الخميس 20 جمادى الأولى 1446 هـ :: 21 نوفمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

الأضرحة والقبور


عناصر المادة
التوحيد سبب رفعة هذه الأمة وسموها
مظاهر الشرك الأكبر في هذه الأمة
أكاذيب الصوفية وبدعهم عند القبور
بناء الأضرحة على أهل المناصب الدنيوية
الباطنية أقاموا الأضرحة والقبور الشركية
مظهر الاستشفاء بالقبور والأضرحة
مظهر الاعتصام بالأضرحة وطلب الأمان منها

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإن النبي ﷺ قد حذر هذه الأمة من الوقوع في الشرك، وأخبر أنها ستقف آثار الأمم من قبلها، ولا شك أن كثيراً من الأمم قد وقعوا في الشرك، فإذا كانت هذه الأمة ستسير على منوالهم والتشبُّه بهم، فلا بد أن يكون لها نصيب من ذلك.

التوحيد سبب رفعة هذه الأمة وسموها

00:00:44

إن هذا الدين -دين التوحيد- قد أنزله الله ليُعبد في الأرض وحده لا شريك له، وأراد -عز وجل- من عباده أن يعبدوه لا يشركون به شيئاً، وكان التوحيد هو أهم شيء في هذا الدين على الإطلاق، وهو معنى شهادة ألا إله إلا الله، لا إله، أي: لا معبود بحق إلا الله، وبُعث النبي ﷺ بالتوحيد، وبُعث لإزالة الشرك، وكان الجهاد لأجل ألا تكون في الأرض فتنة، والفتنة هي الشرك، وجُعل الأجر عظيماً للموحدين، وكان التوحيد يغفر الذنوب، وكذلك فإن الشرك لا يُغفر إلا أن يتوب منه صاحبه؛ لأن الله قال: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ  [النساء: 48]. وقد ضرب الشرك الأكبر بأطنابه في ديار الإسلام، وانتشر في كثير من قراهم ومدنهم، وكذلك كانت مظاهره عامة، فشُيّدت القباب على الأضرحة، وأُنشئت المساجد على القبور، وأقيمت المزارات والمشاهد، وزينت بالسرج والقناديل، وزخرفت بأنواع الزخارف، وكسيت من غالي الديباج ونفيس الستارات، وحليت أبوابها ونوافذها بسبائك الذهب والفضة، وأُهديت عقود من اليواقيت واللآلئ والزبرجد إليها وقصدها القاصي والداني، ولجأ إلى رحابها المسافر والمقيم، وهرع نحوها العامة والجهال، والكبار والصغار، يرتمون بساحاتها، ويتمرغون في جنباتها، ويلثمون أعتابها، فتراهم حولها يطوفون، وبأصحابها يستغيثون ويستعينون، وفي عرصاتها يهرقون دماء نذورهم وقرابينهم، مظاهر من الشرك الأكبر، وصور من الوثنية، وإن اختلفت الأسماء وتبدّلت الهيئات.

لقد كان ذلك من أسباب تخلُّف هذه الأمة، ما وصلنا إلى الحال التي وصلنا إليها إلا بسبب فشو الشرك في هذه الأمة، ولذلك ذلّت وهانت وتسلّط عليها أعداؤها، ولا شك أن أعظم أسباب ذُل الأمة على الإطلاق وقوعها في الشرك، والشرك الأكبر بالذات، لقد صار في كثير من مجتمعات المسلمين عبادة القبور من دون الله .

كان المشركون في الماضي يسمونها أصناماً وأوثاناً، وهؤلاء يسمونها قبور ومشاهد وأضرحة، والأسماء لا تغير الحقائق، وهي هي في الحقيقة أصنام وأوثان، فبدلاً من أن يُطاف بالصنم والوثن صار يُطاف بالقبر ويُحج إلى القبر، وتُستلم أركانه كما تُستلم أركان البيت، ويُخاطب الميت بالكلمات الكفرية، يقول قائلهم: على الله وعليك، ويهتفون باسم الولي في الشدائد، وهو بعينه فعل المشركين في الأصنام.

وقال الإمام الأمير الصنعاني -رحمه الله تعالى- في هذه الأصنام أو في هذه المشاهد والقبور:

أعادوا بها معنى سواع ومثله يغوث وود ليس ذلك من ود
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها كما يهتف المضطر بالصمد الفرد
وكم نحروا في سَوحها من نحيرة أهلت لغير الله جهلاً على عمد
وكم طائف حول القبور مقبّلاً ويلتمس الأركان من هن بالأيدي

[تطهير الاعتقاد: 63].

هذه المشاهد المبثوثة في بلدان المسلمين إلا من رحم الله، إنها شرك أكبر، إنها أكبر أسباب الذل الواقع على الأمة، فإن الأمة التي ضلت عن ربها وصارت تعبد الأضرحة وتقع في الشرك الأكبر مخالفة حديث النبي ﷺ:  لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد  يحذّر ما فعلوا. [رواه البخاري: 435، ومسلم: 529]. وكذلك جاء في الحديث الصحيح: لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرج [رواه ابن حبان: 3178، وقال: إسناده حسن].

وقال ﷺ: إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك [رواه ابن حبان: 6425، والنسائي في الكبرى: 11058، وصححه الألباني في الإرواء: 286].

وقال ﷺ:  اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد  اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وقال ﷺ: لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليه [رواه مسلم: 972].

ولما ذكرت له بعض نسائه كنيسة رأينها في أرض الحبشة فيها تصاوير، قال ﷺ:  إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنو على قبره مسجداً، ثم صوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله  [رواه البخاري: 434، ومسلم: 528].

