الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله.
وحياكم الله ومرحباً وأهلاً في هذا البيت من بيوت الله، ونسأل الله أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وأن لا يجعل فينا شقياً ولا محروماً.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
رب اجعل هذا بلداً آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر.
-أيها الإخوة-: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
وعنوان درسنا إن شاء الله: "ماذا ينقصنا؟".
الأمور الناقصة في حياة المسلمين
ولقد تأملت في النواقص التي تنقصنا نحن المسلمين، وفكرت في هذا العنوان، فرأيت أن الذي ينقصنا من كثرته لا يحصى، وأنه لعل الأجدى أن نفكر فيما يوجد عندنا، فهو أسهل في الحصر، وأما ما ينقص فيصعب حصره من كثرته، ولكن من باب المحاسبة لأنفسنا، تعالوا نفكر في شيء مما ينقصنا لنحاول الاستدراك، وتحصيل بعض المطلوب، وقد قال الله -تعالى-: اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر: 18].
ينقصنا: تحقيق الإخلاص لله
ماذا ينقصنا؟
أول ما يخطر بالبال مما ينقصنا -أيها الإخوة-: تحقيق الإخلاص لله .
الإخلاص مسألة المسائل، وأصل الأصول.
الإخلاص الذي إذا حصله الإنسان المسلم صلح حاله في كل شيء، قال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله-: يتعين على أهل العلم من المتعلمين والمعلمين أن يجعلوا أساس أمرهم الذي يبنون عليه حركاتهم وسكناتهم: الإخلاص الكامل، والتقرب إلى الله -تعالى- بهذه العبادة التي هي أجل العبادات وأكملها وأنفعها وأعمها نفعاً، ويتفقد هذا الأصل النافع في كل دقيق من أمورهم وجليل، فإن درسوا، أو دارسوا، أو بحثوا، أو ناظروا، أو أسمعوا، أو استمعوا، أو كتبوا، أو حفظوا، أو كرروا دروسهم الخاصة، أو راجعوا عليها، أو على غيرها الكتب الأخرى، أو جلسوا مجلس علم، أو نقلوا أقدامهم لمجالس العلم، أو اشتروا كتباً، أو ما يعين على العلم؛ كان الإخلاص لله واحتساب أجره وثوابه ملازماً لهم، ليصير اشتغالهم كله قوة وطاعة، وسيراً إلى الله وإلى كرامته، وليتحققوا بقوله ﷺ: من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهل الله له طريقاً إلى الجنة [أخرجه مسلم: 2699]، فكل طريق حسي أو معنوي يسلكه أهل العلم يعين على العلم أو يحصله، فإنه داخل في هذا.
وقال البخاري -رحمه الله تعالى-: "باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر".
وقال إبراهيم التيمي: "ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً".
وقال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي ﷺ كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل".
ويذكر عن الحسن: "ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق" [صحيح البخاري: 1/18].
ما خاف عذاب الله إلا مؤمن، ولا أمن عذاب الله إلا منافق.
هذا بعض ما ورد عن السلف مما يدفعنا إلى الحرص على الإخلاص، ومجاهدة النفس في سبيل الوصول إليه.
وهنا يأتي السؤال المهم: ما الطريق إلى الإخلاص؟ كيف نحصل الإخلاص؟
هذا السؤال يجيبنا عليه العلامة ابن القيم -رحمه الله-، فيقول: "لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت" أين مسكن الضب؟ في الصحراء، وأين يكون الحوت؟ في الماء، فلا يجتمع الإخلاص ومحبة الثناء والمدح إلا كما يجتمع الضب والحوت والماء والنار، "فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص، فأقبل على الطمع أولاً، فاذبحه بسكين اليأس" عليك بالإياس مما في أيدي الناس، ولا ترجو على عملك الصالح شيئاً دنيوياً، اقطع الطمع بالدنيا بسكين اليأس، "وأقبل على المدح والثناء، فازهد فيها زهد عشاق الدنيا في الآخرة".
عشاق الدنيا كيف يزهدون في الآخرة؟
كثيراً.
فازهد في المدح كذلك، "فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح، سهل عليك الإخلاص، فإن قلت: وما الذي يسهل علي ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟
قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقيناً أنه ليس من شيء يطمع فيه إلا وهو بيد الله وحده، لا يملكه غيره، ولا يؤتي العبد منه إلا ما أراد.
وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويضر ذمه إلا الله وحده، كما قال ذلك الأعرابي للنبي ﷺ: "إن مدحي زين، وإن ذمي شين، فقال: ذلك الله -عز وجل- [رواه الترمذي: 3267، وقال: "هذا حديث حسن غريب"] الذي مدحه زين، وذمه إذا مدح أحداً كان زيناً، وإذا ذم أحداً ، إذا ذم أحداً كان شيناً على هذا المذموم.
"فازهد في مدح من لا يزينك مدحه وفي ذم من لا يشينك ذمه، وارغب في مدح من كل الزين في مدحه وكل الشين في ذمه، ولن يُقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمتى فقدت الصبر واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر في غير مركب، قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ [الروم: 60]، وقال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24] [الفوائد، لابن القيم، ص: 149].
ما هي العلامات التي يعرف بها العبد أنه مخلص؟
إذا كان يراقب الله في أعماله، ويحتسب الأجر في أفعاله وأقواله، ويعمل بعلمه، وينصر سنة نبيه ﷺ، ويقمع البدعة، ويحلي باطنه، ويزكي نفسه، ويحس بقربه من الله، وأن قلبه منير، فعند ذلك هو من المخلصين.
وكان الصالحون يدخرون أعمالاً لآخرتهم، أعمالاً معينة عظيمة يقومون بها لآخرتهم، يقول ابن كثير -رحمه الله- عن السلطان عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب ملك دمشق والشام، يقول: لما توفي أبوه كان شجاعاً باسلاً، عالماً فاضلاً. هذا الرجل تولى بعد أبيه، وكان شجاعاً باسلاً عالماً فاضلاً، اشتغل في الفقه على مذهب أبي حنيفة، وفي اللغة والنحو على التاج الكندي، وكان قد أمر أن يجمع له كتاب في اللغة يشمل الصحاح للجوهري، والجمهرة لابن دريد، والتهذيب للأزهري، وأمر أن يرتب له مسند الإمام أحمد، وكان يحب العلماء ويكرمهم، ويجتهد في متابعة الخير، ويقول: أنا على عقيدة الطحاوي، وأوصى عند وفاته أن لا يكفن إلا في البياض، وأن يلحد له، ولا يبنى عليه، وكان يقول: واقعة دمياط أدخرها عند الله -تعالى-، وأرجو أن يرحمني بها" يعني: أنه أبلى بها بلاءً حسناً -رحمه الله تعالى-. وقد جمع له بين الشجاعة والبراعة والعلم ومحبة أهله [البداية والنهاية: 13/142].
فكل واحد منا يحاول أن يعمل أعمالاً صالحة يدخرها عند الله: هذه لآخرتي، هذه ليوم العطش الأكبر، هذه ليوم الخوف الأعظم، يعمل الصالحات، ويدخرها للآخرة.
اعمل وخبئ وادخر لذلك اليوم.
أي شيء ينقصنا أيضاً بعد الإخلاص؟
ينقصنا: القدوات الحسنة
ينقصنا القدوات.
فيه قحط في القدوات إلا من رحم الله فوفقه للقدوات.
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [النحل: 120] يؤتم به.
قال الله -تعالى-: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74] ما طلبوا ذلك للشهرة، وإنما طلبوه ليحصل لهم أجر الاقتداء، لماذا يريدون أن يكونوا أئمة يقتدى بهم؟ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ؟
لكي يحصل لهم الأجر بالاقتداء.
من دل على هدى كان له من الأجور مثل أجر من تبعه.
