت السداد حل طولب بالدين ما عنده إلا خمسمائة، يقول: ماذا تغني الخمسمائة في العشرة آلاف، فينفقها هنا وهنا، ويقول لصاحب الدين: ما عندي شيء.
طيب الميسور لا يسقط بالمعسور، تستطيع أن تؤدي خمسمائة من العشرة آلاف أدها.
ومسألة تضييع الحقوق في الديون لا تحصى ولا تعد.
ثم -أيها الإخوة- في مسألة تدارك ما فات، قد يكون ما فات بتقصير وقد يكون بغير تقصير، وليست الدعوة الآن لأن نعوض ما فاتنا إذا قصرنا، ولكن حتى لو ما قصرت وفاتك شيء من الخير ليس بيدك ابحث عن أبواب أخرى، وتمثل حديث أبي هريرة : أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله ﷺ فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله ﷺ: أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثلما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة [رواه مسلم: 595].
هؤلاء المهاجرين -رضي الله عنهم- فقراء، فاتتهم الصدقة ليس بتقصير منهم ما عندهم مال، ومع ذلك جاؤوا يسألون كيف نعوض؟
والرسول ﷺ فاته قضاء سنة الظهر، ليس من تقصير، وإنما شغل بطاعة، شغلته طاعة عن طاعة، شغله وفد بني عبد القيس، ماذا فعل؟ استدركها.
وقال لما سئل: وإنه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان ، كما في البخاري عندما رأته أم سلمة يصلي بعد العصر وكان عندها نساء، فقالت أم سلمة للجارية: قومي بجنبه، اذهبي إلى النبي ﷺ، فقومي بجنبه، فقولي له: تقول لك أم سلمة: يا رسول الله سمعتك تنهى عن هاتين، وأراك تصليهما؟ فإن أشار بيده فاستأخري عنه، ففعلت الجارية، فأشار بيده، فاستأخرت عنه، ثم بعد الصلاة قال: يا بنت أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر، وإنه أتاني ناس من عبد القيس وذكر الحديث [رواه البخاري: 1233 ، ومسلم: 834].
ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا احتاج أن يكلم المصلي ولا بد، يقوم بجانبه ليس أمامه ولا خلفه، يقوم بجانبه ويكلمه، وأرادت أم سلمة أن تذكره عليه الصلاة والسلام تذكره بأنه منهي ربما نسي.
أسباب التفويت
فإن جئنا -أيها الإخوة- إلى أسباب التفويت، لماذا تفوت الطاعات؟
التسويف
من أعظم أسباب التفويت: التسويف، وعندنا شاهد لهذا المعنى في القصة المشهورة قصة كعب بن مالك ، لما قال: لم أتخلف عن رسول الله ﷺ في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ثم قال: وغزا رسول الله ﷺ تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله ﷺ والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، لاحظ هنا التسويف، أنا قادر عليه، أنا أستطيع أن أتدارك الأمر، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله ﷺ والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئاً، ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، لاحظ، فأدركهم، وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله ﷺ فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء [رواه البخاري: 4418 ، ومسلم: 2769].
رفقاء السوء! أو الرفقاء الذين لا فائدة منهم!
من عناصر التفويت عند كثير من الشباب: رفقاء السوء! أو الرفقاء الذين لا فائدة منهم!
نحن الآن إذا جئنا ننصح الشباب نقول لهم: رفقاء السوء ورفقاء السوء! بعضهم يقول: يا أخي ما عندنا رفقاء سوء! الحمد لله كلهم أصحاب لحى! وكلهم على خير!
لاحظ -يا أخي- قد لا يكونون أهل سوء! لكن لا يكونون أهل فائدة! لا تستفيد منهم يضيعون وقتك!
قد تكون الزوجة هي سبب فوات الطاعات!
قد يكون الأولاد إذا شغلوك بغير الطاعة! إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن: 14]].
ولنأخذ مثلاً من السيرة يوضح كيف كان الأولاد والزوجات سبباً في تفويت طاعة عظيمة، وهي: الهجرة.
ثم لننظر في موقف الإنسان المسلم في عدم الانتقام ممن كان سبباً في التفويت إذا كان الانتقام بغير فائدة؛ لأن الانتقام بغير فائدة، عن عكرمة عن ابن عباس، وسأله رجل عن هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن: 14] قال ابن عباس : هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة، وأرادوا أن يأتوا النبي ﷺ، "فأبى" -لاحظوا معي يا إخواني-، "فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم " [رواه الترمذي: 3317، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"].
