السبت 13 جمادى الآخرة 1446 هـ :: 14 ديسمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

الشريعة المهيمنة


عناصر المادة
مقدمة
تهذيب الشرع للنفوس وتربيته للمكلف
حاكمية الشريعة في ظل المتغيرات المعاصرة
مناداة أهل الزيغ والضلال بالحرية المطلقة
الإسلام دين حكم شامل لكل مناحي الحياة
مميزات الشريعة الإسلامية عن غيرها
المقاصد والغايات الكلية للشريعة الإسلامية
الشريعة تدعو لمحاسن الأخلاق وتكرّم الإنسان
تخويف المنافقين وتحذيرهم من الشريعة
أمور لا بد منها قبل تطبيق الشريعة

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له ولي المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

مقدمة

00:00:25

أيها الإخوة والأخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله جميعاً، ونحن في هذه المتغيرات والأحداث المتوالية التي تفرض علينا أن ننظر في الكتاب والسنة؛ لنستجلي النظر الشرعي في هذه الأحداث.

وقد كثرت الأطروحات والآراء في مواقع التواصل الاجتماعي، والكلام كثير، وأمور كبيرة يُتعرّض إليها، ينبغي على كل مسلم ومسلمة البحث عن نور الشرع فيها، ماذا جاء في الكتاب والسنة بشأنها.

كثر الكلام، وكثر القيل والقال، وكثرت الأحداث، والقضايا متعددة ومتشعّبة وضخمة.

تهذيب الشرع للنفوس وتربيته للمكلف

00:01:33

والآراء المتفاوتة والمتباينة في هذه القضايا، فمثلاً: تُطرح قضية الحريات والتوحيد، أيهما أولا؟ الحرية أم التوحيد؟ ولا شك في دين الله أن التوحيد أولاً، وأن التوحيد هو الذي يحرر الإنسان من العبوديات، وأن الحرية الحقيقية في التوحيد، وأن الحرية البهيمية ليست مقصودا ًمن مقاصد الشرع إطلاقاً، بل الشرع يهذّب النفوس، ويربِّي المكلّف على مقاومة داعي الهوى، تُطرح قضايا كثيرة وكثيرة جداً، ومن ذلك أن ترى بعض الناس كلامهم يدور على التمرد عموماً، على المجتمع، وعلى السائد، وعلى الأعراف، وعلى الوالدين... التمرُّد عموماً.

وترى أن نتيجة هذا هو الفوضى، والذي يستطيع أن يفرق فيهم بين التمرُّد وبين إنكار المنكر ورد الظلم قليل؛ لأن التمييز بين قضية التمرُّد والفوضى وبين إنكار المنكر ورد الظلم، هذا يحتاج إلى إيمان، وعلم، وحكمة.

ومن الذي عنده هذا؟ إلا من أراد الله به خيراً فتح عليه.
والناس يتفاوتون، حتى من عنده من هذه الثلاثة، فقد قسم الله بين العباد أنصبتهم منها كما قسم بينهم أرزاقهم، وبعضهم عنده زيادة في الإيمان وقلة في الحكمة، وبعضهم عنده زيادة في العلم وقلة في العمل أو الإيمان، وبعضهم عنده من هذا ومن هذا ومن هذا نصيب وافر، وبعضهم ليس عنده منها شيء، وبعضهم عنده قليل من هذا وقليل من هذا، فهم يتفاوتون.

حاكمية الشريعة في ظل المتغيرات المعاصرة

00:03:49

عندما صارت التغيرات في العالم العربي طُرحت بقوة قضية الشريعة، وما هو مصدر الشرعية؟

فبعضهم يقول: الشارع مصدر الشرعية، الميدان مصدر الشرعية.

سبحان الله، أين ثوابتنا؟ كيف يصبح الشارع والميدان مصدر الشرعية مع أن الكتاب والسنة هما مصدر الشرعية؟

وإذا كان الشارع والميدان يقاوم ظلماً فلا يعني أن الشارع والميدان مصدر الشرعية، فأين إذن العلماء؟ وأين أهل الحل والعقد؟ صارت هناك أمور تضيع، قضايا تضيع، صار الناس مثلاً بعضهم لا يفرق بين الديمقراطية والشورى، ولا يعرف ما هي حقيقة هذه وهذه.

موضوع الشريعة والشرعية يحتاج إلى بسط ويحتاج إلى فهم ويحتاج إلى حسن عرض، حتى نستطيع أن نفهم هذه القضية الخطيرة.

الله أنزل شريعته لكي تكون حاكمة ومهيمنة على الفرد، على المجتمع كله، في كافة الشؤون؛ الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية، الفردية، الجماعية.

قال تعالى:  وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ [المائدة: 48]. 

فجعل الله كتابه القرآن آخر الكتب وأشملها وأعظمها وأحكمها، وفيه محاسن ما قبله وزيادة، وناسخاً لها كلها.

هذه الصورة الأخيرة لدين الله، هذا المرجع الأخير الذي أنزله الله إلى البشر يبقى هكذا بلا تعديل ولا تبديل ولا تغيير، هو كامل وهو أعظم رسالة وأحسن وأشمل وأكمل شريعة.

ولذلك كان الإسلام ديناً ودولة، كان الإسلام مصحفاً وقوة، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ  [النور: 55].

فإذن، ليست القضية مجرد عبادات فردية، هناك شريعة يجب أن تحكم، والله جعل التمكين لأجل التحكيم  الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ  [الحج: 41].

فالمسألة ما فيها خيارات، وهنالك الآن في هذه البلدان حركات وأحزاب وأشياء كثيرة تحدث، الذي يهمنا منها أنه لا بد أن يكون هناك تحكيم للشريعة وهذا هو قمة ما يصل إليه البشر في حركتهم، أن يحكموا أمر الله في الواقع.

وأكثر الواجبات لا يمكن أداؤها إلا في ظل قوة تسند الشريعة وتحكم بها.

والنبي ﷺ سعى لهذا، وصبر في مكة 13 سنة، صبر هذه المدة الطويلة، 13 عاماً يدعو القبائل، يصبر على الأذى، يتنقل بين الناس، يعرض عليهم، وفي مواسم الحج سرا ًوجهراً وليلاً ونهاراً.

عرض على بني شيبان فقال له سيدهم مثنى بن الحارثة: "لقد سمعتُ مقالتك يا أخا قريش، وإنما نزلنا -يعني في مكاننا  في العراق - على عهد أخذه علينا كسرى، لا نحدث، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعو إليه مما تكرهه الملوك، فإن أحببتَ أن نؤييك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا" [السيرة النبوية لابن كثير: 2/168].

فأدرك بنو شيبان أن هذا الدين كثير من الناس لا يرضون به، يخالف أهواءهم، وأدركوا أن هذا الدين ليس عبارة عن مجموعة أخلاق، أو عبادات خاصة بين العبد والرب فقط، لا، هذا دين مهيمن، هذه شريعة ما تترك جانباً إلا وتدخل فيه، هذا شيء يمكن أن لا يعجب كثير من أهل الأهواء والرغبات.

والنبي ﷺ أراد ليس فقط مأوى، وليست فقط حماية شخصية، وليس فقط أن يُصان أهله أو عرضه، لا، آتي أنا والشريعة، ليس أنا فقط، أنا ما أبحث عن مجرد مأوى، أنا معي دين لا بد أن يُحكّم في الواقع.

ولذلك لما جاء في حديث جابر "يا رسول الله علامَ نبايعك؟"
قال:  تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمتُ عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم  وقد أدرك هذا الأنصار فقام أسعد بن زرارة وقال: "رويداً يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله ﷺ، وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضّكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم جبناً فبينوا ذلك، فهو عذر لكم عند الله" قالوا: أمِط عنا يا سعد فو الله لا ندع هذه البيعة أبداً، ولا نسلبها أبداً، فقمنا إليه فبايعناه". [رواه أحمد: 14456، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 63].