وموقع القدوة خطير ومهم، ولذلك فإن الإنسان إذا صار يقتدى به، لا بد أن يلاحظ أعماله، ويحاسب نفسه على تصرفاته أكثر من أن يكون شخصاً عادياً، ولذلك أهل القدوة الحقيقيين لا يكاد يوجد عليهم مطعن، عن مسروق: أن امرأة جاءت إلى ابن مسعود، فقالت: أنبئت أنك تنهى عن الواصلة؟ التي تصل الشعر، قال: نعم، فقالت: أي أشيء تجده في كتاب الله، أم شيء سمعته من رسول الله ﷺ؟ فقال: أجده في كتاب الله وسمعته عن رسول الله ﷺ، فقالت: والله لقد تصفحت ما بين دفتي المصحف، فما وجدت فيه الذي تقول، قال: فهل وجدت فيه، يعني في القرآن: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [الحشر: 7]؟ قالت: نعم، قال: فإني سمعت رسول الله ﷺ: نهى عن النامصة والواشرة والواصلة والواشمة، إلا من داء، قالت المرأة: فلعله في بعض نسائك؟ لعل بعض نسائك يفعلن هذا؟ سمعنا أن زوجتك تفعل شيئاً من هذا، قال لها: ادخلي البيت وانظري إلى نسائي في البيت، فدخلت، ثم خرجت فلم تجد فيه شيئاً مما ذُكر، أي من المنكرات في الأعراس أو غيرها، فإن ذلك قدح في خيره وصلاحه وعلمه؛ لأنه يجب عليه تغيير ذلك، وإن كان هذا المنكر في حق الناس كلهم ممنوعاً في النكاح وغيره، لكن في حق العدل آكد؛ لأنه إذا حضر شيئاً من هذا وما شاكله ترتبت عليه مفسدتان عظيمتان:
إحداهما، وهي أشدها: سقوط عدالته.
-إذا حضرت مناسبة فيها منكر يترتب أمران-:
أولاً: سقوط العدالة، ولا تقبل الشهادة؛ لأن الإنسان جاء إلى منكر وجلس، وجلوسه حرام، فهو مجاهر بجلوسه في المنكر، وجلوسه منكر.
والثانية -المصيبة الثانية-: أنه قدوة، فيقع العوام بسبب تعاطيه ذلك في اعتقاد جوازه في الشرع، فيكون ذلك سبباً للإحداث في الدين.
فإذاً، موقع القدوة مهم، إذا جعلك الله -يا أخي- قدوة إماماً، مدرساً، أي مكان أنت فيه قدوة، حتى لو كنت أباً لأولادك، أنت قدوة في البيت، فاحرص كل الحرص أن تعطي القدوة حقها، فلا تفعل منكراً، ولا تأته، ولا تجلس في مكانه.
لماذا قيل في الصلاة على المجاهر بالمعصية المصر عليها أن أهل العلم والفضل لا يصلون عليه؟
لو جيء برجل معروف بشرب الخمر، مات منتحراً، مات بالمخدرات، جيء به إلى شيخ إمام معروف، أو عالم، أو داعية مشهور، فينبغي أن لا يصلي عليه، ويقول: صلوا على صاحبكم، لماذا؟
موقع القدوة.
ينقصنا: قدوات، وينقصنا: تحقيق موقع القدوة، قال الليث بن سعد: "كنت في المدينة مع الحجاج وهي كثيرة السِرجين"، يعني الزبل من كثرة الدواب، دواب الحجاج، "فكنت ألبس خفين" خف على خف، خفين، واحد فوق الآخر، "فإذا بلغت باب المسجد، نزعت أحدهما ودخلت، فقال يحيى بن سعيد الأنصاري: لا تفعل هذا، فإنك إمام منظور إليك -يريد لبس خف على خف [سير أعلام النبلاء: 8/154].
على مسألة بسيطة، قال: انتبه يا ليث أنت إمام ينظر إليك!
وفي مجلس البخاري -رحمه الله- رفع إنسان من لحيته قذاة وطرحها في الأرض في المسجد، قال الراوي: فرأيت محمد بن إسماعيل ينظر إليها وإلى الناس، فلما غفل الناس رأيته مد يده فرفع القذاة من الأرض فأدخلها في كمه، في الجيب، فلما خرج من المسجد أخرجها وطرحها في الأرض [تاريخ بغداد وذيوله: 2/13].
فكأنه صان المسجد عما تصان عنه اللحية، فكان أبو عبد الله محط الأنظار، قدوة، ولذلك نقلت القصة، وكان هناك من يراقب ويشاهد، لأن هؤلاء أئمة.
والإنسان إذا خالط القدوات يتعلم ويستفيد، ولذلك يقول أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله-: "زرت أحمد بن حنبل، فلما دخلت عليه بيته قام فاعتنقي، وأجلسني في صدر المجلس، فقلت: يا أبا عبد الله أليس يقال: صاحب البيت، أو المجلس أحق بصدر بيته، أو مجلسه؟ قال: نعم، نعم هو أحق، لكن يقعد ويُقعد من يريد" وأنا أردت أن أوثرك، فأقعدتك" فقلت في نفسي: خذ إليك أبا عبيد فائدة، ثم قلت: يا أبا عبد الله لو كنت آتيك على حق ما تستحق، لأتيتك كل يوم؟ فقال: لا تقل ذلك، فإن لي إخواناً ما ألقاهم في كل سنة إلا مرة، أنا أوثق في مودتهم ممن ألقى كل يوم" مع أني ما أراهم في السنة إلا مرة لبعد البلدان، ونحو ذلك، والانشغالات، لكن أنا أحبهم من بعض الناس الذين أراهم يومياً، ذلك الغائب أحب إلي، قلت: "هذه أخرى يا أبا عبيد" يعني: لا يلزم أن يكون من لا يرى باستمرار مكروهاً، أو أقل محبة، يحب الإنسان من بعد للانشغال وابتعاد المسافة، "فلما أردت القيام، قام معي، قلت: لا تفعل يا أبا عبد الله، قال: فقال: قال الشعبي: من تمام زيارة الزائر أن تمشي معه إلى باب الدار، ويؤخذ بركابه، قلت: يا أبا عبد الله من عن الشعبي؟ قال: ابن أبي زائدة عن مجالد عن الشعبي، قلت: يا أبا عبيد هذه الثالثة"[طبقات الحنابلة: 1/259].
ينقصنا الآن نقصاً حاداً جداً وجود القدوات، وجود القدوات في المدرسين والمدرسات، مدرس في سيارة خلف سور المدرسة يدخن والطلاب في الطابور، وأخلاقه شرسة، ومدرسة تقول: الكعب العالي ممنوع يا بنات، واللباس لا بد أن يكون محتشماً،وهي كعب حذائها هذا ارتفاعه، والفتحة في تنورتها هذا طولها.
أب مقصر في الصلاة ويريد أولاده أن يصلوا، ويتفرج على التلفزيون ويريد من الأولاد الامتناع. كيف سيحدث هذا؟!
ينقصنا: وجود الدعاة
عندنا نقص حاد، ينقصنا نقصاً شديداً: وجود الدعاة، وجود أهل العلم، وجود مفاتيح الخير في الناس إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه [رواه ابن ماجه: 237، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1332].
إن من الناس مفاتيح للخير.
المفتاح: آلة فتح الباب المعروفة.
والمقصود: أن الله أجرى على أيدي هؤلاء العباد مفاتيح للخير، أجرى على أيديهم فتح أبواب الخير للناس، يفتحون للناس باب علم، باب صلاح، باب هداية، حتى كأنهم صاروا مفاتيح، كأن المفاتيح وضعت في أيديهم، فيقال: هذا جعل الله مفاتيح الخير على يديه.
فمن الناس من يشتغلون بالخير، ويشغلون غيرهم بالخير، يعمل حلقة فيأتي أصحابه إليها يستفيدون، يعمل مشروعاً خيرياً فيشترك فيه الناس، فينتفع آخرون، وينتفعون هم، وينتفع هو بالدرجة الأولى.
وهكذا يمشي في إصلاح بين الخلق، فيحصل الصلح وترجع المياه إلى مجاريها، ويرجع الوئام وحبل المودة، يتصل وتنصلح أحوال الأسرة، أو أحوال الشركاء المختلفين، فهذا إنسان من مفاتيح الخير.
في وضعنا الذي نعيش فيه نحتاج حاجة ماسة إلى مفاتيح الخير هؤلاء.