إذاً، الزوجة والأولاد يمكن أن يقعدوا بالإنسان عن الطاعة! يثبطوه عن حج! يثبطوه عن فريضة! يقعد به عن طلب علم! "فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم".
وتحت وطأة الزوجة والأولاد ينهار الإنسان في كثير من الأحيان! العاطفة تغلب! يتابع الزوجة والأولاد فيما يسيرونه إليه! فلما أتوا رسول الله ﷺ بعد ذلك هاجروا بعدها بسنوات، رأوا الناس قد فقهوا، الناس تعدوهم، والذي تعلم تعلم، والذي جاهد جاهد، رأوا الناس قد فقهوا في الدين، لما رأوا ذلك هموا أن يعاقبوهم، رجعوا إلى الزوجة والأولاد قالوا: أنتم السبب! أنتم عطلتمونا عن الهجرة! فأرادوا أن ينزلوا بهم العقاب! فأنزل الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن: 14].
ثم أمر تعالى بالعفو، ما فائدة الانتقام من الزوجة والأولاد الآن وقد فاتهم ما فات؟
الآن راقب الله فيهم واحملهم على الطاعة، وأقلع أنت وإياهم.
وسائل تدارك ما فات
ووسط الإنسان المحيط به له دور في دفع الشخص للاستدراك أو للتفويت.
والدعاة إلى الله عليهم دور عظيم في السعي للمسلم الجديد لاستدراك ما فاته بعمل الصالحات عكس السيئات التي كان يفعلها في الجاهلية.
بعض الصحابة لما أسلموا كان عندهم هذا الشعور: قضية الاستدراك، فتح المجال لهم، عن ابن عباس قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبي ﷺ: يا نبي الله ثلاث أعطينهن، قال: نعم، قال: عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها، قال: نعم [رواه مسلم: 2501].
وبعض المحدثين قد اعترض على هذه اللفظة، والخطأ في هذا السياق، في هذا الموضع، قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك؟ قال: نعم، قال: وتؤمرني.
وهذا الشاهد: قال: "وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين؟ قال: ((نعم)) [رواه مسلم: 2501].
إذاً، أبو سفيان لما رأى نظرة الناس له، عرف وأحس بالتقصير، وأراد أن يعوض.
وهكذا فعل خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص، لما أسلموا اندفعوا للتعويض.
ينبغي على الإنسان إذا هداه الله أن يندفع للتعويض، كان في جاهلية، كان في سنوات الضياع والتيه والبعد عن الشريعة، إذا اهتدى يندفع للتعويض.
تأمل هذا الحديث الذي رواه أحمد -رحمه الله-، وقال الهيثمي عن إسناده: "رجاله ثقات"، ولعل في بعضهم شيئاً من الكلام، لكن هذه المسألة في القصص والسيرة، يقول عمرو بن العاص : "لما انصرفنا من الأحزاب عن الخندق، وكان مع المشركين، جمعت رجالاً من قريش، كانوا يرون مكاني ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله إني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علواً كبيراً منكراً، وإني قد رأيت رأياً فما ترون فيه؟ قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرف، نرجع إلى قومنا، نحن معروفين عندهم، فلن يأتينا منهم إلا خير، فقالوا: إن هذا الرأي" واضح بعد معركة الأحزاب بدأ ميزان القوى يتحول، قال: "فقلت لهم: "فاجمعوا له" أي: للنجاشي ما نهدي له، "وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم"، الجلود، "فجمعنا له أدماً كثيراً، فخرجنا حتى قدمنا عليه، فوالله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري ، وكان رسول الله ﷺ قد بعثه إليه" يعني إلى النجاشي في شأن جعفر وأصحابه، فدخل عليه ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابي: "هذا عمرو بن أمية الضمري لو قد دخلت على النجاشي، فسألته إياه فأعطانيه، فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد، فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحباً بصديقي" وهذا يدل على قوة العلاقة بين النجاشي وعمرو بن العاص، "مرحباً بصديقي، أهديتني من بلادك شيئاً؟ قال: قلت: نعم أيها الملك، قد أهديت لك أدماً كثيراً، ثم قدمته إليه فأعجبه واشتهاه، ثم قلت له: أيها الملك إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا، مثل الذين قتلوا يوم بدر، قال: فغضب، ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقاً منه، ثم قلت: أيها الملك والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، فقال النجاشي: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله؟ قال: قلت: أيها الملك أكذاك هو؟ فقال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، قال: قلت: فبايعني له على الإسلام، قال: نعم، فبسط يده وبايعته على الإسلام ثم خرجت إلى أصحابي، وقد حال رأيي عما كان عليه، وكتمت أصحابي إسلامي، ثم خرجت عامداً لرسول الله ﷺ لأسلم، فلقيت خالد بن الوليد وذلك قبيل الفتح، وهو مقبل من مكة، متجه إلى أين؟ إلى المدينة، فقلت: أين يا أبا سليمان؟ قال: "والله لقد استقام المنسم".