النبي ﷺ كان واضحاً وعلى هذا الأساس هاجر، وعلى هذا الأساس أقام دولة الإسلام، فهذا دين ودولة، عبادة وقيادة، ثقافة وحكم، روح ومادة، دنيا وآخرة، القضية فيها قضية مصيرية.

بادر الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- بعد النبي ﷺ إلى نشر الدين وإقامته في الأرض، والذي يأبى قوتل، وفُتحت البلدان عَنوة، وبعضها صلحاً، وكان الهدف هو إقامة دين الله في الأرض.

والله قال: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [الحديد: 25]. فالحديد ينصر الكتاب، والصحابة عن بكرة أبيهم متفقون أنه لا بد أن يقوم الإمام الذي ينصر الدين ويقيم الشريعة، ويحكم بالقسط، وأن هذه الولاية من أعظم واجبات الدين، وأن هذه ضرورة لإقامة الشريعة، وأن هذه الولايات العامة من أشرف الواجبات الشرعية، كما قال العز بن عبد السلام -رحمه الله-: " الولايات من أفضل الطاعات، فإن الولاة المقسطين أعظم أجراً وأجلّ قدراً من غيرهم، لكثرة ما يجري على أيديهم، من إقامة الحق ودرء الباطل، فإن أحدهم يقول الكلمة الواحدة -يعني من الخير- فيدفع الله بها مائة ألف مظلمة، فما دونها، أو يجلب بها مائة ألف مصلحة، فما دونها" [قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1/142].

ولذلك أول واحد في السبعة الذين يظلهم الله: إمام عادل [رواه البخاري: 1423، ومسلم: 1031].  

إذن، هذه الشريعة ما أنزلها الله لتكون مجرد ثقافة، ما أنزل الله الشريعة لتكون مجرد مواد تُدرس في الجامعات، ما أنزل الله الشريعة لمجرد أن تكون موضوعات في أطروحات الرسائل الجامعية، أو مجالاً للباحثين عموماً فقط، لا، أنزلها الله لتحكم بين الناس؛ لأن السماوات والأرض لا تصلح إلا بهذه الشريعة، وخلاف هذه الشريعة يفسد في الأرض، فالناس ليس لهم خيار إذا أرادوا حياة كريمة إلا هذه الشريعة.

مناداة أهل الزيغ والضلال بالحرية المطلقة

00:13:32

ولذلك عندما يأتي بعض الناس مثلاً يقولون: نحن ننادي بالحريات والحريات المطلقة، ونريد الحريات فقط، الحريات الحريات، الحرية المطلقة تؤدي إلى مخالفة الشريعة، ولو قيل: العلاقة بين الجنسين حرية مطلقة، أين الظلم؟ انتهى راضيان، نقول: التعاسة والشقاء والظلم على ابن الحرام الذي سيخرج، وكيف سيعيش؟ يضيع نسبُه، تضيع نفقته، يضيع شمله الأُسري، تضيع تربيته، إطلاق الحريات في العلاقات بين الجنسين يؤدي إلى شيوع الظلم الذي سيحدث في الأرض، وشقاء العباد في شيوع الأمراض الجنسية، ضياع الذمة والضمير، وضياع الأخلاق، هذه أيضاً مجموعة من الظلمات ظلم عظيم يقع على البشرية لو كان فيه حريات مطلقة، الشريعة ما تحكم في الأموال ماذا سيحدث في الحريات المطلقة في الأموال؟ هذا يريد أن يرابي، فسيحدث ظلم عظيم على الناس في الربا، سيقترضون وتصبح عليهم الفوائد مركبة، ولا يستطيعون الدفع، فتؤخذ من مصانعهم ومزارعهم وبيوتهم، وسيارتهم تُسحب منهم، يُلقَون، سيصبح المال دولة بين الأغنياء ستصبح هناك طبقية مقيتة.

فإذن، الشريعة مهمة جداً، وبدون شريعة البشر سيعيشون في ظلم عظيم في الغرب أو في الشرق، في ظلم عظيم.

فإذن، لا بد أن تكون هناك سيادة للشريعة، ويد عليا، وتحكيم شامل، ومصدر الشريعة هو الله ،  لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23]  لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد: 41]. وقال: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54]. فكما تفرد بالخلق تفرد بالأمر وهو المشرع وهو الحكم بين العباد، وقد دلّ على تفرُّد الشارع بالسيادة، وأنه المصدر الوحيد لما يكون بين البشر من الأحكام، أدلة كثيرة دلّ عليها اسمه تعالى: "الحكم" من أعظم أسماء الله: "الحكم" إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام: 57]. فالحكم لله العلي الكبير،  أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين: 8].  أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ  [المائدة: 50]. ويقول ﷺ: إن الله هو الحكم، وإليه الحكم [رواه أبو داود: 4955، والنسائي في السنن الكبرى: 5907، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 1845]. إذن،  إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام: 57]. يعني: ما الحكم إلا لله، يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام: 57]. فتفرّد الله تعالى بالحكم بين العباد، ومن أراد أن يحكم بين العباد على غير شريعته تعالى، أو أن يشرّع للناس، أو يقنّن لهم قوانين من عنده، فقد نازع الله التفرّد، مثل من ينازعه الكبرياء ومن ينازعه العظمة، ومن ينازعه الحكم، أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21]. هذا تجاوز لحدود العبودية خطير جداً، ومشاركة الله في الحكم مرفوضة، قال تعالى: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف: 26]. وفي قراءة ابن عامر من السبعة: وَلَا تُشْرِك فِي حُكْمِهِ أَحَدًا بصيغة النهي، والتشريع والتحليل والتحريم من خصائص الألوهية.

ولذلك النبي ﷺ قال لعدي بن حاتم لما رأى في عنقه صليباً من ذهب: يا عَدي ألق عنك هذا الوثن  قال عدي: "وسمعته يقرأ في سورة براءة:  اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31].

فقلت: "يا رسول الله إنا لم نتخذهم أرباباً"، ما نصلي له نضعه أمامنا ونعبده.

قال: بلى، أليس يُحلّون لكم ما حُرّم عليكم فتحلونه، -تتبعونهم- ويُحرِّمون عليكم ما أحلّ الله لكم فتحرِّمونه فقلت: "بلى" يعني هذا حقيقة، اعترف قال: تلك عبادتهم  [رواه الترمذي: 3095، والطبراني في الكبير: 218، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي: 3095].  

إذن، طاعة البشر في التحليل والتحريم على خلاف شرع الله هذه عبادة، هذه صرف عبادة لغير الله.

ثانياً: النصوص توجب التحاكم إلى شريعة الله في كل صغيرة وكبيرة، فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء: 59]. فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ  [المائدة: 48].  وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى: 10] اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف: 3].  لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات: 1].

ثالثاً: نصوص تتوعد وتحرّم التحاكم إلى غير ما أنزل الله، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا  [الأحزاب: 36].

 وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ، و: هُمُ الظَّالِمُونَ  و  هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة: 44-47].  فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ  [النساء: 65]..

فإذن، الإسلام يتضمن الاستسلام لله ، والمتمرّد على أحكام الله ليس بمسلم، المنازع له في حق التحليل والتحريم والحكم، فقد جاءت الشريعة بالوعيد على من خالف.

فالسيادة عندنا للشرع، السيادة عند الغربيين للأمة، السيادة للشعب، السيادة للميدان، السيادة للشارع، السيادة للأكثرية، هذا كفر، في الدين الإسلامي السيادة للشرع، الله هو السيد، وهو الذي يشرع .

