الخميس 20 جمادى الأولى 1446 هـ :: 21 نوفمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

الموقف من الاقتتال بين المسلمين


عناصر المادة
الخطبة الأولى
الكليات الخمس
حفظ النفس
الموقف الصحيح في الفتن
الإصلاح بين المتخاصمين
الخطبة الثانية
فضل الجهاد

الخطبة الأولى

00:00:07

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران102يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا سورة النساء1يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيماً سورة الأحزاب70-71.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

الكليات الخمس

00:01:22

أيها المسلمون: لقد جاءت هذه الشريعة بحفظ أمور خمسة مهمة، في قيامها صلاح البلاد والعباد، وفي الحفاظ عليها استمرار لبقاء هذا الجنس، وهي حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ العقل، وحفظ المال، وقد شرعت الشريعة لحفظ الدين تقويم أركانه، بالإيمان والإسلام، والجهاد في سبيل الله وغير ذلك، شرعت الجهاد لحفظه، شرعت الإيمان والإسلام لإقامة أركان الدين، وشرعت الجهاد لحفظ الدين، وجاءت عقوبة المبتدعة في الشريعة لحفظ هذا الدين، ومن أجل قيامه واستمراريته، وشرعت لحفظ النفس إباحة الأطعمة والأشربة والمساكن، وشرعت لحفظها الدية والقصاص، وشرعت لحفظ النفس الدية والقصاص، وشرعت لحفظ النسل النكاح وأحكام الحضانة والنفقة، وشرعت لحماية النسل حد الزنا وغيره، وشرعت لحفظ العقل تناول ما يقويه من الأطعمة، وهكذا، وشرعت لحفظه تحريم المسكرات وحدودها، وشرعت لحفظ المال إباحة أصل التعاملات المختلفة بين الناس، وشرعت لحفظ المال تحريم السرقة، وحد السرقة، وغير ذلك.

فيتبين إذن كمال هذه الشريعة فيما جاءت به من الحفاظ على هذه الضروريات، وحديثنا في هذه الخطبة، وكنا سنتكلم عن موضوع يتعلق بمنكرات الأفراح، فأجلنا ذلك للخطبة القادمة، ولعله يكون فيه خير.

حفظ النفس

00:03:52

فأما حفظ النفس فإن الشريعة قد جاءت بأمور كثيرة، وهذا كتاب الله وسنة رسوله ﷺ يشهدان بما جاءت به هذه الشريعة، من أجل حفظ النفس، فمن ذلك مثلاً تحريم قتل النفس البريئة، تحريم قتل النفس بغير حق، وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً سورة النساء93، وقال ﷺ: أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه[رواه البخاري 6882]، وقال ﷺ: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه[رواه البخاري 31]، فمن أجل ذلك لا يجوز التواجه بين مسلمين بالسلاح أبداً، إلا ما جاءت به الشريعة من الأمور المبيحة للدم، وقال ﷺ: إذا شهر المسلم على أخيه سلاحاً، فلا تزال ملائكة الله تلعنه حتى يشيمه عنه[رواه البزار3641]يعني: يغمده في غمده ويخفيه.

