الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلِّي وأسلِّم على محمدٍ بن عبد الله، سيِّد الخلق أجمعين، وعلى آله وصحبه إلى يوم الدِّين.
أهمية علم المصالح والمقاصد
أيَّها الإخوة والأخوات: تحدَّثنا في الدَّرس الماضي عن أهمية علم المصالح والمقاصد، ودخول بعض أهل الضَّلال بهذا الباب؛ لمصادمة النُّصوص، وتعطيل الشَّريعة وتحريفها، وكنَّا نتحدَّث في سلسلة مزالق الاستدلال أو الاستدلال الباطل، وقد ذكرنا في موضوع المصلحة: أنَّ المصالح هي: المنافع، وأنَّ المفاسد هي: المضارُّ، وأنَّ الشَّريعة كُلُّها قائمةٌ على تحقيق مصالح العباد، ودفع المفاسد عنهم في الدُّنيا والآخرة، وأنَّ المصالح التي راعتها الشَّريعة على ثلاث درجات: ضرورياتٌ، وحاجياتٌ، وتحسيناتٌ، وأنَّ المصالح الضَّرورية هي: المصالح التي تُحافظ على الدِّين والنَّفس والعقل والنَّسل والمال، وهذه المصالح الأساسية التي لا تقوم الأفراد والأمم إلَّا بها، ولو فُقدت واختلت هذه الخمس اضطرب نظام الحياة، وسادت الفوضى وعمَّ الفساد، وأنَّ المصالح الحاجيَّة هي: المصالح التي لا يترتب على فقدها اضطرابٌ في نظام الحياة، ولكن تكون الحياة بدونها فيها مشقةٌ وعسرةٌ وحرجٌ، وأمَّا المصالح التَّحسينية هي: المصالح التي لا يترتب على فقدها اضطرابُ نظام الحياة واختلال أصلها بالكلية، وكذلك لا يقع النَاس في ضيقٍ وحرجٍ، ولكن الحياة من غيرها تخلو عن مكارم الأخلاق، ومظاهر الحسن والبهاء والكمال والجمال، وذكرنا أنَّ المقاصد التي جاء الشَّرع بتحقيقها منها: ما هي مقاصد دنيوية، ومنها ما هي مقاصد أخروية، منها ما هي مادية، ومنها ما هي معنوية، وأنَّ كُلَّ ما أمرت به الشَّريعة ففيه المصلحة، فلا يُوجد شيءٌ أمرت به الشَّريعة يخلو من مصلحة، أو لا وجود للمصلحة فيه.
الشَّرع هو المعيار في معرفة المصالح والمفاسد
وأنَّ الشَّرع هو المعيار في معرفة المصالح والمفاسد، فما شهد له الشَّرع بالصَّلاح فهو المصلحة، وما شهد له الشَّرع بالفساد فهو المفسدة، وأنَّ ليس كُلَّ ما عدَّه أو ظنَّه بعض النَّاس مصلحة، فقد يكون مصلحة في حقيقة الأمر لكنَّها عند الشَّرع مرجوحة، وقد تكون وهمية وليست بمصلحة أصلاً في الشَّرع، وكذلك فإنَّ بعض المصالح في الشَّرع قد تكون ملغاة: كالفرار من الزَّحف لحفظ النَّفس، وقتل المريض الذي لا أمل في شفائه، وكذلك مصالح الرِّبا لو قيل أنَّ الرِّبا فيه مصالح فهي ملغيةٌ شرعاً، أيضاً: نكاح المتعة، وبيع الخمر، التَّسوية بين الذَّكر والأنثى في الميراث، وما يدعو إليه بعض النَّاس مثلاً من الاستعاضة عن ذبح الهدي بالصَّدقة المالية، أو بذبح الدَّجاج إذا ارتفع ثمن الخراف، وهذا الكلام هو بالنُّسبة لنا يبدو مضحكاً، وعند بعض النَّاس يقولون هذا حلٌّ، ولكن هذا مصادمٌ للنَّص فلا يمكن القول به، من استطاع أن يضحِّي فليضحِّ، ومن لم يستطع تسقط عنه الأضحية، وهي سُنَّة مؤكدةٌ عند جمهور أهل العلم، من الأمثلة التي يراها البعض مصلحة والمصلحة بخلافها: القصة اللَّطيفة التي ذكرها الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في السِّير، قال: "إنَّ عبد الرحمن بن الحكم المرواني صاحب الأندلس، نظر إلى جاريةٍ له في نهار رمضان فلم يملك نفسه فوقع عليها، ثُمَّ ندم وطلب الفقهاء وسألهم عن التَّوبة، وماذا يفعل بالكفَّارة" ونحن نعرف ما هي كفَّارة الوطء في نهار رمضان؟ هي على التَّرتيب عتقُ رقبةٍ أولاً فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع إطعام ستين مسكيناً، وهذا الخليفة سأل العلماء بحضرته، فابتدأ الكلام يحيى بن يحيى وهو من تلاميذ مالك، وقال: عليك صيام شهرين متتابعين فسكت الآخرون، فلمَّا خرجوا من عنده قال العلماء ليحيى: مالك لا تفته بما نعلمه؟ يعني: من حديث النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام، وهو مذهب مالك أن فيه تخيير بين الثَّلاثة، ومذهب الجمهور أنَّها على التَّرتيب، لكن هذا أفتاه بصيام الشَّهرين وألزمه بها، فقال: لو فتحنا له الباب لسهل عليه أن يطأ كُلَّ يومٍ ويعتق رقبةً" يعني: فهو عنده مالٌ واستطاعة لذلك، "فحملته على أصعب الأمور لئلا يعود"[سير أعلام النبلاء10/521]. فحمله هذا فيه مخالفةٌ لنص الحديث الواضح الذي فيه التَّرتيب، فالآن تلزمه بالدَّرجة الثَّانية قبل الأولى؟ لكنَّه من ناحية السَّبب فيه وجاهةٌ، يقول: هذا عنده مالٌ وغنيٌّ فما الذي يردعه؟ عتق رقبة قد لا يردعه، لكن صيام شهرين ولو كان في الدَّرجة الثَّانية ألزمه بها، لكن خالف نصاً هو لمصلحةٍ هو رأئها، لكن خالف نصاً، قال الشَّاطبي رحمه الله: "فإنَّ صحَّ هذا عن يحيى بن يحيى رحمه الله، وكان كلامه على ظاهره كان مخالفاً للإجماع"[الإعتصام1/ 404]. فإذاً المصلحة التي رآها يحيى رحمه الله ليست صحيحةً شرعاً؛ لأنَّ الشَّرع أهدر هذه المصلحة وألغاها، وإلَّا لقال الشَّرع فإن كان غنياً فليَصم شهرين متتابعين مثلاً، أو فإن كان لا يرتدع بالعتق فعليه صيام شهرين متتابعين، لكن هذا لا يُوجد في الشَّرع، إذاً هذه المصلحة في الشَّرع مهدرةٌ أو ملغاةٌ، وما يُدرينا لعلَّ عتق الرَّقبة وإخراجها من الرِّق مقدمٌ في الشَّرع على ردع هذا المخالف الذي وقع على زوجته أو على أمته في نهار رمضان؟ قد يكون في الشَّرع عتقُ الرَّقبة أهم من ردع هذا الواطِئ، ولذلك ليس صحيحاً أن ما يتبادر لنا أنَّه مصلحة وهو مخالفٌ للنَّص نمشي عليه، بل نقدِّم النَّص، ولا ندري كُلَّ المصلحة ولا بقية المصالح، ورُبَّما يكون في نظرنا من القصور هنا بل هو كذلك، بل يكون في نظرنا قصور لو أننا رأينا مصلحة بخلاف النَّص أكيد عندنا قصور 100% "واعلم أنَّ الشَّرع الكريم لا يُلغي اعتبار مصلحة ويحكم بإهدارها إلَّا لتحصيل مصلحةٍ أخرى أهمُّ في نظر الشَّرع منها؛ لأنَّ عتق الرَّقبة وإخراجها من الرِّق في نظر الشَّرع أهمُّ من التَّضييق على ذاك الملك بالصَّوم لينزجر بالتَّكفير بالصِّيام"[المصالح المرسلة8]. هذا معنى ما ذكرها الشَّيخ الشَّنقيطي رحمه الله في رسالته على المصالح المرسلة.