فالثورة الفرنسية نقلت السيادة من الإمبراطور الحاكم إلى الشعب، يعني نقلته من واحد إلى مجموعة فقط، ما نقلته من الأرض إلى السماء، ما نقلت هذه الثورة الفرنسية، ما نقلت حق الحكم من البشر إلى الله، وإنما نقلته من بشر إلى بشر، لكن كان قبل الثورة الفرنسية استبداد فرد، أو الكنيسة، حصل بعد ذلك تصويت، الحكم للأكثرية، الذي يتفق عليه الأكثرية يمضي، هو القانون، هذا ليس هو التوحيد، هذا ليس هو الحق، هذا ليس هو الدين الذي شرعه الله.

والمشكلة اليوم أن كثيراً من المفتونين يريدون هذا، يقولون: السيادة للشعب، السيادة للأغلبية، السيادة للشارع، السيادة للميدان، الميدان مصدر الشرعية، الشارع مصدر الشرعية.

لا يا جماعة!!، نحن مسلمون، السيادة للشرع، نحن ننفذ ما شرعه الله لنا، فالاعتراض من يشرع للناس ما لم يأذن به الله، الاعتراض على من يعطّل حكم الله، الاعتراض على من يحابي ويداهن في تنفيذ الأحكام الشرعية، هذا اعتراضنا، وهذه المسألة من فقهها وفهمها عرف كثيراً من الباطل الموجود فيما يُطرح الآن في مواقع التويتر وغيرها، هذا هو مناط القضية، السيادة في الإسلام لله   وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة: 49]. التشريع لله ، ولو اجتمع كل البشر على شيء يخالف ما أنزل الله صاروا في ضلال مبين، ولذلك الأكثرية قد ترضى بأحكام مخالفة للشريعة، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام: 116]. وعندما يقارن الناس بين ظلم واستبداد، وبين ديمقراطية فيها شيء من الحرية، ويقولون: أليست هذه أحسن؟

نقول: لا هذه ولا هذه، نريد الكتاب والسنة.

ونحن طموحنا أن ننتقل فقط من الاستبداد والظلم إلى الديمقراطية؟ هذا طموحنا؟ هذا كل الذي نحيا من أجله ونتحرك ونعيش من أجل أن ننتقل إلى الديمقراطية التي فيها حكم الأكثرية والتشريع للأكثرية والتشريع للأغلبية؟

هذا كل الذي نريد؟ هذا كل مبتغانا الآن؟ لا!

وما الحكمة من الانتقال من الاستبداد والظلم إلى الديمقراطية الغربية التي هي أحسن من الاستبداد والظلم مثلما تقول مثلاً: إن الزنا أحسن من اللواط! أو مثلاً: الخمر أحسن من المخدرات، ما القيمة؟

هذا كفر وهذا كفر، وهذا حرام وهذا حرام، لذلك ينبغي للمسلم أن يكون واضحاً ويقول: أنا ليس مقصودي ولا همتي في قضية الرضا بشيء من الحرية الموجودة في الديمقراطية، لا.

تتمثل مصادر الشريعة في المنهج الإسلامي في الكتاب والسنة، ويجب أن يكون هذا هو إرادة الأمة وإرادة الناس، سيادة الشريعة، شريعة الله -سبحانه وتعالى-.

ويترتب على جعل السيادة للشريعة أمور كثيرة فمن ذلك: أن تكون الشريعة مهيمنة، وكل مواد الدستور وكل القوانين لا يصح أن تخالف الشرع، فليس الإسلام مصدراً أساسياً للتشريع، يعني هناك مصادر أخرى... لا، وليس فقط أن تكون مواد الدستور لا تخالف الشريعة؛ لأنه قد يكون هناك أحكام شرعية ليست موجودة في الدستور، فيمكن أن يعدوا دستوراً لا يخالف الشرع، لكنه ليس هو الشرع كله.

هناك فرق بين مواد تخالف، وبين مواد ليست مذكورة أصلاً.

ولذلك عندما تقول: دستوري هو الكتاب والسنة، إذن، مهيمن، وشامل، وكامل.

وقضية أن تُجعل أحكام الكتاب والسنة مثل المواد، وتُكتب فقرات، وتُجعل بصيغة يأخذها القضاة في محاكم، هذه مسألة اجتهادية، لكن في النهاية الكتاب والسنة، الحكم للكتاب والسنة.

إذا كان القاضي مجتهداً من الكتاب والسنة مباشرة، ما يحتاج إلى دستور وقوانين مكتوبة، يجتهد من الكتاب والسنة، وإذا كان غير مؤهل لا مانع أن يجعل له دستور من الكتاب والسنة فيه تفصيل، فيه تسهيل، تبويب، ترتيب لمن لا يستطيع الاجتهاد، لكن من كان قادرا ًعلى الاجتهاد لا يحتاج إلى هذا أصلاً، هو سيحكم بالشريعة  لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء: 105]. ثم إن الشريعة لا تحتاج إلى مواد أخرى أو إضافات أخرى، هي وحدها كافية.

فمثلاً عندما يقول لك الشرع: الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما دلّ الدليل على تحريمه، ماذا تريد أنت؟ ماذا يمكن أن تتخيل، الأشياء التي نحتاج إليها ليست موجودة في هذه المادة من مواد الشريعة أو هذه القاعدة من قواعد الشريعة، الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه.

تريد قانون مرور؟ قانون زراعة؟ ما هو الشيء الذي تحتاجه والشريعة لا تتسع له؟ لا يوجد.

الإسلام دين حكم شامل لكل مناحي الحياة

00:27:57

ويجب أن تكون هذه الشريعة ليست مجرد دستورا ًمكتوبا ًغير منفذ أو مجلدا ًمن المجلدات في الرف.

لقد صارت محاولات لكتابة قانون أو دستور، مثلاً مجلة الأحكام العدلية، المستمدة من المذهب الحنفي، المستمد من الكتاب والسنة في الأصل، لكن إذا ما طُبِّق ما هي الفائدة؟ الشريعة تلزم الناس بأحكامها رضي من رضي، وسخط من سخط، وليست حبراً على ورقة.

الشريعة ليست مجرد قيم جميلة وأشياء أخلاقية وآداب بين الناس، لا، فيها حرام وحلال، فيها حق،  فيها إلزام، فيها إيجاب، فيها منع.

كذلك الشريعة ليس معناها: تقديس الرجال، فالقاضي ليس هو الشريعة، القاضي ليس هو الكتاب والسُّنة، القاضي يجتهد لاستخراج الحكم من الكتاب والسُّنة في القضية التي ينظرها، قد يصيب وقد يخطئ، القاضي ليس هو الشرع الذي أنزله الله من السماء، ولذلك لا تقديس للأشخاص بمعنى العصمة، هذا ليس عند أهل السنة، العصمة للبشر من الحكام والقضاة ليس عند أهل السنة.

أهل السنة لا معصوم عندهم إلا محمد ﷺ؛ لأن الشريعة جاءت من طريقه.

وكل قاضٍ يحكم في الشرع، كل حاكم ينفّذ، هو ليس نائبا ًعن الله، وإنما ينفذ أمر الله، عبد لله، ينوب عن الأمة في تطبيق شرع الله.

فإذن، المخاطب في الشرع هم عموم الأمة، وإنما كان منهم قضاة، وكان منهم حكام لضبط الأشياء وإقامة الشرع، وتبيينه، ومعرفته، والإلزام به، وحمل الناس عليه، والحكم به.

