الخطبة الأولى
الحمد لله الذي جعل جنة الفردوس لعباده نزلا، ويسرهم للأعمال الصالحة الموصلة إليها؛ فلم يتخذوا سواها شغلا، وحفها بالمكاره، وأخرجهم إلى دار الامتحان؛ ليبلوهم أيهم أحسن عملا، وجعل ميعاد دخولها يوم القدوم عليه، وأودعها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وجلاها لهم حتى عاينوها بعين البصيرة التي هي أنفذ من رؤية البصر، والحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة عبده، وابن عبده، وابن أمته، ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله، ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، وحجة على العباد أجمعين، سبحان من شرح للحق صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، أظهره للأمة فدعاها إلى الحق ليلاً ونهاراً إلى أن طلع فجر الإسلام وأشرقت شمس الإيمان، وعلت كلمة الرحمن، وبطلت دعوة الشيطان.
نعيم الجنة
عباد الله: إن ذكر الله للجنة في القرآن وذكر رسوله لدار الكرامة في السنة، إن في ذلك دفعاً عظيماً للمؤمنين، واسترواحاً لقلوبهم وأبدانهم من التعب والنصب في عبادة ربهم في الدنيا، وإذا ذُكرت المكافأة تحمست النفوس للعمل فمن فضله ورحمته أنه ذكر لنا تفصيل الجنة ونعيمها لنتحمس لها، ونصابر ما في الدنيا من أنواع الشهوات من أجلها، وللوصول إليها، وجعلها مخلوقة موجودة.
هي الآن وليست ستخلق بعد نهاية الزمان، وإنما هي فوق السموات موجودة، وإذا مات العبد من أهل الإيمان فإنه يُفرش من الجنان كما قال الرسول ﷺ فينادي منادٍ من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها، إنه ينظر إلى مقعده فيها، فيحمد الله تعالى على ما وفقه إليه، وإن أرواح المؤمنين تتغذى من الجنة، كما قال ﷺ: إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة، يعلق في شجرة الجنة حتى يرجعها الله إلى جسده يوم القيامة[رواه مالك49، والنسائي2073]. رواه مالك والنسائي وهو حديث صحيح.
ومن الأدلة على أن الجنة موجودة، وأنها قد خُلقت بالفعل حديث النبي ﷺ: لما خلق الله تعالى الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال اذهب فانظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، فرجع فقال وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بالجنة فحُفت بالمكاره، فقال فارجع فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال فنظر إليها ثم رجع فقال وعزتك لقد خشيت ألا يدخلها أحد[الحديث رواه ابو دود4744، والنسائي3763، )ولم نعثر عيله في صحيح مسلم كما أورد ذلك فضيلة الشيخ]. رواه مسلم رحمه الله، إن الجنة وهي مخلوقة الآن فإنه يُزاد فيها ويُغرس فيها لأهلها من أعمالهم كما قال ﷺ: لقيت إبراهيم ليلة أُسري بي فقال يا محمد أقرئ أمتك مني السلام، وعليه السلام ورحمة الله وبركاته أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وهي الأرض السهلة المطمئنة المنبسطة، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر[رواه الترمذي3462]. حديث حسن رواه الترمذي، ولذلك أخبر ﷺ بأن: من قال سبحان الله وبحمده غُرست له نخلة في الجنة[رواه الترمذي3464]. حديث حسن صحيح، وكلما ذكر المؤمن ربه؛ غُرس له بذكره أشجار، وغرس في الجنة وكلما دعا ربه بأن يبني له في الجنة بناءً استجاب الله له إذا كان من أهل الإجابة، كما قالت امرأة فرعون رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِسورة التحريم11. ومحال أن يقول قائل لمن بنى بيتاً ابن لي بيتاً، وإنما يقول ابن بيتاً يطلب منه أن يبني له الآن بيتاً، ومن الأدلة على أن الجنة يبنى فيها ويزاد بناءً على عمل العباد حديث النبي ﷺ: من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة[رواه البخاري450، ومسلم533]. متفق عليه، وقال ﷺ: إذا قبض الله ولد العبد قال يا ملك الموت قبضت ولد عبدي قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده قال نعم: قال فما قال؟ قال حمدك واسترجع، قال ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد[رواه أحمد19725، والترمذي1021]. حديث حسن رواه أحمد، والترمذي.