المصلحة إذا واجهت النَّص
إذاً هذه قضية المصلحة الملغاة أو الوهمية أو القاصرة، هذه لا يمكن للإنسان أن يعتمد عليها في مواجهة نصٍّ أو مخالفته، والقضية مع أصحاب الفكر المنحرف ليست في الاحتجاج بالمصالح أو عدم الاحتجاج بالمصالح، وإنَّما في كثيرٍ من الأحيان: القضية أنَّهم يرون مصلحةً وهي مفسدة، فإذاً لا بُدَّ أن نتبيَّن الفرق بين المصلحة عند هؤلاء وبين المصلحة في الشَّرع، هؤلاء عندهم قاعدةٌ يُعبِّرون ببساطة عن مرادهم، يقولون فيها: حيثما وُجدت المصلحة فثم شرع الله، وأهل الحقِّ يقولون: حيثما وُجد الشَّرع فثمَّ مصلحة العباد، وهناك فرقٌ كبيرٌ بين الأمرين، فالمنحرفون بقولهم هذا لا يلتفتون للنَّصِّ، وحينئذٍ يقولون: المصلحة هي الشَّرع، وأهل الدِّين يقولون: حيثما وُجد الشَّرع وحيثما جاء النَّص فهناك مصلحة العباد، سواءً رأينا المصلحة أو ما رأيناها، وذكرنا سبع مسائل في المصلحة.
المصلحةُ المرسلة معتبرةٌ في الشَّرع مالم تخالف نصَّاً
ثامناً: المصلحةُ المسكوت عنها معتبرةٌ في الشَّرع، إذا تحقَّق أنَّها مصلحة ولم تعارض شيئاً من النُّصوص، فالمصلحة التي دلَّت عليها أدلَّةٌ من الكتاب والسُّنَّة أو الإجماع أو القياس هي مصلحة معتبرةٌ ومطلوبةٌ، والمصلحة التي دلَّت الأدلَّة على عدم اعتبارها هي مصلحة ملغاة، والمصلحة التي لم يدلُّ الشَّرع لا على اعتبارها ولا على إلغائها فهي مصلحةٌ مرسلةٌ، فما معنى مرسلةٌ؟ يعني: خاليةٌ عن دليلٍ يُقرِّها أو يمنعها، خاليةٌ عن دليلٍ يعتبرها أو يلغيها فهذه مصلحةٌ مرسلةٌ، كُلُّ مصلحة لم يقم دليل خاصٌّ من الشَّرع على اعتبارها أو إلغائها، لكنَّها تدخل ضمن مقاصد الشَّريعة وعمومها، يعني: تحقِّق خيراً أو تمنع شراً، فإذاً هذه المصلحة المرسلة التي سُمِّيت مرسلةٌ: لإرسالها، بمعنى: إطلاقها وخلُّوها من دليلٍ خاصٍّ يشهد لها أو يلغيها، عامَّة العلماء على الأخذ بها ما دام أنَّها لا تُصادم النُّصوص، وتدخل ضمن مقاصد الشَّريعة، وهي تساعد على حفظ النَّفس أو حفظ العقل أو حفظ المال أو حفظ العرض أو حفظ الدِّين بالدَّرجة الأولى، فالعلماء يعتبرونها.
أمثلة على المصلحة المرسلة في عهد الخلفاء
ولهذه المصلحة المرسلة أمثلة منها: جمع القرآن في مصحفٍ واحدٍ في عصر أبي بكر ؛ خوفاً عليه من الضَّياع، وخاصةً بعد استشهاد كثيرٍ من قُرَّاء الصَّحابة الحُفَّاظ في موقعة اليمامة، فهذا العمل وهو جمع القرآن في كتابٍ لم يرد الشَّرع بدليلٍ خاصٍّ بشأنه، ما قال اجمعوا القرآن أو لا تجمعوا القرآن، ولكنّضه يحقِّق مصلحةً كبرى في حفظ الدِّين وحفظ القرآن من الضَّياع، قال أبو بكر : "إنَّ عمر أتاني فقال إنَّ القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بقُرَّاء القرآن، وإنِّي أخشى أن يستحرَّ القتل بالقُرَّاء بالمواطن فيذهب كثيرٌ من القرآن، وإنِّي أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر: كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله ﷺ؟ قال عمر: هذا والله خيرٌ، فلم يزل عمر يراجعني -يقول أبو بكر - حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر"[رواه البخاري4402]. والحديث في البخاري. فلم يرد نصٌّ عن النَّبيِّ ﷺ بما صنعوا، ولكن في فعلهم مصلحةٌ تُناسب ما جاء في الشَّرع قطعاً، نحن نحتجُّ أيضاً بقول النَّبيِّ ﷺ: عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الرَّاشدين المهديين من بعدي[رواه أبو داود 4609، وابن ماجه43، وأحمد17182، وصححه الألباني في إرواء الغليل2455]. وأنَّ هذا من فعل الرَّاشدين وأنَّه حُجَّة، ولذلك فهو معتبرٌ من جهة دليلٍ خاصٍّ فلا يُوجد لا باعتبارٍ ولا بمنع، لا بإقرار أو بطلب ولا بمنع، إذاً هي مصلحةٌ مرسلةٌ، مثلاً: قتل الجماعة بالواحد، قالوا: إنَّ الدَّليل ورد بالنَّص على أنَّ النَّفس بالنَّفس يعني: واحدٌ بواحدٍ، فما حكم الجماعة إذا قتلوا واحداً؟ كما حصل في عهد عمر لما اجتمع جماعةٌ باليمن على واحدٍ فقتلوه، حيث رفعت القضية إلى عمر في سبعةٍ من أهل صنعاء قتلوا رجلاً، فقال: "لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم"[رواه ابن ابي شيبة28268]. فحكم عمر بذلك، والقصة في مصنَّف ابن أبي شيبة رحمه الله تعالى. فرأى الصَّحابة أنَّ المصلحة قتل المشتركين في قتل واحدٍ جميعاً؛ لأنَّه إذا لم يُقتلوا لأمكن قتل أيِّ شخصٍ بواسطة مجموعةٍ، ويتفرَّق الدَّم وتضيع القضية، فيكون في ذلك ذريعةٌ إلى سفك الدِّماء وإهدار الأرواح، فلذلك قضية قتل الجماعة بالواحد مصلحةٌ مرسلةٌ تحقِّق مصلحةً شرعيةً في حفظ النَّفس، نعم لم يرد دليلٌ صريحٌ صحيحٌ بقتل الجماعة بالواحد ولا بمنعه.
أمثلة على المصلحة المرسلة في بعض الأمور الحديث
قضية تضمين الصُّنَّاع: الأصل أنَّ ما تجعله عند الورشة أمانة، لكن قد تقع فيها خيانات، وتكتشف المسألة أحياناً أنَّ هناك قِطعٌ أصليةٌ أُخذت منها، وجعلوا لك قِطعاً بدلاً منها، تعطيهم إيَّاها شبه سليمةٍ كأن فيها عطلٌ بسيطٌ، وتعود لك خربانة إلى آخره، فمسألة تضمين الصُّنَّاع يعني: أنَّ الصَّانع يضمن ما حصل فيها وهي عنده، وقد يقول أنا ما تعديت وما فرَّطت، تضمين الصُّنَّاع في كُلِّ الحالات مع أنَّ أيديهم على ما استُودع عندهم هي يدُ أمانة، لكن المصلحة تقتضي تضمين هؤلاء الصُّنَّاع؛ لئِلا يتهاونون في حفظ أموال النَّاس، وهذه المسألة التي يقول فيها عليٌّ : "لا يصلح النَّاس إلا ذلك"[رواه ابن ابي شيبة 21450]. رواه ابن أبي شيبة.