لو قلَّ أهل الخير في المجتمع، فإننا على خطر عظيم، روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن بسر قال: "لقد سمعت حديثاً منذ زمان" ما هو؟ يقول: "إذا كنت في قوم عشرين رجلاً، أو أقل، أو أكثر، فتصفحت في وجوههم، فلم تر فيهم رجل يهاب في الله، فاعلم أن الأمر قد رق"[رواه أحمد: 17679، وقال محققو المسند: "إسناده حسن"].
إذا صرت في مكان، في شركة، في مكتب، في مدرسة، فنظرت في عشرين رجلاً حولك لم تر فيهم واحداً يُهاب لله، فاعلم أن الأمر قد رق، وأن أمر الدين صار رقيقاً ليس متيناً.
نحتاج إلى دعاة، ينقصنا دعاة، لماذا؟
لأننا في حال بئيس، الناس يعيشون أزمة في العقيدة، وأزمة أخلاق، وأزمة علاقات اجتماعية، فيهم شرك، وفيهم بدعة، فيهم معاصي، فيهم موبقات، تفكك أسري، تناحر، عصبية، كيد، سحر، عين، من كل الجهات، إذا جئت تنظر وجدت شراً كبيراً، ما الذي يصلح الأمر؟
وجود الدعاة إلى الله الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
ونحن نعلم أن مهمة التغيير مهمة شاقة وصعبة، ماذا قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- لما تولى المهمة العظيمة وشعر بحجم المسؤولية، والخلافة تولاها على المسلمين؟ قال معنى تلك العبارة: "إني أعالج أمراً"، أكافح وأناضل وأصارع، وأبذل الجهد، "إني أعالج أمراً لا يعين عليه إلا الله، قد شب عليه الصغير، وهرم عليه الكبير، وهاجر عليه الأعرابي، وفصح عليه الأعجمي حتى حسبه الناس ديناً لا يرون الحق غيره"[سيرة عمر بن عبد العزيز، ص: 42].
تعودوا على منكرات وأخطاء، شبوا عليها ونشأوا حتى صاروا يرونها حقاً، وأنا جئت أريد أن أغير، "إني أعالج أمراً لا يعين عليه إلا الله".
ابتداءً من الشرك الموجود في عصرنا بين المسلمين الذين يسألون غير الله، ويطلبون من أصحاب القبور قضاء الحوائج، ذهب موحد فاضل إلى أحد شيوخ الصوفية، فقال له: دعاء غير الله حرام وشرك، إذا سألت فاسأل الله، بدلاً من أن تقول: يا عبد الله وتنادي الميت، بدلاً من أن تقول: يا عبد الله، قل: يا الله، قال الله -تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ [الأعراف: 194] قال: يا ابني هذه آية وهابية أيش لك فيها؟!
وذهب أحد الأفاضل إلى شيخ من هؤلاء، فقال له: إن الاستغاثة بالأموات حرام وشرك، والأدلة من القرآن والسنة كذا كذا، فقال ذلك الضال: بس أنت عندك أدلة، أنا عندي أدلة، قال: وما هو دليلك؟ قال: عمتي تقول: يا شيخ سعد -شف الدليل- عمتي تقول: يا شيخ سعد، يعني تنادي الولي سعد تستغيث به، فهذا دليل.
فإذا ذهبت تنظر -يا أخي- في واقع الأمة فيما أصابها من الشرك الأكبر فضلاً عن الشرك الأصغر، لوجدت ذلك منتشراً معشعشاً.
وإذا نظرت في قضية البدع، لوجدت أموراً لا يحصيها إلا الله.
وعلى مستوى التفكك الأسري: طلاق، مهاجرات، خصومات، فضائح، تشرد أولاد، عدد كبير من حالات الانحراف في الفتيات، وفي الأولاد، الذكور أيضاً في البيوت المفككة، أبوها طلق أمها انتقلت إلى بيت جدتها، الرقيب ضعيف، انحرفت البنت، طلق أبوها أمها، عاشت في بيت زوج أمها، ليست بتلك الرعاية، انحرفت البنت، انتقلت إلى بيت خالها حصل السوء، وهكذا التفكك يولد الفجور.
وعلى مستوى الانحدار الأخلاقي، أفلام، قنوات، وفحش في الأطباق الفضائية، أناس تستأجر شقة مفروشة بخمسين ريالاً في الليلة إلى الصباح ليسهروا على القنوات التافهة التي تأتي بها، أجهزة مركبة على الصحون الفضائية، واشتراكات في القنوات، ومواقع على شبكة نسيج العنكبوت الإنترنت، ودسكات كمبيوتر متداولة بأيدي المراهقين في المدارس محملة بالأشياء القذرة حتى في شهر رمضان، وبريد إلكتروني يرسل الفحش، وأشياء منتشرة انتشار النار في الهشيم.
ما الذي يصلح هذا الحال؟
قيام الدعوة بقوة، إصلاح الخلق، دعوتهم إلى الله، ترقيق قلوبهم، تذكيرهم ووعظهم.
وترى التشبه بالكفار أمراً منتشراً متفشياً قد يصيب البعض باليأس، دخلت مدرسة من الداعيات على مسرح المدرسة لإلقاء كلمة في الطالبات، فهالها وأصابها بالإحباط: أن كل ما رأت بعينها كان أحمر اللون، الطالبة التي ليس معها وردة حمراء معها شال أحمر، أو قفاز أحمر، أو شنطة حمراء، أو منديل أحمر، لماذا هذا؟ عيد الحب، فلنتاين، انتهت الورود الحمراء من المحلات في ليلة، مصيبة، كارثة، بنات متوسطة يقلدون الكفار في عيد الحب.
انتشال هؤلاء وإصلاح الأوضاع بحاجة ماسة إلى دعاة.
الوضع يحتاج إلى حركة في الدعوة إلى الله، إصلاح المجتمع، إصلاح الخلق، بذل الجهد في هذا.
ما أسهل الهدم، وما أصعب البناء.
والإنسان الداعية يأخذ أجر من اتبعه على الهدى الذي يدعو إليه إلى يوم القيامة، ولو تسلسل الناس الذين تعلموا كل واحد من الآخر.
ثم الداعية من فضله قد ينتج شخصاً أفضل منه.
ممكن داعية يدعو واحدا، هذا الواحد يتفوق على الداعية مستقبلاً بالعلم والقدرات والإمكانات في نصرة الدين، ولكن ذلك الأول مع أنه أقل في الإمكانات لكنه لما أنتج هذا.. وهذا.. وهذا..، سيكون له شيء عظيم من الأجر، يقول أبو سليمان الداراني: "اختلفت إلى مجلس قاص" واعظ "فأثر كلامه في قلبي، فلما قمت لم يبق في قلبي منه شيء، فعدت إليه ثانية، فأثر كلامه في قلبي، بعدما قمت وفي الطريق، ثم عدت إليه الثالثة، فأثر كلامه في قلبي حتى رجعت إلى منزلي، فكسرت آلات المخالفات" [تاريخ دمشق: 34/125].
عود، طنبور، ربابة، مزمار، طبل، والآن الشاشات والأفلام.
واحد من الشباب حضر جنازة عظيمة لامرأة نحسبها من الصالحات، فلما رأى كثرة الناس اتعظ من منظر الجنازة، وهو رايح إلى المقبرة أخذ أشرطة الغناء من السيارة كلها وألقاها في الشارع.
فالإنسان قد يتأثر فعلاً ويتعظ في لحظات، يقول أبو سليمان: أول مرة التأثير ضعيف، ثاني مرة التأثير في الشارع حصل، ثالث مرة "رجعت إلى منزلي فكسرت آلات المخالفات، ولزمت الطريق المستقيم، فحكيت هذه الحكاية ليحيى بن معاذ" بعد سنين، لما صار أبو سليمان هذا رجلاً مشهوراً معروفاً بالزهد والورع والعبادة والذكر، قال يحيى: "عصفور اصطاد كركياً" [تاريخ دمشق: 34/125] يبدو أن الكركي هذا نوع نادر ونفيس من الطيور، فقال: "عصفور اصطاد كركياً" يقول: هذا القاص مثل عصفور، لكن اصطاد لنا هذا الشخص العظيم.