وكذلك حديثه ﷺ: من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة سوى الفريضة وهي السنن الرواتب اثنتان قبل الفجر، وأربع قبل الظهر، واثنتان بعدها، واثنتان بعد المغرب، واثنتان بعد العشاء. بنى الله له بيتاً في الجنة[رواه الترمذي414]. حديث صحيح، فأرضها مخلوقة والذكر ينشئ الله به غراساً في تلك الأرض، وبناء البيوت فيها بالأعمال الصالحة، وكلما وسع العبد في أعمال البر وسع له في الجنة، وكلما عمل خيراً غُرس له هناك غراس وبني له بناء وأنشئت له إنشاءات. أما أبوابها وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَاسورة الزمر73.
أهل الجنة ومنازلهم
إن أهل الجنة إذا جاءوها وهي دار الله ودار كرامته ومحل خواصه وأولياءه يصادفون أبوابها مغلقة، فيرغبون إلى صاحبها، ومالكها، أن يفتحها لهم، ويستشفعون بأولي العزم من الرسل، وتقع الدلالة على محمد خاتمهم ﷺ، فيأتي باب الجنة يستفتح فيُفتح له إظهاراً لمنزلة الرسول ﷺ وكرامته على الله، وهذا أبلغ في تمام النعمة وحصول الفرح والسرور عندما تفتح لهم حتى لا يتوهم الجاهل أنها بمنزلة الخان والفندق والشقق المفروشة كل من جاءها دخلها، وإنما جنة الله غالية، بينها وبين داخلها مفاوز وأخطار وتأمل يا عبد الله: حال أهل الجنة وحال أهل النار عندما يدخلونها زمراً زمرا، فأهل الجنة يدخلونها مع الصالحين زمرا زمرا، أهل الطاعات، وجماعات الخير، والإحسان، والبر، والأعمال الصالحة، المجاهدون فوجا، والذاكرون فوجا، والعلماء فوجا، والدعاة فوجا، الصالحون زمرا زمرا، آخذ بعضهم بأيدي بعض يأتون الجنة ليدخلونها، وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا، جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍسورة ص50-51. إذا فُتحت أبواب الجنة تبقى مفتوحة، وإذا فتحت أبواب جهنم على المعذبين ففاجئهم العذاب يدخلون فيها فتغلق عليهم، إنها عليهم مؤصدة، وأما أهل الجنة فإنها إذا فتحت تبقى الأبواب مفتحة، إشارة إلى تصرفهم وذهابهم ومجيئهم وتبوئهم من الجنة حيث شاؤوا، وتدخل الملائكة عليهم بالتحف، والألطاف من ربهم في كل وقت وحين، ولأنها دار أمن وأمان لا يحتاجون فيها إلى غلق الأبواب كما يحتاج أهل الدنيا إلى غلق أبواب بيوتهم خشية اللصوص، في الجنة ثمانية أبواب باب منها يُسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون لأصحاب الأعمال أبواب كما جاء في الصحيحين عن النبي ﷺ قال: من أنفق زوجينفي شيء من الأشياء أي مثلين من نفس النوع من الثياب أو السلاح أو الدواب أو غيرها في سبيل الله، من أنفق زوجين في شيء من الأشياء في سبيل الله دُعي من أبواب الجنة، يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، غير الفرائض، المكثرون من النوافل أهل الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، غير الزكاة المفروضة، المتصدقون سراً وجهاراً، وليلاً ونهاراً، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على من دُعي من تلك الأبواب من ضرورة؟ فهل يُدعي أحد من تلك الأبواب كلها؟ فقال: نعم، وأرجوا أن تكون منهم[رواه البخاري1897]. وهكذا ينادون من أبوابها بحسب أعمالهم، وفي صحيح مسلم قال ﷺ: ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية كلها، الثمانية يدخل من أي شاء[رواه مسلم234]. زاد الترمذي اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين[رواه الترمذي55].
