الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
الدعاء سلاح المؤمن
فإن الدعاء سلاح المؤمن، والأمة إذا أحاط بها أعداؤها تحتاج إلى أسلحة لمواجهتهم، فما أعظم هذا السلاح، وما أمضاه، وما أقواه، إنه في المواجهة عظيم النفع، شديد الأثر، لا يستغني عنه مسلم بحال، وخاصة في زمان الضعف الذي تداعى أعداء الأمة عليها، كما تداعى الأكلة على قصعتها، فما أحوج إخواننا المستضعفين في الأرض للدعاء، وما أحوج المرابطين في البقاع والثغور، والمجاهدين للدعاء، إنه يستنزل النصر والسكينة، ويؤدي إلى خذلان الأعداء، وإنزال الرعب في قلوبهم، لقد كان سلاح الموحدين عبر القرون، قال تعالى عن طالوت وجنوده من المؤمنين لما برزوا لجالوت وجنوده من الكفار: وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَسورة البقرة 250. فماذا كانت النتيجة؟ قال تعالى: فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ سورة البقرة 251. لجأ الأنبياء إلى سلاح الدعاء كما قال نوح عندما أيس من قومه: رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا سورة نوح 26. وهكذا دعا موسى ﷺ على فرعون لما طغى، وتجبر، وتسلط، ورفض الهدى والحق، قال موسى: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ سورة يونس 88. وقال عن هذا الدعاء: قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ سورة يونس 89.
دعاء النبي ﷺ على المشركين
وهكذا كان نبيناً ﷺ يدعو على قريش، يرفع صوته، ويقول: اللهم عليك بقريش، اللهم عليكم بقريش، اللهم عليك بقريش[رواه البخاري 520]. ولما قام يصلي عند الكعبة، وجمع من كفرة قريش في مجالسهم، قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه، فانبعث أشقاهم فلما سجد رسول الله ﷺ وضعه بين كتفيه، وثبت النبي ﷺ ساجداً، فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، فانطلق منطلق فأخبر فاطمة، -وهي جويرة- فأقبلت تسعى رضي الله عنها، وثبت النبي ﷺ ساجداً، حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم، فلما قضى رسول الله ﷺ الصلاة قال: اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريشثم سمى: اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد قال ابن مسعود الراوي: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر، ثم قال رسول الله ﷺ: وأتبع أصحاب القليب لعنة [رواه البخاري 250]. ومعنى قوله: عليك بقريش في حديث البخاري السابق أي: بإهلاك قريش، والمراد الكفار منهم، دعا عليهم ثلاث مرات، وكان من سنته إذا دعا دعا ثلاثاً، وسمى فقال: بأبي جهل والوليد بن عتبةوهؤلاء الذين صرعوا في القليب في بدر، سحبوا إلى تلك البئر الطوية المخبثة، ألقوا فيها إلا أمية تقطعت أوصاله، أمر النبي ﷺ بإلقائهم ليس تكريماً لهم في دفن؛ لأن الحربي لا يجب دفنه، ولكن؛ لئلا يتأذى المسلمون من ريحهم ونتنهم، ولم يكن في ذلك البئر ماء، لا ينتفع بها، فألقوا فيها، وجاء أيضاً في الحديث الصحيح في معركة أحد لما رجع المشركون بعد المصيبة العظيمة التي نزلت بالمسلمين قال رسول الله ﷺ لمن معه من المسلمين: استووا حتى أثني على ربي فصاروا خلفه صفوفاً، فقال: اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا مباعد لما قربت، ولا مقرب لما باعدت وكان من دعائه في الحديث: اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق[رواه أحمد 15492]. رواه أحمد، وهو حديث صحيح.
وكذلك دعا النبي ﷺ يوم الأحزاب على المشركين، فقال: اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اللهم اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم[رواه البخاري 2933]. رواه البخاري.
وكذلك فإن النبي ﷺ في بعض معاركه التي لقي فيها انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس خطيباً، قال: أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال: اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم[رواه البخاري 2966]. رواه البخاري.