وكذا إلزام النَّاس بتوثيق عقود الزَّواج لن تجد دليلاً في الشَّرع يأمر ويُلزم بتوثيق عقود الزَّواج، وكذلك لن تجد دليلاً في منعه، لكن إذا نظرنا الآن في الواقع سنجد أن توثيق عقود الزَّواج له أهميةٌ كبيرةٌ، حيث اختلط النَّاس ودخل بعضهم في بعض، وما عدنا ندري في كثير من الأحيان الصَّادق من الكاذب من الخائن من الأمين، فصارت مسألة توثيق الزَّواج مهمةً، ففي قديم الزَّمن يستطيع النَّاس أن يعرفون من المتزوِّج وذلك لقلتهم، لكن اليوم دخل النَّاس بعضهم في بعض، وصار النَّاس يسكنون في عمائر وشققٍ، فما يدرينا أنَّ هذا متزوِّجٌ أو غير متزوِّج، فتوثيق عقود الزَّواج فيه حفظٌ لحقِّ الزوجة كالمهر والميراث ،وحفظ نسب الأولاد، ومنعها من الزَّواج وهي على ذمة زوج؛ لأنَّ الآن يحدث تلاعب حتى في قضية الزَّواجات، فيمكن أن يعقد ثلاثةٌ على امرأةٍ وهم لا يدرون، كُلُّ واحدٍ لا يدري عن الثَّاني، وكذلك منع الزَّوج من التَّزوُّج بأكثر من أربع نساء، فيُقال له حاسب أنت مسجَّل أنك متزوِّج على أربع زوجات، ونحو ذلك من المصالح الكثيرة المتعدِّدة، فحفظاً للحقوق ومنعاً للمفاسد ممكن يكون توثيق عقود الزَّواج من المصلحة المرسلة، في عهد النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام لا يعرف أنَّه يوجد محرابُ مسجد بارز من الخارج مثل الموجود الآن، لما كثرت الأبنية وطغت على المساجد حتى رُبَّما تدخل الحيَّ تريد أن تعرف جهة القبلة قد لا تعرفها إلَّا من محراب المسجد، ورُبَّما لا تعرف أنَّ هذا مسجد إلَّا من خلال المحراب، ولذلك اعتبر بعض العلماء أنَّ المحراب من المصلحة المرسلة هذا الذي يكون فيه الإمام، مع أنَّه لم يكن على عهد النَّبي ﷺ ولا في القرن الأول،
وإنَّما ظهر المحراب في القرن الثَّاني الهجري، وتتابع المسلمون على ذلك في مساجدهم لما فيه من المصلحة؛ كدلالة الدَّاخل المسجد على جهة القبلة، والآن يوجد سِجَّادٌ مفروشٌ باتِّجاهٍ مُعيَّن من قديم، وممكن يكون للمسجد عدَّة أبواب من جهات مختلفة، فلا تميِّز جهة القبلة، وليس فقط إذا تصوَّرنا أشكال وهيئة المساجد فيقتصر تصوُّرنا على مساجد اليوم، لا بُدَّ أن نُفكِّر بالعصور الماضية، أيضاً هناك أشياءٌ دعت لوجود المحراب، مثلاً: تخطيط الصُّفوف فهذا قد يكون مصلحةً مرسلة؛ لأنَّ جهل النَّاس وإهمالهم وقلة وعيهم بتسوية الصُّفوف سيؤدِّي إلى اعوجاجها، ولولا هذه التَّخطيطات ما استقامت صفوف النَّاس، فنعم لم يكن على عهد النَّبي ﷺ ولا الصَّحابة تخطيط صفوف النَّاس، لكن وضع النَّاس اليوم من كثرتهم وقلة اكتراثهم بالأمر والجهل يجعل من تخطيط الصُّفوف أمراً مهمِّاً فيُمكن أن يُقاس على المصلحة المرسلة، أمَّا إذا ذهبنا إلى الأشياء الدُّنيوية الأخرى، مثل: إدخال الإشارات الضُّوئية، وحتى المتعلِّقة بالعبادات: كاستعمال مكبِّرات الصَّوت في المساجد، وما كانت على عهد النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام، لكن تحقق مصلحةً شرعيةً في تبليغ صوت الإمام للمأمومين، هل الشَّرع شهد بشيءٍ في إلغائها أو أمر بها؟ لا بل هي وسيلةٌ حادثةٌ، ولمَّا علم الشَّيخ عبد الرَّحمن السَّعدي رحمه الله من علماء نجد والقصيم بها أمر بجلبها إلى مسجده الجامع ولم تكن يومئذٍ تُعرف، فلمَّا جُلبت ظنَّ بعض المصلِّين أنَّ هذا إحداثٌ في الدِّين وبدعة، وتُدخِلون بيوت الله أشياءً من مصنوعات الكفَّار وما كان على عهد سلفنا، فكأنَّه تحاشا الصَّلاة في المسجد فلمَّا لقيه الشَّيخ عبد الرَّحمن مرةً قال له: يا فلان ما نراك تُصلِّي معنا؟ والشَّيخ كان لطيفاً ويُعاشر النَّاس معاشرةً حسنةً، ويعرف كيف يُؤلِّف ويجمع ويستقطب ويستجلب قلوب النَّاس، فذاك قال: لأنَّه حدث كذا، والمسجد وُضعت فيه المكبِّرات وهذه البدعة التي ما كانت، فالشَّيخ رأى أنَّ هذا الرَّجل يلبس نظارةً طبيةً سميكةً، فقال أرني نظارتك هذه، فأراه إيَّاها فاستخرج الشَّيخ من جيبه ورقةً فيها كتابةٌ صغيرةٌ، قال اقرأ لي هذه من فضلك، فأخذ ها وحاول يقرأ وما استطاع، فأعطاه نظارته وقال البس النَّظارة، فلبسها وقال اقرأ هذه، فقرأها، فقال: المكبِّر لصوت الإمام كالنَّظارة لعينيك، فكما أنَّ المكبِّر يبلع أسماع المصلين صوت الإمام البعيدين وفي أطراف الصُّفوف، كذلك هذه النَّظارة تُقرِّب لك الخطَّ فترى، فاقتنع بذلك وسُرَّ به ورجع إلى المسجد، الشَّاهد أنَّ التَّفريق بين البدعة والمصلحة المرسلة يحتاج إلى دقةٍ وإلى فهم، وهذا من مزالق الأقدام، لأنَّ بعض النَّاس يمكن أن يُبتدع ويقول هذه مصلحة مرسلة هذه قضية مهمَّة جداً، ويكمن أن يأتي بعضهم من هؤلاء المنافقين بباقعةٍ ومصيبةٍ في الدِّين ويقول: هذه مصلحةٌ مرسلةٌ، ولذلك فهم ما هي المصلحة المرسلة مهمٌ جداً، ومن أهم الأشياء أنَّه لا يُوجد دليلٌ في الشَّرع يمنع وإلَّا لما صارت مصلحةً أصلاً، وليس في الشَّرع دليلٌ يأمر بذلك أو يُقرَّه أو يشرعه.
الخير يُفعل والشَّرُّ يُمنع ولو لم يدل دليل على ذلك
عمومات النُّصوص دالةٌ على أنَّ الشَّيء الذي فيه خيرٌ ونفعٌ راجحٌ فإنَّه يفعل وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[الحج:77]. وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ[الأعراف:142]. إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل:90]. حديث: لا ضرر ولا ضرار[رواه مالك 1429، وأحمد 2867، وابن ماجه 2340، وصححه الألباني في إرواء الغليل 1250]. هذه كُلُّها نصوصٌ تؤكِّد الإقدام على ما فيه خيرٌ ومصلحةٌ، فحيثما وجدنا الخير والعدل والنَّفع والصَّلاح فعلناه وأقدمنا عليه ولو ما كان منصوصاً عليه، لأنَّ ذلك مطلوبٌ شرعاً من جهة العموم، وحيثما وجدنا الشَّر والظَّلم والضَّرر والفساد منعناه ولو لم يكن الشَّرع قد نهى عن هذا بالتَّحديد أو بالنَّص؛ لأنَّ عموم الأدلَّة تدلُّ على ذلك، قال الشَّيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "فالحاصل أنَّ الصَّحابة كانوا يتعلَّقون بالمصالح المرسلة التي لم يدلُّ دليلٌ على إلغائها، ولم تعارضها مفسدةٌ راجحةٌ أو مساويةٌ" هذه مهمَّة "وجميع المذاهب يتعلَّق أهلها بالمصالح المرسلة، ومن تتبَّع وقائع الصَّحابة وفروع المذاهب علم صحةَ ذلك، ولكن العمل بالمصلحة المرسلة أمرٌ يجب فيه التَّحفُّظ وغاية الحذر حتى يتحقَّق صحة المصلحة وعدم معارضتها لمصلحة أرجح منها أو مفسدة أرجح منها أو مساوية لها"[ المصالح المرسلة21]. انتهى. يعني: لو كانت المفسدة مساويةً لماذا نمنع؟ لأنَّ درء المفسدة مقدمٌ على جلب المصلحة، إذاً نحن نُؤكِّد على أنَّ قضية المصلحة المرسلة ممكن أن تكون معبراً ومنفذاً لأعداء الدِّين والمنافقين، ولذلك لا بُدَّ من مراعاة الضَّوابط التي جعلها العلماء من المصلحة المرسلة.