مميزات الشريعة الإسلامية عن غيرها

00:30:21

ما هي مميزات الشريعة الإسلامية؟ لماذا كل هذه المطالبة وهذا التعظيم للأمر؟

أولاً: لأن إلهية المصدر، فليست من صناعة إنسان، مثل القوانين الوضعية والفلسفات الأرضية، شريعتنا من خالقنا مستمدة، وليست من أذهان البشر، لا الفيلسوف الفلاني، ولا المفكّر العلاني.

 إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ [الأعراف: 194].

ثانياً: الشريعة معصومة من الخطأ والزلل؛ لأنها من عند الله، لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [طه: 52]،  كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1].

وهذا -حكم الله- لا يدخله خلل، سواء كان حكمه الشرعي، أو الجزائي، أو القدري.

حكم الله الشرعي يعني: التحليل والتحريم، ليس فيه خلل، وحكم الله القدري؛ أن يُقتل فلان، يمرض فلان، أن يموت فلان، أن يحدث كذا، لا يدخله خلل، وحكم الله الجزائي في الآخرة، هذا في الجنة وهذا في النار، لا يدخله خلل.

فإذن، ليس فيها انحراف ولا فيها ظلم ولا فيها خطأ، ولا فيها خلل، هذا الحكم الإلهي سواء كان حكماً شرعياً أو قدرياً أو جزائياً متقن لا يتطرق إليه الخلل ولا الخطأ ولا النقص -سبحانه وتعالى- منزل من عنده الشريعة معصومة أما اجتهادات البشر معرضة للخطأ، ولذلك قال: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر  [رواه البخاري: 7352، ومسلم: 1716].

ولذلك يسوغ الاعتراض على حكم القاضي إذا أخطأ وينظر فيها قضاة آخرون.

ثم الشريعة ملزمة في السر والعلن، والله يعلم السر وأخفى ونحن مطالبون بتطبيق الشريعة على جميع المستويات، مفهوم تحكيم الشرع ممكن يطبقه رب الأسرة في البيت، والمدير في المدرسة، والدائرة والمؤسسة والشركة، الشريعة ممكن يطبقها أعضاء مجلس الإدارة، رئيس مجلس الإدارة، الشريعة ممكن أن يطبقها أي مسؤول تحته ناس ويجب أن يُبث هذا المفهوم، أنت أيها الأب، تطبّق شرع الله في بيتك، أنت أيها المدير تطبّق شرع الله في مؤسستك،  أنت أيها المسؤول تطبّق شرع الله في دائرتك؛ لأن لله أحكام أنت قادر على تطبيقها شرع الله عالمي كامل شامل تام ليس فيه نقص  الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: 3]. نجد أن هذا الشرع صالح لكل زمان ومكان، مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ  [الأنعام: 38].

ثم إننا نجد أن الشريعة مشتملة على كل مصالح العباد، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9].

مبنى الشريعة على الحكم  ومصالح العباد  في المعاش والمعاد فهي كما قال ابن القيم: "عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها" بخلاف القوانين الأرضية، تصيب وتخيب، وتصلح وتفسد، وتصلح لزمن ولا تصلح لآخر.

الشريعة رحمة ويُسر، على خلاف ما يتهمه بها العلمانيون والمتفرنجون، والمنافقون والمتابعون لأعداء الدين،  يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185]  بُعثتُ بالحنيفية السمحة 

الشريعة واقعية ومثالية لا إفراط فيها ولا تفريط، مثالية يعني تشتمل على كل القيم النافعة وأرقى المبادئ،  إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ  [النحل: 90].

وهي واقعية بمعنى أنها تتعامل مع جميع قضايا المجتمع تصلح بها كل الانحرافات، تُطبّق فتزيل كل أنواع الظلم، تُعمّم فتعالج كل الأمراض، وكل خلل اجتماعي، أو أي نوع من الأنواع، فالشريعة تصلحه، طبّق الشرع الكل يرتاح، طبّق الشرع الكل يكون مستفيداً ومسروراً، وتتحقق للجميع كل الأشياء، السعادة الحقيقية للجميع، ليست فقط لطبقة معينة، لا، للجميع.

 

كذلك فيها مراعاة لفطرة الناس أحوال الناس، إذا أردت حلاً لمشكلة الفقر يوجد في الشريعة، إذا أردت حلاً لمشكلة التفكك الاجتماعي يوجد في الشريعة، إذا أردت حلاً لمشكلة الطبقية وأن يتعادل المجتمع في طبقاته ووجود الغنى الفاحش وهذا الفقر المدقع، يوجد في الشريعة، تريد تحل البطالة والكسل يوجد في الشريعة، تريد أن تحل مشكلة التسوُّل يوجد في الشريعة، وهكذا الشرع فيه علاج لمشكلة الإسكان ومشكلة التضخُّم ومشكلة ارتفاع الأسعار، الشرع فيه حل لمشكلة المخدرات، مشكلة السرعة القاتلة.

الناس دائما يركزون على الخلل الدنيوي، الشرع يعالج الخلل الدنيوي والانحرافات الدينية عند الناس؛ بدع، ضلالات، معاصٍ بين العبد والرب.

كذلك الشريعة تخاطب العقل والعاطفة معاً؛ يعني تجد فيها مثلا أدلة وبراهين مقنعة حتى يقرأها كافر منصف يعترف  إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ  [المائدة: 91].

هذا الكافر المنصف يراها من خلال الأبحاث والدراسات، وليست الشريعة فقط إقناعاً عقلياً، لا، هي تخاطب الوجدان والعاطفة فتأتي أحكام بعدها تذكير وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ  [البقرة: 281] الشريعة تجد آيات الأحكام تنتهي بنهايات فيها وعظ للعباد فيها استثارة للعاطفة وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور: 22]. فيها استثارات للعواطف موجهة لما يضاعف أجر صاحبها ويدخله الجنة، الشريعة تجمع بين الثبات والمرونة، فأحكامها مبنية على أصول ثابتة لا تتغير،  وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ  [الكهف: 27]. لكن هناك مرونة فتقول: الحكم يرتبط بعلّته وجوداً وعدماً، فإذا وُجدت العلة وجد الحكم، وإذا انتفت العلّة انتفى الحكم.

مثال على مرونة الشريعة:  خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف  الزوج البخيل ما هو الحكم شرعاً بالنسبة لزوجته؟

الحكم شرعاً عند الله: أنه يجوز لها إذا ما أعطاها نفقتها الشرعية، طعام، ملبس لا بد منه لها ولأولادها، قال:  خذي ما يكفيكِ وولدكِ  انظر المرونة ((بالمعروف)).

وهذا يتفاوت، البدوية غير الحضرية، وهذا الزمن غير هذا الزمن.

البلد هذه مصروف ما يكفي غير هذه البلد، هذه مرونة، وما تحتاج المسألة إلى تفاصيل ومواد كثيرة وقوانين كثيرة، لا.  خذي ما يكفيكِ وولدكِ بالمعروف فكلمة "بالمعروف" هذه كلمة واحدة، لكن تشمل السكان في البادية، وفي الحضر، وفي أمريكا وأوروبا، وفي الأدغال! وفي الصحاري وفي المدن وفي القرن الخامس عشر، وفي القرن العاشر، وفي القرن الثالث، ((بالمعروف)) ما تعارف عليه الناس، يعني أكيد أن ريالاً ما يكفيها عُرفاً، وأكيد أن المليون زائد عن حاجتها... ((بالمعروف)) [رواه البخاري: 5364].

كذلك نجد مثلاً أن التعزير واسع، متروك للقاضي يقدّر على حسب الجريمة.

هناك زنا مع اختطاف، وهناك زنا بدون اختطاف... مثلاً!
هناك سلْب مال أُخذ بطريقة أشنع، صاحب هذه الجريمة ترويع، وهذه خِفية، وهذه إرعاباً.