وفي بعض المراجع: "الميسم" وهو أثر الحسن والجمال في الشيء، ويعني خالد هنا يعني آثار الحق، يقول ترى الحق استبان، "وإن الرجل لنبي، أذهب والله أسلم، فحتى متى؟" هذه كلمة مهمة جداً، يقول خالد بن الوليد: "فحتى متى؟" يعني الحق استبان، فحتى متى لا نتدارك أمرنا الآن ونسلم؟ فقلت: "والله ما جئت إلا لأسلم، فقدمنا على النبي ﷺ وأسلما" [رواه أحمد: 17777، وقال محققو المسند: "إسناده حسن في المتابعات والشواهد"].
وهكذا قد يسمع بعض الشباب التائهين الحق في أمريكا، هو هنا ضال، يذهب إلى أمريكا يسمع كلمة الحق هناك ويهديه الله، ويرجع مهتدياً من هناك بعد أن كان ضالاً هنا.
وهذا عمرو بن العاص ذهب فسمع من النجاشي، ورجع متأثراً.
إن هناك عدداً من المذنبين سمعوا مواعظ، وسمعوا أشياء حركت فيهم العاطفة، حركت فيهم المشاعر الجياشة للتوبة، بعض الناس عندهم رغبة في التوبة.
من المهم جداً للدعاة إلى الله أن يفتحوا لهم الأبواب، بأي شيء؟
بتوضيح كيف يستدرك أولئك ما فاتهم، وكيف يصلحون أخطاءهم، يريدون التوبة لكن لا يعرفون كيف الطريق، عن ابن عباس: "إن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن" نحن مقتنعين بما تقول، ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، لكن المشكلة عندنا الأشياء التي عملناها، ما مصيرها هذه؟ أنت لو حللت لنا العقدة هذه تنتهي مشاكلنا، لو أخبرتنا أن لما عملنا كفارة، فنزل قول الله -تعالى-: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ [الفرقان: 68 - 71].
ونزل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر: 53] الآية [رواه مسلم: 122].
ماذا نلاحظ؟
الشريعة فتحت باب الاستدراك.
أنت يا أيها التائب عندك معاصٍ كثيرة، هنا علاج! يوجد علاج!
القضية مهمة.
وبعض الناس يسألون عن أحكام التوبة، بل موضوع التوبة، ما هو؟
التوبة: هي عملية استدراك لما فات.
فكما قال السفاريني -رحمه الله تعالى- في غذاء الألباب: "اعلم رحمك الله تعالى ووفقك أن الحق الذي تاب منه التائب إما أن يكون لله أو لآدمي" [غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب: 2/575].
ثم ذكر أشياء عن حق الله، وأشياء عن الحقوق المشتركة، ثم حق الآدمي المحض.
وكل معصية وكل اعتداء على حق آدمي فهو اعتداء على حدود الله تعالى، ومعصية لله، لا بد أن يتوب منها الشخص ثم يعيد حق الآدمي.
وإذا كان حق الآدمي قصاص مكنه من نفسه، إذا كان أخذ مالاً أعاده إليه، إذا كان أتلف له شيئاً عوضه عنه، إذا لم يستطع استسمح منه.
وإذا كان اغتابه أو قذفه، ثم لو جاء وقال: يا فلان أنا اغتبتك وقلت فيك كذا وكذا، وخصوصاً أن بعض الناس لا تدري عن ردة فعله قد يقول لمن قال له يا أخي حللني اغتبتك؟ يقول: لا، ماذا قلت بالضبط؟ أنا أريد أن أعرف أنت ماذا قلت بالضبط، وإلا لا أسامحك إلى يوم الدين.