لا يُؤخذ بالمصلحة المرسلة في العبادات
تاسعاً: لا يُؤخذ بالمصلحة المرسلة في العبادات؛ لأنَّها غير معقولة المعنى، ما معنى غير معقولة المعنى؟ يعني: لا تُدرك بالعقل، هل ممكن أن تخبرني لماذا صلاة المغرب ثلاثُ ركعاتٍ والفجر ركعتان؟ ولماذا نصوم رمضان ولا نصوم شعبان؟ ولماذا رمي الحصاة سبع وليست ثمان؟ فقضية العبادات هذه كثيرٌ منها لا يُدرَك بالعقل بخلاف المعاملات، فممكن أن أعطيك الأسباب في النَّهي عن بيع الغرر وعن الرِّبا، ولماذا الميسر حرامٌ؟ ولماذا الزِّنا حرامٌ؟ ونحوه في أبواب المعاملات، لكن العبادات كثيرٌ منها لا يُدرَك بالعقل، وعدم التَّفريق بين العبادات والمعاملات في قضية المصلحة المرسلة خطيرٌ، وقد أوقع إلى خلطٍ عظيمٍ، واستحسن بعض النَّاس بدعاً من هذا الباب واستساغوها وقالوا بها، واحتجوا بفتاوى وأعمال بُنيت على المصالح المرسلة، فلا مدخل للمصالح المرسلة إذاً في الأمور التَّعبدية؛ لأنَّ العبادات لا يعقل لها معنى على وجه التَّفصيل، فلو قلت مثلاً: لماذا مثلاً مسح الرَّأس مرَّةً وغسل الرَّجلين ثلاث؟ لماذا المسح على الخفين يكون من أعلى وليس من أسفل؟ وأيضاً يمكن بعض الأشياء تعبُديَّة تُخالف ظاهرَ ما يتبادر إلى الذِّهن، فلا مدخل للمصالح المرسلة في هذه الأمور التَّعبدية: كتحديد وقت الحج مثلاً، وعدد ركعات الصَّلوات، واقتصار التَّيمم على الوجه والكفين فقط ونحو ذلك، فهذه أشياءٌ توقيفيَّةٌ لا يُزاد عليها ولا يُنقص منها ولا يغيَّر في قدرها ولا في وقتها ولا في مكانها ولا في صفتها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الأصل الذي بنى الإمام أحمد وغيره من الأئمة عليه مذاهبهم أنَّ أعمال الخلق تنقسم إلى عباداتٍ يتخذونها ديناً ينتفعون بها في الآخرة أو في الدنيا والآخرة، وإلى عاداتٍ ينتفعون بها في معايشهم، فالأصل في العبادات المنع، والأصل في العادات الإباحة، الأصل في العبادات أنَّه لا يُشرع منها إلَّا ما شرعه الله" فبابها مغلقٌ ما يُفتح فيها بابٌ إلَّا ما فتحه الشَّرع وإلَّا سيتغيَّر الدِّين وتدخل البدع، "وأمَّا العادات المعاملات الأصل فيها الإباحة إلَّا ما منعه الشَّرع[اقتضاء الصراط المستقيم2/86].
من يحقُّ له تحديد المصلحة من المفسدة
عاشراً: عند تحقيق المصالح ينبغي النَّظر من جهة أهل العلم الرَّاسخين في الشَّريعة، فالشَّريعة جاءت بجلب المصالح ودرء المفاسد، ولكن هذا لا يعني أنَّ كُلَّ شخصٍ يمكنه أن يرى المصالح والمفاسد، وأنَّ كُلَّ واحد يمكنه أن يُوازن بين المصالح والمفاسد، أو يوازن بين مصلحتين أو يوازن بين مفسدتين، كلا ذلك مرجعه إلى علماء الشَّريعة الرَّاسخين، ولا بُدَّ من توفُّر الشُّروط الشَّرعية لمن ينظر في ذلك، فقد يأخذ بمصلحةٍ بالأخذ بها تفويتٌ لمصلحة أرجح منها، وقد يتلافى مفسدةً ويرتكب مفسدةً أسوأ منها، قال القرافي رحمه الله: "فإنَّ مالكاً يشترط في المصلحة أهلية الاجتهاد متكفياً بأخلاق الشَّريعة، فينبو عقله وطبعه عما يخالفها، بخلاف العالم بالسَّياسات" يعني: الأمور الدُّنيوية "إذا كان جاهلاً بالأصول فيكون بعيد الطَّبع عن أخلاق الشَّريعة فيهجم على مخالفة أخلاق الشَّريعة من غير شعور"[مطالع التمام ونصائح الأنام1/137]. انتهى.
إذاً إدمان النَّظر في الكتاب والسُّنَّة للعالم بالعربية وأصول الدِّين على طريقة السَّلف، وقد نظر في أقوالهم يُرزق به الإنسان هيأة راسخة في النَّفس، وملكةً تجعله يدرك المصلحة والمفسدة بعين الشَّريعة، من الذي له هذا؟ يعني: هذا يحتاج إلى علوم الآلة: اللُّغة العربية وأصول التَّفسير، وأصول الحديث، وأصول الفقه إلى آخره، يحتاج إلى فقهٍ وفهمٍ وذكاءٍ وبصيرةٍ وعنايةٍ، ويحتاج إلى مواظبةٍ ومدَّةٍ طويلةٍ؛ لأنَّ العادة هذه الهيأة الرَّاسخة في النَّفس لا تصبح عادةً إلَّا وقد تمرَّن عليها كثيرًا حتى يصل لهذه المرحلة، التي بمجرَّد النَّظر إذا عُرضت عليه القضية يقول هذه مفسدة هذه مصلحة، قال ابن مدران رحمه الله: "والمختار عندي اعتبار أصل المصالح المرسلة، ولكن الاسترسال فيها وتحقيقها يحتاج إلى نظرٍ سديدٍ ودقيقٍ وتدقيقٍ"[نزهة الخاطر العاطر1 / 416]. إذًا التَّوصُّل إلى كون هذا الشَّيء مصلحةٌ معتبرةٌ شرعاً يحتاج إلى علم بالكتاب والسُّنَّة، ومواضع الإجماع والخلاف والقياس الصَّحيح ومقاصد الشريعة، فلا مدخل فيه للعوام، ولا للمتعالمين الذين يخوضون في المسائل اليوم، فحتي صار حتى الصَّحفي والإعلامي يدخل في الأحكام ويُصحِّح ويحرِّم ويحلِّل ويؤيِّد ويعارض في أحكامٍ شرعيةٍ، وفي مسألةٍ شرعيةٍ في الحلال والحرام، فتح باب التَّأييد والمعارضة في أحكام الحلال والحرام للمشتغلين في الصَّحافة والإعلام هو بحدِّ ذاته من المصائب العظام، ولذلك نعرف حجم الإجرام الذي يرتكبه هؤلاء اليوم في حقِّ الإسلام، فتفسير الدِّين لا بُدَّ له من أناسٍ على رتبة الاجتهاد وعلم ومعرفة وخبرة، هذا الذي يحقُّ له أن يُمارس وأن يدخل وأن يتكلَّم وأن يؤيِّد ويعارض، هذه المعرفة إذا جئنا إلى مسائل الدُّنيا قالوا لا بُدَّ من أهل الاختصاص، وإذا جئنا في قضايا الطِّب والعلاج لا يسمحون لأيِّ شخصٍ أن يُمارس إلَّا بشهادةٍ وخبرةٍ وتجربةٍ ولجنةٍ، ويقولون أولاً هو يدرس فيدخل القسم العملي ثُمَّ يصبح طبيباً، ثُمَّ سنة الامتياز ثُمَّ يصبح طبيباً عاماً ثُمَّ يتخصَّص ثُمَّ زمالة ثُمَّ استشاري، متى يكون استشارياً في الطِّب؟ خمسة عشر ثُمَّ قد يصيب وقد يخطئ، وأخطاء الطَّيب يسترها التُّراب، هذا لا يسمح بالكلام في قضايا الطِّب العظام إلَّا لاستشاريين كبار، فمسائل الدِّين لأهل الاختصاص، فاليوم تدور معارك حول بعض المسائل الشَّرعية كمسألة الاختلاط والغناء وإلى آخره، فكيف يُسمح لإعلاميٍّ وصحفيٍّ أن يخوض فيها؟ فالنَّاس حتى في السِّباكة وفي إصلاح المجاري يأخذون مختصَّاً فلو عنده بالوعة مسدودةٌ يحضر أهل الإختصاص وهكذا، فلا يقبل أهل الدُّنيا الكلام في التَّأريخ أو السِّياسة أو الهندسة أو إلى آخره إلَّا من متخصِّصين، وأمَّا الدِّين صار مطيَّةً لكُلِّ أحد، وإذا جئت تُناقش منافقاً علمانياً، قال: الدِّين ليس ملكاً لأحدٍ، وكُلُّنا مسلمون، وإذا كان كُلُّنا مسلمون أفيجوز لكُلِّنا أن يتكلَّم في الإسلام في الحلال والحرام والأحكام؟ كُلُّنا مسلمون وكُلُّنا نُدين لله ونعبده نُنفِّذ كلام العلماء ونتبع الأحكام،