فالداعية له فضل وأجر، فليحرص الدعاة على دعوة الخلق وإنتاج الصالحين؛ لأنهم إذا بثوا في المجتمع حصل نفع كبير.
ينقصنا: الثبات
وينقصنا فيما ينقصنا الثبات، لأن الإنسان قد يهتدي من داعية، قد يهتدي من شريط يسمعه، من محاضرة، قد يهتدي من موت قريب، قد يهتدي من منام يراه، قد يهتدي من مرض يمرض به، من حادث ويرى الموت بعينه، ويقول: نجوت الآن المرة القادمة لعلي لا أنجو، فيهتدي، لكن يحتاج إلى الثبات على الهداية، ولذلك نقول: اهدنا الصراط المستقيم، ونكررها في الفاتحة مراراً، زدنا هداية وثبتنا على الصراط المستقيم، فلماذا نكرر؟ ما معنى التكرار؟ طلب المزيد، وطلب الثبات والدوام.
والثبات مهم، لأن وضع المجتمعات الحالية التي يعيش فيها المسلمون، وفيها من أنواع الفتن والمغريات التي نكتوي بنارها يومياً، وشبهات وشهوات تبث بسببها صار الدين غريباً، وصار فعلاً انطبق المثل العجيب: القابض على دينه كالقابض على الجمر.
وحاجتنا اليوم للثبات على الدين أشد من حاجة الناس المسلمين في العصور الأولى، لما كان المجتمع نظيفاً، وكانت الدنيا عامرة بذكر الله، ويندر أن ترى منكراً عاماً في الشوارع لقلة من يرتكب المنكر، وكثرة من ينكر، فلما انعكست الأمور في ندرة الإخوان وضعف المعين، وقلة الناصر، وفساد الزمان، صرنا نرى كثرة حوادث ردة وانتكاس ونكوص على الأعقاب حتى من بعض الذين كانوا ممن يشار إليهم، مما يحمل المسلم على الخوف من أمثال تلك المصائر، ويتلمس الثبات.
الثبات مسألة متعلقة بالقلب، إنما سمي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب كمثل ريشة تقلبها الريح ظهراً لبطن وبطناً لظهر، ولذلك النبي ﷺ كان كثيراً ما يدعو: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك [رواه الترمذي: 2140، وأحمد: 12107، وقال محققو المسند: "سناده قوي على شرط مسلم].
ومن هو الداعي؟
الرسول ﷺ أشد الأمة إيماناً وثباتاً على الدين، فما بالنا نحن؟
ثم إن الثبات هذا له أسباب؛ منها: أناس يوفقهم الله أن يكونوا عناصر مثبتة لغيرهم، خذوا هذا المثل من أهل جواثا من أهل الأحساء، لما أرسل النبي ﷺ العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي، فأسلم وأسلم على يديه قومه، وأقام فيهم الإسلام والعدل، بعد وفاة النبي ﷺتوفي المنذر بعده بقليل، فلما مات المنذر ارتد أهل البحرين، وقال قائلهم: لو كان محمد نبياً ما مات، ولم يبق بها في الأحساء كلها على الثبات، هذا كلام ابن كثير، ولم يبق بها بلدة على الثبات سوى قرية يقال لها: جواثا، كانت أول قرية أقامت الجمعة من أهل الردة، كما ثبت ذلك في البخاري عن ابن عباس.
أهل جواثا حاصرهم المرتدون، وضيقوا عليهم حتى منعوا عنهم الأقوات، فجاعوا جوعاً شديداً حتى فرج الله، وقال رجل منهم، من أهل جواثا المسلمين الثابتين المحاصرين، وقد اشتد عليه الجوع:
ألا أبلغ أبا بكر رسول | وفتيان المدينة أجمعينا |
فهل لكم إلى قوم كرام | قعود في جواثا محصرينا |
كأن دماءهم في كل فج | شعاع الشمس يعشي الناظرينا |
توكلنا على الرحمن إنا | وجدنا الصبر للمتوكلينا |
ما لنا إلا الصبر، والقتل فينا والجوع وحصار، يقول ابن كثير -رحمه الله-: وقد قام فيهم رجل من أشرافهم وهو الجارود بن المعلى، وكان ممن هاجروا إلى رسول الله ﷺ خطيباً وقد جمعهم، فقال: يا معشر عبد القيس إني سائلكم عن أمر، فأخبروني، الحصار والشدة، خطب بهم، إن سائلكم عن أمر فأخبروني إن علمتموه، ولا تجيبوني إن لم تعلموه؟ فقالوا: سل، بعد وفاة النبي ﷺوقد ارتد من حولهم، قام خطيباً، قال: أتعلمون أنه كان لله أنبياء قبل محمد؟ ﷺ، قالوا: نعم، فيه أنبياء قبل محمد، قال: تعلمونه، أو ترونه؟ الشيء هذا علمتموه، أو رأيتم الأنبياء؟ قالوا: نعلمهم، قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا، قال: فإن محمداً ﷺمات كما ماتوا، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فقالوا: ونحن أيضاً نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنت أفضلنا وسيدنا، وثبتوا على إسلامهم، وتركوا بقية الناس فيما هم فيه، وبعث الصديق العلاء بن الحضرمي، وحصل بعد ذلك ما حصل من رجوع الناس إلى الإسلام" [البداية والنهاية: 6/360- 161].
إذاً، في موقف الشدة واحد ينقذ الموقف يثبت الناس، قالوا هؤلاء: لو كان محمد نبياً ما مات، فقام فقال هذه الكلمات، فثبت الله به الناس.
ينقصنا: التربية
فإذن، مما ينقصنا في تحصيل الثبات: التربية، فقد يوجد شيء من العلم، وشيء من الإيمان، وشي من الهداية، لكن ليس المعدن مصقولاً كما ينبغي، فينا نواقص، فينا خروق، فينا عيوب، فينا ضعف، المسألة لا بد لها من بناء، ما يصمد في وجه هذه القلوب القاسية إلا البنيان الثابت.
والبنيان الثابت لا يمكن أن يتم إلا بالتربية العلمية الواعية، المتدرجة، الإيمانية التي تحيي الضمير بالخوف من الله والرجاء في ثوابه والمحبة له المنافية للجفاء والقسوة.
التربية العلمية القائمة على الدليل الصحيح المنافية للتقليد والتبعية الذميمة.
التربية الواعية التي تعرف سبيل المجرمين وخطط أعداء الإسلام، وتحيط بالواقع علماً وبالأحداث فهماً وتقويماً.
وهي التربية المتدرجة التي تسير بالمسلم شيئاً فشيئاً إلى كماله.
كان الصحابة يتلقون ألوان التربية والتثبيت من النبي ﷺ، ولذلك ثبتوا حتى في الظروف الصعبة القاسية في مكة مع الشدة والحصار، كان أحدهم يضرب حتى لا يستطيع أن يستوي قاعداً من الضرب، وحتى يأكل الجعلان، عن خباب بن الأرت، قال: شكونا إلى رسول الله ﷺوهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ يعني ألا ترى ما نحن فيه من الشدة؟ فجلس محمراً وجهه، فقال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم، أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون [رواه البخاري: 3612].
وعن أنس بن مالك عن أبي طلحة، قال: "شكونا إلى رسول اللهﷺ الجوع، ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر" [رواه الترمذي: 2371] كل واحد مربوط على بطنه حجر من الجوع، حصار شدة، ربطنا على بطوننا الحجر من الجوع، جئنا نشتكي، رفعنا عن بطوننا كل واحد فيه حجر، وهكذا كان الثبات والتربية، والحجر كان يوضع في وقت الجوع والمخمصة، ألواح من الحجارة يشد على البطن حتى يعتدل الظهر وتبرد حرارة الجوع، وتضغط على المعدة حتى لا يحس الإنسان بخلوها، يستعينون بها على مواجهة المجاعة.
ينقصنا: العمل بالعلم
مما ينقصنا فيما ينقصنا: العلم الشرعي.