ويأتي الأخ هذا يقول: أنا أريد أن أتوب قذفت فلاناً واغتبت فلاناً، كيف أفعل؟ لو أخبرته لربما تفاقم الشر؟
فذهب شيخ الإسلام -رحمه الله- وتلميذه وغيرهما من العلماء: إلى أنه إذا قدر أن الشر سيزيد ويعظم ويقع في نفس صاحبه عليه أشياء، ويجد عليه أمور ما كان يجدها عليه من قبل، فإنه يكتفي بالاستغفار له، الدعاء له، يدافع عنه في المجالس الذي اغتابه فيها، ويكذب نفسه في المجالس التي قذفه فيها.
ثم هذا يوم القيامة لعله إذا جاء يوم القيامة ووجد في صحيفته المظلوم، وجد في صحيفته حسنات، من أين هذه؟ هذا استغفار أخيك الذي اغتابك استغفر لك، لربما سامحه إذا وجد استغفار أخيه له.
وهكذا عللوا قضية الاستغفار، رجاء أن يرضى عنه خصمه يوم القيامة ببركة استغفاره.
وقال ابن المبارك: لا تؤذه مرتين [غذاء الألباب: 2/577].
اغتبته ثم تقول له: قلت فيك كذا وكذا.
وكل أنواع الذنوب لها حل، ما في ذنب ليس له حل، كل المعاصي لها حل، وهذا ما يجب أن نؤكد عليه أمام التائبين، وأن نخبرهم به لنفتح لهم الأبواب، قبل أن يأتي لا بد أن نعيد الحقوق، إذا ظلمنا إخواننا أن نعيد الحقوق لأصحابها قبل أن يأتي يوم لا دينار ولا درهم، ولكن بالحسنات والسيئات، كما جاء في الحديث الصحيح.
التغلب على مشاعر الإحباط
من الأمور المهمة -أيها الإخوة- في علاج ما فات، ونتكلم عن بعض الأمور التربوية: أنه لابد من التغلب على مشاعر الإحباط التي تعتري الشخص المقصر، خصوصاً عندما يأتيه شيطان فيقول: لا فائدة! ما فعلته في الماضي لا سبيل إلا إنقاذ نفسك من تبعته ومسؤوليته! ولا تستطيع أن تعوض! والذي حصل كثير!
لا يجوز أن يشعر الإنسان بمشاعر الإحباط تسيطر عليه وتقعد به عن محاولة التقدم وتعويض ما فات. بعض الناس إذا استعرض في ذهنه الأشياء التي فاتته فيجدها كثيرة جداً يستعظم ذلك.
لماذا نهينا عن "لو" التي تفتح عمل الشيطان؟ لأنها تسبب القنوط واليأس الذي لا فائدة منه، بل يضر.
إن تحقيق الأماني لا يكون بالندم على ما فات، ولا باجترار الأحزان على الماضي، الندم السلبي؛ لأن هناك ندم إيجابي -كما سيأتي-، ولا باجترار الأحزان على الماضي، وإنما يكون بالجد والعمل واغتنام كل فرصة.
بادر الفرصة واحذر فوتها | فبلوغ العز في نيل الفرص |
فابتدر مسعاك واعلم أن من | بادر الصيد مع الفجر قنص |
أما إضاعة الحاضر بالاستسلام للأوهام والأشياء التي حصلت في الماضي، والانسياق وراء وساوس الشيطان فإنها ضارة للغاية.
أفنيت يا مسكين عمـرك في التأوه والحزن
وقعدت مكتوف اليديـن تقول حاربني الزمن
ما لم تقم بالعبء أنـت فمن يقوم به إذن؟
استدراك الوقت في طلب العلم
من المهم -أيها الإخوة- أن ننظر في أحوالنا، ونصحح المسيرة، ونستدرك ما فاتنا، ونحاسب أنفسنا بحسب الإمكانات.
لا يمكن أن يكون محاسبة طالب في تخصص شرعي في مسألة طلب العلم كمحاسبة الموظف الذي له دوامان، أو دوام طويل؛ لأن الإمكانات تختلف.
ما يفوت هذا أعظم مما يفوت ذاك.
وما ينبغي أن تكون عليه الدرجة في المحاسبة أشد في حق طالب العلم الطالب المتفرغ.