لكن ليس كُلُّنا نصبح علماء الشَّرع ويحقُّ لنا أن نتكلَّم في الحلال والحرم لأنَّنا كُلُّنا مسلمون، علماً أنَّه عند التَّحقيق سيتبين أنَّ بعض هؤلاء ليسوا بمسلمين أصلاً؛ لأنَّ عندهم أُسسٌ مختلةٌ في قضية التَّسليم لله ولرسوله مختلفة، ولا إله إلا الله لها شروطٌ: العلم، واليقين، والقبول، والانقياد، والصِّدق، والإخلاص، والمحبَّة، فأين هذه عندهم؟ أغلب المنافقين العلمانيين مشكلتهم تكمن في قضية الانقياد لله ورسوله والاستسلام لأوامر الشَّرع، إذا جئت تحلِّل في مكمن الخلل عندهم في هذه القضية؛ فالجهل هذا كثيرٌ، لكن قضية التَّسليم والانقياد هي مشكلتهم الأساسية، فهم يقولون: بأنَّه لا بُدَّ من متخصِّص في الاقتصاد والاجتماع والطِّب والهندسة وعلوم الأرض والبحار والعلوم المدنية والعسكرية، حتى يستطيع أن يتكلَّم في قضاياها، وأمَّا الشَّرع والدِّين فهو حمى مستباح عندهم، أفلا يُوجد متخصِّصون في الحلال والحرام؟ كما يوجد متخصِّصون في الطِّب والهندسة وعلوم الأرض والفضاء؟ ونحن اليوم نجد أنَّ علوم الأرض وعلوم الدُّنيا فيها أشياءٌ غامضةٌ استعصت عليهم في حلِّها، فما بالُك بعلوم الشَّريعة: كيف تكون بالنُّسبة لهم؟ سهلة الاختراق واضحة المدلول جداً لدرجة أنَّه يمكن أن يدخل فيها كُلُّ واحد منهم، ويتناولها بغير خطام ولا زمام، وحتى في الأمور الدُّنيوية فلو جئنا بمصمِّمٍ معماريٍّ مهندسٍ في الأبنية معماريٍّ إنشائيٍّ هل سيتكلَّم في قضية حكم ترصيع الجدران والأبواب والثَّريات ومقابض محابس المياه بالذَّهب والفضة؟ أو هل يتكلَّم في جعل المراحيض إلى جهة القبلة استقبالاً واستدباراً داخل البناء حلال أم حرام؟ مَن الذي يتكلَّم في هذا؟ وحتى لو أتينا إلى قضايا الطِّب وحكم التَّقشير باللَّيزر، مثلاً: هل الطَّبيب الذي يتكلَّم في حكم ذلك؟ أو في حكم الإجهاض من الذي يتكلَّم في هذا؟ وعمل استئصال الرَّحم وطفل الأنابيب ونقل الأعضاء وبنوك الحيوانات المنوية إلى آخره من الذي يتكلَّم في هذه القضايا من ناحية الحلِّ والحرمة؟ فحتى أكبر استشاري لا يتكلَّم فيها، فالعالم الشَّرعي بالكتاب والسُّنَّة الذي يحقُّ له ذلك، فالطَّبيب أو المختص يشرح له القضية إذا احتاج أن يقول بيِّن لي ماذا تفعلون؟ يسأله عن أشياء معيَّنة ثُمَّ يحكم، هذا المجتهد بالكتاب والسُّنَّة وهذه هي الطَّريقة، ولا يستطيع أكبر متخصِّص في مجالٍ دنيويٍّ أن يفتي بقضيةٍ فقهيةٍ تتعلَّق بهذا المجال إلَّا بعد الرُّجوع إلى أهل العلم.
لا تعارض بين النُّصوص والمصالح بتاتاً
الحادي عشر: لا تعارض بين النُّصوص والمصالح بتاتاً، فإنَّ الذي شرع هذه الأحكام هو الباري وهو اللَّطيف الخبير والعليم المحيط ، يعلم حقيقة المصلحة وكمالها، وما يلتبس ويشتبه من المصالح والموازنات فيها، ولذلك تعارض النَّص والمصلحة مجرَّد افتراض ولا يسلم بوقوعه، ولو بدأ في الظَّاهر تعارضٌ فمردَّه إلى أحدٍ أمرين: إمَّا إلى خلل في الفهم -فهم النَّاظر فيها، أو إلى خلل في فهم النَّص، فإمَّا أن يكون الذي تصوَّر أنَّ هذه مصلحة عنده خللٌ في التَّصوُّر، أو الذي فهم تعارض النَّص معها عنده خللٌ في فهم النَّص، إذا جاء شخصٌ وقال: أنا أجد أنَّ هناك تعارضٌ بين نصٍّ شرعيٍّ صحيحٍ وبين مصلحةٍ، فإمَّا أن يكون الخلل عنده في فهم النَّص الشَّرعي، أو في تقدير واعتبار هذه المصلحة، هل هي مصلحةٌ أصلاً أم لا؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لكن ما اعتقده العقل مصلحةً وإن كان الشَّرع لم يرد به فأحد الأمرين لازمٌ له: إمَّا أنَّ الشَّرع دلَّ عليه من حيث لم يعلم هذا النَّاظر" يعني: لو قال قائلٌ: أنا اكتشفت مصلحةً ليست في القرآن ولا في السُّنَّة، نقول: عندك أحد أمرين: إمَّا أنَّك لا تعرف ماذا يُوجد في الكتاب والسُّنَّة تماماً أو أنَّه ليس بمصلحةٍ وإن اعتقده مصلحةً، يقول شيخ الإسلام: "وكثيرًا ما يتوهَّم النَّاس أنَّ الشَّيء ينفع في الدِّين والدُّنيا ويكون فيه منفعةٌ مرجوحةٌ بالمضرَّة" يعني: المضرة الأعلى، كما قال تعالى في الخمر والميسر: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا[البقرة:219]. [مجموع الفتاوى11/ 345]. انتهى.
فإذاً المصلحة الحقيقية لا يمكن أن تتعارض مع النَّص الصَّحيح، بل كُلُّ مصلحةٍ تتصادم مع نصٍّ شرعيٍّ صحيحٍ فهي مصلحةٌ موهومةٌ وملغاةٌ، وكثيراً ما يُدندن المنافقون حول تعارض النَّص مع المصلحة، وأنَّه عند التَّعارض تُقدَّم المصلحة على النَّص هذا كثيرٌ عندهم، وهؤلاء الذين يُسمُّون أنفسهم بالعقلانيين أو التَّنويريين، وإلَّا في الحقيقة ليسسس عندهم عقلٌ راجحٌ ولا عندهم نورٌ من نور الله تعالى، هؤلاء الذين يُسمُّون أنفسهم بالتَّنويريين أو العصرانيين أو العقلانيين يقولون: إذا تعارض النَّص مع المصلحة نُقدِّم المصلحة، فبناءً عليه إذا رأوا مصلحةً في الاختلاط قالوا: نقدِّم المصلحة، وإذا رأوا المصلحة في تر ك الحجاب قالوا: نقدِّم المصلحة، وإذا رأوا المصلحة في الرِّبا قالوا: نقدِّم المصلحة، وإذا رأوا المصلحة في العلاقة قبل الزَّواج قالوا: نقدِّم المصلحة وهكذا، فالمسألة عندهم هوى، لكن السُّؤال: مَن قال لكم أنَّ هذه مصلحةٌ أساساً؟ وقد تجرَّأ كثيرٌ منهم على جناب الشَّريعة وخبطوا في التَّحليل والتَّحريم عشوائياً، بلا حجةٍ ولا دليلٍ ولا بيَّنةٍ ولا برهانٍ، وإذا استدلُّوا بشيءٍ فبالمصلحة المرسلة، وهل الذي يقرِّر عقولهم القاصرة؟ ومَن الذي يبيِّنها هل هبي أهواؤهم وانحرفاتهم؟ ولذلك أباحوا محرَّماتٍ وأنكروا واجباتٍ بزعمهم أنَّها خلاف المصلحة، على سبيل المثال: قالوا تعدُّد الزَّوجات تتعارض مع مصلحة الأسرة، لماذا؟ قال: لأنَّ فيه مضارَّة كثيرةٌ، والقاعدة تقول: إنَّ دفع المضارِّ مقدَّمٌ على جلب المصالع، ولذلك لازمٌ نمنع تعدُّد الزَّوجات، بما أنَّ تعدُّد الزَّوجات فيه مفسدةٌ ودرأ المفسدة مقدَّمٌ على جلب المصلحة، فهؤلاء مثل الذي يستعمل قوانين رياضية فيستعملها في التَّوصُّل إلى أشياء خاطئة تماماً، لكن يستعملها في البرهنة بما أنَّ كذا إذاً.
استخدام علم أصول الفقه لهدم الشَّريعة
ولذلك أصول الفقه هي أسلحةٌ بيد جُهَّال تؤدِّي إلى الجرح أو القتل والهلاك، فالامتناع عن تعليمهم بعض هذه الأبواب وجيه جداً، فلو كان الأمر بيد الرَّاسخين ما أدخلوا في هذا الفنِّ إلَّا من يُوثق بدينه وعلمه؛ لأنَّ المشكلة الآن أن تُعلِّم بعض هؤلاء بعضاً من القواعد التي يتمكَّنون بها من التَّلبيس على العامَّة، وكثيرٌ من المتعالمين والذين يفتون ويخبطون بالفتاوى الضَّالة عندهم شيءٌ من هذا العلم، ولو كان ليس عندهم شيءٌ ما التفت أحدٌ إليهم، فماذا يفعلون به؟ يُضلِّون به الخلق، فواحدٌ عنده بعض قواعد من أصول الفقه يضلُّ به الخلق، وهذا مثال: تعدد الزَّوجات يقول فيه مفسدةٌ؛ للغيرة بين الزَّوجات، أليس درأ المفسدة مقدَّمٌ على جلب المصلحة؟ نعم، إذاً يمنع.