قبل أيام سألني شخص: أن أمه تصلي المغرب أربع ركعات، ولا تقرأ الفاتحة إلا في الركعة الأولى.
وهذا يقول: أنه مسح على جوربيه سنوات طويلة بغير طهارة، يعني لو نقض الوضوء، يمسح على الجوربين ولو لبسها على غير طهارة، يقول: ما كنت أدري أنه لا بد من طهارة للبس الجورب.
وهذا الذي تجلس بجانبه فيقرأ لك: الصابرين والصادقين والقانتين والمنافقين والمستغفرين بالأسحار.
يا أخي يعني ذلك الرجل الذي قرأ من زمان: ذلك الكتاب لا زيت فيه، يعني تقول: ما في نقط كان في المصحف، الآن منقط ومشكول، شف الأخطاء.
ويقول لك بعض من كان يطلب العلم: هذا قرأناه في كتاب المحْلي والمغنَّي-سبحان الله- المحلى لابن حزم، والمغني يغنيك، والروض المربع، المربع صار المربَع.
وهذا يقول: من هو الإمام مقِيده الذي يكثر الشنقيطي النقل عنه؟
الشنقيطي يقول في "أضواء البيان": قال مقيده عفا الله عنه، مقيده يعني الذي كتب الكتاب، يقول: هذا مقِيده، الشنقيطي يكثر النقل عنه.
من هو الإمام الباقون؟ كل شيء يقول: قرأ الباقون؟
الباقون يعني باقي السبعة، باقي القراء السبعة.
واحد في رسالة ماجستير يقول في التعريف لصاحب المخطوطة: ويبدو أن أباه كان عالماً بالقراءات، ويبدو أن أباه، يعني أن أبا المصنف كان عالماً بالقراءات، فإنه كثيراً ما يقول في كتابه: وقرأ أبي وقرأ أبي، وهي: قرأ أُبي، قرأ أُبي، وهذا استنبط أن أبا المصنف كان عالماً بالقراءات، هذا باحث ماجستير.
الجهل صار في هذه الأمة متفشياً عجيباً مؤلماً، وحالات مضحكة، أمور من الأساسيات، أساسات تختفي، ثم يمارس علينا غزو فكري في القنوات الفضائية.
شرير جداً جداً يهز الثوابت في نفوس العامة، مثلاً: استقر في نفوس العامة أن الربا حرام، يعني ألف بألف ومائة حرام، فصار الكلام يدور الآن، وبدأ بعض العامة فعلاً تتخلخل عندهم قضية أن الربا حرام، الثوابت، الأسس.
مثلاً تعدد الزوجات، من الهجوم على هذا المبدأ بدأ بعض العامة يقولون: نعم، والنساء، وبعض النساء، وغير ذلك.
إذاً، ما دامت الثوابت تهتز، معنى ذلك أن هناك خلل كبير.
العلم ضاع عند بعض الناس.
ينقصنا العمل بالعلم
ثم نحتاج بعد قضية التعلم: العمل بالعلم، قد يوجد عند كثير من الملتزمين بالدين أطراف من العلم، لكن بكم يعملون منها؟ مثل علم لا يعمل به كمثل كنز لا ينفق منه في سبيل الله" موقوف على أبي هريرة [اقتضاء العلم العمل، ص: 24].
قال حفص بن حميد: "دخلت على داود الطائي أسأله عن مسألة أشكلت، وكان كريماً، فقال: أرأيت المحارب إذا أراد أن يلقى الحرب، أليس يجمع آلته؟ طبعاً، قال: فإذا أفنى عمره في الآلة، فمتى يحارب؟ [اقتضاء العلم العمل، ص: 44].
واحد يجمع ثم لا يستعمل.
والعلم ليس بنافع أربابه | ما لم يفد عملاً وحسن تبصر |
سيان عندي علم من لم يستفد | عملاً به وصلاة من لم يطهر |
[تقيد العلم، ص: 130].
صلاة بغير طهارة مثلها مثل هذا العلم الذي لا يعمل به.
"علم بلا عمل كشجرة بلا ثمرة" [اقتضاء العلم العمل، ص: 38].
يقول عبد الرحمن السلمي: "حدثنا الذي كانوا يقرؤون القرآن أنهم كانوا يستقرئون النبي ﷺ، وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً".
يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: وجدت رأي النفس في العلم حسناً" يعني النفس مقبلة على التعلم، "فهي تقدمه على كل شيء، وتفضل ساعة التشاغل به على ساعات النوافل، غير أني رأيت كثيراً ممن شغلتهم النوافل عن العلم قد ضلوا، ولكن في المقابل علم بدون تطبيق ولا ممارسة، قال: رأيت نفسي واقفة مع صورة التشاغل بالعلم، فصحت بها، فما الذي أفادك العلم؟ أين الخوف؟ أين التعلق؟ أين الحذر؟!
أما سمعت بأخبار أخيار الأحبار في تعبدهم واجتهادهم؟!
أما كان رسول الله ﷺ سيد الكل؟ ثم أنه قام حتى ورمت قدماه؟
أما كان أبو بكر شجي النشيج كثير البكاء؟
أما كان في خد عمر خطان من آثار الدموع؟
أما كان عثمان يختم القرآن في ليلة؟
أما كان علي يبكي بالليل في محرابه حتى تخضل لحيته بالدموع، ويقول: يا دنيا غري غيري؟
أما كان الحسن يحيا على قوة التعلق بالله؟
أما كان سعيد بن المسيب ملازماً للمسجد، فلم تفته صلاة الجماعة أربعين سنة؟
أما صام الأسود بن يزيد حتى اخضر واصفر؟
أما قالت بنت الربيع بن خثيم له: ما لي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟ قال: إن أباك يخاف البيات؟
أما صام يزيد الرقاشي أربعين سنة وهو يقول: وا لهفاه سبقني العابدون وقطع بي؟
أما كان سفيان الثوري يبكي الدم من الخوف؟
أما كان إبراهيم بن أدهم يبول الدم من الخوف؟
أما تعلمين أخيار الأئمة الأربعة في زهدهم وتعبدهم؛ أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد؟
احذري من الإخلاد إلى صورة العلم، وترك العمل به [صيد الخاطر، ص: 84 - 86].
كان الأولون إذا نقلوا المعلومة تجد الجدية في النقل، سمع شيئاً أثر فيه، يقول سعد بن عبيدة: جلست أنا ومحمد الكندي إلى عبد الله بن عمر، ثم قمت من عنده، فجلست إلى سعيد بن المسيب، فجاء صاحبي وقد اصفر لونه، وتغير وجهه، فقال: قم إلي، قلت: ألم أكن جالساً معك الساعة؟ فقال سعيد: قم إلى صاحبك، فقمت إليه، فقال: ألم تسمع إلى ما قال ابن عمر؟ قلت: وما قال؟ قال: أتاه رجل، فقال: يا أبا عبد الرحمن أعلي جناح أن أحلف بالكعبة؟ قال: ولم تحلف بالكعبة؟ إذا حلفت بالكعبة، فاحلف برب الكعبة، فإن عمر كان إذا حلف قال: كلا وأبي، فحلف بها يوماً عند رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: لا تحلف بأبيك، ولا بغير الله، فإنه من حلف بغير الله، فقد أشرك [رواه الإمام أحمد: 5375، وقال محققو المسند: "إسناده ضعيف"].
حديث سمعه الرجل قام مصفراً وجهه متغيراً لونه مما سمع من القصة.