ولما بعث النبي ﷺعلي بن أبي طالب أوصاه فقال: ألا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته  [رواه مسلم: 969]. لقد نهى النبي ﷺ عن تجصيص القبور، وعن الكتابة عليها، وعن البناء فوقها، وعن رفعها وتشييدها وإنارتها، كل ذلك من أجل سد الذرائع لعبادتها، ولكن مع الأسف الشديد انزلقت هذه الأمة في مهاوي الشرك، وعبدت القبور والأضرحة من دون الله، وأفتى بعضهم بجواز بناء القباب على القبور إذا كان الميت فاضلاً، ووضعوا ذلك في الكتب التي تدرس للطلاب، وكان أول من أحدث هذه المشاهد الشركية والمزارات الوثنية في الأمة هم أهل الرفض، ومن الذين شجّع على ذلك وأشاعوه الفاطميون عليهم من الله ما يستحقون، الذين ينتسبون إلى فاطمة ظلماً وزوراً وبهتاناً.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بعد أن تحدث عن دور اليهود في نشأة حركة الرفض قال: "فظهرت بدعة التشيُّع التي هي مفتاح باب الشرك، ثم لما تمكنت الزنادقة أمروا ببناء المشاهد وتعطيل المساجد، محتجين بأنه لا تُصلى الجمعة والجماعة إلا خلف إمام معصوم، ورووا في إنارة المشاهد وتعظيمها والدعاء عندها من الأكاذيب ما لم أجد مثله فيما وقفت عليه من أكاذيب من أهل الكتاب، حتى صنّف كبيرهم ابن النعمان -وهو من علماء الإسماعيلية- كتاباً اسمه مناسك حج المشاهد، وكذبوا فيه على النبي ﷺ وأهل بيته أكاذيب بدّلوا بها دينه وغيّروا ملته، وابتدعوا الشرك المنافي للتوحيد" [مجموع الفتاوى: 27/161].

مظاهر الشرك الأكبر في هذه الأمة

00:08:49

وقد تجلّت مظاهر الشرك الأكبر التي وقعت في هذه الأمة في هذه العصور المتأخرة، تجلت بمظاهر ومنها بناء المساجد والقباب والمشاهد على الأضرحة والقبور، فزيّنوها وحسّنوها ورفعوا سمكها وأُهديت إليها القناديل من الذهب والفضة والجواهر الفاخرة واللآلئ الثمينة والأحجار الكريمة وقطع الألماس التي لا تُقدّر بثمن، وربما لو أنها حوّل ثمن بعضها بالعملات الحاضرة لصارت مئات الملايين، بل ربما بلغت آلاف الملايين.

وصار الأغنياء والوجهاء يتقربون إلى القبور بما يهدون إليها، فأهدوا إلى قبر النبي ﷺ في العصور الماضية أشياء طائلة من الذهب والفضة وغيرها، فلما بعث الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- وأزال آثار الشرك والجاهلية، ودخل أتباعه فاتحين بدعوة التوحيد إلى تلك الأماكن أخذوا هذه الأموال من الذهب والفضة وجعلوها في الجهاد في -سبيل الله تعالى-، فكان ذلك من الله فتح عظيم، ولكن أعداء الدعوة استغلوا هذه الأشياء للطعن على الدعوة وأهلها، وقالوا: إن هؤلاء قد سرقوا قبر النبي ﷺ، ولكن في الحقيقة إنما أزالوا الشرك وآثاره، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في تاريخ عبادة القبور في هذه الأمة عدداً من المشاهد التي كانت في عهده، واستمر كثير منها بعده، وكتب مؤرخو الإسلام عن آثار الشرك في هذه الأمة، فمما ذكره -رحمه الله-: "القبر الذي بجبل لبنان بالبقاع ويقال له: قبر نوح، ظهر في أثناء المائة السابعة، ويقال: إن جيران القبر حدّثوه أنهم شموا من القبر رائحة طيبة، ووجدوا عظاماً كبيرة! فقالوا: هذه تدل على كبير خلْق البنية، فقالوا -بطريق الظن- هذا قبر نوح، وكان بالبقعة موتى كثيرون من جنس هؤلاء، وهكذا طمست البدعة أبصارهم، والدليل على أن هذا ليس بقبر نوح : أن الأنبياء لا تأكل الأرض أجسادهم، فكيف يقولون وجدنا عظام كبيرة وهذا قبر نوح" [مجموع الفتاوى: 27/459]. و  الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء  [رواه أحمد: 16162، وأبو داود: 1047،  والنسائي في السنن الكبرى: 1085،  وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1527].

وأجسامهم لا تُبلى -عليهم الصلاة والسلام- كما ثبت ذلك في الحديث.

ومن هذا أيضاً مزار يحيى بن زكريا المزعوم في صيدا في جنوب لبنان في قمة جبل يشرف على البلد والبحر.

وكذلك مغارة في ضيعة سبسطه بفلسطين، يزعمون أن فيها رأس يحيى بن زكريا -عليه السلام-.

وكذلك في دمشق في قلب الجامع الأموي له أيضاً قبر يقال فيه يحيى بن زكريا وله قبة وشباك.

قال -رحمه الله- وهو من علماء دمشق: "ولا يثبت من هذه المواضع شيء".