كيف تردُّ عليه؟ أولُ ردٍّ تقول: هذا الذي تقوله أنت في الموازنات العقلية التي عندك يُصادم نصَّاً أم لا؟ إذاً انتهينا فهذا مرفوضٌ، فأيُّ نتيجة من هذه الموازنات تُصادم نصَّاً فهي هباءٌ ولا قيمة لها، فكيف تأتينا بتحليلاتٍ وتريد من خلالها أن تتوصَّل إلى إلغاء حكمٍ شرعيٍّ، في سورة النِّساء فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً[النساء:4]. إذاً هذه المسألة مهمَّة جداً، ثُم نأتي إلى قضية الموازنة بين المصالح المفاسد لنوازن ونرى: هل تعدُّد الزَّوجات مفسدته محضةٌ أم لا؟ ونكتشف بعد ذلك موازنتكم التي جئتم بها، يعني: ما هي في الميزان الشَّرعي؟ وإذا تأمَّلنا في السَّبب الذي من أجله يريد هؤلاء منع هذا الحكم الشَّرعي وهو تعدُّد الزَّوجات، فإنَّهم سيأتون بقضية الغيرة بين الزَّوجات أو إيلام قلب الزَّوجة الأولى بالزَّواج عليها، وما تؤدِّي إليه هذه الغيرة من الضَّرر الذي يلحق الزَّوج، فنقول: هل عندكم سببٌ آخر غير هذا؟ يعني: من المفاسد في تعدُّد الزَّوجات، فإنَّ قالوا: هذا الذي عندنا، نقول: فلننظر في الجهة الأخرى ماذا يُوجد من المصالح؟ كثرة النَّسل المطلوب شرعاً متحقِّقٌ، علاج قضية قوَّة الشَّهوة عند بعض الرِّجال، فالذي ليس عنده إلَّا زوجةٌ واحدةٌ وتكون حاملاً ورُبَّما لا يستطيع أن يطأها خصوصاً في الشُّهور الأخيرة، ثُمَّ تمكث أربعين يوماً فترة النِّفاس، ثُمَّ قد تأتي العادة فإذا حاضت حاض معها، وإذا نفست نفس معها وإلى آخره، ثُمَّ قضية: وجود المطلقاتٌ والأرامل والعوانس؛ فما هو الحلُّ إذا لم يكن هذا من ضمن الحل؟ ثُمَّ قضية الارتباطات الاجتماعية، وتقريب الأواصر بين المجتمع؛ لأنَّ المصاهرات سبب للتَّرابط والتَّداخل بين الأُسر، وكذلك وجود بديلٍ للمرأة العقيم أو المريضة فيبقيها عنده فبدلاً من أن يُطلِّقها يتزوَّج أخرى، ثُمَّ أنَّ التَّعدد حلٌ لمشكلة الشَّهوة أيضاً عند النِّساء الاتي يتزوج بهنَّ بدلاً من أن تنحرف إلى آخره، ستجد أنَّ المصالح أكثر من تلك المفسدة التي هي إيلام قلب الزَّوجة الأولى بالزَّواج عليها، أو الغيرة بين الضَّرائر، ولو أنَّ هذه المفسدة معتبرةٌ شرعاً لاشترط في الزَّواج عدم الغيرة، وقال: للرَّجل لا تُعدِّد إلَّا إذا لم تكن هناك غيرةٌ بين الزَّوجات، وهذا شبه مستحيل فلا يمكن، ولو كان هذا في الشَّرع فمعناها كأنَّه قال عدِّدوا وهو ممنوعٌ، فيفتح الباب ويغلقه، فإذاً هذه المشاغبة على هذا الحكم الشَّرعي بهذه المفسدة التي يوردونها ويقتصرون عليها، ولا يرون المفاسد الأخرى المترتِّبة على منع الحكم، ولا المصالح الأُخرى المترتِّبة على تحقيق الحكم، قال الشَّيخ الشَّنقيطي رحمه الله: "فالقرآن أباح تعدُّد الزَّوجات لمصلحة المرأة في عدم حرمانها من الزَّواج، ولمصلحة الرَّجل بعدم تعطل منافعه في حال قيام العُذر بالمرأة الواحدة" والعذر هو: قد يكون الحيض والنِّفاس، وقد يكون بلوغ سنِّ اليأس، وسن عدم الإنجاب، قال: "ولمصلحة الأمَّة ليكثر عددها فيمكنها مقاومة عدوِّها لتكون كلمة الله هي العليا، فهو تشريعُ حكيمٍ خبيرٍ لا يطعن فيه إلا من أعمى الله بصيرته بظُلمات الكُفر، وتحديد الزَّوجات بأربع تحديدٌ من حكيمٍ خبيرٍ وهو أمرٌ وسطٌ بين القلَّة المفضية إلى تعطُّل بعض منافع الرَّجال، وبين الكثرة التي هي مظنَّة عدم القدرة على القيام باللَّوازم الزَّوجية للجميع"[أضواء البيان3/24]. انتهى. وممَّا يدلُّ على أنَّ القوم -هؤلاء المنافقون- الذين ينادون بتعطيل هذا الحكم أو منعه لا يعيبون اتخاذ الأخدان والخليلات، ولذلك من أخذ مذهبهم وطبَّقه قانونياً يجرِّم معدِّد الزَّوجات ولا يعاقب متخذ الخليلات أبداً، فإذا قُبض عليه ومعه امرأةٌ غير زوجته فإنَّ ثبت أنَّها زوجته يُعاقب، وإن ثبت أنَّها خليلةٌ بالحرام يزني معها يُترك، فأيُّ مصلحةٍ أو أيُّ مراعاةٍ للمصلحة في كلام هؤلاء، ومن الطَّرائف أنَّه لما قُدِّم مسلسلٌ عن تعدُّد الزَّوجات للعرض في بعض القنوات أو السِّينمات العربية، قامت بعض النَّافذات بانتقاده في أول خروجه، وأنَّه ضدُّ التَّوجُّه الرَّسمي وأنَّه يجهض حملات تنظيم الأسرة، وأنَّه يسخر من القيم وإلى آخره، وبناءً على ذلك يقول المسؤولون عن هذا المسلسل: طلبنا من السِّينارست الذي يكتب السِّيناريو تغيير النَّهاية ليظهر فيها ندمُ الحاجِّ متولي على تعدُّد الزَّوجات، فإذاً القضية ضغوطٌ مُورست حتى على فلم تمثيل وليس هو حقيقي، تمثيليةٌ ظهرت فيها تعدُّد الزَّوجات فمُورِست ضغوطٌ عليا على منفذيه والمشرفين وعلى المخرج وإلى آخره، والشَّركة التي تملك؛ لكي تُغيِّر نهاية التَّمثيلية لتظهر المعدِّد نادماً على التَّعدُّد.