ولعظم النفس المقتولة عند الله فإنه ﷺ قد بيّن بقوله: أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء[رواه مسلم1678]، فهؤلاء القتلى والجرحى من الأبرياء أول ما تؤخذ الحقوق لأهل الموقف يوم القيامة تؤخذ لهم، لعظم حرمة دماء المسلمين عند رب العالمين، ويقول ﷺ: لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار [رواه الترمذي1398]، دم المؤمن غالٍ، دم المؤمن محرم، دم المؤمن قيمته كبيرة جداً، ولذلك يقول ﷺ: يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة، ناصيته ورأسه بيده، وأوداجه تشخب دماً، هذان العرقان، عرقا العنق الودجان يشخبان دماً، ينزفان بغزاره يقول: يا رب، قتلني هذا، حتى يدنيه من العرش [رواه الترمذي3029]، وفي رواية: ويجيء الرجل آخذاً بيد الرجل، فيقول: أي رب، إن هذا قتلني، فيقول الله له: لم قتلته؟ فيقول: لتكون العزة لفلان، قتلت هذا الرجل لأرفع من شأن رئيسي في الدنيا، ولتكون العزة لمتبوعي في الدنيا، فيقول الله : إنها ليست لفلان إن الملك لله الواحد القاهر، فيقول الله: إنها ليست لفلان، فيبوء بإثمه[رواه النسائي3997]، لا تقتل نفس إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها[رواه البخاري6867]؛ لأنه أول من سن القتل، فقتل أخاه ظلماً وعدواناً، وقال ﷺ: لزوال الدنيا أهون على الله لزوال الدنيا كلها بأسرها، لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق [رواه ابن ماجه2619]، وقال ﷺ: من قتل مؤمناً فاغتبط بقتله سر وفرح، من قتل مؤمناً فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً [رواه الطبراني 1311]، حتى يتوب إلى الله توبة نصوحاً، هذا الحديث مقيد بالتوبة، توبة إلى الله، توبة نصوحاً.

يا أيتها الكعبة: ما أعظمك، وما أعظم حرمتك، ولكن والله الذي لا إله إلا هو لقتل رجل مسلم واحد أعظم عند الله من هدم الكعبة حجراً حجراً، قتل امرئ مسلم واحد بغير حق أعظم عند الله من هدم الكعبة حجراً حجراً.

ولأجل ذلك أيضاً، لأجل حفظ النفس جاءت الشريعة بعقوبة الانتحار، وعظمه، وهذه الكبيرة العظيمة، التي أخبر ﷺ في شأنها من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسى سما فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا[رواه البخاري5778].

الموقف الصحيح في الفتن

00:10:03

ولأجل حفظ النفس أيضاً جاءت الشريعة بتبيان الموقف الصحيح في الفتن، فإن الفتن نعوذ بالله من الفتن، لا تبقي في صاحب عقل عقلاً، تدع الحليم حيران، وتفضي إلى التقاتل بين الناس، الفتن حتى لا يدري القاتل فيم قتل، ولا المقتول فيم قُتل، هذه الفتنة، نسأل الله أن يجنبنا الفتنة، هذه الفتنة جاءت النصوص الشرعية في توضيحها، وتوضيح الموقف فيها، والتحذير منها، جاءت النصوص من الصادق المصدوق، الحريص على أمته، الشفيق عليهم، ﷺ يبين الموقف في الفتنة، الفتنة التي قد تقع بين المسلمين أنفسهم، هذه الفتنة ينبغي أن يكون فيها للمسلم بصيرة، ونور من ربه، قال ﷺ: ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل، فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي، يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه[رواه مسلم1848]، ليس مني، يقول ﷺ: فليس مني ولست منه، هذا الذي يفعل هذا الفعل.

وقد روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن تشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به[رواه البخاري3601].

فما هو الحل إذا اضطرمت الفتنة بين المسلمين؟ الحل تهدئتها، الحل إيقافها، الحل منع وقوعها قبل أن تقع أصلاً، الحل القضاء على أسبابها، وجذورها، ويحذر ﷺ من تأجيج نارها، وقدح أوارها، يحذر ﷺمن تأليب الأطراف بعضهم على بعض، يحذر ﷺ من أي عمل يزيد الفتنة، فيقول: القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، وهكذا، وفي رواية: القاعد فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي، فكسروا قسيكم، وقطعوا أوتاركم، واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دُخل على أحد منكم فليكن كخير ابني آدم[رواه أبو داود4259]، لماذا لم يقل له: قم فقاتل من دخل عليك في الفتنة، حتى لا تزيد الفتنة، ولا يزيد اضطرابها، وإنما يكون فيها كخير ابني آدم، ولذلك قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: إن كان المعتدي عليه كافراً وجب دفعه؛ لإظهار علو الدين، وإن كان مسلماً في وقت الفتنة، كل منهما يظن أنه على حق ربما، قال الإمام أحمد: دفع الصائل جائز لا واجب في حال المسلمين، لقول النبي ﷺ في حال الفتنة: اجلس في بيتك[رواه ابن ماجه3962]، وقال: تكون فتن، فكن فيها عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل [أبو عمرو الداني في الفتن 30].