التعزير هنا مرن، هناك أشياء ليس فيها حد، ما وصلت للزنا، وهناك معاكسة هاتفية، وهناك قبلة وضم، هناك ما هو أكثر من ذلك، لكن ما يصل إلى الزنا فالقاضي يعزّر، يسجن، كم يغرّم؟ كم يجلد؟ متروك له.

هذا يروّج أفلاماً إباحية، هذا فقط أعطاها لواحد، هذا يبيع، هذا...
هذه المرونة في التعزير بحسب الجريمة وظروف الجريمة، هذه مرونة عظيمة في الشريعة.

المقاصد والغايات الكلية للشريعة الإسلامية

00:42:01

هناك مقاصد وغايات في الشريعة عظيمة لا تصل إليها القوانين الأرضية.
أولاً: تحقيق عبودية الله -عز وجل- التي من أجلها خلق الخلق.

أنت عندما تحكم بشرعه وتنفذ شرعه، وعندما تلجأ لشرعه، وإذا تخاصمنا نريد تحكيم شرعه، وعندما نذعن لشرعه هذه عبادة، يعني عندما نقول: سنذهب للشرع، هذا التحاكم عبادة، عرفنا الحكم الشرعي، نذعن هذه عبادة، فالشرع يريد تعبيد الناس لله بتحكيم الشرع فيهم.

القوانين الأرضية تفعل هذا؟ القوانين تعبّد الناس لله؟ إذا التزموا القانون الفرنسي أو الإيطالي أو السويسري، يتقربون إلى الله ويشعرون أن هذا حكم الله، ونحن الآن نطيع الله، ونحن الآن نلجأ إلى الله في الحكم، ونحن الآن نتواضع لحكمه، ونحن لا نعترض عليه، فهذه عبادات ونأخذ أجر عليها؟ لا.

ثم إقامة الدين في الأرض وحراسة هذا الدين،  أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13].
إذن،  شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا  ثم قال:  أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ .

أقيموا الدين، أقيموا هذه الأحكام، لا تتفرقوا عنها، لا اعتراضات ولا تخلّي.

الشرع يهدف إلى تحقيق العدل بين الناس، لذلك ربعي بن عامر لخّص لقائد الفرس، قال: "جاء بنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"[البداية والنهاية: 7/39].

إذن، أنزل الله الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، تحقيق هذا العدل، والذي يعاند يردع بالحديد وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد: 25].

كذلك الشريعة تريد إصلاح الدنيا والآخرة؛ لأن بعض الناس عندهم طرح علماني يقول: الشريعة ماذا تصلح لك ؟ الشريعة تصلح لك: الصيام والصلاة والحج، لكن الشريعة ما تصلح لنا أمور التقنية ونظام اجتماعي ونظام اقتصادي ونظام سياسي، ونظام مرور، ونظام إسعافات، ونظام دفاع مدني، ونظام، الشرع ليس فيه هذا الكلام.

هكذا يطرحون بكل وقاحة وجرأة، مع أننا لو أردنا أن نأخذ كل شيء صحيح في هذه الأنظمة، سنجد أن الشرع جاء به، يعني أنت لو أخذتَ مثلاً قاعدة: ((لا ضرر ولا ضرار)) [رواه أحمد: 2865، وابن ماجه: 2341، والطبراني في الكبير: 1387، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 7517]. فقط كم قانون مرور ستخرج منها، وكم قانون دفاع مدني ستخرج منها؟ وكم قانون...

يعني الحمد لله الشريعة غنية جداً.

قال العز بن عبد السلام: "من مارس الشريعة وفهم مقاصد الكتاب والسُّنة علم أن جميع ما أمر به إنما أمر به لجلب مصلحة أو مصالح، أو لدرء مفسدة أو مفاسد" [الفوائد في اختصار المقاصد: 53].

وكذلك جميع ما نهي عنه في الشرع إنما نهي عنه لدفع مفسدة أو مفاسد أو جلب مصلحة أو مصالح.

الشريعة تدعو لمحاسن الأخلاق وتكرّم الإنسان

00:46:04

خامساً: الشريعة تنشر محاسن الأخلاق، الشريعة ليست فقط: حلال، حرام، لا، الشرع أيضاً يعظ، الشرع يخلّق بالأخلاق الراقية، الشرع يؤدّب بالآداب الحكيمة المرعية الجميلة الحسنة.

سادساً: الشريعة تكرم آدمية الإنسان، وما يبحث عنه بعض الناس في كتابات ومنشورات في التويتر، يبحثون عن أشياء، وإذا جئتَ بالتوحيد ذهبوا يمنة، وإذا جئتَ بالشرع ذهبوا يسرة، يا أخي أنتم تبحثون عن ماذا؟

ماذا تريدون من الأشياء؟ تريدون العدل، أو تريدون التقدُّم الدنيوي؟ أو تريدون سد الحاجات المادية؟ تريد سدّ حاجة الناس في الوظائف، في الزراعة، في الطعام، في اللباس، في العمل، في الأعمال، في الأمن الاجتماعي، الأمن الوظيفي، كل هذا موجود في الشرع، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ [الإسراء: 70]. سخر الله لهم البحر، وسخر لهم المراكب، وهذه الفلك  وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ [فاطر: 12].

الفلك كالجبال، هذه التجارة الدولية، هذه السلع تنقل بضائع الناس، وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ    فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ  [الشورى: 32]، انظر هذه السفن العظيمة سخرها الله لنا، لمن سخرها؟ والنجوم هذه لمصلحتنا، نعرف الاتجاهات، الله أعطانا مناظر جميلة، وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ  [الرعد: 4]. و حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا [النمل: 60].  حُبّب إليّ من دنياكم الطيب والنساء  [رواه أحمد: 3940، والنسائي: 3940، والحاكم في المستدرك: 2676، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 3124].

وبين الزوجة والزوج، سكينة مودة ورحمة، هي تستفيد وهو يستفيد.

جاء الشرع لتلبية رغباتنا بالحلال الطيب، أي رغبة طيبة ملبّاة في الشرع، الشرع يكفلها ويوفرها لك، ويقول لك: هذه حلال وهذه زلال. كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا  [البقرة: 168].
يعني أنا ممكن أملك أرضاً ممكن آكل التراب تبعها؟ هذا التراب ترابي! أنا ما سرقته، لكنه غير طيب، صار حلالاً لكنه غير طيب، فلا بد يكون حلالاً طيباً.

فالشريعة جاءت لفوائدنا الصحية، والوظيفية، والاجتماعية، والمالية، والاقتصادية، جاءت الشريعة لمصلحتنا، حتى مصالحنا النفسية موجودة في الشريعة، مباهجنا، لذاتنا موجودة في الشريعة.

من مقاصد الشريعة هذه تحقيق الأمن والأمان للناس، من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه [رواه الترمذي: 2346، وحسّنه الألباني في صحيح لجامع الصغير وزيادته: 6042].

يا أخي الشرع فيه أُعطيات من بيت المال للناس، توزّع عليهم، هذا حق لهم، يُعطون، وتفريغ العلماء والمفتين والقضاة والمعلمين، أشياء كثيرة لو نظرنا في الشرع، الأوقاف في الشريعة الإسلامية وماذا فعل المسلمون في الأوقاف، هذا باب فقهي، الوقف والوصية، ماذا خرج منها عبر التاريخ الإسلامي؟ مستشفيات قامت على الأوقاف، يأتي المريض، يُدخل إلى الحمام، يخلع ثيابه، هنا يُنظف ويُنقل إلى أسرّة، ومكتوب في الوقف: ويُعطى كل مريض طعامه في زبديّة لم يأكل فيها غيره مغطاة، هذا من شرط الواقف، أهل الإسلام عندما أوقفوا فهموا حتى الشروط الصحيّة، وكان إذا انتهى المريض من المستشفى، وأكمل العلاج يُعطى مالاً، قالوا: لأن فترة النقاهة الذي خرج فيها لا يعمل فيها، يذهب إلى الورشة مباشرة يشتغل؟ يحتاج إلى أسبوع، عشرة أيام، أسبوعين، يعطوه مصروف شهر لأجل مدة النقاهة، ويعالج بكذا وكذا؛ أكل الخبز والفرّوج، أُخرج، معنى ذلك أن صار يشتري الطعام، يأكل بشكل طبيعي.