وبقوله: منزل الكتاب بالكتاب وجوه النصر مذكورة فيه: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ سورة التوبة 14. وأرشد كذلك بإجراء السحاب إلى قدرة الله في هبوب الرياح، ونزول المطر، ويكون في ذلك منفعة عظيمة للمسلمين، ومضرة عظيمة للكفار، إذا استجاب الله هذا، وأشار بقوله: هازم الأحزاب إلى النعمة السابقة التي أنعم بها عليه، من هزيمة هذه القبائل المشركة المتجمعة، وأن الله هو الذي يهزم، وأراد التوكل على الله، وإنزال الكتاب تحصل به النعمة الأخروية، وهي الإسلام، وما يترتب عليه من دخول الجنة، وبإجراء السحاب النعمة الدنيوية وهي الرزق، وبهزيمة الأحزاب حفظ النعمتين، حفظ نعمة الدين، ونعمة الأمن، وهكذا أشار إلى أنواع النعم، وتوسل إلى الله تعالى وهو المنعم بها، وجاء من وجه آخر أنه ﷺ قال: أنت ربنا وربهم، ونحن عبيدك وهم عبيدك، ونواصينا ونواصيهم بيدك، فاهزمهم وانصرنا عليهم[رواه البيهقي في السنن الكبرى 18462]. وكان النبي ﷺ وهو بالمدينة تأتيه الأخبار بأن أصحابه في مكة يعذبون، وأن المستضعفين فيها يسامون سوء العذاب، فكان لا ينساهم في دعائه حينما يرفع رأسه من الركوع، ويقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد يدعو لرجال فيسميهم بأسمائهم من المسلمين، فيقول: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر وكانوا يومئذٍ مشركين في ذلك الوقت، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف [رواه البخاري 804]. رواه البخاري، أي: يدعو عليهم بالقحط السنين الجفاف والشدة والقحط، وفي رواية للبخاري أيضاً، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف[رواه البخاري 1006]. اشدد وطأتك عليهم أي: خذهم بشدة، ومن وطئ على الشيء فقد استقصى في إهلاكه.
قنوت النبي ﷺ عند نزول المصائب
وقد قنت النبي ﷺ شهراً يدعو على أحياء من العرب من المشركين، وذلك حينما قتل القراء من أصحابه، سبعون من حفظة القرآن الكريم، يصومون بالنهار، ويقومون بالليل، وإذا صار الجهاد كانوا أول الجيش وطليعته، قنت النبي ﷺ لأجلهم شهراً لما أصيبوا، عندما غدر بهم بعض العرب من رعل وذكوان وعصية وقتلوهم، حزن النبي ﷺ حزناً شديداً لم يعرف فيه من قبل قط، قال ابن عباس: "قنت رسول الله ﷺ شهراً متتابعاً، في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح، في دبر كل صلاة، إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الآخرة يدعو عليهم، على حي من بني سليم، على رعل وذكوان وعصية، ويؤمن من خلفه" [رواه أبو داود 1443]. رواه أبو داود، وزاد أحمد: أرسل إليهم يدعوهم إلى الإسلام فقتلوهم. [رواه أحمد 2746].
وهكذا كان النبي ﷺ يدعو على من قتل أصحابه، يدعو عند المصيبة إذا نزلت، ويدعو لتخفيف العذاب ورفعه عن المستضعفين من المسلمين، ويدعو قبل لقاء العدو، ويدعو بعد انتهاء المعركة أن يكسرهم الله أيضاً، وعلى هذا مضى أصحابه، فعند عبد الرحمن بن عبدٍ القاري وكان في عهد عمر بن الخطاب مع عبد الله بن الأرقم على بيت المال، أن عمر خرج ليلة في رمضان، فخرج معه عبد الرحمن فطاف بالمسجد، وأهل المسجد أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال: والله إني أظن لو جمعنا هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم عمر على ذلك وأمر أبي بن كعب أن يقوم لهم رمضان، فكان الناس يقومون، وكانوا يلعنون الكفرة في النصف، يعني في النصف الثاني من رمضان، يقولون: اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ولا يؤمنون بوعدك، وخالف بين كلمتهم، وألق في قلوبهم الرعب، وألق عليهم رجزك وعذابك إله الحق. ثم يصلي على النبي ﷺ، ويدعو للمسلمين بما استطاع من خير، ثم يستغفر للمؤمنين، وكان أي الإمام يقول إذا فرغ من لعنه الكفرة وصلاته على النبي واستغفاره للمؤمنين والمؤمنات، ومسألته يقول: اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، ونرجو رحمتك ربنا، ونخاف عذابك الجد، إن عذابك لمن عاديت ملحق، ثم يكبر ويهوي ساجداً.[رواه ابن خزيمة 1100]. رواه ابن خزيمة وإسناده صحيح.
