بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله في هذا الدرس من سلسلة: "الأربعون في الاستعاذات النبوية"، الحديث السابع: عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ أنه كان يقول إذا أوى إلى فراشه: اللهم رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك ، إذن، ما مضى هذا كان توسُّل إلى الله بأسمائه، بربوبيته، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقضِ عنا الدَّين وأغننا من الفقر [رواه مسلم: 2713، وأبو داود: 5051]، هذه إحدى الأدعية والأذكار التي تُقال عند النوم، وهو دعاء عظيم يحسُن بالمسلم أن يحافظ عليه كل ليلة عندما يأوي إلى فراشه، وهو مشتمل على توسُّلات عظيمة إلى الله تعالى، بربوبيته لكل شيء؛ للسموات السبع، وللأرضين السبع والعرش العظيم، وبأنه أنزل التوراة والإنجيل والفرقان، والوحي المبين، فتوسَّل إلى ربه بأن يحفظه ويكلأه من جميع الشرور، وهذا الحديث مشتملٌ على التوسُّل إلى الله - تعالى - ببعض أسمائه العظيمة وأفعاله؛ أنه يقضي الدين ويغني من الفقر، ومن اللطائف في هذه التوسُّلات في هذا الدعاء أن النبي ﷺ بدأه بقوله: اللهم ربّ السموات وربّ الأرض وربّ العرش العظيم أي: خالقها ومالكها ومدبرها ومبدعها وموجدها من العدم، وخصّ هذه المخلوقات بالذكر لعظمها وكبرها واتساعها، ولكثرة ما فيها من آياته الدالة على قدرته وعظمته وبديع صنعه، وإلا فجميع المخلوقات دالة على قدرته، بعد ما قال: ((اللهم رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم، قال: ربنا ورب كل شيء فهو تعميم بعد تخصيص، ثم عقّبه بمظهر من مظاهر الربوبية والخلق، فقال: فالق الحب والنوى ، يعني: الذي يشق حبة الطعام ونوى التمر وغيرها، لتخرج الأشجار والزروع، فالله يفلق الحبة لتُنبت، فالنبات إما أشجار أصله النوى، أو زروع أصلها الحب، فما يخرج من الأرض إما أن يكون شجرًا أصله النوى، أو زرعاً أصله حب، والله هو الذي يفلق الحب والنوى، فالق الحب والنوى ويكون الحب أو النوى يابسًا وبقدرة الله يحيا وينبت، فإذا سقي خرج منه الزرع، بل يخرج من الحبة الصغيرة أو النواة الصغيرة الشجرة العظيمة، الشجر العظيم، وفي ذلك آية باهرة من آياته - سبحانه - الدالة على قدرته، وقد قال الله تعالى في كتابه: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [الأنعام: 95] فالذي فلق الحب والنواة عن سنبلة ونخلة رأى في كل منهما من أسرار وعجائب ما أودعه الله في خلْقه، يرى العجب العجاب، عقب هذا بعد أن ذكر الربوبية والمشاهد الدالة على قدرة الله، عقّب بقوله: ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان إشارة إلى أنه لم يخلق فقط هذه الأشياء وهو ربها إلا لأجل أن ينزل الكتاب، فإنه بدأ بربوبيته وفلق الحب والنوى، وأتبعه بذكر تنزيل التوراة والإنجيل والفرقان، فكأنه خلقها لينّزل هذا، حتى يُحكم به في الأرض، فهو ربها وخالقها ومخرج ثمرها وزرعها لهذا الإنسان الذي ينزّل من أجله الوحي حتى يعمل به في هذه الأرض المهيأة له.