ثم لابد من إزالة الحواجز النفسية التي تمنع الاستدراك، كأن يقول: أنا كبرت! أنا ذاكرتي ضعفت! لا فائدة الآن من حفظ المتون وطلب العلم في قضيتي وحالتي!
يا أخي: بعض الصحابة أنتجوا في أعمار متأخرة.
وبعضهم ما عاشوا إلا أشهر قلائل، وعلموا أشياء كثيرة جداً.
ثم استحضار قصص الذين طلبوا العلم متأخرين، بعضهم ما طلب العلم إلا بعد الأربعين وأصبحوا علماء. وابن أبي ذئب -رحمه الله- طلب العلم متأخراً، وكان يقارن بمالك، وقالوا: لو طلب العلم مبكراً لما قورن به مالك ولا كان قريباً منه -رضي الله عنهم جميعاً ورحمهم-.
وإذا نظرنا في حال بعض الناس، بعض العلماء كيف استدركوا الأمور، وكيف تقدموا، لوجدنا أمراً عظيماً. ابن حزم -رحمه الله- طلب العلم بعدما بلغ السادسة والعشرين.
وابن حجر -رحمه الله- مرت عليه سنوات لم يكن يطلب فيها الحديث، حتى كان ينشد مرة فسمعه شخص فقال: ليس هذا من شأنك، هذا لا يليق بك، فانصرف إلى الحديث.
الذهبي -رحمه الله- قال: رأى خطي رجل، فقال: إن خطك يشبه خط المحدثين، فوقع في نفسي طلب الحديث.
ابن القيم -رحمه الله- مضى فترة من عمره مع الصوفية، ثم رجع وصار من أهل العلم العظيم، يقول:
يا قوم والله العظيم نصيحة | من مشفق وأخ لكم معوان |
جربت هذا كله ووقعت في | تلك الشباك وكن ذا طيران |
حتى أتاح لي الإله بفضله | من ليس تجزيه يدي ولساني |
حبر أتى من أرض حران فيا | أهلا بمن جاء من حران |
فالله يجزيه الذي هو أهله | من جنة المأوى مع الرضوان |
أخذت يداه يدي وسار فلم يرم | حتى أراني مطلع الإيمان |
ورأيت أعلام المدينة حولها | نزل الهدى وعساكر القرآن |
ورأيت آثارا عظيما شأنها | محجوبة عن زمرة العميان |
[الكافية الشافية، ص: 143]
فإذاً، لا تقل: فاتنا المرحلة الذهبية في طلب العلم! فاتنا مرحلة الذاكرة القوية! لا فائدة! هناك من طلب العلم متأخراً وأفلح.
وهذا عبد الصمد شرف الدين ذكر في مقدمة تحقيقه لتحفة الأشراف أنه ما طلب العلم إلا بعد الأربعين.
الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله جاء إلى شيخه السندي في المدينة فرأى الناس يطوفون بقبر النبي -عليه الصلاة والسلام-، وكان محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في مقتبل عمره، فقال لشيخه السندي: ما تقول في هؤلاء؟ قال: إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون، ولكن من يقوم لهم؟ قال الشيخ: فوقعت في نفسي.
أحياناً كلمة من عالم، من موجه، من مرب، من فاضل، من قدوة، تدفع، تغير مجرى حياة الإنسان، مجرى حياة الإنسان، كله إلى التغير.
وحتى لو ذهبنا بعيداً عن العلماء وذهبنا إلى الشعراء، هذا النابغة الذبياني ما قال بيتاً من الشعر إلا بعد أن بلغ الأربعين.
أقصد أن أقول -أيها الإخوة- استدراك ما فات مهما مضى من العمر..
بعض الناس مثلاً من الأشياء التي فاتتهم حفظ القرآن، تقدم بهم العمر، يقول: لا سبيل إلى حفظه، ضعفت الذاكرة، نقول: لا، راجع ما حفظته يا أخي، واسع للحفظ الجديد.
بعض الناس حفظوه بعد الأربعين.
هناك امرأة كبيرة في السن حفظت القرآن في سنة ونصف، من كثرة سماعه ومواظبتها وحرصها وسعيها، وهي تغسل الصحون في المطبخ، فتحت الشريط راحت مركز تحفيظ القرآن وتأثرت، وجابت أشرطة القرآن، وهي في المطبخ تستمع الأشرطة، حفظته في سنة ونصف، ولو كانت أمية تحفظ من الأشرطة.