ومن أيضاً تفتح له أبواب الجنة؟ إنه رجل صبر على مصيبة عظيمة، قال ﷺ: ما من مسلم يتوفى له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث أي البلوغ إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل[رواه ابن ماجه1604]. حديث صحيح، كيف يدخلونها وبأي شيء يستقبلون عند دخولها يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًاسورة مريم85. مكرمين قال علي في الحديث الصحيح عنه الذي له حكم الرفع ولا يقال بالرأي: "يساق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا انتهوا إلى باب من أبوابها وجدوا عنده شجرة يخرج من تحت ساقها عينان تجريان، فعمدوا إلى أحدهما كأنما أمروا بها فشربوا منها فأذهبت ما في بطونهم أذى وقذى وبأس، ثم عمدوا إلى الأخرى فتطهروا منها فجرت عليهم نضرة النعيم. فلن تغير أبشارهم بعدها أبدا. ولن تشعث أشعارهم كأنهم دهنوا بالدهان، ثم انتهوا إلى خزنة الجنة فقالوا: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَسورة الزمر73. ثم تلقاهم الولدان فيطيفون بهم كما يطيف ولدان أهل الدنيا بالحميم يقدم من غيبته، فيقولون أبشر بما أعد الله له من الكرامة، ثم ينطلق غلام من أولئك الولدان إلى بعض أزواجه من الحور العين فيقول قد جاء فلان باسمه الذي يُدعى به في الدنيا فتقول أنت رأيته، فيقول أنا رأيته وهذا وهو ذا بأثري، فيستخف إحداهن الفرح حتى تقوم على أسكفة بابها، العتبة، فإذا انتهى إلى منزله نظر إلى أساس بناءه فإذا جندل اللؤلؤ، الصخرة العظيمة من اللؤلؤ فوق صرح أخضر وأصفر وأحمر ومن كل لون، ثم رفع رأسه فنظر إلى سقفه فإذا مثل البرق، فلولا أن الله قدره له لألم أن يذهب به بصره. لألم أن يذهب ببصره، ثم طأطئ رأسه فنظر إلى أزواجه وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌسورة الغاشية14-16. فنظروا إلى تلك النعمة ثم اتكئوا وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُسورة الأعراف43. ثم ينادي منادٍ تحيون فلا تموتون أبداً، وتقيمون فلا تظعنون أبدا، وتصحون فلا تمرضون أبدا. كيف يدخلون على أي طول وعلى أي خلقة وعلى أي خلق. قال النبي ﷺ: يدخل أهل الجنة الجنة جرداً ليس على أبدانهم شعر، مرداً الذي لم تنبت له لحية، جرداً مرداً بيضاً جعاداً وهو الذي استوى خلقه مكحلين أبناء ثلاثٍ وثلاثين وهم على خلق آدم ستون ذراعاً في عرض سبعة أذرع[رواه أحمد7933]. رواه الإمام أحمد رحمه الله، قال الهيثمي وإسناده حسن وصححه العلامة أحمد شاكر. يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مكحلين أبناء ثلاثٍ وثلاثين طولهم ستون ذراعاً في سبعة أذرع[رواه أحمد7933]. كهيئة أبيهم آدم على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب في السماء إضاءة، أما الأخلاق قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ سورة الحجر47. لا اختلاف بينهم، ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد يسبحون الله بكرة وعشيا.
ذكر ما أعده الله للمؤمنين في الجنة
فإذا دخلوا الضيف إذا دخل دار المضيف لا بد أن يتلقاه بشيء من الضيافة في البداية، فبأي شيء يُتلقون، جاء اليهودي إلى النبي ﷺ يختبره قال له: فما تُحفتهم فيما يدخلون الجنة، قال: زيادة كبد النون، القطعة المنفردة المتعلقة بالكبد وهي ألذ شيء فيه وأطيبه وأفضله، والنون هو الحوت أول ما يُتلقون زيادة كبد الحوت تكفيهم جميعاً ضيافة من الله تعالى، قال اليهودي فما غذاؤهم على إثرها وبعد ذلك قال: يُنحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها، فهو يأكل من أطرافها استعداداً لنحره لأهل الجنة ضيافة من رب العالمين، قال فما شرابهم؟ قال: من عين فيها تسمى سلسبيلا، قال: صدقت[رواه مسلم315]. رواه مسلم رحمه الله.