ولذلك ينبغي أن يكون عندنا جدية في طلب العلم، وينبغي أن يكون هناك عمل بالعلم، وينبغي أن يكون هناك أدب في الطلب، فإن بعض الشباب قد يتحمس في الطلب، لكنه لا يرزق أدباً، فيسيء مع الشيخ، ويسيء في السؤال، ويسيء في الأسلوب، ويسيء في الجلسة، يسيء في الاعتراض، عن عميرة قال: أن رجلاً قال لابنه: اذهب فاطلب العلم، فخرج فغاب عنه ما غاب، ثم جاءه فحدثه بأحاديث، فقال له أبوه: يا بني اذهب، فاطلب العلم، فغاب عنه أيضاً زماناً، ثم جاءه بقراطيس فيها كتب فقرأها عليه، فقال له: هذا سواد في بياض، اذهب فاطلب العلم، فخرج، ثم غاب عنه ما غاب، ثم جاءه، فقال لأبيه: سلني عما بدا لك؟ فقال له أبوه: أرأيت لو أنك مررت برجل يمدحك، ومررت بآخر يعيبك، ماذا تفعل؟
قال: إِذًا لم أَلُمُ الذي يعيبني، ولم أحمد الذي يمدحني، قال: أرأيت لو مررت بصفيحة ذهب؟ قال: إذاً لم أهيجها، ولم أقربها، فقال: اذهب، فقد علمت.
الآن جاء العلم، لما حصل الزهد في كلام الناس، والزهد في الدنيا، وهذا الذي أشار له ابن القيم في كلامه -الذي قلناه قبل قليل في أول الدرس-: "قطع الطمع بالدنيا، وقطع الطمع بكلام الناس" هذا علامة الإخلاص.
ينبغي أن يكون عندنا اشتغال بالطاعات، وقيام بالحقوق الشرعية عند حدوث المهمات والملمات، استنفار عند حضور مواسم العبادة، القيام والتشمير، عمر بن عبد العزيز لما تولى أتى بزوجته فاطمة، فخيرها بين أن تقيم معه على أنه لا فراغ له إليها، وبين أن تلحق بأهلها، فبكت وبكى جواريها لبكائها، فسمعت ضجة في داره، ثم اختارت مقامها معه على كل حال رحمها الله، وقال له رجل: تفرغ لنا يا أمير المؤمنين، فأنشأ يقول:
قد جاء شغل شاغل | وعدلت عن طرق السلامة |
ذهب الفراغ فلا فراغ | لنا إلى يوم القيامة |
[تاريخ دمشق: 45/169].
هذه الآن المهمة العظيمة التي طلع فيها، لا يوجد فراغ.
ينقصنا: اغتنام الأوقات بطاعة رب البريات
وهكذا ينبغي أن نشغل الوقت بطاعة الله .
ينقصنا: اغتنام الأوقات بطاعة رب البريات، قعد أحد السلف إلى رجل يقص له شاربه، فصار يذكر الله، حرك شفتيه، فتضايق الحلاق، قال: اسكن حتى أقص، قال: أنت تعمل، وأنا أعمل، كلنا نعمل.
ابن حجر -رحمه الله- مرة جاء إلى المدرسة المحمودية، جاء ليخرج المفتاح، فاتضح له أنه نسي المفتاح في البيت، فأمر بنجار يأتي ليعمل مفتاحاً، وقام يصلي، فوراً قام يصلي، فجاء النجار وعمل المفتاح، فقال أحد الطلاب: لو أمرتني، ذهبت إلى بيتك وأتيتك بالمفتاح، فقال: نعمل في الوقت، والمفتاح الثاني يفيدنا.
وكان بعض العلماء يقلل الأكل؛ لأنه يحتاج إلى شرب ودخول الخلاء زيادة.
والبخاري قال:
اغتنم في الفراغ فضل ركوع | فعسى أن يكون موتك بغتة |
[اقتضاء العلم العمل، ص: 106].
وكان بعض العلماء إذا قرأ عليه التلميذ من كتاب، والتلميذ عنده في الكتاب خطأ، فالتلميذ سيسكت عن القراءة ليصلح الخطأ، فكان الشيخ إذا توقف التلميذ يذكر الله بصوت خفي حتى يفرغ الطالب من تصحيح الخطأ، ويعاود القراءة.
ولذلك من تأمل السلف في اغتنامهم لأوقاتهم، يقول ابن عقيل: لا يحل لي أن يذهب عني وقت بدون طاعة، تدريس، دراسة، قراءة، تلاوة، وحتى لو استلقى ليرتاح وأغمض عينيه، فهو يذكر الله، وحتى لو ما ذكر فهو يتأمل في المسائل، ويتأمل في عظمة الله -تعالى-.
تأمل، ذكر، عبادة، عمل، هكذا كانوا يفعلون.
نحن ينقصنا هذا المبدأ نقصاً شديداً .
ينقصنا: الاهتمام بالسنن
ينقصنا فيما ينقصنا: الاهتمام بالسنن، الحرص على السنن، بعض الناس يرى هذه أشياء تافهة، وأشياء جانبية وقشور، ابن عمر لما رأى رجلاً قد أناخ الناقة لينحرها، قال له: "ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد ﷺ [رواه البخاري: 1713، ومسلم: 1320].
فالسنة: أن تنحر الناقة قائمة معقولة الرجل اليسرى، مقيدة الرجل اليسرى، تنحر في لبتها، فعند ذلك تطيح، فإذا وجبت، يعني طاحت: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج: 36].
كانوا يهتمون بالسنن، يقول أبو غالب: صليت مع أنس بن مالك على جنازة رجل، فقام حيال رأسه، وضع الجنازة وقام مقامه خلف رأس الميت مباشرة، ثم جاءوا بجنازة امرأة من قريش، فقالوا: يا أبا حمزة صل عليها؟ فقام حيال وسط السرير، يعني الجنازة، فقال له العلاء بن زياد: هكذا رأيت؟ ينتبهون انتباه كامل لأفعال الصحابي، هكذا رأيت النبي ﷺ قام على الجنازة مقامك منها، ومن الرجل مقامك منه؟ قال: نعم، فلما فرغ، قال العلاء: احفظوا [رواه الترمذي: 1034، وقال الألباني: "صَحِيح"؛ كما في مشكاة المصابيح: 1679] هذه السنة.
أبو داود استأجر قارباً ليقطع النهر يرد على رجل عطس حمد الله، ويقول له: يرحمك الله؛ لأن الحديث: فليقل له: يرحمك الله يعني يسمعه، يعني لو سمعت واحداً عطس قال: الحمد لله، السنة أن تسمعه، ما هو تقول في سرك: يرحمك الله، تسمعه، فليقل له: يرحمك الله.
أبو بكر الحديدي كان شديد الحرص على السنة، لا يسامح أحداً في شيء من أدائها، وكان معه مقراض، يعني مقص، من رأى شاربه طويلاً قصه، فإن امتنع، تبعه يقول: وا ديناه! وا سنة نبياه! وا... حتى الرجل يستسلم ويجلس يقص له الشارب.
فالشاهد هو الحرص، هذا دين كله مهما كانت المسائل كبيرة صغيرة يجب أن يقام به، ويحرص عليه.
ينقصنا: الرجولة والجدية وتحمل المسؤولية
لو تأملنا في حال هذه الأجيال التي نراها الآن لوجدنا عندنا نقصاً كبيراً في اتضاح معاني الرجولة.
الرجولة التي أثنى الله عليها: وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص: 20].
وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [يــس: 20].
وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ [غافر: 28].
لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ [التوبة: 108].
رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ [النــور: 37].
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلً [الأحزاب: 23].
تمنى كل واحد من أصحاب عمر أمنية، فلما جاء دور عمر، قال: لكني أتمنى ملء هذه الحجرة رجالاً أمثال أبي عبيدة.
الآن تأمل في الجيل، ماذا ترى؟
ضعف، خور، ميوعة، انحلال، تأنث، كسل، دنو همة، عدم تحمل مسؤولية، بطالة.
نريد رواحل، رجال يعتمد عليهم في حمل الدين، في العلم، الدعوة، حمل المشاق، مواجهة الأعداء، الرد على الشبهات، إفحام خصوم الإسلام.
رجال، نريد رواحل، قال النبي ﷺ: إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة [رواه البخاري: 6498، ومسلم: 2547].
قال الشراح في المقصود من الحديث أقوالاً منها: لا تجد في مائة من الناس من يصلح للصحبة بأن يعاون رفيقه، ويلين جانبه.
وقيل المراد: أن أكثر الناس أهل نقص، وأما أهل الفضل فعددهم قليل جداً، فهم بمنزلة الراحلة في الإبل المحمولة.
وقيل: المعنى أن الزاهد في الدنيا الكامل فيها الراغب في الآخرة.