وكذلك فإنه خلق السموات وأنزل الوحي من هذه السموات وعبرها إلى الأرض؛ ليُعمل بهذا الوحي في الأرض، وكذلك فيها إشارة إلى أنه لا يوحِّده بهذه الأفعال من خلق السموات والأرض والربوبية إلا صاحب علم بالوحي، لا يوحده حق توحيده بها إلا صاحب علم بالوحي، ولا يستدل على ربوبيته وبديع صنعه وقدرته، لا يكتمل هذا إلا بالوحي، بالتأمل أو الرجوع أو معرفة الوحي، فهناك إذن ارتباط بين رب السموات والأرض وفالق الحب والنوى وتنزيل الوحي، فكأنه قال: يا مالك يا مدبّر يا خالق يا هادي، والتوسُّل إلى الله بربوبيته وخلقه السموات والأرض وإنزال الكتب العظيمة المشتملة على هداية الناس وفلاحهم في الدنيا والآخرة، هذا توسُّل عظيم، صدره أو بدأ به قبل الاستعاذة، فذكر رب السموات والأرض والعرش العظيم، قال: رب، وفي الحب والنوى قال: فالق، وفي الكتب قال: منزل، رب وفالق ومنزل، في هذا الحديث؛ وهذا فيه دلالة على أن كلام الله غير مخلوق، يعني ما قال: رب، رب هذا رب القرآن، قال: منزل التوراة والإنجيل والفرقان، وهذا فيه رد على من قال إن كلام الله مخلوق أو إن وحي الله مخلوق.
ثم بيّن النبي ﷺ الاستعاذة ومن أي شيء يستعيذ، فقال بعد كل هذه التوسُّلات وبعد كل هذه المقدمة وبعد هذه التوطئة السابقة، قال: أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته
ومعنى: ((آخذ بناصيته)) الأخذ بالناصية، معناه: القدرة التامة على التحكم بالشيء، الأخذ بالناصية معناها السيطرة والهيمنة، والناصية مقدمة الرأس، فقدرة الله فوق كل قدرة، وبطش الله فوق كل بطش، وجميع المخلوقات داخلة تحت قهره وسلطانه فهو آخذ بناصيتها قادر عليها يتصرف فيها كيف يشاء، وقد قال نبي الله هود لقومه: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود: 56].
فإذن، يستعيذ بالله من شر كل المخلوقات؛ لأنه ما من شيء إلا الله آخذ بناصيته، فجميع المخلوقات داخلة تحت قهره وسلطانه، وهو آخذ بنواصيها قادر عليها، يتصرف فيها كيف يشاء.
والسر في التعبير بقوله: ((كل شيء)) أعوذ بك من كل شيء أنت آخذ بناصيته: أن من أخذ بناصية أحد فقد قهره وقدر عليه غاية القدرة، ثم اتبعه بثناءات على الله، بعد هذه الاستعاذة ما انتهت الثناءات على الله، قال: أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء وهذه أربعة أسماء عظيمة من أسماء الله تعالى: الأول والآخر والظاهر والباطن، ففسّر النبي ﷺ كل اسم بمعناه العظيم ونفى عنه ما يضاده، الأول فليس قبلك شيء، الآخر فليس بعدك شيء، الظاهر فليس فوقك شيء، فإذًا كل اسم يفسره وينفي ما يضاده، وهذه الأسماء تدل على تفرُّد الله بالكمال المطلق في الإحاطة الزمانية، الأول والآخر، والإحاطة المكانية: الظاهر والباطن، فأولية الله تعالى قبل كل شيء وأبديته وبقاؤه بعد كل شيء وعلوه على كل شيء وأنه سبحانه لا شيء فوقه وهو الباطن لا شيء دونه، فلا يخفى عليه شيء، مطلّع على السرائر والضمائر.