وهذه الجنة لها رائحة يشعر بها أهلها من بعيد ويتفاوتون في الإحساس بحسب أعمالهم ولذلك ورد أن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما، ومن مسيرة سبعين خريفا، ومن مسيرة مائة عام، كما جاء في الروايات الصحيحة، بحسب حالهم يشعرون ويحسون بالرائحة، وريح الجنة نوعان، ريح يوجد في الدنيا تشمه الأرواح أحياناً لا يدركه من الناس إلا من شاء الله، وريح يُدرك بحاسة الشم للأبدان، كما تشم روائح الأزهار، وهذا يشترك أهل الجنة في إدراكه في الآخرة وأما في الدنيا فقد يدركه من شاء الله من أنبيائه ورسله، وهو الذي وجده أنس بن النضر ، فإنه قد وجد ريح الجنة وهو على أرض معركة أُحد، قبل أن يقتل شهيداً في سبيل الله، أوصله الله إليه فأدركه رائحة حقيقية، غير الرائحة التي تكون في الآخرة التي لا يدركها إلا أهل الجنة، فإذا دخلوها فإن هناك آذان يؤذن ومنادٍ ينادي، فماذا يقول؟ روى مسلم عن النبي ﷺ قال: ينادي منادٍ إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا وذلك قول الله : وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَسورة الأعراف - الآية 43 .[رواه مسلم2837].
أبوابها ذات حِلق يقعقع النبي ﷺحلقة الباب، فيخرج له خازن الجنة يقول من أنت؟ فيقول له يذكر له اسمه، فيقول بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك، أين الجنة أيها الأخوة؟ أين هي الآن؟ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىسورة النجم13-15، ومعروف أن سدرة المنتهى فوق السموات وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ[سورة الذاريات22]. وما توعدون أي الجنة، في السماء إذاً هي. في جهة العلو فوق السموات السبع، عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَىسورة النجم14.
الجنة هنالك وهي درجات، الفردوس أعلاها، إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة[رواه البخاري2790]. رواه البخاري، فالجنة جميعها تحت العرش، والعرش سقف الفردوس، والفردوس أعلى منازل الجنة، يقال لقارئ القرآن: اقرأ وأرقى فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها [رواه الترمذي2914]. قال ابن القيم رحمه الله وهذا يحتمل شيئين، أن تكون منزلته عند آخر حفظه، وأن تكون عند آخر تلاوته لمحفوظه، فبحسب التلاوة للمحفوظ أو بحسب الحفظ يكون الارتقاء في درجات الجنة، لها تربة ولها طينة، روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال قلنا يا رسول الله إذا رأينا رقت قلوبنا وكنا من أهل الآخرة وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشممنا النساء والأولاد، قال: لو تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفكم ولزارتكم في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر الله لهم، قلنا يا رسول الله، حدثنا عن الجنة ما بناؤها، قال: لبنة ذهب ولبنة فضة، وملاطها المسك، والملاط هو الطين وحصباؤها اللؤلؤ، الحصى في الجنة اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران من يدخلها ينعم لا يبأس ويخلد لا يموت لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه[رواه أحمد8043]. فجاء أن ترابها الزعفران وكذلك أنه المسك، فكيف يكون الجمع قال العلماء من زعفران فإذا عُجن بالماء صار مسكاً، وقيل هو زعفران باعتبار اللون مسك باعتبار الرائحة، ولها نور وبياض فالجو في الجنة كيف هو؟ بما أنه لا يوجد شمس ولا قمر فكيف يكون النور في الجنة؟ لقي ابن السماك عبد الله بن عباس بعدما كُف بصره، فقال يا ابن عباس ما أرض الجنة؟ قال مرمرة بيضاء من فضة كأنها مرآة، قلت فما نورها، قال ما رأيت الساعة التي تكون فيها قبل طلوع الشمس، بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس كيف يكون النور فذلك نورها إلا أنه ليس فيها شمس ولا زمهرير، وقد جاء هذا عن ابن عباس بإسناد حسن، ولا يقال مثل هذا من جهة الرأي فهكذا يكون إذاً النور في الجنة، فإذا دخلها أهلها يهتدون إلى منازلهم هداية عظيمة أشد من هدايتهم إلى منازلهم في الدنيا، كما قال تعالى: سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْسورة محمد5-6.مع أنهم ما دخلوها من قبل إلا أنهم إذا دخلوها يتجهون إلى بيوتهم مباشرة دون تضييع، ودون سؤال، وإنما يعرف كل واحد منزله عند دخوله، فيذهب إليه مباشرة، هكذا إذاً، هذا حالها أيها المسلمون: هذا حال أهل الجنة إذا دخلوا الجنة، فماذا فيها من النعيم بعد ذلك؟ شيء عجيب وكثير ولعلنا نأتي على شيء منه في ما يُستقبل بإذن الله.