أمثلة على مخالفة الشَّرع في المصالح الموهومة
مثالٌ آخرٌ على قضية مخالفة الشَّرع لمصالح موهومةٍ أو مزعومةٍ: أطلق بعضهم مبادرةً في الآونة الأخيرة باشتراط الشُّهود على الطَّلاق، وأنَّ أيَّ طلاقٍ لم يُشهد عليه شاهدٌ فهو لاغ، وقال أحدُ من هؤلاء: الطَّلاق اللَّفظي لا يقع، وهذا دكتورٌ في جامعة شرعيةٍ! انتبه؛ لأنَّ الذي ينحرف الآن ليسوا فقط من خارج أوساط العلم الشَّرعي، بل من أناس ينتسبون إلى تخصُّصاتٍ وشهادات وجامعات شرعية، يقول دكتور في جامعة شرعية في بلد عربيٍّ –يعني: جامعةٌ تُدرِّس علوم الدِّين-: الطَّلاق اللَّفظي لا يقع حتى لو قال الزَّوج لزوجته أنت طالقٌ ألفَ مرَّة، فما دام أنَّه لم يذهب بزوجته إلى المأذون ومعه اثنان من الشُّهود ليطلقها أمامهم؛ فالطَّلاق لم يقع، وللزَّوجين أن يستمرَّا في حياتهما الزَّوجية، وكأنَّ شيئاً لم يكن، فهذه فتواه هذا الضَّال هذا المضل وهذا كلامه، فلماذا يقول -صاحبُ الشُّذوذ هذا- الإشهاد على الطَّلاق ضروريٌّ ولا يتمُّ الطَّلاق إلا به؟ لحماية الأسرة من الانهيار بفعل نزواتٍ شخصية وأهواء، وتقول إحداهنَّ وهي شاذةٌ مؤيِّدة لشذوذ الأول: هذا اجتهادٌ يحقِّق مقاصد الشَّريعة: الحفاظ على الأُسر لتحقيق الغاية النَّبيلة في عدم هدم الأسرة بمجرد كلمة أنت طالق، الآن الشَّرع يأتي بتحميل الإنسان مسؤولية كلمته، وإن الرَّجل يتكلَّم بالكلمة من غضب الله لا يظنُّ أن تبلغ به ما بلغت تهوي به في النَّار سبعين خريفاً، وإذا قال أنت طالقٌ يتحمَّل مسؤوليةَ الكلمة، وطلاق الهازل يقع مثل النِّكاح، فجِدهنَّ جدُّ وهزلهنَّ جدُّ، فالشَّرع يريد أن يتحمَّل النَّاس مسؤولية الكلمة، وهؤلاء يقولون: لا، الطَّلاق إذا ما وُجِد شهودٌ لا يقع، لماذا؟ يقول: لأنَّ بعض النَّاس يتعجلُّون، فتُدمَّر وتُهدم الأسرة بسبب أن الواحد تعجَّل، إذاً: وتربية النَّاس على تحمُّل مسؤولية كلمتهم، وأنَّ هذه الكلمة تُخرج الإنسان من الدِّين وتدخله فيه، فيدخل بلا إله إلا الله ويخرج بكلمة كفر، فأنتم ماذا تريدون؟ أتريدون أن تقولوا إنَّ الكلام هذا لا يتحمَّله الإنسان ولا يتحمل نتائجه ولا تباعته؟ لا، كبرت كلمةٌ تخرج من أفواههم إن يقولون إلَّا كذباً، ولما قيل لبعض من عنده دكتوراه في الشَّريعة: إنَّ هذا الكلام الذي ذكره فلانٌ وفلانة موجودٌ عند بعض الفرق الضَّالة التي لا يعتدُّ بها أصلاً في الأحكام ولا في العقائد، قال: ما دام أنَّه يُوجد لها فيه مصلحةٌ للأسرة فلا غضاضة، فالآن الأدلَّة الشَّرعية جاءت باعتبار الكلمة ومحاسبة الإنسان عليها، وتحمُّل آثارها وتباعتها: بعتك اشتريت، أنكحتك قبلت، طلقت طالق، فكُلُّها كلماتٌ، ومعاملات النَّاس :كلامٌ بينهم، وإذا كنت تريد أن تهدر كُلَّ هذه الأشياء لم يقم بيع ولا شراء ولا إجارة ولا نكاح ولا طلاق ولا عتق، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد ظنَّ بعضُ النَّاس أنَّ الطَّلاق الذي لا يُشهد عليه لا يقع، وهذا خلاف الإجماع وخلاف الكتاب والسُّنَّة، ولم يقل أحدٌ من العلماء المشهورين به"[مجموع الفتاوى 33/ 33]. انتهى.
فشهادة الزُّور قائمةٌ حتى إذا كان الطَّلاق لا يحتاج إلَّا إلى شاهدين فنأتي بشهود زورٍ، والقضية منتهيةٌ عندهم.
دعوى نزع الحجاب للمصلحة
ومنهم أيضاً في مسألة محاربة حجاب المرأة؛ بدعوى المصلحة ودرأ المفسدة، كبعض الذين يفتون اليوم في ظلِّ القوانين الغربية التي تتصاعد وتيرتها في التَّشديد على المحجبات، يقولون: يسقط الحجاب في بلد الغرب، لماذا؟ يقولون درأً لمفسدة العقوبات القانونية على المحجبات إذاً يسقط وجوب الحجاب في بلاد الغرب، ببساطة: هم يريدون إسقاطه، فإذا جاءت فرصةٌ مثل هذه القوانين في بلاد الغرب ضدُّ الحجاب، انتهزوا الفرصة، وهم يريدون أن يقولون إن التَّصريحات اليوم في أنَّ عدد المحجبات في البلد الغربي الفلاني 1% من المسلمات، فإذا كان الباقيات فيهنَّ خيرٌ فيكون القضاء عليهنَّ من جهة الحجاب، فنلغيه للمصلحة، فلو سلَّمنا أنَّه حقيقةً 1%، وإلَّا فهو في الحقيقة سعيٌّ في تخذيل النِّساء المسلمات من الحجاب، هو يقول أول شيءٍ: 1% وبعدها يبدأ القول أنَّه لا يجب عليهنَّ شرعاً في خضم القوانين وهنَّ أقلية، وبدون قوانين غربية كان السَّعي لإبطال الحجاب بالفتاوى الضَّالة الشَّاذة المارقة كثيراً، فهذا يقول أنَّ المهم في الإسلام هو الإنتاج، فإذا كان الحجاب يعوِّق الإنتاج فيلغى الحجاب من أجل شيءٍ أهمٍّ وهو الإنتاج، وإذا كان الحجاب يُعرقل على إقامة العلاقات الشَّخصية والتَّداخل بين أفراد المجتمع يلغى الحجاب، كيف أتعامل مع امرأةٍ مجهولةٍ مغطاةٍ؟ لا نستطيع، فأنتم توجدون حواجزاً في المجتمع، فهل تريد أن تقول: اتركوا الحجاب لإلغاء الحواجز؟ فالشَّرع –بالمناسبة- يريد جعل حواجز بين المرأة والرَّجل الأجنبي حتى لا ينزلق إلى الحرام معها، وهذه الحواجز هي المانعة من الانزلاق، ومن أكبر الموانع: الحجاب؛ لأنَّها بدون حجاب سيفتن الرَّجل ويلاحق المرأة، أمَّا إذا كانت هي محجبةٌ لا يُرى منها شيئاً فبناءً على أيِّ شيءٍ يعجب بها ويفتن بها ويعشقها ويتعلق بها ويلاحقها؟ ولذلك إلغاء الحجاب يؤدِّي إلى إلغاء الحواجز التي يريدها الشَّرع، وهؤلاء القوم يريدون اشتراكية حتى في الفروج ببساطة، ولذلك يريدون إلغاء الحجاب بالحجج التي يقولون بها في مواجهة النَّص، انظر إلى الحُجج حيث يقولون المهم الأخلاق والعفَّة، فكم من متبرِّجةٍ عفيفةٍ وكم من محجبةٍ زانية، وبناءً عليه يُلغى الحجاب، فهل قدَّم دليلاً على نسبة الزَّانيات في السَّافرات ونسبة الزَّانيات في المحجبات؟ أبداً كلَّا، ولا يمكن أن يقدموا على هذه الدِّراسة؛ لأنَّ هذه الدِّراسة ستأتي بعكس ما يريدونه، ولذلك كثيرٌ من الدِّراسات تُلغى وتُعرقَل ولا تُقبَل في الأقسام الجامعية؛ لأنَّها تخالف هوى القوم.