وكذلك زعموا أن في الجامع الأموي بحلب توجد حجرة تعرف بـالحضرة النبوية، فيها رأس يحيى بن زكريا، فكم رأساً ليحيى بن زكريا يا ترى؟ ومع ذلك قالوا: إنه في صندوق جرن وأنه محفوظ في صندوق مرمر، وأنه مجعول في خشب مكسو بمخمل مزركش بقصب فضي مكتوب عليه بعض آيات من سورة مريم، ويُهدى لهذا الضريح ما يُهدى، ويزعمون أن فيه مصحفاً شريفاً بقلم المغيرة بن شُعبْة الصحابي، ولم يثبت ذلك ولا دليل على أنه بخط المغيرة بن شعبة.

وقال الغَزي المتوفى سنة 1351 للهجرة بعد أن ذكر الخلاف في هذا المدفون، قال: "وعلى كل حال فليس يخلو الجامع من أثر شريف نبوي جدير أن تفتخر به -أي المدينة- ولا يمتنع في عرف هؤلاء المولعين بالأضرحة والمشاهد أن يكون للنبي أو الولي أكثر من ضريح ومشهد في أكثر البلاد، ولهم في ذلك تبريرات ساقطة".

وكذلك قالوا إن هناك مزاراً للنبي شمعون في الجزء الشرقي من صيدا يخرج إليه أهل البلد في الغداة والعشي لشمّ الهواء، -سبحان الله-، ما صار هناك مكان لشم الهواء إلا إلى القبور والأضرحة، وكذلك مزار صيدون في وسط البساتين في صيدا يقولون: إنه لنبي من الأنبياء، ومزار لداود أيضاً في نفس المدينة، ومزار لصالح في يافا بفلسطين، وفي وادي سرب بحضرموت قبر طويل عليه قبة كبيرة يزعمون أنه للنبي صالح، والتاريخ لا يثبت وجود قبر النبي صالح في حضرموت؛ لأنه مات في الحجاز، ثم يقولون كذلك ضريح الخليل عليه قبة وبابه من فضة وضريح إسحاق ويعقوب ويوسف، كل ذلك في مسجد كبير في الخليل، يقولون أنه فيه كل هؤلاء، وبُني المسجد على هذا، ويقولون أن قبر يونس في بلدة حلحول، وكذلك يذكرون ضريحاً مبنياً عليه جامع النبي يونس في قرية نينوى بالعراق، وكذلك بسواد الموصل جوامع قد بُنيت على مزارات وقبور للأنبياء، يزعمون أن فيها يونس ، وكذلك ضريح الأسباط إخوة يوسف المزعوم، وكذلك ضريح ذي الكفل المزعوم في جبل قاسيون ببلاد الشام، وضريح يوشع في معرّة النعمان، وضريح شيث في المعرّة أيضاً، قال: "ولم يكن قبر النبي شيث معروفاً قبل القرن الحادي عشرة للهجرة، حيث رأى أحد ولاة الموصل في ذلك القرن مناماً يدل على موضع القبر، فبُني الضريح، ثم بُني عليه جامع كبير"، الدليل: منام!، رأى مناماً أن في هذا المكان قبر نبي، فبني ضريح ثم بني مسجد بناء على المنام!، ويقولون: إن في مغارة الصالحية بدمشق مغارة تسمى مغارة الأربعين مات بها أربعون نبياً جوعاً، فما هو الدليل على ذلك؟ لا تجد دليلاً.

ثم قبر آخر منسوب إلى هود في حضرموت، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن العامة في دمشق يسمون قبراً بحائط مسجد دمشق بقبر هود، وأن الراجح أنه قبر معاوية .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وغالب ما يستند إليه الواحد من هؤلاء أنه يدعي أنه رأى مناماً، أو أنه وجد بذلك القبر علامة تدل على صلاح ساكنه، إما رائحة طيبة، أو توهُّم خرق عادة، وإما حكاية بعض الناس أنه كان يُعظّم ذلك القبر، وهكذا يعتمدون على هذه المنامات وعلى هذه الحكايات ويبنون عليها، وقد ذكر النبي ﷺ أن هناك رؤيا من الشيطان، فلماذا لا تكون إذن هذه الرؤيا من الشيطان ليضلهم.

أكاذيب الصوفية وبدعهم عند القبور

00:17:08

ومن الهراءات والكذب العجيب ما حكاه بعض الصوفية أنه قال عن الولي أنه قال: حدّثني أخي الخضر أن قبر الخضر بمكان كذا، الآن الخضر يخبره أن قبره بمكان كذا، فإذا كان على زعمهم حياً لم يمت، فكيف صار قبره بمكان كذا، وتجد في هذه القبور والأضرحة بعض الكتابات، ومن هذا ما يوجد على قبر نبي مزعوم يسمونه كالب بن يوفنا من سبط يهوذا في بعض بلاد المسلمين مكتوب عليه:

مقام عليه هيبة وجلالة تدل على التحقيق ما شاع واشتهر
بأن الذي هذا الضريح يضمُّه نبي له في الذكر شأن وفي الأثر
فزر لنبي الله يا طالب الهدى وصلّي عليه مثلما جاء في الأثر
وسل عنده الحاجات تظفر بنيلها فما خاب عبد بالنبيين انتصر

 [نهر الذهب في تاريخ حلب: 2/101].

وذهب الانتصار بالله ودعاء الله وسؤال الله الحاجات، وتوجهوا إلى هذه القبور المزعومة، وأما إذا قلت لهم كيف يكون قبر الحسين في مصر، ثم يكون في الشام، ثم يكون في المكان الفلاني؟، وكيف يكون رأس يحيى بن زكريا مرة في حلب، ومرة في دمشق، ومرة في مصر، ومرة في لبنان، ومرة في كذا؟

يقول أحدهم في كتاب طبقات الصوفية: "إن الأرض لأجسام الأنبياء والأولياء كالماء للسمك، فيظهرون بأماكن متعددة، ويُزار كل مكان قيل عنه إن فيه نبي كريم، أو ولي عظيم" [نهر الذهب في تاريخ حلب: 2/102].