اللهم إنا نسألك أن تجعل الجنة مثوانا، اللهم اجعل الجنة مثوانا، أدخلنا الجنة بغير حساب، ولا عذاب، اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى، اللهم وفقنا لما يرضيك وباعد بيننا وبين ما لا يرضيك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وافسحوا لإخوانكم يفسح الله لكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، أشهد إلا إله إلا هو الحي القيوم، وأشهد أن رسوله محمداً، ﷺ خاتم الخلق، خاتم الرسل وأفضل الخلق عليه الصلاة والسلام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وذريته وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
من هم أهل الجنة؟
عباد الله: لمن هي الجنة؟ من هم أصحابها؟ قال الله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّاسورة مريم63. هذا هو فقط تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍسورة فصلت 35. قدر السلعة بقدر مشتريها، والثمن المبذول فيها، والمنادي عليها، فإذا كان المشتري عظيماً والثمن خطيراً والمنادي جليلاً كانت السلعة نفسية: إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِسورة التوبة111. اشتر نفسك اليوم فإن السوق قائمة، والثمن موجود، والبضائع رخيصة، وسيأتي على السوق والبضائع يوم لا تصل إليه في قليل ولا كثير. ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِسورة التغابن9. وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِسورة الفرقان27. كيف يكون عاقلاً من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة.
يا واهن العزم أين أنت؟ والطريق تعب فيه آدم، ونصب لأجله نوح، ورُمي في النار الخليل، وأضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونُشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد ﷺ.
تزهى أنت باللهو واللعب هؤلاء الذين لا يتفكرون في قلة مقامهم في الدنيا الفانية، وسرعة رحيلهم إلى الآخرة الباقية، خدعهم طول الأمل وران على قلوبهم سوء العمل، فهممهم في لذات الدنيا وشهوات النفس كيف حصلوها ومن أي وجه لاحت أخذوها، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون، نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.
العجب كل العجب من غفلة من لحظاته معدودة عليه، وكل نفس من أنفاسه لا قيمة له إذا ذهب لا يرجع إليه، فمطايا الليل والنهار تسرع به ولا يتفكر إلى أين يُحمل ويُسار به، ولا يدري إلى أي الدارين يُنقل فإذا نزل به الموت اشتد قلقه لخراب ذاته وذهاب لذاته، حيث لم يقدم لحياته، ولما علم الموفقون ما خُلقوا له، وما أريد بإيجادهم رفعوا رؤوسهم فإذا علم الجنة قد رُفع لهم، فشمروا إليه، وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم فاستقاموا عليه، قد استقاموا عليه وعلموا أن نعيم الدنيا أضغاث أحلام وكطيف زار في المنام مشوب بالنغص، ممزوج بالغصص إذا أضحك قليلاً أبكى كثيراً، وإن سر يوماً أحزن شهوراً فوا عجباً من سفيه آثر الحظ الفاني الخسيس على الحظ الباقي النفيس، وباع جنة عرضها السموات والأرض بأعطان ضيقة آخرها الخراب والبوار، وباع أبكاراً عرباً أتراباً كأنهن الياقوت والمرجان بقذرات دنسات سيئات الأخلاق مسافحات أو متخذات أخدان، وباع حوراً مقصورات في الخيام بخبيثات مسيبات بين الأنام، وباع أنهاراً من خمر لذة للشاربين بشراب نجس مفسد للعقل والدين، وباع لذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم بالتمتع بالنظر إلى الوجه القبيح الذميم. وباع سماع الخطاب من الرحمن بسماع المعازف والغناء والألحان، وباع الجلوس على منابر اللؤلؤ والياقوت والزبرجد يوم المزيد بالجلوس في مجالس الفساق مع كل شيطان مريد، هذه الجنة لا ينالها إلا أهل التقوى، لا تُنال بالتعب سلعة الله غالية.