فالإنسان إذا كان صاحب همة -أيها الإخوة- يستدرك مهما فاته من المشوار، يمكنه أن يعمل أشياء كثيرة جداً، مثلاً: عدد من الطلاب ندموا أنهم لم يكونوا يكتبون الفوائد والنفائس، ويقيدون الأفكار والخواطر، وذهب الموضوع من ذهنهم وضاع التحضير؛ لأن النقاط كانت في ورقة صغيرة وضاعت، لا يقول: لا فائدة ذهب كثير، نقول: قيد الآن، ابدأ من جديد، قيد ورتب وفهرس.
يا أيها الأب: مهما فاتك من حفظ القرآن احفظ مع ابنك.
وفي تربية الأولاد -أيها الإخوة- نلاحظ أشياء من التفويت وعدم الاستدراك كبيرة.
نلاحظ بعض الآباء إذا أخطأ في تربية ولد، قد لا يستجمع نفسه وقواه لتصحيح الأخطاء، أو على أقل الحد منها، وإنما يترك الأمور على حالها، وإذا قيل له يقول: إن شاء الله إني أنا عازم أن أستدرك الأخطاء في الولد القادم! هذا فات منا!
لماذا تقول: فات مني؟! ما زال عندك قدرة.
أب أخطأ مع ولده مثلاً في تربيته على عدم النظر إلى المسلسلات والأفلام، فاستخدم القوة والعنف مع الولد عند رؤية هذه المحرمات في بعض بيوت الأقرباء مثلاً، ولم يستعمل التخويف بالله ومراقبة الله ليترك الولد المحرم طواعية، فاستخدم أسلوبا خاطئاً!
النتيجة -طبعاً- نفر الولد، لاستخدام أسلوب خاطئ، أو نشأ معانداً، أو يفعله خفية في غياب أبيه وما أكثرهم، أهل الدنيا مشغولون، وأهل الآخرة مشغولون.
إذاً، ضاع الأولاد، لابد من الالتفات للأولاد.
فلا يقول: فات القطار! هذا إن شاء الله في الولد الثاني! هذا انتهى! خلاص! طلع! راح!
هذه مسألة خطيرة جداً -أيها الإخوة-.
وهناك بعض الكلمات التي نسمعها من بعض الإخوان يجب أن تحارب في هذا الموضوع محاربة شديدة، يقول لك بعض الناس، إذا ذكرته بشيء في أشياء من الأخطاء التي تحصل يقول: يا أخي خربانة خلاص! خلاص ما في فائدة!
يا ابن الحلال كيف مسيرتك، حياتك، عمرك؟!
يقول: خلاص الآن أصلاً المسألة خربت!
كيف؟ حتى لو كان الإنسان فاسقاً يمكنه أن يستدرك وهو فاسق، لما كان يوم القادسية أتي سعد بأبي محجن وهو سكران من الخمر! فأمر به فقيد! وكان بسعد جراحة! فاستعمل على الخيل خالد بن عرفطة! وصعد سعد فوق البيت ينظر ما يصنع الناس في المعركة! فجعل أبو محجن يتمثل وهو مقيد:
كفى حزناً أن ترتدي الخيل بالقنا | وأترك مشدوداً علي وثاقيا |
ثم قال لامرأة سعد وهي بنت خصفة: ويلك خليني فلك لله علي أن سلمت أن أجيء حتى أضع رجلي في القيد! وإن قتلت استرحتم مني!
فحلته ووثب على فرس لسعد يقال لها: البلقاء! ثم أخذ الرمح وانطلق حتى أتى الناس، فجعل لا يحمل في ناحية إلا هزمهم، فجعل الناس يقولون: هذا ملك! ما عرفوا، قالوا: هذا ملك! وسعد ينظر! ويقول سعد وهو ينظر إلى المعركة وحال هذا الرجل: الضبر ضبر البلقاء! والطفر طفر أبي محجن!
سعد يقول: الضبر! أي عدو الفرس، الضبر ضبر البلقاء، والطفر طفر أبي محجن! وأبو محجن في القيد على ظن سعد! فلما هزم العدو! ورجع أبو محجن حتى وضع رجله في القيد!
فأخبرت بنت خصفة سعداً بالذي كان من أمره، فقال: لا والله لا أحد اليوم رجلاً أبلى الله المسلمين على يديه ما أبلاهم! فخلى سبيله! فقال أبو محجن: فوالله لا أشربها أبداً.