إذن، الأول هذا الاسم يوجب للعبد أن يلحظ فضل الله عليه في كل نعمة دينية ودنيوية؛ لأن الله هو المتفضل بها، الآخر يدل على أن الله هو الغاية والصمد الذي تصمد إليه المخلوقات وتقصده بتألهها وتعبدها ورغبتها ورهبتها، والظاهر يدل على عظمة صفاته وعلوه فوق جميع مخلوقاته، والباطن يدل على اطلاعه على بواطن الأمور والضمائر والسرائر، لا تخفى عليه خافية، فهو عالٍ على خلْقه مع كمال قربه ودنوه من عبده، فهو القريب في علوه العلي في دنوه سبحانه وهو أقرب إلينا من كل شيء بعلمه وهو معنا في كل حين ومكان، وهو معكم أينما كنتم، بعلمه ، هذه التوسلات في آخر هذا الدعاء فيها طلب أمرين: اقض عنا الدين وأغننا من الفقر، الدَّين مرهق، الدَّين ذل، الدَّين وطأة، ثقل، الدَّين همُّ وغم، والإنسان المسلم يريد أن يتخلص من الحقوق ويعيدها إلى أصحابها، حتى تبرأ ذمته، ولا تكون هذه الحقوق سببًا لحبس له في قبره، أو عذاب له يوم الدين، أو نقص من حسناته؛ لأن هناك تقاضي يوم القيامة، والناس لها حقوق لها ديون يأخذونها من حسناته، ويحبس بها في قبره، إذا كان مفرطًا، المسلم يريد أن يتخلص من الدين بأي طريقة، فيلجأ إلى الله، اقض عنا الدين، ولاحظ أن الدين هذا قد يكون لله وقد يكون للعباد وقد يكون أشياء معنوية وقد يكون أشياء مادية، ((اقضِ عنا الدين، وأغننا من الفقر))، الفقر الذي يُحوج الإنسان إلى غيره، وأسوؤه وأشد شيء فيه فقر القلب؛ لأن فقر القلب إذا حصل مهما كان عند الإنسان من مال فهو في عذاب؛ لأنه لا يقنع، فالذي عنده قناعة وراتب يكفيه ولا يزيد، يكفيه ولا يزيد أحسن حالًا بكثير في السعادة الدنيوية من صاحب أموال طائلة عنده فوائض عظيمة لكنه فقير القلب؛ لأنه هلِع جشِع لا يقنع أبدًا فهو في عذاب نفسي، مهما كان عنده يشعر أنه ما عنده، فلذلك الأول الذي عنده راتب يكفيه وقناعة أحسن عيشًا وأسعد من رجل عنده فوائض الأموال بغير قناعة، وأغننا من الفقر.
والغنى ثلاثة أقسام: الأول: غنى النفس وهو المطلوب المرغوب المحبوب، القسم الثاني: الغنى بالله تعالى، الغنى بالله عن خلقه، القسم الثالث: الغنى بالمال وقد سُئل بعض العلماء: أيهما أتم الغنى بالله أم الافتقار إلى الله؟
فقال: الافتقار إلى الله يوجب الغنى بالله يؤدي إليه، فإذا صحّ الافتقار إلى الله كملت العناية، فلا يقال أيهما أتم؛ لأنهما حالتان لا تتم إحداهما إلا بتمام الأخرى، ومن صح افتقاره إلى الله صح اغتناؤه به، فأنت إذا افتقرت إلى الله، اغتنيت به، ولا يمكن أن تغتني به حتى تفتقر إليه"، [المسالك في شرح موطأ مالك: 3/440].
والدين والفقر كلاهما هم عظيم يترتب عليهما مفاسد كثيرة، الدين والفقر ممكن ينتج منها معاصٍ كبيرة، يعني الكذب وإخلاف المواعيد والعياذ بالله، الفقر ممكن يوصل إلى بيع الأعراض الوقوع في الفواحش، وتلك المرأة لما احتاجت إلى المال، وراودها عن نفسها في البداية سلّمت لأجل المال، ولكن قالت: ((اتق الله)) قبل أن يفعل فعلته، لما قعد ليفعل فعلته قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، لكن الشاهد أن الفقر إذا نزل ممكن يؤدي إلى الوقوع في المحرمات، خلاص يعني إذا افتقر يبغى المال بأي طريقة من حرام من رشوة من سرقة من بيع العرض، فقط يبغى مال، تاجر بالمخدرات، أي شيء، ولذلك النبي ﷺ استعاذ من الفقر، ولجأ إلى من بيده مقاليد السموات والأرض، من هو آخذ بناصية كل شيء، والفقر يشتت الذهن، الفقر ممكن يجعل الإنسان مع شدة الجوع يعاني من التخيلات ويضعف حتى عن لا طلب علم ولا تركيز في قراءة ولا تلاوة، إذا صارت هناك شدة فقر وجوع فربما يدخل عليه من أنواع النقص والمعاناة الشيء الكثير، لكن ما مناسبة الحديث للعنوان؟ عنوان موضوعنا الأصلي، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها
نسأل الله أن يهدينا سواء السبيل، وأن يعيذنا به سبحانه من الضلال والغواية والشيطان الرجيم، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.