أهمية نشر الأبحاث والدَّراسات الشَّرعية المؤصَّلة
أيُّها الإخوة والأخوات إنَّني أقول لكم بُكُلِّ ثقةٍ أنَّ هناك أبحاثٌ علميةٌ لا تُنشر، بل لا يُؤذن بها أصلاً؛ لأنَّها تخالف هوى القوم، والاحتساب في نشرها من أبواب الأجر والطَّاعة، فإقامة هذه الأبحاث ونشرها -التي يريد القوم منعها؛ لأنَّ نتائجها تخالف أهواءهم، وتبطل فرضياتهم وتفنِّد مزاعمهم- الاحتساب في نشرها مهمٌّ في مقاومتهم، ومقاومتهم من المدافعة التي شاء الله أن تقع بين أهل الحقِّ والباطل وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ[البقرة:251]. يتكلَّمون عن قضية أنَّ الحجاب قرين الجهل والأمية والتَّخلف، وأنَّ السُّفور هو التَّحرُّر والتَّقدُّم والتَّمدُّن والتَّطوُّر، فأنواع الحرب كثيرة ومداخلهم كثيرةٌ، فالمرأة المسلمة تخضع اليوم لمؤامراتٍ عظيمةٍ جداً من كُلِّ جانبٍ، ويريدون إقناعها ببساطة أنَّ الحجاب هذا عائقٌ عن التَّقدُّم، وعائقٌ عن الدِّراسة وممارسة الأعمال إلى آخره، فلا بُدَّ أن يُلغى، -سبحان الله- والشَّرع إذا طُبِّق ستجد أن هناك أشياءٌ ومنكرات ما تركب مع أحكامٍ شرعيةٍ مطبَّقة، فلا بُدَّ من إزاحة هذه الأحكام حتى تتسلسل المنكرات وتستمر، وقضية الاختلاط وادِّعاء أنَّ الاختلاط مثلاً هو أقوى سياج لحماية الأخلاق، فهذا غريبٌ! لكن هم يقولون: لأنَّ عزل المرأة يضرُّ بها، والاختلاط مهمٌّ في تهذيب النُّفوس والأخلاق، يعني: الانعكاس في الفطرة كامل وكُلِّي، فبدلاً من أن يقول إنَّ منع الاختلاط يُهذِّب الأخلاق هم يقولون الاختلاط يهذِّب الأخلاق، ويقولون: أنتم عندكم سُعارٌ جنسيٌّ في المجتمع؛ لأنَّه في حالة عدم اختلاط ولأنَّه غير متعوِّد على المرأة، فهو إذا رآها كشفت شيئاً سيقفز عليها، دعوها تترك الحجاب وتختلط وسترون النَّتائج، ستصير المرأة شيئاً عادياً بالنُّسبة للرَّجل والرَّجل عادياً بالنُّسبة للمرأة، نقول: دعونا نمشي معكم في هذا الكلام، فالذين عمَّموا الاختلاط وما عندهم حجابٌ كأمريكا وبريطانيا وأوروبا إلى آخره، ماذا يوجد لديهم؟ تهذيب أخلاق؟ لايوجد، يوجد اغتصابٌ في أمريكا واعتداءاتٌ جنسية وتحرُّش في أماكن العمل في أمريكا، فهؤلاء كذَّابون فالمسألة واضحةٌ جداً، التَّحرُّش في أماكن العمل وجرائم الاغتصاب في أمريكا وأوروبا إلى ازدياد، وليس عندهم حجاب بل عندهم اختلاطٌ في كُلِّ المحلات والأماكن تقريباً، فهل صار عندهم تهذيب في الأخلاق؟ لا، وهل هدأت النُّفوس؟ لا، هل نقصت جرائم الاعتداء بين الرِّجال والنِّساء؟ لا، فإذاً هؤلاء أهل التَّمدُّن والرُّقي والتَّطوُّر والحضارة في نظركم، ماذا حصل عندهم؟ بدؤوا يستيقظون ويقول بعض عقلائهم: نريد العودة إلى فصل الجنسين في التَّعليم، وهناك بحوثٌ مقدَّمة في أمريكا وأوروبا، وعندهم إثباتاتٌ أنَّ فصل الجنسين في التَّعليم يؤدِّي إلى تقدُّم التعليم، وأنَّ النَّتائج أحسن في قطاع الذُّكور والإناث عندما فُصلا تقدَّما في النَّتائج الدِّراسية، وأنَّ الخلط يقود إلى تصرُّف الأوقات في اهتمام الذُّكور بمظاهرهم والإناث بمظاهرهن، وقضية التَّعرِّي وإلى آخره؛ لأنَّهم عندهم 48% نسبة الحاملات من السِّفاح في الثَّانويات الأمريكية، فأين تذهبون؟ والمصيبة أنَّ بعض هؤلاء المنافقين عندنا يقولون: المرأة أقدر على تعليم الأولاد، أدخلوها في الاختلاط لكي تُعلِّم هذا الولد أو هذا الذَّكر، قال الإمام سحنون رحمه الله: "وأكره للمعلِّم أن يعلِّم الجواري ويخلطهن مع الغلمان؛ لأنَّ ذلك فسادٌ لهم"[آداب المعلمين263]. هذا يتكلَّم على الصِّغار، والعلَّامة القابسي المتوفَّى سنة 403 فقيه القيروان، يقول: "ومن صلاحهم -يعني الصبيان- ومن حسن النَّظر لهم ألا يخلط بين الذَّكران والإناث" الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين صفحة 131.
دعوى إلغاء نصوص الولاء والبراء للمصحلة، والرَّد عليها
إذا ذهبنا إلى أشياء أخرى في قضية المصلحة التي يراها هؤلاء وإلغاء النَّص الذي يريدونه؛ سنجد أنَّهم يريدون إلغاء نصوصاً في الولاء والبراء، مثلاً: الولاء للمؤمنين البراءة من المشركين؛ لأنَّها تتعارض بزعمهم مع العلاقات الدَّولية، وقضية إلغاء حكم الرِّبا؛ لأنَّه يحقِّق مصالح اقتصادية، وتقييد سنِّ الزَّواج؛ لأنَّه بالنُّسبة لهم يعالج مشكلاتٍ، وشرعاً ليس هذا التَّقييد موجوداً في ديننا، وينادون أيضاً بقضية إيقاف الحدود الشَّرعية وعدم العمل بها، يقولون هذه المصلحة الآن يفتي بعضهم ببقاء الفنانة التائبة في موقع التَّمثيل أمام النَّاس، فتخرج أمام الرِّجال الأجانب، تمثلٌ مع تغيير نوعية التَّمثيل، يقول بعضهم لمِن تابت من الغناء: ادخلي في الأناشيد، وأمام الرَّجال الأجانب تنشد، هذا هو الغناء: إنشادها غناءٌ، وهي بالغةٌ فغناء البالغة للأجانب حرامٌ.
إذا جئنا إلى أشياء أخرى في الفروع، مثلاً: إلغاء العدَّة لوجود وسائلٍ تأكد من الحمل حديثة، فلماذا تبقى المرأة ثلاث حيضات أو ثلاثة قروء؟ إذا طُلِّقت تروح تعمل فحصاً، إذا هي حاملٌ تنتظر وإذا ليست حاملاً تتزوَّج، ألا يوجد هناك تفكيرٌ: ما هي المصلحة في بقائها هذه المدَّة؟ فقط قضية براءة الرَّحم، يعني مثلاً: تهيؤها نفسياً للزَّواج الثَّاني لا يحتاج إلى مدَّة فالمرحلة الانتقالية بين الزَّوجين لا تحتاج إلى مدَّة، تطييب نفس الزَّوج الأول؛ لأنَّه الآن لو خرجت من عنده اليوم، وغداً رآها مع آخر بدون عدَّة ما الذي يحدث له في نفسه؟ ألا تفكِّرون في سببٍ للعدَّة غير هذا السَّبب؟ ومَن الذي قال لكم إنَّ سبب العدَّة فقط براءة الرَّحم؟ حتى إذا أثبتنا براءة الرَّحم بفحصٍ نوويٍّ انتهت المشكلة، ولذلك يخرج علينا هؤلاء بقضايا فيها إلغاءُ نصوصٍ: ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ[البقرة:228]. إلغاء: فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ[الطلاق:4]. فهو إلغاء للنَّص ومصادمةٌ واضحةٌ له، والمشكلة أنَّ عملية مصادمة النَّص بالمصالح لم تقتصر فقط على أعداء الدِّين؛ بل دخلت مع الأسف حتى في بعض أوساط النَّاس الذين ينتسبون إلى الدِّين، فترى توسُّعاً، فمثلاً: الإفتاء بصرف الزَّكاة في بناء المدارس والمستشفيات، وتعبيد الطُّرق والجسور والمطارات، يا أخي: الله يقول: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ[التوبة:60]. فكيف تُدخِل الجسور والمستشفيات والطُّرقات والمطارات في مصارف الزَّكاة؟ يقول: يستعملها فقراء، نقول: ويستعملها أيضاً أغنياء، وأيضًا: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ يعني: تُعطى تمليكاً لهم، وليس هو أنت الذي تتصرَّف بالنِّيابة عنهم، وتعمل لهم جسوراً ومدارساً، فهو أدرى بمصلحته، قد يريدها في طعام أو في لباسٍ أو في سكنٍ أو في علاجٍ، هو الذي يتصرَّف ولست أنت الذي تتصرَّف، وإذا جئنا إلى قضايا أخرى: سنجد كلاماً عجيباً، يقول أحد المعاصرين ممن كان يرتدي عمامة، وأوصي الدُّعاة الذين يذهبون إلى كوريا ألَّا يفتوا بتحريم لحم الكلاب؛ لأنَّ القوم يأكلونه، ولا نريد أن نضع عوائق أمام كلمة التَّوحيد، فما علاقة كلمة التَّوحيد في إباحة الكلاب؟ ستفتح المجال لكلمة التَّوحيد وهذا الذي سيدخلهم في الإسلام، يعني: وإذا قلنا لهم إنَّ لحم الكلاب حرامٌ فهل هذا سيصدُّهم عن دين الإسلام؟ سبحان الله! فهذا الذي يحصل هو انهزاميةٌ وجهلٌ واستجابة لضغوط الأعداء، في النِّهاية النَّتيجة الشَّاملة: إلغاء النَّصوص لمصالح تهواها عقول القوم، وهذا ضلالٌ مبينٌ، هذا نهاية الكلام عن مزلق الاستدلال الفاسد بالمصلحة في مواجهة النَّص، ومصادمة وحيِّ ربِّ العالمين، نسأل الله أن يهدينا سواء السَّبيل، وأن يثبَّتنا بالقول الثَّابت في الحياة الدُّنيا وفي الآخرة وصلَّى الله على نبيِّنا محمد.