أمن يجيب المضطر إذا دعاه
إن دعوة المضطر مجابة عند الله أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ سورة النمل 62. إن دعوة المظلوم مستجابة عند الله، فكيف بالمؤمنين المستضعفين الذين قهرهم الكفار؟ إن الدعاء عبادة لا يمكن للمؤمن أن يتركها، وإنه إذا نزل بالمسلمين النازلة قنتوا لأجل إخوانهم، وهكذا كانت هذه العبادة العظيمة في المسلمين، هكذا كان القادة المسلمون في الجهاد، لما قاد عقبة بن نافع رحمه الله جيش المسلمين، وفتح بلاد المغرب، وبلاد الجريد، وسار إلى الزاب وتاهرت، ولقي جموع البربر فهزمهم، والفرنج فهزمهم، إلى أن وصل إلى البحر المحيط، ووطأت خيله المغرب الأقصى، وفتح مدن الكفار من البرابرة والسوس، لما انتهى إلى ساحل البحر المحيط الغربي، أدخل قوائم فرسه في البحر، ووقف ساعة، ثم قال لأصحابه: ارفعوا أيديكم، ففعلوا، وقال: اللهم إني لم أخرج بطراً ولا أشراً، وإنك لتعلم أنما أتطلب السبب الذي طلبه عبدك ذو القرنين، وهو أن تعبد ولا يشرك بك شيء، اللهم إنا معاندون لدين الكفر، ومدافعون عن دين الإسلام، فكن لنا ولا تكن علينا يا ذا الجلال والإكرام، ثم انصرف راجعاً، وهكذا نور الدين زنكي رحمه الله، العابد الزاهد، المجاهد القائد، الشجاع المتواضع، الذي كان يقول: اللهم وأصلح عبدك الفقير محمود زنكي، ولما التقت قواته في حارم بالصليبيين، وكان الصليبيون يفوقونهم عدة وعدداً، انفرد نور الدين وحده تحت تل حارم، وسجد لربه ، ومرغ وجهه، وتضرع فقال: " يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك – يشير إلى أصحابه – وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك – يشير إلى الكفار- فانصر أولياءك على أعدائك" أيش فضول محمود في الوسط؟
قال أبو شامة رحمه الله: يشير نور الدين هنا إلى أنك يا رب إن نصرت المسلمين فدينك نصرت، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود؛ لأنه يظن من تواضعه أنه يمكن أن يكون سبباً لهزيمة المسلمين" وهو المجاهد القائد، وكان يقول: اللهم انصر دينك، من هو محمود حتى ينصر؟ ليس هو المهم، المهم نصرة الدين، هكذا كان يقول: من هو محمود حتى ينصر؟ اللهم انصر دينك، قال أبو شامة المؤرخ: وبلغني أن إماماً لنور الدين رأى ليلة رحيل الفرنج عن دمياط في منامه النبي ﷺ، وقال له: أعلم نور الدين أن الفرنج قد رحلوا عن دمياط هذه الليلة، ولا يدري المسلمون أن الفرنج رحلوا أصلاً، فقال: يا رسول الله، ربما لا يصدقني فاذكر لي علامة يعرفها، فقال: قل له بعلامة ما سجدت على تل حارم، وقلت: يا رب انصر دينك ولا تنصر محموداً، من هو محمود حتى ينصر، فانتبه هذا من النوم، ونزل إلى المسجد، وكان من عادة نور الدين أنه ينزل إليه بغلس، قبل الفجر ينزل إلى المسجد، ولا يزال يتركع فيه حتى يصلي الصبح، قال فتعرضت له، يقول إمامه: فسألني عن أمري، ما الذي أخرجه في هذه الساعة؟ فأخبرته بالمنام وذكرت له العلامة، غير أني لم أذكر له كلمة، فقال نور الدين: اذكر العلامة كلها، وألح علي فقلتها، فبكى رحمه الله، وصدق الرؤيا، فأرخت تلك الليلة فجاء الخبر برحيل الفرنج بعد ذلك، فوجدها في نفس الليلة التي رأى فيها الرؤيا، هكذا يا عباد الله.