وما ذاك إلا غيرة إلا أن ينالها | سوى كفؤها والله بالخلق أعلم |
وإن حُجبت عنا بكل كريهة | وحُفت بما يؤذي النفوس ويؤلم |
فلله ما في حشوها من مسرة | وأصناف لذات بها يُتنعم |
ولله برد العيش بين خيامها | وروضاتها والثغر في الأرض يبسم |
ولله أبصار ترى الله جهرة | فلا الضيم يغشاها ولا هي تسأم |
فيا نظرة أهدت إلى الوجه نضرة | أمن بعدها يسلو المحب المتيم |
ولله كم من خيرة إن تبسمت | أضاء لها نور من الفجر أعظم |
فيا لذة الأبصار إن هي أقبلت | ويا لذة الأسماع حين تكلم |
ويا خجلة الغصن الرطيب إذا انثنت | ويا خجلة الفجرين حين تبسم |
فإن كنت ذا قلب عليل بحبها | فلم يبق إلا وصلها لك مرهم |
إذا قابلت جيوش الهموم بوجهها | تولى على أعقابه الجيش يهزم |
فيا خاطب الحسناء إن كنت راغباً | فهذا زمان المهر فهو المقدم |
ولما جرى ماء الشباب بغصنها | تيقن حقاً أنه ليس يهرم |
وكن مبغضاً للخائنات لحبها | فتحظى بها من دونهن وتنعم |
وصم يومك الأدنى لعلك في غد | تفوز بعيد الفطر والناس صوم |
وأقدم ولا تقنع بعيش منغص | فما فاز باللذات من ليس يقدم |
وإن ضاقت عليك الدنيا بأسرها | ولم يك فيها منزل لك يُعلم |
فحي على جنات عدن فإنها | منازلك الأولى وفيها المخيم |
ولكننا سبي العدو فهل ترى | نعود إلى أوطاننا ونسلم |
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى | وشطت به أوطانه فهو مغرم |
وأي اغتراب فوق غربتنا التي | لها أضحت الأعداء فيها تحكم |
وحي على السوق فيه يلتقي | المحبون ذاك السوق للقوم يعلم |
فما شئت خذ منه بلا ثمن له | فقد أسلف التجار فيه وأسلموا |
وحي على يوم المزيد الذي به | زيارة رب العرش فاليوم موسم |
وحي على واد هنالك أفيح | وتربته من أذفر المسك أعظم |
وكثبان مسك قد جعلن مقاعداً | لمن دون أصحاب المنابر يُعلم |
فبينا هم في عيشهم وسرورهم | وأرزاقهم تجري عليهم وتقسم |
إذا هم بنور ساطع أشرقت له | بأقطارها الجنات لا يتوهم |
تجلى لهم رب السموات جهرة | فيضحك فوق العرش ثم يكلم |
سلام عليكم يسمعون جميعهم | بآذانهم تسليمه إذ يسلم |
يقول سلوني ما اشتهيتم فكل ما | تريدون عندي إنني أنا أرحم |
فقالوا جميعاً نحن نسألك الرضى | فأنت الذي تولي الجميل وترحم |
فيعطيهم هذا ويشهد جمعهم | عليه تعالى الله فالله أكرم |
فيا بائعاً هذا ببخس معجل | كأنك لا تدري بلى سوف تعلم |
فإنك لا تدري فتلك مصيبة | وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم |
اللهم إنا نسألك الجنة بحولك، وقوتك، ومنتك، وفضلك يا أرحم الراحمين، اللهم لا تعذبنا؛ فإنك علينا قادر، اللهم إنا نسألك الدرجات العُلى، والنعيم المقيم، والنظر إلى وجهك يوم المزيد، اللهم إنا نسألك المزيد من فضلك، أعتق رقابنا من النار، وعاملنا بلطفك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعلنا من الأبرار، والمتقين الأخيار، اللهم اغفر لموتانا، واشف مرضانا، اللهم ارحم ضعفنا، اللهم اجبر كسرنا، واقض ديننا وانصرنا على عدونا، اللهم إنك بنا راحم فارحمنا أنت أرحم الراحمين، اهدنا سبل السلام وأخرجنا من الظلمات إلى النور، اللهم اجعلنا من أهل طاعتك وباعد بيننا وبين معصيتك، نسألك حب المساكين، اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقربنا إليك، إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءوَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
وقوموا الى صلاتكم...