إذن جاءت هذه الشريعة بالقضاء على الفتن، والموقف منها. قال عبد الله بن عمرو بن العاص: بينا نحن حول رسول الله ﷺ إذ ذكر الفتنة، فقال: إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أمانتهم، وكانوا هكذا – وشبك بين أصابعه – وكانوا هكذا يعني في هرج ومرج، قال: فقمت إليه، فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة[رواه أبو داود4343]، فالشخص إذا كان في موقع الفتنة، في وقت الفتنة، في مكان الفتنة، ينبغي عليه أن يسعى لتهدئتها، وأن يسعى إلى إيقافها، فإن لم يملك ذلك، واضطربت عليه الأمور، وتكاثر الخائضون في الفتنة وجب عليه أن يعتزل، ولا يشارك فيها، ولا في أحد من أطرافها، وإنما يلزم بيته، ويملك عليه لسانه، يمسك هذا اللسان، يمسكه، فإن اللسان يزيد الفتنة اشتعالاً، ويزيد الفتنة اضطراباً، إذا لم يستغل في الإصلاح بين الناس، وفي تهدئة الأمور، انشغل بنفسك، يقول: عليك بأمر خاصة نفسك، اعبد الله حتى تلقاه سليم الصدر من هذه الفتن، وقال ﷺ: إنه ستكون فتنة يكون المضطجع فيها خيراً من الجالس، والجالس فيها خيراً من القائم، والقائم فيها خيراً من الماشي، والماشي فيها خيراً من الساعي، قال: يا رسول الله ما تأمرني؟ قال: من كانت له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، قال: فمن لم يكن له شيء من ذلك؟ قال: فليعمد إلى سيفه فليضرب بحده على حرة – على صخرة عظيمة – ثم لينجو ما استطاع النجاء[رواه أبو داواد4256]حتى لا يكون هذا، لماذا قال ذلك؟ حتى لا يكون سبباً في زيادة الفتنة، وزيادة الدماء، نسأل الله السلامة.

وعن أبي ذر قال: ركب رسول الله ﷺ حماراً، وأردفني خلفه، ثم قال: أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس جوع شديد، حتى لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك، ماذا تفعل، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: تعفف قال: أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس موت شديد حتى يكون البيت بالعبد القبر يشترى بالعبد لغلاء القبور وقلتها، وكثرة الموتى، كيف تصنع؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: تصبر وفي رواية: اصبر، يا أبا ذر أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضاً، حتى تغرق حجارة الزيت في الدماء، وهي حجارة معروفة في المدينة، كيف تصنع؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: اقعد في بيتك، وأغلق عليك بابك، قال: أرأيت إن لم أترك؟ قال: ائت من أنت منه فكن فيهم، قال: فآخذ سلاحي؟ قال: إذن تشاركهم، ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيفمن الطاغية المعتدي على رأسك، ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك يبوء بإثمه وإثمك[رواه أحمد21325]. هذا طرف من حديث طويل يتعلق بتهدئة الفتنة، وعدم الاشتراك فيها، وعدم تأجيج نارها، ألا فليتق الله أناس يطوفون في المجالس والمجامع يؤججون نار الفتنة، ويحرضون الأطراف بعضهم على بعض، والواجب تقوى الله، وتسكين الأمور حتى يسلم للمسلمين دينهم.