كيف يؤثر الدعاء في صفوف الكفار؟
أيها المسلمون: إن هذه الدعوات لها أثر كبير، ولنأخذ مثلاً عليها: اللهم خالف بين كلمتهم وألق في قلوبهم الرعب، اللهم خالف بين كلمتهم، حفل تاريخنا بمناسبات وأحداث تمت فيها هذه النعمة على المسلمين، وحصل الخلاف بين الكفار، ومن ذلك ما رواه ابن إسحاق في سبب رحيل الأحزاب، وقصة نعيم بن مسعود الأشجعي، الذي لما أسلم عرف أن من مسؤوليته ومهمته أن يعمل شيئاً للإسلام، وكان الكفار لا يعرفون بإسلامه، لقد أسلم للتو واللحظة، لكن المسلم كان يعرف بوعيه، ومفهوم الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله، أنه إذا دخل في الإسلام لا بد أن يقدم شيئاً للإسلام، فذهب إلى اليهود -بني قريظة- وكان صاحباً لهم، قال: قد عرفتم محبتي؟ قالوا: نعم، قال: إن قريشاً وغطفان ليست هذه بلادهم، وإنهم إن رأوا فرصة انتهزوها، وإلا رجعوا إلى بلادهم وتركوكم في البلاء مع محمد، ولا طاقة لكم به، قالوا: فما ترى؟ قال: لا تقاتلوا معهم، يعني مع المشركين، مع قريش حتى تأخذوا رهناً منهم، شخصيات وأبناء، فقبلوا رأيه، فتوجه إلى قريش فقال لهم: إن اليهود ندموا على الغدر بمحمد فراسلوه في الرجوع إليه، فراسلهم بأنا لا نرضى حتى تبعثوا إلى قريش فتأخذوا منهم رهناً فتقتلوهم، ثم جاء إلى غطفان وقال نفس الكلام، فلما أصبح أبو سفيان بعث عكرمة بن أبي جهل، وكان من المشركين في ذلك الوقت إلى بني قريظة: أنا قد ضاق بنا المنزل ولم نجد مرعى، فاخرجوا بنا حتى نناجز محمداً، أي نجتمع على حربه، فأجابوهم: إن اليوم يوم السبت، ولا نعمل فيه شيئاً، ولا بد لنا من الرهن منكم لئلا تغدروا بنا، فقالت قريش يعني في أنفسهم: هذا ما حذركم نعيم، فراسلوهم ثانياً: أن لا نعطيكم رهناً، فإن شئتم أن تخرجوا فافعلوا، فقالت قريظة: هذا ما أخبرنا به نعيم. وهكذا انفصمت عرى التحالف بين الأحزاب المجتمعة.
وكذلك فإنه قد حصل في حصار الشعب من الخلاف ما كان سبباً في رفعه عن المسلمين، حصار ثلاث سنوات، أكل المسلمون الجلود، وصاروا في مجاعة عظيمة جداً، حصار تام على بني هاشم، وعلى المسلمين في الشعب، لا يشترى منهم، ولا يباعون، ولا يزوجون، ولا يتزوج منهم، وكتبت الصحيفة، وعلقت في الكعبة، ما الذي كان يقيت المسلمين؟ تسريبات من بعض الكفار، الذين كان بينهم وبين بني هاشم علاقة، فكانوا يسربون إليهم بعض القوت القليل الذي يتقاسمونه فيما بينهم، وقد لقي حكيم بن حزام بن خويلد، ومعه غلام يحمل قمحاً يريد عمته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله ﷺ في الشعب، فقال أبو جهل: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم، والله لا تذهب أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة، فجاء أبو البختري بن هشام فقال: ما لك وله؟ قال: يحمل الطعام إلى بني هاشم، قال له أبو البختري: طعام كان لعمته عنده، بعثت به إليه أتمنعه أن يأتيها بطعامها، خل سبيل الرجل، فأبى أبو جهل لعنه الله حتى نال أحدهما من صاحبه، وكلاهما مشرك، كلاهما كافر، وصار السب بينهما، فأخذ أبو البختري لحي بعير فضرب أبا جهل فشجه، ووطئه وطئاً شديداً، وحمزة قريب، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله ﷺ فيشمت بهم، ثم حصلت قضية نقض الصحيفة، أبلى فيها من الكفار هشام بن عمرو بلاءً حسناً، وكان ذا شرف من قومه، يهرب البعير وعليه الطعام إلى فم الشعب، ويضرب جنبيه فيدخل البعير الشعب ثم يخرج فارغاً، فيحمله قماشاً يأتي به أمام قريش، مشى هشام بن عمرو لما رأى الظلم إلى زهير بن أبي أميه المشرك، قال: يا زهير أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت، يعني في المجاعة، لا يباعون، ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون، ولا ينكح إليهم، أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام، يعني أبا جهل، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبداً، انظر إلى هذا الذي تزعم القضية أبا جهل، لو كانوا أقاربه ما رضي، قال زهير: ويحك يا هشام فماذا أصنع، إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها، قال: قد وجدت رجلاً، قال: من هو؟ قال: أنا، قال له زهير: أبغنا ثالثاً، فذهبوا إلى المطعم بن عدي، رجل معروف بالكرم والشهامة على شركه، قال له: يا مطعم أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيه؟ قال: ويحك فما أصنع إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت لك ثانياً، قال: من؟ قال: أنا، قال: أبغنا ثالثاً، قال: قد فعلت، قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أميه، قال: أبغنا رابعاً، فذهبا إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحو ما قال للمطعم بن عدي، قال: وهل تجد أحداً يعين على هذا؟ قال: نعم، من هو؟ زهير، ابغنا خامساً، إلى زمعة بن الأسود، وانضم إليهم، فتواعدوا الحجون ليلاً بأعلى مكة، واجتمعوا هنالك، وأجمعوا أمرهم، وتعاقدوا على نقض الصحيفة، وقال: زهير، أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم، يعني في أندية قريش، فلما أصبحوا، غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلة، فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون، ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، قال أبو جهل: والله لا تشق، قال زمعة أحد المتواطئين: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت، قال أبو البختري الثالث: صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها، ولا نقر به، قال: المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها، ومما كتب فيها، قال هشام بن عمرو نحواً من ذلك، قال أبو جهل: هذا أمر قد قضي بليل، تشور فيه بغير هذا المكان، وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا: باسمك اللهم، وشلت يد منصور بن عكرمة الذي كتبها فيما يزعمون، وهكذا انفك الحصار عن المسلمين بما جعل الله في قريش من الخلاف.
اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام وأهله يا رب العالمين، اللهم أذل اليهود والصليبيين، وأرغم أنوفهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، واجعل تدميرهم في تدبيرهم، أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً إنك على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه، وذريته وأصحابه، وخلفائه، وسلم تسليماً كثيراً.
نماذج من نصر الله للمسلمين بسبب الخلاف بين الكفار
عباد الله: لقد قيض الله للمسلمين في عدد من المواقع والمعارك من الكفار من كان سبباً في هزيمة الكفار، كما حصل في فتح تستر لما استعصت على المسلمين، اتصل من الفرس رجلان في جهتين مختلفتين، وأخبر المسلمين بأن فتح المدينة يكون من مخرج الماء، فوصل الخبر إلى أبي موسى الأشعري، فندب أصحابه، فالتقى الأبطال من المسلمين في ذلك المكان ليلاً، ودخلوا منه سباحة إلى المدينة، فكبروا وكبر من وقف بالخارج، وفتحت الأبواب، فأبادوا الفرس.
وهكذا معركة قيسارية التي استعصت على المسلمين، وعلى معاوية ، حتى كان الفتح أيضاً بيهودي أتى المسلمين ليلاً فدلهم على طريق ليدخلوا منه الحصن مقابل الأمان له ولأهله.
وهكذا انكسرت الحملة الصليبية، حملة الرعاع الأولى التي كان يقودها بطرس الناسك الفاسق، الذي جمع الغوغاء، والرعاع، والفلاحين، والدهماء، وقطاع الطرق، وسار بهم، هؤلاء كانوا طيلة الطريق في بلدان أوروبا ينهبون، ويسلبون، ويعتدون على الأهالي، مع أنهم من ملتهم، فكرهوهم، حتى بلغوا قسطنطينية، ولم يأمن ملكها النصراني البيزنطي على نفسه، وأهلها من هؤلاء، عندما سمع الأخبار، ولذلك احتاط الاحتياطات الكثيرة، وكان بعض من يمرون به من بلدانهم يشترطون أن لا يبقوا فيها أكثر من ثلاثة أيام، مما رأوا فيها من أعمال الهمجية، همجية الكفار على الكفار، والصليبين على الصليبين، وهكذا كان ذلك سبباً في تقلص هذه الحملة، وفشلها، واستطاعة السلاجقة المسلمين القضاء عليها، وأجهزوا عليهم إجهازاً تاماً، ثم تنافست أوروبا بدولها الصليبية من ملوكهم، وأمرائهم، والإقطاعيين للحملات الأخرى على بلاد المسلمين، وخرج جودثري