الزاهد في الدنيا الكامل في صفاته الراغب في الآخرة قليل كقلة الراحلة في الإبل.
قال النووي: هذا أجود، وأجود منهما قول آخرين: إن المرضي الأحوال من الناس الكامل الأوصاف قليل.
وقال القرطبي: الذي يناسب التمثيل أن الرجل الجواد الذي يحمل أثقال الناس والحمالات عنهم، ويكشف كربهم عزيز الوجود كالراحلة في الإبل الكثيرة [فتح الباري: 11/335].
فتحمل المسؤوليات ما يطيقه أي أحد، ولا بد أن يتربى الجيل على تحمل المسؤوليات، الآن الجيل ينحدر.
الآن حتى الخطوط سيئة، الإملاء سيئ، القراءة سيئة، يصل رابع ابتدائي وأخطاء في القراءة وفي الكتابة عجيبة جداً.
ما يتحمل الواحد يعمل شيئاً، يريد من الخادمة: اطلعي فوق جيبي النشطة.
انزلي تحت جيبي... هاتي..، وشغل الأطفال مشورة الخدم، حتى قضية تربية الأولاد طبعاً مما ينقصنا، الوليد بن عبد الملك، يقول ابن كثير: "كان أبواه يترفانه، فشب بلا أدب، وكان لا يحسن العربية...، وكان إذا مشى يتوكف في المشية، يعني يتبختر".
"وقد روي أن عبد الملك أراد أن يعهد إليه" يعني في الخلافة بعده، ثم توقف؛ لأن ولده لا يحسن العربية، "فجمع الوليد جماعة من أهل النحو عنده" عند هذا الولد.
الآن لما اقترب من الموت، أراد أن يصحح خطأ كذا سنة، فجمع له أهل النحو "فأقاموا سنة عند الولد، وقيل: ستة أشهر، فخرج يوم خرج أجهل مما كان" [فتح الباري: 9/183].
فالجيل هذا فيه هزل كثير، فيه كثرة الضحك، فيه ميوعة.
كان السلف يقاومون هذه الحركات، قال عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم، وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم: 71] قال: هل أتاك أنك صادر عنها؟ عندك إثبات أنك تنجو؟ قال: لا، قال: ففيم الضحك؟ [جامع البيان في تأويل القرآن: 18/234].
وتحت قول الله -تعالى-: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ [الجاثية: 27] أورد ابن كثير -رحمه الله- القصة التالية: قدم سفيان الثوري المدينة، فسمع المعافري يتكلم ببعض ما يضحك به الناس أو يضحك به النفس، فقال له: يا شيخ أما علمت أن لله -تعالى- يوماً يخسر فيه المبطلون؟ قال: فما زالت تعرف في المعافري حتى لحق بالله -تعالى- [تفسير القرآن العظيم: 7/249] يعني حتى مات وموعظة سفيان معروفة في وجهه وفي سمته، قل الهزل، قل الضحك، صار الجد، صار الإقبال، صار العمل.
والآن أكثره ضحك، والعمل قليل، وأكثره هزل، والجد قليل، وهذه مصيبة أن تكون في الجيل.
لا بد من جدية، لا يصبرون على ساعة علم، ويسمعون أشرطة الأناشيد بالساعات، وبعض أشرطة الأناشيد غناء، قال لي واحد: أنا دخلت على محل تسجيلات استديو، شفت بيانو عند الميكرفون، قلت له: اسمها تسجيلات، يمكن قصدك؟ قال: لا، متأكد.
والآن يقول لك: مؤثرات صوتية.
المهم النتيجة، إذا كانت النتيجة هي نفس آلات الغناء.
وراح الناس في الألحان، وتركوا القرآن، والله المستعان.
ينقصنا: حسن التصرف والتضحية
ينقصنا فيما ينقصنا: حسن التصرف والتضحية، وهذه قصة امرأة من النساء، يقول الإمام أحمد -رحمه الله-: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي عن ابن إسحاق، قال: حدثني، صرح ابن إسحاق بالتحديث، يحيى بن عبد الله بن الزبير: أن أباه حدثه عن جدته أسماء بنت أبي بكر، قالت: لما خرج رسول الله ﷺ وخرج معه أبو بكر احتمل أبو بكر ماله كله، ترك البنات في البيت، عائشة وأسماء، صغار، حمل ماله كله، خمسة آلاف درهم، أو ستة آلاف درهم، قالت: وانطلق بها معه، فدخل علينا جدي أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، أظن أن أباكم هاجر وترككم، فجعكم بنفسه وماله، قالت: قلت: كلا يا أبت إنه قد ترك خيراً كثيراً، قالت: فأخذت أحجاراً، فتركتها، فوضعتها في كوة البيت كان أبي يضع فيها ماله، ثم وضعت عليها ثوباً، ثم أخذت بيده، فقلت: يا أبت، يعني يا جدي، ضع يدك على هذا المال، فوضع يده عليه، فقال: لا بأس، إن كان قد ترك لكم هذا، فقد أحسن، وفي هذا لكم بلاغ، قالت: لا والله ما ترك لنا شيئاً، ولكني قد أردت أن أسكن الشيخ بذلك [رواه أحمد: 26957، وقال محققو المسند: "إسناده حسن"].
هذه أسماء، هذه البنت التي رباها أبوها.
ينقصنا في حسن التصرف: التدبير في المعيشة، الاقتصاد في المعيشة.
اليوم إسراف كثير، مصروفات لا داعي لها، ثم ينتهي المرتب قبل نهاية الشهر، ثم استلاف بسبب قلة التدبير.
ينقصنا: النباهة لمؤامرات أعدائنا
ينقصنا فيما ينقصنا: أن نعتز بإسلامنا، وأن نكون في غاية النباهة لمؤامرات أعدائنا، خصوصاً وقد كثرت جداً في شتى أنحاء العالم في كلامهم وحركاتهم ومؤامراتهم وحروبهم، يعملون علينا شتى المؤامرات، ولا بد أن يكون عندنا عزة واستبانة لسبيل المجرمين، وإلا ضعنا.
والواحد قد يفوت على الأعداء شيئاً عظيماً بنباهته، والمسلم ما يستذل، ولا يرضى بالهوان، يقول ابن عباس: كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء من المشركين، ما عندهم أموال يفتدوا بها أنفسهم، فجعل رسول الله ﷺ فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة، يعلم أولاد المسلمين، إذا أتقن الكتابة، أطلقنا سراحك، فجاء يوماً غلام يبكي إلى أبيه، غلام مسلم جاء إلى أبيه يبكي، فقال: ما شأنك؟ قال: ضربني معلمي، قال: الخبيث يطلب بذحل، والذحل هو الثأر والانتقام، قال: الخبيث يطلب بذحل بدر، والله لا تأتيه أبداً، هذا الضرب ما هو للتعليم، هذا الضرب لأنه كافر مأخوذ أسير يريد أن ينتقم، فأفرغها في هذا الولد ضرباً، ما كانوا مغفلين.
ينقصنا: حسن المعاملة
ينبغي أن يكون مما عندنا ومتوافراً لدينا وهو مما ينقصنا أيضاً: الأخلاق، حسن المعاملة مع زوجاتنا وأولادنا وإخواننا وزملاء العمل، وبين البائع والمشتري، اشترى قوم من الليث بن سعد سلعة على أساس أن يستغلوها، فندموا، وما حصلوا الشيء المطلوب، فرجعوا إليه وقالوا: أقلنا البيع، قال: قد أقلتكم، مع أن الإقالة قد يكون فيها خسارة، قد أقلتكم، ثم أرسل لهم مالاً إضافياً، فقال له ولده: ما الأمر؟ الآن أقلتهم، ثم أرسلت إليهم مالاً، قال: اللهم غفراً، إنهم كانوا قد أملوا فيه أملاً، فأحببت أن أعوضهم عن أملهم [صفة الصفوة: 2/440].
فالسلعة أرجعناها ونزلنا على رغبتهم وعوضناهم الأمل الذي كانوا يؤملونه وفات عليهم.