يقولون: الأرض بالنسبة لقبور الأنبياء مثل الماء للسمك، فالسمك يظهر هنا وهنا وهنا، وكذلك هذه القبور تظهر هنا وهنا وهنا، وهكذا، فلا تعترضوا علينا يا معشر الموحدّين، وتقولون لنا: كيف يوجد رأس الحسين، أو يوجد قبر الحسين، أو قبر أو رأس النبي يحيى، أو كذا في عدة أماكن، إلى آخر ذلك من التبريرات الساقطة التي يموهون بها على العامة والمغفلين والسذج، ولا أدل على كذب هؤلاء من وجود عدة أضرحة لنبي واحد في أماكن متفرقة، وعُدّ كم قبراً للخضر، ستجد أمراً عجباً عجاباً.

وكذلك فإن هناك إذا كان على مستوى الأنبياء هذه عشرات من القبور، فإنك ترى بالنسبة للأولياء والصالحين المئات والآلاف من القبور، بدءاً من الصحابة فمن بعدهم، وتُروى فيها القصص والحكايات.

فمثلاً: يقولون عن القبر الفلاني في المدينة الفلانية من بلدان المسلمين إن البلدية لم تستطع نقله عند توسيع الشارع؛ لما حصل من قصة العامل الذي أُصيب بالشلل عندما عزمت البلدية على نقل الضريح، مما جعلها تلغي الفكرة وتتحايل لتوسيع الشارع من جانبيه، فيقولون: قد أصيب بالشلل لما حاول نقل الضريح! وهكذا يريدون جعل حرمة للأضرحة حتى يهاب الناس أن يحطموها أو يزيلوها، وتبقى هذه الشركيات موجودة.

مع الأسف الشديد لقد اعتنى الأكابر والأغنياء بعمارتها وزخرفتها وفرشها وتنويرها بالشموع والزيوت، ورتبوا لها الأئمة والمؤذنين والبوّابين وقراء لقراءة الختمات والتوسُّلات ووقفوا عليها الأوقاف توسُّلات لهذا المقبور.

وقد أطال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في نسف أدلتهم وحججهم، وبيّن أن العبيديين في أواخر دولتهم قد أقاموا كثيراً من ذلك، وأن يصرفوا الناس عن عبادة الله إلى عبادة غير الله .

وقد ذكر أن بعض من قال من قال إن هذا قبر فلان لما صار في التحقيق إذا هو بقبر رجل نصراني.

وقد حصل في بعض البلدان أن كان الناس يتبرّكون بقبر، ثم ظهر خبر أن هذا القبر لراهب مسيحي، ولم يصدق الناس ذلك حتى عثروا على الصليب في القبر، عثر على الصليب في القبر، وهم يعبدونه ويتوسلون إليه ويذهبون إليه، ثم يظهر في النهاية أنه لقبر نصراني! وقد دخل في هذا المتحايلون، فكان بعضهم إذا افتقر وأعيته الحيلة ادعى كما فعل بعضهم أنه كان مع حماره في سفر، فتعب الحمار ثم مات، فانقطع الرجل فحفر للحمار حفرة دفنه فيها، ثم ذهب جرياً إلى أقرب قرية يصيح بالناس: إن الولي الفلان قد صادفه وهو على الموت في الطريق، وإنه دفنه وإنه أوصى أن يذهب إلى أهل القرية ويسلّم عليهم من قبل هذا الولي، ليستوصوا بقبره خيراً، وأنه أوصى بأن يكون هو الوصي على هذا المشهد، فذهبوا ولم يكذبوا خبراً، فبنو عليه مشهداً وضريحاً، وجعلوا هذا الشخص هو القائم عليه، تُهدى إليه النذور والقربات وهو يأكل منها، وليس في الحقيقة إلا حمار مدفون.

وهكذا كان الجهّال والسُّذج تشيع فيهم مثل هذه الأمور، وتصبح المدافن مزارات يؤتى إليها من كل حدب وصوب، وزُعم كذلك أن في معرّة النعمان ضريح لرجل يدعى: عطاء الله يزعمون أنه صحابي، وإذا بحثت في أسماء الصحابة لا تجد أثراً لهذا الاسم بينهم، ويقولون: إن ضريحاً في بلدة الرها لجابر بن عبد الله الأنصاري، مع إن جابراً توفي بالمدينة، ويقولون: إن في البصرة ضريح الزبير بن العوام، وعتبة بن غزوان، والمقداد بن الأسود، وأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن عوف، مع أن عبد الرحمن بن عوف  قد دُفن بالمدينة بالبقيع، وقد ذكر شيخ الإسلام أن بعض أصحابه حدثه أنه ظهر بشاطئ الفرات رجلان، وكان أحدهما قد اتخذ قبراً تجبى إليه الأموال ممن يزوره، فعمد الآخر إلى قبر وزعم أنه رأى في المنام أنه قبر عبد الرحمن بن عوف، وجعل فيه من أنواع الطيب ما ظهرت له رائحة عظيمة، فذهب الناس وشمّوا رائحة هذا الطيب، فاعتقدوا أن الصحابي فعلاً مدفون في هذا القبر، فعظّموه، وعظموا هذا الرجل أيضاً". وقد حصل أيضاً من التزييف في القبور في أرض الكنانة وغيرها، حتى عُدّ في القاهرة وحدها مائتان وأربعة وتسعون ضريحاً، ومن أشهرها ضريح الحسين، والسيدة سُكينة، والسيدة نفيسة، والسيدة زينب، وغيرها، وبُني عليها جوامع ومساجد، وكذلك ذكر بعض المؤرخين أنه قد زار الشام فرأى من التُرَب والأضرحة والمزارات في دمشق وضواحيها ما يزيد على مائة وأربعة وتسعين موضعاً، وفي الهند يوجد أكثر من مائة وخمسين ضريح، لا تزال موجودة إلى يومنا هذا، وفي الأستانة يوجد أربعة وواحد وثمانين جامعاً لا يكاد يخلو جامع منها من ضريح، وفي بغداد يوجد أكثر من مائة وخمسين جامعاً في أوائل القرن الرابع عشر الهجري قلّ أن يخلو جامع منها من ضريح.