الإصلاح بين المتخاصمين

00:18:47

ومن الأمور التي جاءت بها الشريعة في حفظ النفس، الإصلاح بين المتخاصمين، قال الله : وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي سورة الحجرات9، إذا كان قتال التي تبغي يسكت التي تبغي فعلاً، إذا كان هناك سلطان للمسلمين يقهر الفئة الباغية، فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۝ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ سورة الحجرات9-10.

ثبت في صحيح البخاري كما قال ابن كثير رحمه الله تحت هذه الآية في تفسيره: عن الحسن عن أبي بكرة: أن رسول الله ﷺ خطب يوماً ومعه على المنبر الحسن بن علي، فجعل ينظر إليه مرة، وإلى الناس أخرى، حاملاً إياه بيده الشريفة، ﷺ، يحمل الحسن بيده، ينظر إليه مرة وإلى الناس أخرى، ويقول: إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين[رواه البخاري2704]، فكان كما قال ﷺ أصلح الله به بين أهل الشام وأهل العراق، بعد الحروب الطويلة والواقعات المهولة، إذن ينبغي أن يصلح بين المسلمين، إذا حدث بينهم اقتتال، هذا هو الأصل، والخلاف من طبيعة البشر، ونادراً ما يسلم اثنين من خلاف دائم الدهر في حياتهما، وقد ورد في سبب نزول آية الحجرات حديث أنس قيل للنبي ﷺ: لو أتيت عبد الله بن أبي، هذا المنافق رأس المنافقين، لو أتيت عبد الله بن أبي دعوته تتألف قلبه لعل الله أن يهديه، فانطلق إليه نبي الله ﷺ، وركب حماراً، وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة، فلما انطلق إليه النبي ﷺ قال المنافق لما وصل إليه رسول الله ﷺ: إليك عني، ابتعد ابتعد، إليك عني، فوالله لقد آذاني ريح حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله أطيب ريحاً منك، قال: فغضب لعبد الله رجال من قومه، وكان فيهم أناس من المسلمين، من قومه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه للذي سب عبد الله بن أبي ولعبد الله بن أبي، قال: فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه أنزلت فيهم: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا، فلم يخرجهم عن كونهم مؤمنين، وأمر بالإصلاح بينهم.[رواه البخاري2691 ومسلم1799 وأحمد13292] رواه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم.

وهنا للمسلم وقفة، في القوم، في فريق من الفريقين عبد الله بن أبي رأس الفتنة، في أحد الفريقين عبد الله بن أبي منافق عظيم من المنافقين، ومع ذلك لم يقل الله لنبيه: خذ الطائفة الأولى واقتل كل من تعصب لعبد الله بن أبي، لم يقل ذلك، هدئ الفتنة، أصلح بين المسلمين، ما دام فيه مسلمين أصلح بينهم، مع أن في الطائفة الأخرى منافق، لكن لأجل هذا المنافق لا نقتل طائفة من المسلمين، لأجل وجود أناس من المشركين في أحد الصفين لا نقتل كل المسلمين الذين معهم، وإنما علينا أن نستنقذ ما نستطيع استنقاذه من المسلمين؛ لأن دم المسلمين عظيم، وما الذي سيجنيه المسلمون لو قتلوا إخوانهم إذن؟

فلا يقولن قائل: نقتلهم وهم في النار، وإنما لا بد من تهدئة الفتنة، فإذا خلصت الصفوف، وصار معسكر أهل الإسلام في جهة، ومعسكر أهل الشرك في جهة، نقاتلهم قتالاً لا يردنا عن قتلهم، وعن استئصال شأفتهم كلهم.

والخوض في الفتن يا عباد الله يزيدها اشتعالاً، ومن أعظم ذلك الخوض باللسان، والسكوت يدفن الفتنة، ويقتلها، ويئدها، وهو الواجب.