وأعطى منصور بن عمار ألف دينار، وقال: لا تسمع بهذا ابني، فتهون عليه، فبلغ ذلك شعيب بن الليث، هذا تربية أبيه، فأعطى منصور بن عمار تسعمائة وتسعة وتسعين دينار، الابن لما سمع أن أباه أعطى ألف دينار هو أعطى تسعمائة وتسعة وتسعين، وقال: إنما نقصتك هذا الدينار لئلا أساوي الشيخ في عطيته [صفة الصفوة: 2/441 بتصرف]، حتى لا أكون أساوي أبي احتراماً لأبي، هذا تعلم الليث تعلم الكرم ممن؟ من شيخه محمد بن شهاب الزهري، قال: "ما رأيت أسخى منه قط، كان يعطي كل من جاء وسأله، حتى يستلف من أصحابه ويعطي الناس".
ومرة جاءه أعرابي يريد أن يعطيه، الزهري كان يخرج إلى البادية يعلم الأعراب، هذا من حسنات الزهري، البادية، الجولة في القرى والهجر، والبوادي، فجاءه أعرابي، والزهري ليس عنده شيء، قال: يا عقيل أعطني عمامتك وأعطيك خيراً منها، أخذ العمامة وأعطاها للأعرابي، وأعطاها بعد ذلك.
الإمام أحمد عاش مع زوجته عشرات السنين، قال: "عشت أنا وأم صالح، فلم نختلف يوماً قط".
والآن التهديد بالطرد من البيت، هذا إذا لم يطردها فعلاً، أو هي تغلق عليه الباب، أو تخنقه بعقاله، أو تقول: يا بخيل ما فيك خير، ما تجب لنا ولا تنفق علينا، والصياح واصل للجيران.
وهذه أهل زوجها عملوا لها سحراً.
وهذه سحرت زوجها احتياطاً حتى لا يتزوج عليها.
ينقصنا: تربية الأولاد والزوجات
أما مسألة تربية الأولاد التي أشرنا إليها قبل قليل، فهي مما ينقصنا جداً والله: ضياع الجيل، لا يوجد اهتمام، لا متابعة على الصلوات، لا يوجد متابعة في حفظ القرآن، لا يوجد متابعة في إنقاذهم من الأخلاق السيئة كالكذب وغيره، ونأخذ عبرة من حياة امرأة، فاطمة بنت أحمد حمدون الشقيهي كانت من الزاهدات العابدات، لما توفي بعلها ترك لها ثلاثة أولاد، الأول نحو سبع سنين، والثاني نحو أربع سنين، وأختهما ولها سنتان، فألزمت ولديها قراءة القرآن وحفظه، وكان الزمان إذ ذاك شديد الأهوال والجوع والقحط والغلاء الذي أفضى ببعض الناس -والعياذ بالله- إلى قتل أولادهم؛ لأنهم لا يجدون طعاماً يعطونهم إياه، وقد أكل الأموات جهاراً في شوارع فاس في المغرب، فكانت تجتهد في الكسب، وفي عمل يديها بما يحصل قوتها وقوتهم، وكان خالها محمد بن خلف الأنصاري يشتري لها كتاناً تغزله ويبيعه لها، ويشتري لها بما زاد قمحاً وشعيراً تصنع منه خبزة واحدة تجعلها في قربة زيت كانت عندها فقط في البيت، حتى تروى ثم تخرجها فتقسمها أرباعاً لكل ولد ربع، وتأكل هي ربعاً، وعلى ذلك عاشوا تلك المجاعة، وكانت تستيقظ من آخر الليل فتغزل غزلاً آخر غير الغزل الذي في النهار وهي تذكر الله، وتتركه حتى تجمع منه ما تنسج به حلة، لماذا؟ أجرة معلم الأولاد؛ لأنها تريد عيالها يحفظون القرآن، وهي مشغولة البال بتعليمهما، ومجتهدة في إرشادهما، وراغبة في إصلاحهما، فوفى الله -تعالى- بقصدها لحسن نيتها وأجابها إلى مرغوبها وأتم أولادها حفظ القرآن.
من الأهمية بمكان: الاعتناء بتربية البنات، فالفتاة التي لا علم لديها، لا يتمكن الإيمان من قلبها، ولا تستطيع أن تربي أولادها كما يجب، وقد اجتهد بعض الدعاة في بعض القرى على وضع منهج لتعليم النساء والفتيات، فلم تمض مدة وجيزة حتى كانت البيوت تحن بالقراءة والتعليم، وصرن مهاميز الرجال إلى أعمال الخير، وطالما عيرنهم على المظالم، وعلى ما يرتكبون منها.
أما تربية الزوجة، كان عبد الله بن رواحة واضعاً رأسه في حجر امرأته، فبكى فبكت امرأته، فقال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال: إني تذكرت قول الله : وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم: 71] فلا أدري أنجو منها أم لا [مستدرك الحاكم: 4/631].
هذه طائفة من الأشياء التي تنقصنا، وما ينقصنا كثير، ولكن أكتفي بما تقدم.
وأسأل الله أن يجعلنا جميعاً هداة مهتدين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، ويسدد خللنا إنه سميع مجيب قريب، والحمد لله رب العالمين.
فتاوى متفرقة للإمامين ابن باز وابن عثيمين
أذكر في آخر كل درس بعض الفتاوى التي استفدتها من الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- نشراً لعلمه وفضله، وإفادة بما كان قد أفتى به -رحمه الله-.
سألته -رحمه الله- عن رجل اشترى سلعة من رجل، فدفع المشتري إليه عربوناً، وبقيت السلعة لدى البائع، وغاب المشتري سنة ولا يدري أين هو؟ العربون عند البائع، والسلعة عند البائع والمشتري غائب، ماذا يفعل؟
فأجابني: بأنه إذا لم يتمكن من العثور عليه، باع السلعة، وأخذ بقية حسابه، وتصدق بالباقي عن المشتري، باع السلعة وأخذ بقية الحساب، أخذ حسابه، وتصدق بالباقي إذا وجد باقي عن المشتري.
وسألته عن فتاة كسر سنها، ولو بردته لإصلاحه لصار أطول من الذي بجانبه، فيحتاج الثاني إلى برد أيضاً، فهل يجوز لها الأخذ منهما؟
فقال لي: الظاهر أنه لا بأس به، ليس من التفليج، وهذا شين، أي عيب يعني يزال، مثل: السن الزائدة والإصبع الزائدة، وما شابه.
وسألته -رحمه الله- هل يجوز للمرأة أن تزيل شعر الجبهة يعني إذا كثر وكثف؟
فقال: هذا تشويه، وأخذه ليس من النمص.
وأيضاً أكمل بعض الأسئلة من فتاوى الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين حفظه الله، قلت له: هل يجب على صاحب العمارة في هذه الأيام أن يشترط على المستأجرين عدم وضع دش؟
قال: نعم، إذا غلب على ظنه أنهم يركبونه، فيجب أن يشترط عليهم.
وسألته حفظه الله أيضاً عن هدايا الطالبات للمدرسات، وهدايا الطلاب للمدرسين، فسألته عن ثلاث حالات: المدرس الذي يدرس الطالب الآن.
والثاني: المدرس الذي يحتمل أن يدرسه في المستقبل، وإن كان لا يدرسه الآن.
والثالث: المدرس الذي لا يدرسه الآن، ولن يدرسه في المستقبل في المنظور، مثل: الطالب الذي تخرج من الكلية أو من الجامعة أو من المدرسة، والمدرس في المدرسة باقي.
فقال الشيخ محمد: لا يجوز أن يقبل هدايا الطلاب من النوع الأول أو الثاني، وأما النوع الثالث فلا بأس إذا أخذها، انقطعت الصلة ولا يدرسه، انتهى، أعلنت النتائج، فقال: لا بأس بذلك.
وسألته سؤالاً مشابهاً عن هدايا المدرسات للمديرة إذا كانت المديرة تهديهن في المناسبات ولادة، قيام من مرض، قدوم من سفر، وهكذا.. فقال: إذا كانت الهدايا متبادلة أصلاً، فلا بأس بذلك، وإلا تكون رشوة.