وذكر ابن حجر رواية في "الإصابة" أيضاً، وذكرها من طريق عبد الرزاق عن ابن سيرين بسند صحيح، قال وفيه قال سعد: "لا أجلدك في الخمر أبداً! فقال أبو محجن: وأنا والله لا أشربها أبداً!".
إذاً، واحد ممكن لو كان فاسقاً يعمل كبيرة أن يستدرك أشياء كثيرة، ويكفر عن سيئاته بطاعات.
الفضيل بن عياض متى تاب؟
تاب وتحول من فاسق إلى عالم.
القعنبي جاء على قميص أحمر ينتظر الشباب للشراب، رأى الناس مزدحمين على رجل، خرج ما هذا؟ قالوا: شعبة، قال: ما شعبة؟ قالوا: محدث، قال: ما يحدث؟ قالوا: يحدث أحاديث.
ذهب إليه على القميص الأحمر ، قال: هيه أنت حدثني؟! فأعرض عنه شعبة، فأخرج سكينه وقال: تحدثني أو أجرحك؟!
فلما رأى شعبة ذلك قال: حدثنا فلان عن فلان ... قال رسول الله ﷺ: إذا لم تستح فاصنع ما شئت ، فوقعت الكلمة في نفس القعنبي، ورجع وكسر الشراب، وكسر العود والمزمار، وقال لأمه: إذا جاء أصحابي فقولي لهم: أنني قد تغيرت، غيرت كل شيء، ينصرفوا، ولبس وذهب والتحق بالمحدثين، وما سمع من شعبة إلا هذا الحديث، وذهب وصار من كبار المحدثين.
إذاً، الفرصة موجودة للتغيير، قطعاً موجودة -أيها الإخوة-، حتى في جانب العصاة، وفي جانب الخيرين.
أحياناً بعض الخيرين يضع برنامجاً يفوته من حضور درس مثلاً يقول: أنا قررت أن أحضر الدرس الفلاني والفلاني والفلاني! ويكتب ماذا سيفعل في هذا الأسبوع أو في الشهر أو في الفصل الدراسي! فيفوته درس أو اثنان أو ثلاثة! ثم يقول: خلاص انفرطت الأمور! ما في فائدة! خلاص ما دامت خربانة خربانة! ما الفائدة أني أذهب وأحضر الآن؟
وأحياناً يفوته حزبه من القرآن، ثم صلاة الجماعة فيقول: خلاص! المسألة خربانة! خربانة!
بعض الناس من يتكاسل عن القيام للصلاة يسمع الإقامة راحت الركعة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة، فيقول: خلاص! خربانة! خربانة!
هذا المبدأ -يا إخوان- الذي دمر كثيراً من الناس، خصوصاً الذين يعملون المعصية تلو المعصية، المسألة منتهية.
بعضهم في الحج وهذا شيء لاحظناه من بعض الحجاج عمل محرماً أو محظوراً أو مجموعة محظورات، ثم صار لا يبالي، فتقول له: ولم يا فلان؟!
يقول: خلاص هذه الحجة خلاص هي خربانة! أنا إن شاء الله السنة القادمة سأحج مضبوط من أول الحج على السنة وعلى الصراط المستقيم.
طيب -يا أخي- وما يدريك أنك ستعيش؟
انظر إلى استدراك ما فات في الحج، الدم الجبران، وإذا فاته رمي ماذا يفعل؟ وحتى لو أفسد حجه ولو بالوطء ولو في عرفة، فيه إجراءات، يتم حجه الفاسد، ويذبح بدنة، ويأتي بحج آخر من الميقات في السنة القادمة، ويفرق بينه وبين زوجته، لأنه لا يؤمن أن يرجع إلى المحظور مرة أخرى.
طيب: لو كانت خربانة خربانة، لماذا أمر بإكمال الحج الفاسد؟
إذاً، الشريعة تريد من الشخص أن يستدرك.
قضية خربانة هذه مسألة لا يصح أن تكون موجودة بيننا أصلاً -أيها الإخوة- أبداً، كل شيء له حل.
لو فاته الحج، واحد جاء من بلد ما وصل عرفة إلا بعد فجر يوم النحر، فاته الحج أم لا؟ طيب وهو محرم، ماذا يفعل؟ ينتظر بإحرامه إلى السنة القادمة؟
لها مخرج، قالوا: يتحلل بعمرة.