الذي كان مع أخيه بلدوين في الحملة الصليبية الأولى إلى القدس، وحصل ما حصل أيضاً من النزاع، واحتدمت الصراعات الصليبية الداخلية، وكان منها الصراع مع بيزنطة، فتهيأ من ذلك سبب عظيم للسلاجقة المسلمين لاستعادة الأراضي التي خسروها، وكان مما حصل أيضاً في هذه الحملات: أن جيشاً من الألمان من بلاد الراين إميخ، خرجوا لقتل اليهود الذين استغلوا الحملات الصليبية، فصاروا يقرضون الناس ثمن الأسلحة بالربا، فاشتكى الناس والمقاتلة الذين كانوا يريدون الخروج من هذا الربا المضاعف، فكان من أسباب حقدهم على اليهود فخرجوا لقتلهم، فكان الخلاف الذي حصل بينهم، ثم لما خرجت الحملة بقيادة رتشارد قلب الأسد كان فظاً غليظاً، ولذلك تركه شريكه ملك فرنسا وانسحب، كما تركه كونراد ملك ألمانيا، وانفرد رتشارد بقيادة الجيوش فلم يحصل له ما كان يؤمله من الاستيلاء على بلاد المسلمين؛ لأن شركاءه قد تركوه في هذه الحملة، ودب الفساد بين جودثري وإمبراطور بيزنطية؛ لأنه خاف الأخير على ملكه، وكان من أسباب الخلاف أن كل واحد منهم كان يريد أن يؤسس له إمارة في الشرق الإسلامي، ولذلك طال النزاع بين بوهيمنت وريموند حول أنطاكيا، وهكذا أيضاً، كان سبب الخلاف الديني بين الأرثوذوكس والكاثلويك سبباً في فشل الحملة الصليبية الرابعة، وأيضاً ما حصل من الخلاف بين الباباوية والإمبراطور في غرب أوروبا والتنافس على السلطة الدينية والعلمانية بينهما، كانت سبباً في فشل الحملة السادسة لقيام النزاع بين العلمانيين منهم والدينيين، وأيضاً حصل خلاف بين الصليبيين في فتح عسقلان، واستطاع المسلمون الصمود، وهكذا حصل من نعمة الله أن الفاطميين الباطنية راسلوا الصليبيين للتعاون معهم ضد السلاجقة المسلمين، ولكن الصليبيين قد خدعوهم، فكان ذلك سبباً لانتصار المسلمين عليهم وفتح مصر، واستنقاذها من أيدي الباطنيين، الذين ظهرت خيانتهم للمسلمين بتحالفاتهم مع الصليبيين، وكان فتح قرطبة أيضاً بسبب خلافات بين الكفار، وكان اقتتال روسيا مع فرنسا وانجلترا سبباً لنجاح عثماني في صمود في بعض المعارك، وهكذا حصل بين المعز الفاطمي الباطني والحسين القرمطي أيضاً معارك، ولذلك فإن هذا الدعاء: اللهم خالف بين كلمتهم، من أعظم ما يدعى به، وخصوصاً عندما يحيط الأعداء بالمسلمين.
ومن الفروق أن المسلمين في الماضي كانوا أقوى التزاماً بالدين، وكانت لهم رايات توحيد يقاتلون تحتها من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله[رواه البخاري 123]. فكانوا أقوى التزاماً، وأقرب إلى الدين، ويرفعون لواء التوحيد لرب العالمين، فلذلك نصرهم الله في مواطن كثيرة، والمطلوب من المسلمين العودة إلى الدين، ورفع راية التوحيد، وأن يكون القتال لإعلاء كلمة الله ، لا قتالاً جاهلياً دنيوياً، وإنما لنصرة الدين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وجنبهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين، اللهم أظهر الهدى ودين الحق، الذي بعثت به نبينا محمداً ﷺ على الدين كله، ولو كره المشركون، اللهم عذب الكفار والمنافقين، واليهود والصليبيين، اللهم خالف بين كلمتهم، وألق الرعب في قلوبهم، واجعل تدميرهم في تدبيرهم، واجعل دائرة السوء عليهم، اللهم مجري السحاب، ومنزل الكتاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم، اللهم اهزمهم وزلزلهم وانصرنا عليهم، اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، اللهم فك أسرى المأسورين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم فرج عن عبادك الصالحين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين، وثبت أقدامهم، وقو شوكتهم، واجمع على الحق كلمتهم، وسدد رميتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم أوقع بأهل الصليب الظالمين، وباليهود الغاصبين، اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم فرق جمعهم، وشتت شملهم، واقطع دابرهم، واستأصل شأفتهم، وأبد خضراءهم، واجعلهم وأموالهم غنيمة للمسلمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.