وهكذا صار لا يكاد يخلو جامع في المدن الكبيرة في حواضر العالم الإسلامي من جوامع فيها أضرحة تُعبد من دون الله، وتُبنى عليها المساجد والجوامع، ويُذهب إليها ويُطاف بها ويُتمسّح بشبابيكها وتُقبّل أعتابها، ويُدعى أصحابها من دون الله.

بناء الأضرحة على أهل المناصب الدنيوية

00:26:15

ولم يقتصر الأمر على بناء الأضرحة والقباب على قبور الأنبياء والأولياء والصالحين، بل تعدى ذلك إلى البناء على كل من له رئاسة دنيوية، ولو كان من أفجر الفجرة، وقد وصل الأمر أحياناً أن يُبنى قبر على صعلوك كان يقطع الطريق، بُني عليه جامع وقُبّة، كما فعل الخديوي إسماعيل في سنة ألف ومائتين وثمانين للهجرة برجل يدعى صالح أبو حديد كان قاطع طريق فمات فبنى على قبره مسجداً يعمل له حضرة كل أسبوع ومولداً كل عام، وأوقف عليه أوقافاً، وكذلك المجذوب المسمى: بعلي البكري كان يطوف بالشوارع عرياناً، فلما مات بُني على قبره مسجداً، واجتزأ نصف الأرض ظلماً وعدواناً، وجعل ضريحاً ليزوره الناس.

وكذلك عُرف مسجد في بعض بلدان المسلمين بمسجد العريان؛ لأن صاحبه المقبور فيه كان في أكثر أوقاته يغلب عليه الحال، فيتجرد من ثيابه، وهذا ما يسميه الصوفية بالجذبة أو الصرعة، الصرع الذي يحدث إذا اشتد الذكر بزعمهم، وكان بعضهم من كراماته أن يتعرّى من ثيابه أثناء هذه الصرعة، هذا يعتبروه من الكرامات! وجعلوا لهذا الشخص مسجداً على قبره وضريحاً يُزار.

وكذلك وصل الأمر أن يندب بعض المسلمين حال الأضرحة لما استولى بعض النصارى على تلك البلدان التي فيها أضرحة، فقال بعضهم في استيلاء الأسبان على تطوان بالمغرب:

فالدين يبكي بدمع يحكيه صوب الغمامة
على مساجد أضحت تُباع فيه الودامة
كم من ضريح ولي تلوح منه الكرامة

عَلّق فيه رهيب صليبه ولجامه

تطوان ما كنت إل بين البلاد حمامة

 [الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى: 3/93].

فهذا الشاعر يتأسف على أن هؤلاء قد علّقوا صلبانهم وتركوا هذه الأضرحة ولأجل ذلك، فقاموا يدافعون عنها ويبكون لأجل ذلك، الدين يبكي بدمع يحكيه صوب الغمامة على مساجد أضحت تباع فيها الودامة، كم من ضريح ولي تلوح منه الكرامة علق فيه رهيب صليبه ولجامه، تطوان ما كنت إلا بين البلاد حمامة، فهذا الشاعر يتأسف على أن هؤلاء قد علّقوا صلبانهم وتركوا هذه الأضرحة، ولأجل ذلك فقاموا يدافعون عنها، ويبكون لأجل ذلك، وإنما ما انتصر الصليبيون إلا لأن هذه الأضرحة قد عُبّدت من دون الله، فلم ترد شيئاً وما أغنت، كما قال الله تعالى:  فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: 101]. وهناك لبيوت هذه الأصنام سدنة وحُجّاباً يقفون عليها، آلاف من الناس، ويأخذون من تلك الأموال، وما بالك بما يأتي إلى من أموال إلى قبر مثل قبر البدوي مثلاً، أو غيره الذي يحج إليه الملايين في كل سنة، له باب يدخل منه الناس، وآخر منه يخرجون، ويطوفون بهذا الضريح سبعة أشواط، ثم يحلقون رءوسهم، ويأتي الفلاح بالبقرة ليذبحها عند ذلك الضريح، فصُرفت عبادة الطواف وحلْق الشعر والذبح لهؤلاء من دون الله .