من المشاريع العظيمة: الوقف على المطلقات، اللاتي مات أزواجهن، واللاتي هجرهن أزواجهن، كان هناك أوقاف على الزوجات المهجورات حتى لا يقعن في فساد، وكانت الدور الاجتماعية الموقوف عليها فيها دِين وعبادة.
الدور الغربية فيها ألعاب ترفيه، وفي النهاية ما أشبعت القلب.

مثل الحوار الذي دار بين مسلم وكافر في الغرب، طبيب كافر بلغ رتبة عالية يقول: أنا بلغت من المرتبة العلمية أعلى شيء، والراتب عالٍ جداً، كل شيء موفر، سكن، تأمين طبي، نقل، سداد فواتير الاتصالات، سياحة، سافرنا...
أشعر أني ما شبعتُ، هناك شيء ناقص، أنا ما أشعر بالسعادة الكاملة، مع أني فعلتُ كل الأشياء، لماذا؟

فقال مسلم له: السعادة في القلب، سؤال: أنت الآن هل تشمّ الطيب بأذنك؟
قال: لا.
قال له: بماذا؟
قال: بأنفي.
قال له: هل تأكل بعينك؟
قال له: لا، آكل بالفم.
في النهاية قال له: أنت الآن أشبعتَ الطعم، تلذذتَ بالطعم، وأشبعتَ المعدة، نظرتَ إلى المناظر الجميلة، سمعتَ إلى الأصوات الجميلة التي أنتم تزعمون أن فيها سعادة، لكن هناك شيء واحد أنت لم تشبعه إطلاقاً، ولا اهتممتَ به أصلاً، ولا أدخلتَ عليه شيئاً يفيدك، ولا يلتذ به، ألا وهو القلب الذي هو سيّد الأعضاء.
فأنت ذهبت تخدم الأعضاء، تخدم بطنك، معدتك، لسانك، تخدم عيونك تقول: ذهبت سياحة وتمتعت بالمناظر والأزهار والألوان، أنت ذهبت متعت أذنك، تقول: أسمع أحسن الأغاني والموسيقى وأعذب الأصوات، حتى لو مباح، العصافير، وذهبت متعت أذنك ومتعت أنفسك بالأطياب وعندك زوجة، مع أنهم يمتعون الفرج بالحرام، بقي شيء أنت ما متعته، ما تلذذت، ولا أعطيته شيء، ولا ملعقة، القلب! هذا سيد الأعضاء، هذا هو الدين الذي يُشبع، هذه عبادة الله، هذا الإسلام الذي يشبع ، هنا أوقفه على الخلل، أسلم الرجل انتهى، رأى ذلك.

إذن، هذا الدين وهذه الشريعة تعطينا اللذات التي نحتاجها وبلا إسراف وليست حرية بهيمية وحرية مطلقة، كذا تضرنا... لا!  مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف: 32].
أُقسم بأن الله سبحانه ما بخل علينا، أعطانا لذة الفرج: الزواج وملك اليمين، أباح لنا الطيبات، لذة الأكل الطيب، الروائح الطيبة، أباح لنا الشمّ، نشمّ الروائح الزكية، ما حرّم علينا لذة تفيدنا.

تخويف المنافقين وتحذيرهم من الشريعة

00:55:25

هذا الموضوع -يا إخوان- طرقناه لأسباب، منها: إنه كل ما اقترب عملية المناداة بتحكيم الشريعة وتطبيق الشريعة، يقوم المنافقون، يقوم أعداء الله بالتخويف والتحذير، لا، تطبيق الشريعة يجلب لنا مشاكل، تطبيق الشريعة شيء مخيف، تطبيق الشريعة ربما يتحول الناس إلى مجموعة من مبتوري الأعضاء، هذا تقطعون رأسه، وهذا تقطعون يده، وهذا تقطعون...، وأنتم ما عندكم إلا قطع وبتر، فإما سيكون مجلوداً، أو مقطوعاً، أو مرجوماً، يخيفون الناس، يريدون الناس تقرف من الشرع، تخاف من الدين، تخاف من الشرع، يجعلون الشرع مقصلة، هذا الشرع ليس فيه إلا

لو أخذنا مثالاً قريباً من السنين التي مضت في عهد قريب.

كان طريق الحج غير آمن، فيه سلب وفيه نهب، تعرض لقوافل الحجاج، وفيه قتل، سفك دماء، وفيه خطف، وفيه أشياء كثيرة، ولما طبّقت أحكام الشرع وجُعلت المحاكم والقضاة قُطعت ست عشرة يد في أربعة وعشرين سنة.

في الحجاز في وقت قريب في 24 سنة قطع 16 يد، بمعدل كل سنة ونصف تُقطع يد، فتحقق الأمن للحجاج، وطرق الحج، وارتفعت الإخافات وكفّ السرّاق، وكل ما حصل الجد في تطبيق الشرع كلما تحقق مزيد من الأمن للناس.

قل لهؤلاء: 16 يد في 24 سنة، كل سنة ونص تُقطع يد، بالله عليكم لو لم يطبّق الشرع، كم سيقطع المجرمون رقبة؟ ليس كم يد سيقطعون! كم رقبة سيقطع اللصوص والمجرمون بدون تطبيق الشرع؟ والله الآلاف المؤلفة.

فالشرع بركة، هذه الحدود التي يخاف منها المنافقون ويخوّفون منها الناس هي في الحقيقة رحمة للعباد، والشرع ليس فقط يقول للناس: تطبيق حدود! هناك مواعظ، وهناك تعليم، وهناك دعوة، وهناك ناس كثير سوف يكفون عن الإجرام ليس لأجل الحد فقط، للدعوة، للوعظ، للعلم الذي عُلِّموه، للتخويف بالله الذي خُوِّفوه، للترغيب الذي رُغِّبوه، سينكف كثير من المجرمين، سيهتدون، ويبقى للحد للذي حالته مستعصية، لم يردعه لا دعوة، ولا تخويف، ولا ترغيب، ولا ترهيب، ولا تعليم، ولا، هذا في الأخير حكمه هذا الحد الذي يردع الله به  وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة: 179].

أمور لا بد منها قبل تطبيق الشريعة

00:59:17

ما هو الدور المطلوب في مسألة تحكيم الشريعة؟

لا بد من تفعيل مرجعية الشريعة الإسلامية، وأن يُنصّ على ذلك، لا بد من تمكين علماء الشريعة من استخراج الأحكام المطلوبة للناس، تريد في التقنية، تريد في جرائم التزوير، تريد في حقوق الملكية الفكرية، تريد في زرع الأعضاء، أي شيء، لا بد أن يُمكّن العلماء من استخراج الأحكام للتطبيق؛ لأنك إذا ما شكلت المجامع الفقهية والهيئات اللازمة وما فُرّغ العلماء، حتى يكون هناك عدد من العلماء كبير يفي بالمتطلبات، وأن تُعقد لهم الدورات.

مثلاً تريد أن يُفتوا في قضية طبية، اعمل لهم دورة يقدّمها الأطباء لتفهيم العلماء ما هي القضية، تريدهم أن يفتوا بطفل الأنابيب، هات الأطباء المتخصصين ليشرحوا لهم، تريدهم أن يفتوا في قضية استنساخ البرامج، أي شيء... هات لهم خبراء تقنية يشرحون لهم ذلك.

وقد يفتح الله على بعض الأمة فيوجد تقني عالم شريعة، ويوجد طبيب عالم شريعة، ويوجد اقتصادي عالم شريعة.

علماؤنا عبر التاريخ فقط كانوا يفهمون في الشرع وما يفهمون في شيء آخر أبداً غير الأحكام الشرعية؟ غير صحيح.

عائشة كانت تفهم في الطب، والشافعي كان يفهم، كانوا يفهمون في أشياء، كانوا فقهاء، وحتى لا نبالغ، كان بعضهم عنده علم بالزراعة وبعضهم عنده علم بالاقتصاد، وبعضهم عنده علم بالطب، وبعضهم عنده علم بالسياسة، وبعضهم عنده علم بالطرائق التربوية والنفسية... عندهم!

عندما نقول تطبيق الشريعة، إذا ما كوّنت المجامع الفقهية اللازمة لاستخراج الأحكام الشرعية، أي تطبيق تتحدث عنه؟ فقط الأشياء الواضحة؟ والنوازل؟

وإذا ما فُعّلت قضية الهيئات الشرعية واللجان الشرعية والمجامع الشرعية إذا ما فعلت، أي تطبيق؟ تتحدث عن تطبيق قاصر، إذا ما فرغ العلماء من بيت المال، هذا ليس عنده شيء إلا أنه يتعلم ويعلم ويؤلف ويكتب ويحفظ ويذاكر ويعيد الدرس، هذه شغلته، هذه هي رسالته في الحياة، هذا الذكي الألمعي الحافظ المبين، كان بيت المال وكانت الأوقاف تغطي، كان نظام الملك الذي أقام المدرسة النظامية وأقيمت ليس فقط في بغداد، أُقيمت في كثير من مدن العالم الإسلامي، أقامها ذلك الرجل.

كلها أوقاف على العلماء وطلبة العلم ومعيدي الدرس والنسّاق والكتّاب والحضور والطلاب.

ولذلك أنت ترى أعداد العلماء من زمان كبيرة جداً؛ من الأسباب: أنه كان هناك تفريغ للعلماء وطلبة العلم، فإذا صار مكفياً لماذا يشتغل بسيارة أجرة؟ لماذا يشتغل نجار في ورشة؟ لماذا يشتغل محاسب في شركة؟ لماذا يضطر يكون عنده ثلاث وظائف ويستنزف عقله، نفسه، وقته، كان كله يوضع في العلم.

الاستنباط من الكتاب والسنة، فهم الكتاب والسنة، القياس على أحكام الكتاب والسنة، الاجتهاد...، استخراج الأحكام من الكتاب والسنة.

والذي يريد أن يطبّق الشرع لا بد يعمل هذه الخطوة، وإلا فكيف تريد تطبّق؟ تطبّق ماذا؟ هناك نوازل، هناك مستجدات.

ثم لا بد ثالثاً: أن يُعلّم الناس الشريعة وأن تنشر هذه الشريعة.

وسائل الإعلام لازم تستخدم، عندما نتكلم عن تطبيق الشريعة، قضية كبيرة، فلا بد من إظهار محاسن الشريعة والترغيب فيها، وكلها محاسن والحمد لله.

عن ابن شهاب قال: "أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فكتبناها دفتراً دفتراً، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفتراً" [جامع بيان العلم وفضله: 1/331].

علم الناس، احمل الناس على التعلم، علّم.

رابعاً: إلزام الناس بالشريعة بالحكمة والتدريج، فيُحمل الناس عليها شيئاً فشيئاً، ولذلك عندما يتكلمون الآن في مجالس الشعب والبرلمانات وكيف نطبّق الشرع ويقوم المنافقون يقولون: ستقتلون الإبداع، ستمنعون الفن، ستمنعون الرياضة، ستمنعون... المجتمع سيتحول إلى بؤس، إلى كذا... تحت حكمكم سنكون محرومين، سنكون فقراء، سنكون متخلّفين، سنكون..، أول شيء فهّم الناس ما هي الشريعة، علّمهم، دع العلماء يشتغلون، انشر الشرع في الإعلام وفي غيره، احمل الناس على الشرع شيئاً فشيئاً.

لما ولي عمر بن عبد العزيز قال له ابنه عبد الملك: "إني لأراك يا أبتاه قد أخّرت أموراً كثيرة، كنت أحسبك لو وُليتَ ساعة من النهار عجّلتها، ولوددتُ أنك قد فعلتَ ذلك"، طبّقت كل شيء فوراً، "ولو فارت بي وبك القدور".

ليس مهماً ماذا سيحصل.

قال له عمر: أي بُني، إنك عل حُسن قسم الله لك، مدحه على حماسته وغيرته الدينية، قال: "وفيك بعض رأي أهل الحداثة".

وعمر بن عبد العزيز ليس له علاقة بقضية الحداثة التي نتكلم عنها الآن.

هو يقصد حداثة السن، أي عندك حماس شباب، قال: "والله ما أستطيع أن أخرج لهم شيئاً من الدين إلا ومعه طرف من الدنيا"، عمر بن عبد العزيز حكيم، يقول لولده: انظر الانحرافات التي حصلت في المجتمع، أنا جئت وهناك انحرافات في الأوضاع، ما أستطيع أن أخرج لهم شيئاً من الدين إلا ومعه طرف من الدنيا.

عندما تعطي الولد دواءً مراً ومعه حلاوة، حتى يستسيغ، تمشي هذه بهذه، تبلّع هذه بهذه.

هذه السياسة استخدمها عمر بن عبد العزيز، والأشياء التي فيها مخالفة لأهواء الناس أو درجوا عليها وصارت عادة، لما جاء ينزعها ويحاربها أو يحذفها ويحاول أن يأخذها من المجتمع كان يعطي مرغبات مباحة.

يسحب شيئاً من المحرمات التي تهواها النفوس، ويضع شيئاً من المرغبات التي تحبها النفوس.

مثال: لو قلت الآن: والذي يتوب ويأتي لنا بالكتب المنحرفة التي عنده سنعطيه على كل كتاب مائة.

سيأتون! فأنت الآن ربما تحارب هذه الأشياء المنحرفة بأشياء من الدنيا، لكي يتحمّل الناس ذلك.

قال: "والله ما أستطيع أن أخرج لهم شيئاً من الدين إلا ومعه طرف من الدنيا أستلين به قلوبهم؛ خوفاً أن ينخرق عليّ منهم ما لا طاقة لي به".

يعني إذا ما فعلتُ هذا ربما ينفجرون عليّ، يتمردون، يحصل شيء، لا أطيق بعد ذلك أن أواجهه.

"يا بُني إن قومك قد شدوا هذا الأمر-يعني الانحرافات- عُقدة عُقدة وعُروة عُروة ومتى ما أُريد مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا فتقاً تكثر فيه الدماء، والله لزوال الدنيا أهون عليّ من أن يراق بسببي محجمة من دم".

لما انتهى من تقرير هذا ووضح سياسته لابنه وكيف يتدرج مع الناس قال: "أوما ترضى أن لا يأتي على أبيك يومٌ من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيي فيه سنة؟" [حلية الأولياء: 5/283].

أنا أتدرج مع الناس، أنا لا أضيع الوقت، أنا لستُ لاهيا ًوساهياً، أنا لستُ نائماً ومتكاسلاً، أنا أعمل، كل يوم أُحيي سُنّة وأُميت بدعة، وآخذ الناس بالتدريج، وأعطيهم ترغيبات في سبيل أن أصل إلى تحقيق الشرع؛ لأن الوصول إلى تحقيق الشريعة الكاملة، لنكن واقعيين، مهم، هناك فرق كبير بين من يطالب بالقوانين الأرضية، ومن يطالب بالشريعة الإسلامية، ثم أيضاً هناك تطبيق الشريعة الإسلامية بتدرج، لكن ليس فيه قضية تخزين الشريعة الإسلامية، تجميد الشريعة الإسلامية، تجنيب الشريعة الإسلامية، لا، هاك عمل جاد وهناك تدرج، نحن ما نستطيع فجأة اليوم نلغي كل المحرمات وكل الانحرافات وكل شيء اندرج عليه الناس سنوات طويلة، لكننا جادون في تطبيق الشريعة الإسلامية، كل يوم نحيي سُنّة ونُميت بدعة، نمنع حراماً، ننشر واجباً.

وكذلك ينبغي أن يتبوأ المناصب القيادية أولياء الشريعة وليس أعداء الشريعة حتى يقيموا الشريعة.

حفل التاريخ  الإسلامي في القديم والحديث بمواقف شجاعة في هذه المسألة، القديمة كثيرة.

من الأشياء في العصر المتأخر أمثلة:

الشيخ محمد الخضر حسين -رحمه الله تعالى-، شيخ الأزهر المتوفى عام 1377لما دعا أحد أعضاء مجلس الثورة المصرية 1952 إلى المساواة بين الجنسين في الميراث وعلم الشيخ محمد الخضر بهذا اتصل بهم وأنذرهم إن لم يتراجعوا عن هذا الأمر فإنه سيلبس كفنه ويستنفر الناس لمنع هذا.

أمجد الزهاوي رئيس رابطة علماء العراق المتوفى 1387 للهجرة راسل كبراء الناس في العالم الإسلامي، أرسل الرسائل لمحمد بن الخامس ومحمد السنوسي، وإلى الرؤساء في باكستان والسودان ومصر والأردن وتونس والجزائر وغيرها؛ لأجل قضية المناداة بتطبيق الشريعة، الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- أرسل في هذا مراراً وتكراراً وكثيرا ًوإلى جهات مختلفة في أنحاء العالم.

الشيخ محمود عبد الوهاب فايد شيخ الجمعية الشرعية بمصر المتوفى سنة 1418 أرسل في تطبيق الشريعة الإسلامية رسالته يناشد فيها مسألة تطبيق الشرع وأن من العار على بلد فيه كذا وكذا من علماء الشريعة وجامعات الشريعة ويمثلون أكثر من ألف مليون مسلم أن يكون عندهم قوانين مخالفة لشريعة الله، وهكذا.

هناك ولا زال والحمد لله من يقوم لله بالحجة يبلغ ويبين وينصح ويناشد ويحرص، وهذا أوان ينبغي أن يكون فيه أهل الحق وأهل الدين يقومون بواجبهم، خصوصاً ونحن نرى أن عصر الاتصالات وعصر الإعلام يمكنك أن تنصح وتخاطب وتناشد وتتكلم مع ناس في أقصى الأرض.

صار ممكن لآحاد المسلمين اليوم أن يساهموا في تطبيق الشريعة في أماكن بعيدة.                      

الآن هذه ميزة، فإذن، يجب أن نسعى في ذلك، لا نتخاذل، لا للضعف في هذا، ما نخاف من أعداء الله، إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا  [القصص: 57].

لماذا تخافون؟ لا لعقدة المهزوم أمام المنتصر وتسلُّط الأعداء، ولا لتهديد الغرب والشرق، ولا لقضية التأثر بكلام المنافقين، ولا للمنحرفين في الفهم والعلم، المنحرفين عن العلم اليوم من المنتسبين للإسلام، لا لهؤلاء جميعاً.

نحارب الجهل بالإسلام والشرع، والتخلُّف عن الشرع يجب أن يُحارب، لا بد من رفع المعنويات، أن نبصّر الناس بالدين، أن نذكّرهم بالواجب، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110].

لا بد أن تُربى الأجيال على هذا، لا بد أن يُعدّ الدعاة لأجل هذا، لا بد من أن تكون هناك المراقبة للولايات العامة على هذا، لا بد أن يكون هناك سد للفراغ في هذا الجانب، لا بد من إنشاء المراكز البحثية المتخصصة في هذا الجانب، ولا بد من الرد على الشبهات في هذا الجانب، الذي يقول الشريعة غير صالحة لكل زمان ومكان، والذي يقول: إن الشريعة ما فيها مرونة وجامدة، مخيفة، متخلفة، ونحو ذلك، لا بد أن نرد عليه، والردود كثيرة والحمد لله، في الأمة علماء، إذا قرأنا بعض من يكتبون الآن في الشبكة في هذا الجانب عندهم حصافة، وحسن رأي، وحكمة، وبيان، وحجة، وقلم سيال، وفيه جهود والحمد لله، الأمة فيها خير كثير ينبغي أن تستثمر وتدفع لأجل تحقيق هذا الأمر.

لا بد أيضاً نفنّد للدعوات الأخرى مثل الدعوة لتطبيق الديمقراطية، ونقول: لا، الشورى، نبين الفرق بينهما وما هو هذا وما هو هذا.

كذلك بيان الأحكام الشرعية في البرلمانات والانتخابات وعقد التحالفات، إلى آخره.

بيان الأحكام في قضية القوانين، وصياغة القانون وصياغة الدستور وما هي الشروط مثلاً.
بيان ماذا للأقليات غير الإسلامية مثلاً.
ما هي الأحكام الشرعية في الانتخابات هذه التي تجري مثلاً.

وهكذا إذا تمّ بيان ماذا للشرع في قضية الترشيح، ما علاقة المرأة بالموضوع مثلاً.

الذين يطرحون مفهوم مثلاً الدولة المدنية، ما هو الفرق بين الدولة المدنية والدول النبوية؟

انظروا يا إخوان، نحن ننادي بالدولة المدنية، ما هي الدولة المدنية؟ والمنافقون والجهّال ينادون بالدولة المدنية.

الدولة المدنية عند المنافقين وعند الجهّال والمنحرفين عن الشرع يقصدون بها: دولة دنيا، ليس لنا دخل في الدين، نريد دولة تصلح الاقتصاد والمجتمع فقط!

نحن نريد الدولة المدنية، يعني: دولة المدينة النبوية، طيبة التي عاش فيها محمد ﷺ، التي تجمع بين مصالح الدين والدنيا.

الموضوع طويل ومتشعّب، لكن هذه خلاصة أرى أنها مهمة في هذا الموضوع.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يبصرني وإياكم في دينه وأن يرزقنا اتباع شريعته وأن يجعلنا ممن يحكم شرعه.

ونسأله أن ينصر بنا الإسلام وأهله، وأن يفرّج كربات المسلمين، وأن يكشف الضر عن إخواننا المستضعفين بالشام.

ونسأله أن يؤيدهم بمدد من عنده، وأن ينزل عليهم السكينة ويفرغ عليهم صبراً، وأن يثبت أقدامهم وينصرهم على القوم الكافرين، وأن يجعل من أرض الشام مقبرة لأولئك المجرمين والمعتدين والباطنية الحاقدين، إنه سميع مجيب قريب.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

  • احمد

    بارك الله في الشيخ وجزاه خير الجزاء و اسأل الله ان ينصر الاسلام و المسلمين و ان يحفظ علمائنا

  • حلا

    بارك الله في شيخنا العلامة / محمد صالح المنجد حفظه الله .. هل تسمحون لنا بتفريغ المحاضرة كتابيًا و نشرها من باب النفع و الفائدة. و جزاكم الله خيرًا