وإننا نقول: إن من أسباب حفظ النفس أيضاً ودرء الفتنة العدل في القول، والتثبت في الأمور، ألم يقل الله : فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ سورة الحجرات6، وينبغي العدل في القول والحكم حتى بيننا وبين أعدائنا، لو كان الطرف الآخر خصم وعدو لنا أمرنا الله أن نعدل، وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى سورة المائدة 8، لو كان عدواً لوجب أن نعدل، فكيف لو كان فيهم مسلمون، قال ﷺ: إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ يوم القيامة بين يدي الرحمن، بما أقسطوا في الدنيا[رواه أحمد6485]إسناده جيد قوي.

وقال ﷺ: إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن [رواه مسلم1827]، من هم هؤلاء، من هم، طوبى لهم منهم؟ الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم، وما ولوا [رواه مسلم1827]وما كان تحت أيديهم من الخدم، والموظفين، و..و.. إلى آخره. طوبى لهؤلاء المقسطين الذين يكونون عن يمين الرحمن، على منابر من نور يوم القيامة، هؤلاء المقسطون.

ثم -أيها المسلمون- ينبغي كذلك أن يكون ولاؤنا لأهل السنة دائماً وأبداً، أن يكون ولاؤنا لأهل التوحيد، أن يكون ولاؤنا لأهل المنهج الصحيح، ولكن هذا الولاء لا يدفعنا بأي حال من الأحوال للجور على أية أطراف أخرى، إننا مع الحق وأهل الحق، نتمنى من الله أن ينصرهم، لكننا نعدل في القول ولا بد، ولا يجوز الجور أبداً، خصوصاً في هذا الزمن الذي اختلطت فيه الأمور، واختلطت فيه الصفوف، وصرت ترى مسلمين هنا وهناك، فينبغي إذن عدم إثارة البلبلة والاضطراب، وكذلك فإننا نحرص على كل ما ينفع الإسلام، فإذا كانت مصلحة الإسلام في السكوت سكتنا، وإذا كانت مصلحة الدين في الكلام تكلمنا، وهكذا، ويبقى ولاؤنا لأهل التوحيد نحبهم، وكذلك فإننا نساند كل من يحفظ الدين مهما كان فيه من الأخطاء فإننا نواليه بحسب دينه، وبحسب ما فيه من الصلاح، وهذه العقيدة الصحيحة في الأشخاص الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، في الأشخاص الذين لهم حسنات وسيئات، نحبهم بقدر ما فيهم من الحسنات والبلاء للإسلام، والذود عن الدين، ونبغضهم بحسب ما فيهم من البدعة، والفجور، والشر، والسيئات، فيمكن أن يجتمع في قلب المسلم إذن لشخص واحد حب وبغض، ولاء وبراء، بحسب ما فيه من الخير والشر، وهذه قاعدة ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله، من فقهها نال خيراً كثيراً، ووقي فتنة عظيمة.

ثم إننا -أيها المسلمون- إذا أصاب طرفاً من إخواننا في الدين شيئاً فإننا نتألم لمصابهم ولا بد، فإن هذا من مقتضيات العقيدة، قال ﷺ: إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد [رواه أحمد22877]، يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس، فإذا أصيب الرأس بصداع تألم الجسد كله، لا بد أن نتألم لمصيبة وقعت بين المسلمين، لا بد ولا بد، لا بد أن تتمعر وجوهنا لهذا، وأن تتألم نفوسنا للمصاب، وإلا فلا خير فينا، ولا دين عندنا، ولا غيرة أبداً، فإذن نحن قلباً وقالباً، نحن مع الحق وأهله، نتألم لشيء يحدث بين المسلمين، نسأل الله السلامة والعافية.

اللهم جنبنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم قنا ما ظهر منها وما خفي، اللهم ثبتنا يا رب العالمين.

أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

00:28:17

الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، يفعل ما يشاء ، وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ(سورة البقرة253) ، لا يقع شيء في هذا الكون إلا بعلمه، وإرادته ومشيئته ، ولا يحدث شيء إلا لحكمة منه ، هو الحكيم الخبير، العليم القدير، لا تخفى عليه خافية، إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء سورة آل عمران5، وصلى الله وسلم على نبينا محمد البشير النذير، والسراج المنير، الذي علمنا فأحسن تعليمنا، ونصحنا فأجاد نصحنا، فجزاه الله خير ما جزى نبياً عن أمته، وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وتابعيه إلى يوم الدين، الذين قضوا بالحق، وبه يعدلون، الذين عدلوا في حكمهم، الذين أصلحوا بين الناس، الذين أطفئوا نار الفتنة، طوبى لهم، ثم طوبى لهم.

فضل الجهاد

00:29:32

أيها المسلمون: فإن تعارض حفظ النفس مع حفظ الدين، قدم حفظ الدين على وجه العموم، وقد يندر من ذلك مسائل، فمما يتعارض به أحياناً حفظ الدين مع حفظ النفس، الجهاد في سبيل الله، فإن الجهاد مطلوب لأجل حفظ الدين، والذود عن حياضه، ولكن الجهاد يسبب إذهاب النفوس، وإزهاق الأرواح، فهل نقول: لنحفظ أنفسنا ولا نجاهد؟ كلا، كلا، بل إذا قام قائم الجهاد وعلت راية التوحيد خفاقة فإننا نقوم لله ، نجاهد في سبيله، ونرد أعداءه، ونحفظ شريعته كما أمرنا هو ورسوله ﷺ، قال الله: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِسورة الحج78، قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ سورة التوبة29، وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً سورة التوبة36، كما أمرنا أن نجاهد بأموالنا وأنفسنا، وكما أمرنا ﷺ، وحذر من ترك الجهاد فقال: ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا[رواه الطبراني في الأوسط3839 بلفظ:إلا عمهم الله بالعذاب]، وقال: إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف[رواه مسلم1902]، وقال: عليكم بالجهاد في سبيل الله، فإنه باب من أبواب الجنة، يذهب الله به الهم والغم[رواه أحمد22719]، وقال ﷺ: قيام ساعة في الصف للقتال في سبيل الله خير من قيام ستين سنة[رواه ابن عساكر22/444]، وفي رواية صحيحة أخرى: موقف ساعة في سبيل الله خير من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود[رواه ابن حبان4603]، وقال ﷺ: مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة، اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة[رواه الترمذي1650]، وقال ﷺ محمساً ومشجعاً: من قاتل في سبيل الله فواق ناقة فقد وجبت له الجنة [رواه أبو داود2541]، وقال: ومن سأل الله القتل في سبيل الله من نفسه صادقاً ثم مات أو قتل فإن له أجر شهيد، ومن جرح جرحاً في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها لون الزعفران، وريحها ريح المسك، ومن خرج به خرّاج مثل هذه الدمامل التي تخرج في الجلد ومن خرج به خرّاج في سبيل الله فإن عليه طابع الشهداء [رواه أبو داود2541]قاله ﷺ، وقال: والذي نفسي بيده لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أُحيا ثم أقتل، ثم أُحيا ثم أقتل، ثم أُحيا ثم أقتل[رواه البخاري2797]وقال ﷺ: لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، وهل يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري عبد[رواه أبو داود الطيالسي2565]، وهذا أجر الشهيد وردت به الأحاديث الكثيرة العظيمة في فضله وأجره ومقامه ومكانته ومنزلته عند الله.

فالجهاد إذن ذروة سنام الإسلام، يحمي الله به الدين، وينصر به الموحدين، الجهاد يطهر النفوس من الشح والبخل، والجهاد عز هذه الأمة، متى صرنا في المؤخرة؟ عندما تركنا الجهاد في سبيل الله، فينبغي أن تنبعث طلائع الجهاد في سبيل الله، وتؤيد، ويجهز الغزاة، ويصلح بين المجاهدين، ليستمر الجهاد في سبيل الله، حتى لا يبقى على الأرض مشرك.

اللهم اجعلنا من المجاهدين، اللهم اجعلنا من المجاهدين في سبيلك، العاملين لرفعة دينك، الناصرين لسنة نبيك، اللهم اجعلنا مخلصين، اللهم ارزقنا الإخلاص والاستقامة، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك على أهل الشرك والكفر يا رب العالمين، اللهم ألف بين قلوبهم، اللهم ألف بين قلوبهم، اللهم ألف بين قلوبهم، اللهم ألف بين قلوبهم، واجمع كلمتهم على الحق والدين والعقيدة الصحيحة والتوحيد يا رب العالمين، اللهم انصر بهم الإسلام، وأعل بهم الكلمة، وأذل بهم العدو، وارفع بهم رؤوس المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم اجعل الجهاد قائماً لا يفتر، ومستمراً لا يقف، اللهم اجعلنا ممن أعليت بهم دينك، ورفعت بهم كلمتك، اللهم أزل الفتنة والغمة عنا وعن المسلمين، اللهم أزل الفتنة، اللهم اقمعها، واقطع دابرها، اللهم من أراد أن يفرق صفوف المسلمين ففرق شمله، اللهم من أراد بهم كيداً فشتت جمعه، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم لا تجعل له قائمة، اللهم اقطعه واضربه واكبته وأذله يا رب العالمين، اللهم اقطع دابر الفتنة، اللهم اقطع دابر الفتنة، وأصلح بين المسلمين يا رب العالمين، تضرعنا إليك، وسألناك بأسمائك الحسنى يا حكيم يا عليم يا رحيم ارحم هذه الأمة، اللهم اجمع كلمتهم على التوحيد يا رب العالمين، اللهم اجعل بأس الكفار بينهم شديد، واجعل نصرة أهل التوحيد عليهم عما قريب، اللهم أرنا يوماً قريباً تقر فيه أعيننا بنصرة دينك، اللهم اجعلنا من الفائزين في الدنيا وفي الآخرة، إنك أنت السميع العليم، وأنت على كل شيء قدير، أنت بالإجابة جدير، دعوناك فلا تردنا، وسألناك فلا تحرمنا، اللهم أجب جمعنا هذا، في هذا المقام العظيم، في هذا الحشر الكبير، في هذا المجمع العظيم، يوم الجمعة، في هذه الساعة تضرعنا إليك، ولجأنا إليك، اللهم وألف بين قلوب المسلمين واجمع كلمتهم، وانصرهم على عدوهم، اللهم رد عنا وعن المسلمين كيد الأعداء وسهامهم، اللهم أذلهم، واكبت باطلهم.

إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءوَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

1 - رواه البخاري 6882
2 - رواه البخاري 31
3 - رواه البزار3641
4 - رواه مسلم1678
5 - رواه الترمذي1398
6 - رواه الترمذي3029
7 - رواه النسائي3997
8 - رواه البخاري6867
9 - رواه ابن ماجه2619
10 - رواه الطبراني 1311
11 - رواه البخاري5778
12 - رواه مسلم1848
13 - رواه البخاري3601
14 - رواه أبو داود4259
15 - رواه ابن ماجه3962
16 - أبو عمرو الداني في الفتن 30
17 - رواه أبو داود4343
18 - رواه أبو داواد4256
19 - رواه أحمد21325
20 - رواه البخاري2704
21 - رواه البخاري2691 ومسلم1799 وأحمد13292 
22 - رواه أحمد6485
23 - رواه مسلم1827
24 - رواه مسلم1827
25 - رواه أحمد22877
26 - (سورة البقرة253) 
27 - رواه الطبراني في الأوسط3839 بلفظ:إلا عمهم الله بالعذاب
28 - رواه مسلم1902
29 - رواه أحمد22719
30 - رواه ابن عساكر22/444
31 - رواه ابن حبان4603
32 - رواه الترمذي1650
33 - رواه أبو داود2541
34 - رواه أبو داود2541
35 - رواه البخاري2797
36 - رواه أبو داود الطيالسي2565