وكذلك فقد أصبحت حياة كثير من الناس مرتبطة بهذه الأضرحة والقبور، وامتلأت بحبها جوانحهم وشغفت بها قلوبهم، فيلجئون إليها في الشدائد والمهمات، ويأتي إليها المظلمون والمضطهدون ويأوي إليها الفقراء والمحاويج ليعيشون في كنفها، ويفر إليها العصاة والمجرمون فيعتصمون بها، ويلوذ بها الخائفون وتُزار في المناسبات والأعياد، وتكون آخر عهدهم إذا ودّعوا الأهل والبلدان، وأول شيء يبدءون به إذا عادوا إلى أوطانهم، وإذا رزق أحدهم بمولود سرعان ما يحمله إليها لتبارك في عمره ورزقه، ومن كان عقيماً سألها الولد، ومن كانت عانساً رجت منه زوجاً، ولا تكاد تخلو قرية من إله صغير يُقدّم الناس له ولأتباعه الذبائح، وتقسم عليه الحلوى في الموالد وغير ذلك، وربما حمل بعضهم نوعاً من الطعام كالملوخية إلى قبر شخص من هؤلاء الأولياء في العيد، ثم يأكلون وبعدما يأكلون يسكبون هذه على القبر ويقولون: إنه -رحمه الله- كان يحب الملوخية!.

فهكذا إذن وصل الأمر بهؤلاء ونظُمت المنظومات بالاستنصار بهم، ومن ذلك ما حصل في قبر الخوجلي المزعوم عندما قتلته جارية كانت عنده، ثم اتُهمّ بعض أولاده بذلك، فقام أحد الناس نظم قصيدة يقول:

اليوم يا خوجلي يا غوث من ذُعرَ أبناؤك الغر من بين الورى أسرى
سموا لصوصاً وقالوا إنهم قتلوا نزيلهم في جوار الناس والفقراء

إلى آخر القصيدة التي يناديه فيها بكشف الحقيقة.

ويقول بعد ذلك إنه قد حصلت البركة وأنطق الله الجارية وأقرّت بقتل سيدها وقُتلت به وأنقذ ذرية الشيخ الخوجلي ببركة أبيهم، وهكذا قالوا، وعندما احتل بعض النصارى بعض بلدان المسلمين قام بعضهم إلى قبر أحد هؤلاء ناظماً قصيدته يبتغي النصر منه، وأن يغيث الأمة، وأن يقاتل الأعداء، بل إن بعضهم كانوا يعتقدون أن السيد أحمد البدوي بالشرق، وإبراهيم الدسوقي في الغرب يقتلان كل من يمر عليهما من النصارى، وهذا في زمن الحملة الفرنسية على مصر، هكذا يعتقدون، ويُطلب العون والمدد والنصر من هؤلاء ضد المحتلين، وما زاد الأمر إلا شدّة، ولا زاد الناس إلا كربة؛ لأنه صار يُستنصر بهؤلاء الأولياء لدفع شر هؤلاء النصارى، فيقول واحد من هؤلاء:

توسّلتُ بالمختار أرجى الوسائل نبي لمثلي خير كاف وكافلِ
دعوتك يا الله مستشفعاً به فكن منجدي يا منتهى كل آملِ
سألتك كشف الضر عني بجاهه وحاشاك ألا تستجيب لسائلِ
فإني بطه مستغيث وراغب إلى الله فهو الغوث في كل هائلِ

[حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر: 331]

يقول: "طه" يعني المصطفى ﷺ هو الغوث في كل هائل.

وقال أيضاً أحدهم:          

باكر مصلى بني أمية في الدجى واعطف على كنز السماحة معرّجاً
وارقب مهب الجود من أعتابه والزم لذياك المقام أخي الحجا

يا من وقف متضرعاً بجنابه -جناب هذا الميت في القبر- وابسط أكف الفقر في باب الرجى

وادعوه يا يحيى الحصور وقل له عطفاً على حان إليك قد التجا

يا سيداً وصف الإله كماله في محكم التنزيل أضحى مدرجاً

 إلى أن يقول:

إني رجوتك حاجة فاشفع بها عند الكريم ومن رجاك فقد نجا

 عجّل بها يا ابن الكرام أجب أجب فالأمر ألجأ للجاج وأحوجا

سل خالقي فيما رجوتُ إجابة واسأله لي من كل ضيق مخرجا

[حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر: 1609].

بدل أن يتوجه إلى الله، يأتي يقول لهذا المقبور: ادعُ لي ربك، وسل لي ربك، واشفع لي إلى ربك، وهو ميت!  إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30]. ومع ذلك بدلاً أن يقول: يا الله، يقول: يا فلان عجّل عجّل وأجب أجب، وسل خالقي، واسأله أن يجعل لي من كل ضيق فرجاً.

وكذلك فإن بعض هؤلاء أيضاً قد كانوا مثلما كان العرب يفعلون في اللات والعُزى بالضبط يفعلون مع هؤلاء، وبعض أصحاب القبور ملاحدة معروفين بالإلحاد في التاريخ الإسلامي، كابن عربي -قاتله الله- الذي جُعل له قبر بدمشق، يعتقد الناس أنه من كبار أولياء الله، يغدون إليه ويروحون، ولا يرضون بابن عربي بديلاً، تضع المرأة خدها على شُبّاك الضريح وتمرّغه وتنادي: أغثني يا محيي الدين!.

وقال بعض الزائرين: وجدت الصبايا البريئات يجئن إليه ويمددن أمامه الأكفّ ويمسحن الوجوه ويخشعن ويتضرعن وهكذا يفعلون!، وكذلك ضريح علي الهجوري في لاهور من القبور العظيمة، يزوره الناس في كل سنة، بل في كل يوم ويطوفون حوله، ويسجدون له، ويقدّمون النذور، ويستغيثون به، ويطلبون العَون والمدد، وهكذا يفعلون.

الباطنية أقاموا الأضرحة والقبور الشركية

00:00:00

قال شيخ المؤرخين الحافظ الذهبي -رحمه الله- يقول عن بعض الأضرحة التي كانت موجودة في أرض الكنانة: "إن بعض هؤلاء الجهلة لهم اعتقاد يجاوز الوصف في هذا المقبور، فإنهم يسجدون له ويلتمسون المغفرة، وكل ذلك من دسائس العبيدية" [سير أعلام النبلاء: 10/106]. فالعبيديون هؤلاء الذين حكموا في تلك الفترة جعلوا هذه القبور وأقاموها وشجّعوا عليها، ثم بعد ذلك الذبح والنذر لها، فإنهم يذهبون بما عندهم من المواشي ليذبحون، وعند مغادرة بعض النصارى المحتلّين لبعض البلدان ذبح بعضهم خمس جواميس وسبعة أكباش واقتسمتها خدمة الضريح؛ ليكون ذلك شكراً على مغادرة هؤلاء المحتلين".

وقال الشوكاني -رحمه الله-: "ومن المفاسد البالغة إلى حد يرمى بصاحبه وراء حائط الإسلام ويلقيه على أم رأسه من أعلى مكان الدين أن كثيراً منهم يأتي بأحسن ما يملكه من الأنعام، وأجود ما يحوز من المواشي، فينحره عند ذلك القبر" [الفتح الرباني: 6/3109]. وبعضهم كان ينذر الزيت والشموع لصاحب القبر لكي يبقى مناراً.

مظهر الاستشفاء بالقبور والأضرحة

00:38:34

وكذلك الاستشفاء وطلب البرء من الأضرحة، فتركوا الطب والمستشفيات، وصاروا يذهبون إلى هؤلاء يطلبون شفاء العاهات والأمراض، ويذكر المؤرخ الحضرمي صلاح البكري أن بعض الطوائف كانوا يضعون في قباب موتاهم إناءين أحدهما للنقود والآخر للزيت الذي يقدّمه المريض لطلب الشفاء، فيضع الزيت ويأتي ليأخذه بعد يوم أو يومين، يقول بارك فيه المقبور أو الميت أو الشيخ أو الولي، ويأخذه ليُدهن به ويُستشفي، هكذا حصل.

وذكر أن بعض المرضى كانوا يأكلون من تراب بعض القبور طلباً للشفاء، وذكر أنه مرض وهو صغير بالحمى فذهب به إلى قبة الهدار العلوي وأكل قليلاً من تراب قبره وقبّل ضريحه، ثم عاد إلى البيت ويرتعد من الحمّى، وذهب إلى السوق وابتاع رطلاً من زيت السمسم ووهبه لخزانة الضريح"، قال: "ويبالغ بعض الدجالين من أصحاب السلطة الروحية فيسقون المريض ماء ممزوجاً ببزاقهم للشفاء، وليس في هذا البزاق إلا السمُّ الناقع، وهل يُتبرّك بريق أحد بعد النبي ﷺ، فإنه لا يُتبرّك بشعر أحد ولا بجلده ولا بعرقه ولا ببصاقه إلا النبي محمد ﷺ.

وهذا قبر أبي العباس المرسي يُلقّب بالترياق المجرب، وأن هذا القبر أو هذا الضريح نافع للسعة العقرب، وهذا لعضة الحية، وهذا للحمى، وهذا لكذا وكذا، وتُنشر التمائم والعزائم على القبر، وتُبخّر الملابس، وبعد ذلك تؤخذ بعد تعليقها على القبر ليُستنفع بها ويُستشفى بها.

مظهر الاعتصام بالأضرحة وطلب الأمان منها

00:40:54

وكذلك الاعتصام بهذه الأضرحة مظهر من مظاهر الوثنية التي كانت دهراً طويلاً في بلاد المسلمين، يأتون إلى زاوية الشيخ أو المقبور، ويطلبون الأمان عنده، وربما لا يتجرأ أحد على قتل قاتل أبيه إذا استجار بهذا القبر أو بهذا الضريح، وكذلك فإن بعض هذه الأضرحة قد هيمنت على حياة الناس فترة طويلة، فتقدم الأموال ويكرم الضيوف والوافدون إلى هذه الأضرحة، وتعتبر خدمة ضيوف الضريح من القربات إلى الله بزعمهم.

وكذلك ربما استُقبلوا من بلاد بعيدة وضُيفوا في البيوت وأُتي لهم بالأطعمة وهم مفترشي الساحات ساحات الضريح قربى إلى الله بزعمهم، ويقول بعضهم: زيارة أهل الله من أعظم الذخر، وكنز الفلاح في القيامة والحشر، فيعتبرون أن زيارة الضريح زيارة القبر من أعظم ما يدخر ليوم الدين، بل وصل الغلو ببعضهم من الصوفية إلى إسقاط فريضة الحج عمن يشد الرحال إلى بعض الأضرحة التي تُعظّم من دون الله.

وقال بعضهم: إن الذي يزور مقام إبراهيم بن أدهم سبع مرات تسقط عنه فريضة الحج.

وكذلك بعض العوام لديهم اعتقاد سائد أنه يأتي يوم ينقطع فيه طريق الحج إلى مكة، وعند ذلك يحج الناس إلى مقام السيد البدوي في طنطا، ويعتبرونها حجة كاملة، وفي الهند يعتقد أتباع معين الأجميري الذين يعدُّون بالآلاف أن زيارة ضريح شيخهم سبع مرات تكفي عن زيارة مكة للحج، وكذلك فإن بعضهم قد رُتبوا مؤذنين وجُعلت لهم رواتب عند هذه القبور، وربما لا يخرج جيش لقتال حتى يمر عند القبر أو الضريح؛ لسؤال النصر منه قبل الخروج لملاقاة العدو، وتُعفى بعض اللحى عند سدنة الأضرحة، ويُجعل الأولاد في ذمة الأضرحة والموتى، فينذر بعضهم مثل ما نذرت امرأة عمران مريم ابنتها لخدمة بيت المقدس ينذرون أولادهم إذا كبروا ليكونوا خدّاماً عند الضريح وفي هذا القبر ورواده، ثم بعد ذلك تتلى المدائح النبوية الممزوجة بالشرك الأكبر عند هذه الأضرحة، وأيضاً يرسل بها من لم يستطع أن يذهب يرسل بها مع من ذهب، وهذا قد حصل حتى في مدح النبي ﷺ حصل من الشرك الأكبر ما الله به عليم، كما قال عبد الصمد الأرمنازي:

لستُ أخشى ولي إليك التجاء يا نبياً سمت به الأنبياء
كنتَ نوراً وكان آدم طيناً فأضاءت بنوره الأرجاء
يا رفيع الجناب أنت المرجّى في المهمّات إذ يعمّ البلاء
كن مجيري يا خير هادٍ لأني ليس لي في الأمور عنك غناء

[حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر: 850].

بدل أن يقول: ليس لي إلا الله، صار يقول: ليس لي في الأمور عنك غناء!.

وقال آخر أيضاً: كن لي مغيثاً يا شفيعاً بالورى يوم الزحام وخفة الميزان

أنت الملاذ لنا وأنت عياذنا أنت المشفّع بالمسيء الجاني
أرجوك تلحظني ختام الأنبياء بلحظة أغدوا بها بأماني

فصرفت الاستغاثة والاستعاذة واللجوء بدلاً من أن يكون الله جعلوه للنبي ﷺ وإلى غيره.

قال بعضهم مخاطباً النبي ﷺ:

يا خير من يُرجى لكل ملمّة يا من به المنجى من الهلكات

إن لم تغثن يا عاجلاً بشفاعة أضحى بها في ثبات
أنت الذي قد كنت نوراً أول أصلاً لكل الكون في النشآت
العرش والكرسي وكل مصوّر من نورك المكنون في المشكاة

فهذا يعتقد أن الكون كله خلق من نور النبي ﷺ من غُلوّه ومن شركه جعله هكذا.

وقال بعضهم:

                   

فيا خير خلق الله يا أشرف الورى على بابك العالي أنخت مطيتي
وفيك لقد أمّلتُ نيل مقاصدي إلا وأرجوك يا مختار إبراء علّتي

    

فإذن، يرجون قضاء الحاجات ويرجون شفاء العلل ويرجون الغوث، بدلاً من أن يدعو الله الحي القيوم الذي لا يموت، يدعون الأموات، ولا شك أنه قد حصل من الشرك بالأحياء والأموات في هذه الأمة أمور كثيرة جداً، وهذه طائفة من تلك الأشياء التي تدل على ما وصلت إليه الأمة في انحدارها من الشرك بالله حتى جعلوا يُقسمون بالأضرحة ويحلفون بالموتى، وربما حلف بعضهم بالله كاذباً، لكن لا يجرؤ أن يحلف بالولي كاذباً، ولذلك ما يقول بعضهم لبعض: احلف بالله، يقول: احلف بالولي الفلاني، إذا أراد أن يحلف له في قضية خطيرة ومهمة قال: احلف بالولي الفلاني.

هذه الأشياء وإن كنا هنا في مكاننا لا نراها وربما نسمع عنها سماعاً، لكنها في الحقيقة موجودة في كثير من بلدان المسلمين، وإن كانت في كثير من البلدان أيضاً ولله الحمد قد خفّت، وأنه قد انتشر من نور التوحيد والرسالة المحمدية الصافية، وما حصل من مجدد الدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- وطلابه وأتباع هذه الدعوة المباركة، من الزيارات والدعوة والقيام بها، وممن تأثر بها أيضاً في بلدان كثيرة من المسلمين.

ومن المجددين أيضاً الذين بعثهم الله في هذه الأمة قد حصل ولله الحمد آثار طيبة جداً، واستجاب حتى العامة لدعوة التوحيد ورجعوا عما كانوا فيه، لكن لا يزال الملايين في العالم الإسلامي -الملايين بدون مبالغة- يعبدون الأضرحة والقبور من دون الله، ثم إذا سألنا بعد ذلك لماذا تعيش هذه الأمة في ذل؟ ولماذا الأعداء متسلطون عليها؟ لماذا هي في هزيمة؟ فإن أصل البلاء كله وأساسه: عدم تجريد التوحيد لله، فإذا جُعلت العبادة لغير الله، والشفاعة لغير الله، وكذلك جُعل الغوث والرجاء والاستغاثة والاستعانة لغير الله ، وجُعل الحكم بغير ما أنزل الله، فصار شركاً في الرجاء، وشركاً في الاستغاثة، وشركاً في النذر، وشركاً في الذبح، وشركاً في الطواف، وشركاً في الحكم، وشركاً في غير ذلك، هذه في الحقيقة سبب البلاء الأساسي، وهذا هو سبب سيف الذُّل المسلّط على هذه الأمة، حتى إذا رجعت إلى توحيد الله في سائر عباداتها، فإن الله سبحانه يرفع عنها سيف الذل المسلّط على رقابها وهم هؤلاء الأعداء، فنسأل الله أن يرد المسلمين إلى التوحيد رداً جميلاً.