وبعض الناس الذي يتسبب في عدم استدراكهم ما فات -كما قلت-: أنهم يتدرجون في المعاصي درجة درجة، وينزل وينزل إلى أسفل سافلين.
قد يكون الشخص مثلاً في البداية صاحب تدين جيد، ثم يبدي تنازلاً في أمر معين، فيترك واجباً أو يفعل محرماً، ثم يزداد.
قد يشترط عليه صاحب العمل مثلاً يحلق لحيته، ثم بعد ذلك هو يسبل، ثم يفعل أشياء أخرى، ثم.. ثم.. تنتهي المسألة إلى كارثة كبيرة.
لو استدرك -على الأقل- توقف الانهيار.
استشعار النقص وتدارك ما فات
وختاماً -أيها الإخوة- في مسألة: استدراك ما فات ينبغي أن ينتابنا شعوران:
الشعور الأول: أن نشعر فعلاً أن هناك أشياء فاتت؛ لأن الذي لا يحس أن هناك أشياء فاتت ماذا يصلح ماذا سيندفع إلى أي شيء؟ هو لا يشعر أنه قد فاته شيء، لابد أن نحاسب أنفسنا ونعرف ماذا فاتنا في كل جانب من الجوانب، في طلب العلم، في الأخلاق، في الدعوة إلى الله، في بر الوالدين، صلة الرحم، كل شيء، ثم نستدرك ونبدأ نصلح الأوضاع.
الشعور الثاني: العزم والاندفاع للتعويض.
ونمثل للأول بأبيات، وللثاني بأبيات.
الأول: المحاسبة والشعور بأن هناك أشياء فاتت، قال الشاعر -رحمه الله-:
تفيض عيوني بالدموع السواكب | وما لي لا أبكي على خير ذاهب |
على العمر إذ ولى وحان انقضاؤه | بآمال مغرور وأعمال ناكب |
على غرر الأيام لما تصرمت | وأصبحت منها رهن شؤم المكاسب |
على زهرات العيش لما تساقطت | بريح الأماني والظنون الكواذب |
على أشرف الأوقات لما غبنتها | بأسواق غبن بين لاه ولاعب |
على أنفس الساعات لما أضعتها | وقضيتها في غفلة ومعاطب |
على صرفي الأيام في غير طائل | ولا نافع من فعل فضل وواجب |
على ما تولى من زمان قضيته | ورجيته في غير حق وصائب |
على فرص كانت لو أني انتهزتها | لقد نلت فيها من شريف المطالب |
وأحيان آناء من الدهر قد مضت | ضياعا وكانت موسما للرغائب |
[مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار: 3/94]
هذا شعور التفريط والمحاسبة، وأن هناك أشياء كثيرة فاتت.
ثم هذه الأبيات لجمال الدين الصرصري -رحمه الله-، بعد هذا الشعور، يقول في قصيدة له:
فيا من مد في كسب الخطايا | خطاه أما يأن لك أن تتوبا |
ألا فاقلع وتب واجهد فإنا | رأينا كل مجتهد مصيبا |
وأقبل صادقا في العزم واقصد | جنابا للمنيب له رحيبا |
وكن للصالحين أخا وخلا | وكن في هذه الدنيا غريبا |
وغض عن المحارم منك طرفا | طموحا يفتن الرجل الأريبا |
فخائنة العيون كأسد غاب | إذا ما أهملت وثبت وثوبا |
ولا تطلق لسانك في كلام | يجر عليك أحقادا وحوبا |
ولا يبرح لسانك كل وقت | بذكر الله ريانا رطيبا |
وصل إذا الدجى أرخى سدولا | ولا تضجر به وتكن هيوبا |
تجد أنسا إذا أودعت قبرا | وفارقت المعاشر والنسيبا |
وصم ما تستطيع تجده ريا | إذا ما قمت ظمآنا سغيبا |
وكن متصدقا سرا وجهرا | ولا تبخل وكن سمحا وهوبا |
تجد ما قدمته يداك ظلا | إذا ما اشتد بالناس الكروبا |
وكن حسنا السجايا وذا حياء | طليق الوجه لا شكسا غضوبا |
[ينظر: الآداب الشرعية والمنح المرعية: 3/595 - 596]
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من التائبين المنيبين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات والحسنات وحب المساكين.
اللهم إنا نسألك ترك المنكرات.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الأخيار، الأتقياء الأخفياء الحنفاء.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد.