الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فنحمد الله -تعالى- أن هدانا للإسلام، هذا الدين الذي جاء بالحقوق، وإعطاء كل ذي حق حقه.
خطر الإخلال بالحقوق
ولما أخل الناس بالحقوق التي جاءت بها الشريعة كثرت النزاعات فيما بينهم، فهذه القطيعة بين الأقارب، وهذه الجرائم منتشرة، وهذا العقوق قد حل، وهذه الخلافات الزوجية قد استعرت، هذا الهجران، وهذه الخصومات بين الجيران، وهذه القرابات المقطوعة.
ويرجع المسلم ينظر في السبب، لماذا يحصل هذا؟ فيجده من الإخلال بالحقوق.
أهمية الوفاء بالحقوق
إن الوفاء من صفات المؤمنين: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ [التوبة: 111].
ولذلك شرع لعباده الوفاء بالعهد، وامتدح نبيه: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: 37] فأقام حقوق الله.
وكذلك إسماعيل: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ [مريم: 54].
ونبينا ﷺ كان يفي بالوعود والعقود والعهود، حتى قال حسان :
هجوت مباركاً براً حنيفاً | أمين الله شيمته الوفاء |
فمن يهجو رسول الله منكم | ويمدحه وينصره سواء |
[دلائل النبوة، للبيهقي: 5/49]
فإنه ﷺ لا يتضرر بكيد هؤلاء الكافرين، وسمعته محفوظة عند رب العالمين، وأخلاقه معلومة فمهما سبوه وشتموه فإنه الوفي ﷺ.
المقصود بالحق
ما هو الحق؟
حق الأمر وجب ووقع بلا شك.
الحق في اللغة: ما ثبت ووجب.
حث الشريعة على الوفاء بالعهود والحقوق
أمرت الشريعة بالوفاء بالعهود والحقوق: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [المائدة: 1]، قال زيد -رحمه الله-: هي ستة: عهد الله، وعقد الحلف، وعقد الشركة، وعقد البيع، وعقد النكاح، وعقد اليمين [تفسير القرآن من الجامع، لابن وهب، ص: 128] وهذه أمثلة.
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله-: العقود هي العهود وقد أمر سبحانه بالوفاء بالعقود، وهذا عام [الفتاوى الكبرى لابن تيمية: 4/83].
وقال تلميذه ابن القيم -رحمه الله-: "وَهَذَا يَقْتَضِي الْأَمر بِالْوَفَاءِ لكل عقد إِلَّا عقداً حرمه الله وَرَسُوله أَو أَجمعت الْأمة على تَحْرِيمه" [الفروسية، ص: 164].
جاءت النصوص مؤكدة بالوفاء بالعهود.
هناك مشكلات كثيرة اليوم تحدث في المجتمع، ومصائب كثيرة حتى فرقت بين الأصدقاء والإخوان، وحتى بعض الأخوة الذين تآخوا أصلاً في الله والقرابات بسبب ضياع هذه القضية، مشكلات زوجية متصاعدة بسبب ضياع هذه القضية، شراكات مفككة، وعداوات بسبب هذه القضية، ولذلك يجب أن نعطيها الاهتمام الكبير.
إننا نجد في القرآن والسنة التأكيد عليها: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران: 76]، وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ [الأنعام: 152]، والنبي ﷺ قال: قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعط أجره [رواه البخاري: 2227]، أعطى بي ثم غدر عاهد عهداً وحلف عليه بالله ثم نقضه.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وكل من شرط شرطاً ثم نقضه فقد غدر. فقد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود وبأداء الأمانة ورعاية ذلك والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة والتشديد على من يفعل ذلك" [مجموع الفتاوى: 29/145]، والنبي ﷺ قال: من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة ، فقال له رجل: وإن كان شيء يسيراً يا رسول الله؟ قال: وإن قضيباً من أراك [رواه مسلم: 137].
النووي -رحمه الله- علق فقال: "وفيه بيان غلظ تحريم حقوق المسلمين وأنه لا فرق بين قليل الحق وكثيره لقوله صلى الله عليه وسلم وإن قضيباً من أراك)) [المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج: 2/162] لو كان سواكاً.
وكل من اقتطع حقاً من حق أخيه لا تزول قدمه يوم القيامة حتى يؤديه، وإن كان من أهل الإيمان، وقد جاء أعرابي إلى النبي ﷺ يتقاضاه ديناً كان عليه، فاشتد عليه حتى قال له: أحرج عليك، إلا قضيتني، فانتهره أصحابه وقالوا: ويحك تدري من تكلم؟ قال: إني أطلب حقي، فقال النبي ﷺ: هلا مع صاحب الحق كنتم؟ ثم أرسل إلى خوله بنت قيس فقال لها: إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمرنا فنقضيك؟ فقالت: نعم بأبي أنت يا رسول الله، فأقرضته، فقضى الأعرابي وأطعمه، فقال: أوفيت أوفى الله لك، فقال: أولئك خيار الناس، قال ﷺ: إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع [رواه ابن ماجه: 2426، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 1818].
فإذا كان الواحد لا يحصل على حقه إلا بعد جهد عظيم، هذه أمة سوء، فكيف إذا كان لا يحصل عليه أصلاً؟
لا تستقيم علاقات الناس إلا بالوفاء بالعهود، واحترام العقود، وأداء الحقوق، لا بد من الالتزام، ولذلك جاء الإسلام بضبط الحقوق.
سبق الشريعة للقوانين والمواثيق الدولية وتميزها في العناية بحقوق الإنسان
الإسلام سبق كافة المواثيق والإعلانات والاتفاقات الدولية التي تناولت حقوق الإنسان وغيره.
وكانت هذه الشريعة سباقة قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وقبل الاتفاقات الدولية.
أصلاً هذه الاتفاقيات وهذه القوانين الدولية ترديد لبعض ما جاءت به الشريعة مع نقص وظلم وجهل، والرسالات السماوية من لدن آدم إلى محمد ﷺ بينت حقوق الإنسان وفضيلته.
وهؤلاء أرباب القوانين الوضعية ما عرفوا الاهتمام الحقيقي إلا في أواخر العصور الوسطى بهذا الموضوع، لما فقدت الشعوب الأوروبية الكافرة معظم ما يتمتع به الإنسان على يد الكنيسة الظالمة وعلى يد الإقطاعيين فاندفعت بعد ذلك لتعلن ثورتها عليهم، وأطاحت بهم، وبعد ذلك صدرت إعلانات حقوق الإنسان، وما يجب للإنسان.
وكان الإعلان العالمي المشهور لحقوق الإنسان الذي صدر عن الأمم المتحدة في أواسط القرن العشرين 1948م، -سبحان الله- في الوقت الذي ظلموا المسلمين في فلسطين، وأخذوا حقوق الآخرين.
على أية حال: فكرة العناية بحقوق الإنسان برزت بشكل رسمي في الدول الغربية في القرن الثالث عشر الميلادي نتيجة وجود الثورات الطبقية والشعبية، والقرن الثامن عشر في أمريكا لمقاومة التمييز الطبقي الذي حصل عندهم والتسلط السياسي والظلم الاجتماعي.
ثم برز نظاماً في ظل الثورة الفرنسية ومناداة الكتاب بذلك، وصدرت عندهم وثيقة حقوق الإنسان، ووضعت في مقدمة الدستور الفرنسي.
في القرن العشرين جاءت المؤسسات الدولية، وأعلنت عصبة الأمم حقوق الإنسان عام 1919م في جنيف، ثم في ميثاق الأمم المتحدة 1945م.
وفي عام 1946م شكلت لجنة خاصة بذلك وعملت على صياغة هذه الحقوق.
وأعلن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م الذي سبقت الإشارة إليه في ثلاثين مادة.
وليست القضية قضية كتابة مواد.
حتى منظمة المؤتمر الإسلامي في عام 1409هـ وبحضور علماء الشريعة تم إقرار الإعلان في خمسة وعشرين مادة.
المسألة أن الشريعة سبقت هذه القوانين وهذه المواثيق الدولية وهذه الإعلانات.
وإذا كان عندهم لجنة حقوق إنسان وهيئة يونسكو ومنظمة عفو دولية، هذا موجود في الشريعة من زمان، والله كرم بني آدم وجعل بينهم حقوقاً محفوظة، لما مُر بجنازة على النبي ﷺ قام لها فقيل: يا رسول الله إنها يهودية، فقال ﷺ: أليست نفساً؟ [رواه البخاري: 1312، ومسلم: 961]، ورهبة الموت.
وقال ﷺ في شأن النساء: فاتقوا الله في النساء فإنهن عوان -يعني أسيرات- لا يملكن لأنفسهن شيئاً وإن لهن عليكم ولكم عليهن حقاً [رواه أحمد: 20695، وقال محققو المسند: "صحيح لغيره مقطعاً، وهذا إسناد ضعيف"].
فحقوق الأزواج والزوجات، وحقوق الشركاء، وحقوق الأبناء والأولاد والآباء، وحقوق المرضى، وحقوق الجيران، الحقوق في الشريعة كثيرة واضحة جداً، حق العالم، حق المتعلم، موجودة وأكثر مما يوجد عند هؤلاء الذين جاؤوا بما يسمى بـ "حقوق الإنسان".
والمسلمون لما تخلفوا تخلفوا في أداء كثير من هذه الحقوق، ليس لأنها ليست موجودة في شريعتهم ويحتاجون إلى صياغة ومواد، هي موجودة، لكن أين الإيمان الذي يحرك للالتزام بهذه الحقوق؟
والنبي ﷺ ذكر في خطبة الوداع: حرمة الدماء، حرمة الأموال، حرمة الأعراض، هذه حقوق الإنسان.
والنبي ﷺ أعلنها، وعندما جاءت هذه القوانين الغربية، فإننا نذكرهم بأن الشريعة سبقت، هذه ميزة، وألزمت أكثر من توصياتهم، وهذه ميزة أخرى، وليست مواثيق وإعلانات واتفاقيات بمقدمة على الشريعة، ولا سبقت الشريعة أبداً.
وحقوق الإنسان في الإسلام حقوق أصيلة أبدية لا تقبل حذفاً ولا تعديلاً ولا نسخاً ولا تعطيلاً، حقوق ملزمة.
أما هم يعدلون يغيرون، يضيفون يحذفون، لماذا؟
لأنه صنع بشر، والبشر يعتريهم النقص والجهل والعجز، وقصر النظر.
والشريعة الحقوق فيها من جهة العمق والشمول أكبر.
القوانين والمواثيق الدولية -كما قلنا- معرضة للخطأ والقصور.
فروق جوهرية بين حقوق الإنسان في القوانين الدولية وحقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية
ومن حيث الحماية والضمانات الشريعة جاءت بأشياء ملزمة، مثلاً: الحدود في الشريعة لماذا؟
لحماية الحقوق، والإلزام يلزم به بقوة السلطان.
ثم فيه ميزة مهمة في الشريعة الإسلامية في قضية الحقوق، وهي: الرقابة الإلهية؛ لأن هذه المواثيق البشرية يعني إذا صارت فاعلة بسبب قوة السلاح وقوة النظام، وإذا ضعف انهارت، وصار الظلم وعم وفشا.
وأما في الإسلام فإن قوة الإيمان مع قوة السلطان هي المستند في حفظ هذه الحقوق، وهناك الخوف من الله الموجود في قلوب المؤمنين، وإذا كان الكافر يرتدع بالعقوبات الدنيوية، المسلم يرتدع بالعقوبات الدنيوية والعقوبات الأخروية أشد، ولدينا حدود وتعزيرات تلزم وتضبط وتحفظ.
وهناك فرق مهم أيضاً بين حقوق الإنسان في القوانين الدولية وحقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية: أن هذه الحقوق في الشريعة هبة من الله -تعالى- من غير ترقب من إنسان ولا تطلب ولا ثورة، ولا محاربة لأجل تحصيلها، لكن الغرب ما حصلوا على هذه الحقوق إلا بعد ثورات وبعد قتلى، وبعد فتن كثيرة جداً واضطرابات ومعارك، وسالت فيها الدماء، حتى توصلوا إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بعد الحرب العالمية الثانية.
وكذلك فإن التباين واضح فمن جهة الشمول كما ذكرنا- الشريعة فيها حقوق لليتامى، وحقوق للجيران، وحقوق للأقارب، وممكن هذا ما تجده في القوانين الدولية، حقوق الأقارب، حقوق الجيران.
وفيه أمور منعها الإسلام أباحها أولئك الكفرة، عند الكفار من حقوق الإنسان أن يغير دينه متى شاء، ولو كان مسلماً فصار نصرانياً أو يهودياً أو بوذياً فلا لوم عليه، بينما في هذه الشريعة التي أصلاً تحفظ الدين منعت، من بدل دينه فاقتلوه [رواه البخاري: 3017] يعني من غير من ملة الإسلام إلى ملة أخرى.
من الفوارق أن قوانينهم مبنية على ظلم ما يسمى بالمساواة بين الجنسين من جميع الوجوه، مع أن الله فاوت بين الجنسين: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى [آل عمران: 36]، فالشريعة الإسلامية راعت الفروق، الكفار ما راعوا الفروق، وقوانينهم ما راعت الفروق، بينما هذه الشريعة: وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء: 32]، وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة: 228]، ولذلك لا ينبغي للمسلم أن يغتر بما يسمى بحقوق الإنسان عند الغربيين، وإن كان فيها بعض من نصرة المستضعفين، ومنع التعذيب، ومنع الحط من الكرامة، وحقوق السجناء، إلى آخره، هذه موجودة عندنا وأكثر منها، لكن من جهة مراعاة الفطرة ومراعاة الخلقة فيه ظلم، الشريعة تراعي المرأة فتجعل لها ولياً يصونها، ومهم جداً الولي في الزواج، هم ما عندهم لا ولي ولا محرم، ولا عندهم الحجاب، ولا قضية منع الاختلاط، ولا.. ولا.. إلخ، بل عندهم حقوق السحاقيات واللوطيين، والجنس الثالث، والجنس الرابع، المتشبهين من الرجال بالنساء الجنس الثالث، والمتشبهات من النساء بالرجال الجنس الرابع، هم عندهم حقوق لهؤلاء.
الحقوق من أين تؤخذ؟ وكيف تعرف؟
هذه مسألة مهمة جداً، نحن إذا تناقشنا معهم نقول: أنتم كيف عرفتم الحقوق؟ وبناءً على ماذا؟ ومن أين استنبطتموها وأخذتموها؟ ومن الذي حددها؟ ومن الذي عرفها؟ ومن الذي بينها؟
نحن الحقوق عندنا مأخوذة من الكتاب والسنة، مأخوذة من الأدلة، مأخوذة من الوحي: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم: 3] فيه نص شرعي، وتأتينا النصوص: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه [رواه البخاري: 1968]، وتأتي نصوص: حق المسلم على المسلم.. [رواه البخاري:1240، ومسلم: 2162] كذا.. كذا..
هم أهواء البشر، ويطورون ويعدلون فيها؛ لأنه عندهم تثبت ثغرات، ما روعيت من قبل، وهذه ما خطرت بالبال، وهذه ما كانت، فيضيفون مواداً.
مقاطع الحقوق عند الشروط
الحقوق في الإسلام تعرف:
أولاً: بما جاء في النصوص.
ثانياً: عن طريق التعاقد؛ لأن العقد على شرط المتعاقدين إلا شرط أحل حراماً أو حرم حلالاً، فالعقد بصفة عامة يلزم طرفي التعاقد؛ لأن النبي ﷺ قال: المسلمون على شروطهم [رواه أبو داود: 3594، والترمذي: 1352، وصححه الألباني في إرواء الغليل: 1303]، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "فإن لكل من العاقدين أن يوجب للآخر على نفسه ما لم يمنعه الله من إيجابه" [مجموع الفتاوى: 34/91]، وقال ابن القيم -رحمه الله-: "الأصل في الشروط الصحة والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً" [أحكام أهل الذمة: 2/752].
ونلاحظ القاعدة العمرية العظيمة: "إن مقاطع الحقوق عند الشروط"، وهذه لها قصة فروى سعيد بن منصور بسند صحيح عن عبد الرحمن بن غنْم، قال: "كنت جالساً عند عمر حيث تمس ركبتي ركبته، فجاء رجل فقال: يا أمير المؤمنين تزوجت هذه وشرطت لها دارها -يعني ما انقلها من مكان أهلها- وإني أجمع لأمري أن أنتقل إلى أرض كذا وكذا -أنا مخطط إلى انتقال- فقال عمر : لها شرطها، فقال الرجل: هلك الرجال إذ لا تشاء امرأة أن تطلق زوجها إلا طلقت -خلاص تشترط وإذا صار خلاف تقول: أنا لي شرطي– فقال عمر: إن مقاطع الحقوق عند الشروط، ولها ما اشترطت" وذكره البخاري في صحيحه معلقاً مجزوماً به مختصراً: 6830].
قاعدة عظيمة: "مقاطع الحقوق عند الشروط"، الشروط تقطع الحقوق، الحق ينتهي عند الشرط.
وقال النبي ﷺ: أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج متفق عليه [رواه البخاري: 2721، ومسلم: 1418].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وإذا كان من علامات النفاق إخلاف الوعد وليس بمشروط فكيف الوعد المؤكد بالشرط؟ بل ترك الوفاء بالشرط يدخل في الكذب والخلف والخيانة والغدر"[إعلام الموقعين: 3/303].
معرفة الحقوق بالعرف والعادة
تعرف الحقوق أيضاً في ديننا بالعرف والعادة، وهي ما تعارف عليه الناس ولم يخالف الشرع، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، والعادات نوع من الشروط؛ لأنها أمور سار عليه الناس وألفوها، وصارت سائرة بينهم، ومقرة وسائدة، فإذا لم يدل الدليل على منعها فهي جائزة، والشرط العرفي كالنطقي، ولو ما كتبوه ولو ما تلفظوا به إذا كان جارياً بينهم، وعند الخلاف يرجع إليه، والعادة محكمة، تحكم.
ما هو الدليل على هذه القضية؟
قول الله -تعالى-: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 228] يعني ما تعارف عليه الناس أصحاب الفطر السليمة، والعقول المستقيمة: وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 233] يعني كم؟ كم شهرياً؟ ما في مبلغ محدد، ما تعارفوا عليه من مثله لمثلها، ومن مثله لمثلهم، للمولودين: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة: 241]، وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 19].
المملوك له حقوق في الإسلام، الحيوان له حقوق في الإسلام، والنبي ﷺ بين أنه يرجع بين الناس إلى ما تعارفوا عليه، وحكم بذلك في أشياء، وكذلك خلفاؤه.
الوسيط بين البائع والمشتري كم أجرته؟ السمسرة هذه التي يسمونها هكذا كم هي؟ يرجع فيها إلى ما تعارف عليه الناس، إذا ما حددت في العقد، لما يقولون: مهر المثل، وقيمة المثل، هذا إذاً مرجع في الموضوع.
كتابة الحقوق في العقود
ومن المهم كتابة الحقوق في العقود تأكيداً عليها ومراعاة لها، وقد قال تعالى: وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ [البقرة: 282]، وهذا من تمام الإرشاد؛ كما يقول ابن كثير -رحمه الله- وهو الأمر بكتابة الحق صغيراً كان أو كبيراً، وَلاَ تَسْأَمُوْاْ لا تملوا أن تكتبوا الحق قليلاً أو كثيراً، لماذا؟ أقطع للخلاف وأثبت.
وقال السعدي -رحمه الله-: "احتوت هاتان الآيتان على إرشاد الباري عباده في معاملاتهم إلى حفظ حقوقهم بالطرق النافعة" [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص: 959] يعني مثلاً: كتابة، إشهاد، رهن، وهذه الإجراءات لعلاج موضوع المغالطات، كثرة النسيان، الخيانة.
وكذلك فإن الكتابة بين المتعاملين من الإحسان وفيها إبراء ذمة، ولذلك يحتسب الكاتب ليحظى بالثواب.
ومن تمام الكتابة والعدل فيها أن يحسن الكاتب الإنشاء والألفاظ، وللعرف في هذا المقام اعتبار عظيم، ويجب على الذي عليه الحق إذا أملى على الكاتب أن يتقي الله ولا يبخس الحق الذي عليه؛ لأنه هو الذي يملي، فلا ينقص في القدر ولا في الصفة، ولا في الشرط ولا في القيد، ويعترف بكل ما عليه من المتعلقات ولا يبخس صاحبه حقه.
تحذير الشريعة من تضييع الحقوق
والشريعة حذرت من قضية تضييع الحقوق بالتأويل والتورية، واعتبرت هذا غير مقبول أبداً، وقد قال ﷺ: من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين كاذبة لقي الله وهو عليه غضبان وقرأ النبي ﷺ قول الله -تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ [آل عمران: 77] [رواه البخاري: 7445]، وقال ﷺ: اليمين على نية المستحلف [رواه مسلم: 1653]، فإذا استخدم التورية في اليمين لم ينج، قال ابن رجب -رحمه الله-: "هذا محمول على الظالم، فأما المظلوم فينفعه ذلك" [جامع العلوم: 1/90]، الكلام على الوفاء بالحقوق نظراً لأن هناك أشياء كثيرة ضائعة، فيه رواتب ضائعة، أجور ضائعة، نسب لأتعاب ضائعة، حقوق زوجية ضائعة، أولاد ضائعين، هناك حقوق الجيران ضائعة، أشياء كثيرة تحدث بسبب ضياعها أزمات خطيرة، ولذلك الكلام في هذا الموضوع من الأهمية بمكان، والإخلال بالحقوق من الظلم، وإذا تفشى الظلم نزعت البركة، وقل الخير، وانتشرت الأمراض والأوجاع والآفات والأزمات، وقد حذر تعالى من الظلم؛ لأن تضييع الحقوق هذه قضية ظلم: وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا [الفرقان: 19]، يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا كان أبو إدريس الخولاني -رحمه الله- إذا حدث بهذا الحديث جثى على ركبتيه [رواه مسلم: 2577]، لعظمة الحديث وجلالته.
والإنسان من طبعه أنه ظلوم جهول، ولذلك الحقوق توضح لمواجهة ظلم الإنسان وجهله، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "خلق الإنسان ظلوماً جهولاً، والأصل فيه عدم العلم، والميل إلى ما يهواه، ويحتاج دائماً إلى علم مفصل يزول به جهله، ويحتاج إلى العدل في الترك وفي الفعل، والوفاء بالحقوق خلاف ما تقتضيه وتشتهيه النفوس؛ لأن النفوس فيها طبع الظلم وتأخذ الذي لها وما تعطي الذي عليها.
والظلم من شيم النفوس فإن تجد | ذا عفة فلعلة لا يظلم |
ومن الناس قوم لا يقومون إلا في أهواء نفوسهم، فإذا أعطي أحدهم ما يتمنى ويشتهي زال الغضب وحصل الرضا، إذا أعطوا رضوا وإذا لم يعطوا إذا هم يسخطون، لماذا؟ نتيجة الظلم والجهل.
لما قل العلم، وانتشر الظلم؛ قامت سوق الشكاوى، الزوج يشتكي: زوجتي لا تعطني حقي من الاهتمام، لا تتزين لي ولا تتجمل، لا تمكنني من الاستمتاع، والشيطان يزين لي الأجنبيات.
وهذا يقول: لا تطيعني ولا تخدمني.
وهذا يقول: لا تريد المكث في البيت خراجة ولاجة.
والزوجة من الجهة الأخرى تشتكي: زوجي لا ينفق علي بالمعروف، يريد أخذ راتبي، يريد أخذ إرثي، الاستيلاء على مالي، لا يحترمني، يسيء معاملتي.
وتلك تقول: زوجي يضربني ويفضل علي زوجته الأخرى، ويهجرني بالشهور، ولا يعطيني حقي في الفراش.
والآباء يشتكون: أبناؤنا لا يطيعوننا ولا يحترموننا ويعقوننا ويأخذون حقوقنا.
والأبناء يشتكون في المقابل: آباؤنا لا يعطوننا النفقة، ولا يرعوننا، ولا ينصحوننا، يغيبون عنا، لا يسألون عنا، رمونا.
الأقارب يشتكون، نزاعات على الإرث، عدم زيارات، لا مشاركة في الأفراح والأتراح، لا مساعدة عند الأزمات، تكبر بسبب منصب.
الجيران يشتكون، مشاجرات، بلغ شرطة لسبب تافه، تتبع عورات نساء الجيران، الكشف عليهم، وهكذا...
وبعضهم لا يعرف جاره أصلاً، يمكن أحسن واحد فيهم الذي كافٍ خيره وشره، كما يقولون، وكيف يكف المسلم خيره؟
والعمال والأجراء يشتكون من الجهة الأخرى: أصحاب الأعمال يؤخرون الرواتب، يبخسون الحقوق، وهذه الخادمة تشتكي: أنا كذا سنة ما أعطاني شيء، لما انتهت المدة وأردت أن أرجع إلى بلدي جحدني ما عندي، قال: حطيته في الأسهم خسرت، -طيب- ما ذنب الخادمة؟ هل استأذنتها في وضعها في الأسهم؟ هل قلت: سأستثمرها لك في كذا وكذا فوافقت؟
ثم أحياناً اعتداءات صارخة، يقول للطبيب: بنتي هذه ما فيها إلا صداع خفيف، ثم قال: بالمرة اكشف على الخدامة، اتضح أن فيها جرح غائر نزيف، ثم قالت: من أشهر ما استلمت راتبي، والشغل أربعة وعشرون ساعة، والإهانات مستمرة، والضرب مستمر، وهذا ركب سيارة بثلاثمائة ألف: أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه [رواه ابن ماجه: 2443، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 2987]، هذه القاعدة الشرعية، أين المبادرة إلى إيفاء الحقوق؟
في المقابل أصحاب العمال يشتكون: السائق والخادمة متمردون، العصيان قائم، العمال في المحل يسرقونني، يأتون متأخرين، كسلانين، لا يقابلون الزبائن بما ينبغي، طفشوا الزبائن، الوسخ في كل مكان، المحل مهمل، الأدوات معطلة، ما فيه مراعاة للحلال، وهكذا يستغلون موارد المؤسسة والشركة لحسابهم، كلم بالهاتف على حساب المؤسسة بمبالغ، الظلم من الطرفين، لماذا؟ ما فيه إعطاء حقوق، تفشى هذا بين كثير من الناس.
والمعاناة مستمرة بسبب ضياع الحقوق، ويأتي الواحد على عقد ثم يمزق العقد ويعطى عقداً آخر وبأي حق؟ يأتي وقد رهن وباع واستدان فيقال: تغير من كذا إلى كذا أو مع السلامة.
هو الآن جاء وقد خسر ما خسر، والآن وبكل سهولة مع السلامة، امش.
الموكل يقول: المحامي غدر بي، ونصب علي، وعدني ومناني، وما وعدني إلا غروراً، وأخذ دفعات وفلوساً وراء بعض ما أعطاني شيء.
وتجد في المقابل أشياء هذا قال لي: إذا بعت لي الأرض لك فيها كذا، وسعيها كبير، ولما بعت الأرض له وتعبت ووجدت له الزبون جحدني، وقال: هذا كثير عليك، وهذا السعي فيه شركاء معك، دخل ناس من أقاربه، لا سعوا فيها ولا اجتهدوا.
حقوق الزوج على زوجته
نجد أن الحقوق في الشريعة واضحة وبالأدلة، لو أخذنا مثلاً حقوق الزوجين، وأخذنا حقوق الزوج على زوجته سنجد مثلاً: القوامة، الرجل هو السيد، المرأة تطيع، هو يدبر الشؤون ويصلح الأوضاع الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء [النساء: 34]، عليها أن تطيعه بالمعروف.
ثانياً: قال ﷺ: كيف أنت له؟ قالت ما آلوه -ما أقصر- إلا ما عجزت عنه، قال: فانظري أين أنت منه فإنما هو جنتك ونارك؟)) [رواه أحمد: 19003، وهو حديث حسن].
واحد سيء الخلق تزوج امرأة، قال: أما إني سيء الخلق فإن كان عندك شيء من الصبر على المكروه وإلا فلست أغرك من نفسي؟ قالت: أسوأ منك من أحوجك إلى سوء الخلق، فتزوجها فما جرت بينهما وحشة إلى الموت.
الثالث: إجابة الدعوة إلى الفراش، فلا تمنعه من نفسها متى طلبها وإلا تعرضت لسخط الله، فقال ﷺ: والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها يعني زوجها [رواه مسلم: 1436].
رابعاً: الخدمة، وهذا من مقاصد الزواج، وهذا هو الراجح، وقال شيخ الإسلام: الصواب وجوب خدمة الزوجة لزوجها فإن الزوج سيدها في كتاب الله وهي عانية عنده كالأسيرة بسنة رسول الله ﷺ، وقد علم أن العبد والعاني يخدم سيده، فالخدمة من مثلها لمثله، خدمة القروية غير خدمة الحضرية، غير خدمة البدوية، بحسب العرف.
خامساً: أن تشكر نعمة الزوج ولا تجحده، ما فيه كفران عشير، ولا كثرة شكاية.
سادساً: ما تصوم تطوعاً إلا بإذنه.
سابعاً: عدم إرهاق الزوج بما لا يطيق: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق: 7].
ثامناً: أن تحفظه في عرضها وماله، ولا تعرض نفسها للفتن، ولا تدخل في أماكن اختلاط، ولا تسافر بغير محرم، ولا تتعرض للفساق، ولا تتبرج بزينة؛ لأنها إذا تبرجت بزينة ما حفظته في عرضها.
تاسعاً: أن لا تأذن لأحد بدخول بيته إلا بإذنه، لحديث: ولا تأذن في بيته إلا بإذنه [رواه البخاري: 5195].
وعاشراً: التجمل وحسن التبعل.
حقوق الزوجة على زوجها
في الجهة الأخرى حقوق الزوجة:
أولاً: أن يلزمها طاعة الله، وأن يحملها على الدين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم: 6].
ثانياً: المعاشرة بالمعروف: واستوصوا بالنساء خيراً [رواه البخاري: 5186، ومسلم: 1468]، وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 19] في المعاملة لا يقبح، ولا يضرب الوجه، ولا يزيد في الهجر عما ورد به الشرع، وكذلك أن ينفق عليها، وهذا من أهم الأشياء ويطعمها إذا طعم ويكسوها إذا اكتسا ويسكنها ولا يهجر إلا في البيت: إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن [رواه الترمذي: 1163، وهو حديث حسن، حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 1930].
قال الموفق ابن قدامة -رحمه الله-: "اتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين إلا الناشز منهن" [المغني: 8/195].
رابعاً: إعفاف الزوجة.
خامساً: عدم إفشاء أسرارها في الفراش، إنه من شر الناس منزلة من يفضي إلى امرأته ثم ينشر سرها.
سادساً: قال ﷺ: من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل [رواه ابن ماجه: 2133، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 1949].
فلا بد إذاً من العدل مع مؤانسة، وتحمل الأذى، والصبر عليها، والمحافظة على مالها، وعدم التعرض لمالها إلا بإذنها، قال الله -تعالى-: وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً [النساء: 20]، فلا يأخذ من مهرها شيئاً ولا من إرثها ولا من راتبها إلا بإذنها، أما يأخذ الراتب ويجحد ويتزوج عليها من راتبها، وقد وعدها أنه سيبني مسكناً مشتركاً وعشاً للأولاد، وهو يعدها كذباً: وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم: 42]، وقال تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ [البقرة: 188].
لماذا انتشرت الخيانات اليوم؟
بسبب تضييع الحقوق.
حق الأبوين وحق الزوجة
وإذا نظرت كذلك إلى قضية الأم والزوجة والخلل الحاصل بسبب عدم أداء الحقوق، لا هذه تؤدي حقوق هذه ولا هذه تؤدي حقوق هذه، والزوج أحياناً يظلم الزوجة أو يظلم أمه، بسبب عدم انضباط قضية الحقوق، والقصص كثيرة، وهذه ما تحملت أمه فأخرجتها، وإلى أين؟ إلى المخزن، تنام مع الفئران والحشرات، تستعطف زوجته تقول: ما عندنا إلا هذا.
جاءت إحدى الجارات أشفقت على أمه المرمية في المخزن فآوتها عندها، فهددهم بالتدخل في الشؤون الداخلية للبيت، وأنه سيفضحهم عند أهل الحي إذا استمروا في إيواء أمه، ثم قال: سأضعكم في مكان أفضل، وإلى دار العجزة.
المشكلة تكمن في كثير من الأحيان في عدم إعطاء الموضوع حقه، وفي العجلة، يسمع أول ما يدخل البيت زوجته تشتكي تنفجر عليه مباشرة يقوم إلي أخواته فيضربهن ويشتمهن ويلعنهن ويسبهن.
إذا دخل البيت استلمته أمه زوجتك فيها كذا وكذا مباشرة ذهب إلى الزوجة ضربها، وفعل.. وفعل.. وهكذا..
ومعادلة: إما أنا وإما أمك! هذه التي صارت الآن عرفاً مع الأسف، هناك حقوق الوالدين، وحقوق للزوجة، والمطلوب القيام بالحقوق، والأم لها حق عظيم، والأقارب لهم حق عظيم، والله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقهم، قالت الرحم: هذا مقام العائذ منك من القطيعة، قال: أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ [رواه البخاري: 4830، ومسلم: 2554].
وعلى رأس الأقارب: الوالدان، وبرهما معروف: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23]، وأمر بالقول الحسن والفعل الحسن، ونهى عن القول السيئ والفعل السيئ.
من حقوق الوالدين: النفقة عليهما، طاعتهما بالمعروف، الإحسان إليهما بجميع الوسائل، كان أبو يوسف يقول: اللهم أغفر لأبوي ولأبي حنيفة، فيقدم أبويه على شيخه مع أن شيخه نفعه أكثر من أبويه في العلم، بطبيعة الحال، ما يسافر الأسفار الخطيرة كسفر الجهاد إلا بإذنهم، وأشياء كثيرة في الحياة لهما وبعد الوفاة حقوق من الاستغفار والدعاء، وصلة أقاربهما.
السلف ضربوا المبلغ العظيم، والمثل الكبير في حقوق الوالدين، حيوة إمام وعالم وفي حلقة العلم أمه عامية ترفع صوتها: يا حيوة قم فألق الشعير للدجاج، هذا همها الدجاج. فضيلة الشيخ والدرس، فيقطع الدرس ويقوم إلى الدجاج فيلقي الشعير، ويرجع لإكمال الدرس.
وأحد السلف أراده الخليفة على القضاء فامتنع، امتنع وامتنع، والقضاء منصب وهيبة ومكانة، فسمعت أمه فقامت عليه توبخه على رفضه للقضاء وتعنفه، وهو مطرق إلى الأرض ببصره بغاية الأدب، لا يرد عليها شيء، وهي توبخ وتعنف، وهو لا يرد عليها شيء.
وعدم القيام بالحقوق سيؤدي بطبيعة الحال إلى العقوق، وإلى رمي الأبوين، وكما قال ذلك الطفل لأمه وقد رأته يرسم دوائر وسألته: ما الذي ترسمه؟ قال: هذا بيتي لما أكبر، قالت: وهذه الغرفة كذا منعزلة خارج البيت؟ لماذا؟ قال: هذه لك، مثل ما هو عايش جدي الآن.
ومن ذهب إلى المستشفيات وسأل الأطباء عما يوجد من أبوين أحدهما أو كليهما، ما فيه زيارات ولا سؤال، وأصلاً بعض كبار السن ما له علاج، هو يدخل المستشفى يوماً يومين ثلاثة، مراعاة، بعض الأشياء كما يقولون: روتينية، ثم يتصلون على أهله يقولون: تعالوا خذوا أباكم، خذوا أمكم، ما أحد يرد أصلاً، وقد يعد ولا يأتي، ومرمي في المستشفى؛ لأنه صار عالة، كَلٌ، ولذلك ممكن يرمى في خارج البيت، دبر نفسك.
حقوق الأولاد
وفي المقابل حقوق الأولاد إذا ضيعت ماذا ستكون النتيجة؟ عقوق.
تشريد الأولاد وانحراف الأولاد، وقوع الأولاد في جريمة؛ نتيجة تقصير الآباء في حقوقهم.
ومن حقوقهم -كما قالوا-: اختيار الزوجة قبل ولادة هؤلاء الأبناء والأولاد، فاظفر بذات الدين [رواه البخاري: 5090، ومسلم: 1466]، وحتى من حق الولد اختيار الاسم الحسن له.
ومن حق الولد التربية والرعاية: والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته [رواه البخاري: 893، ومسلم: 1829]، وأن هذا الصبي أمانة عند والديه، وقلبه طاهر وعلى الفطرة كالجوهرة الخالية من كل نقش، قابل لكل علامة، مائل إلى كل ما يمال إليه، وإذا عود الخير مشى عليه، وإذا عود الشر مشى عليه، وشقي وهلك، مسؤولية من؟ الآباء والأمهات.
الإنفاق، الذي يدفع بعض الأولاد للسرقة: عدم الإنفاق، كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت [رواه أبو داود: 1692، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود: 1485].
من حقوق الأولاد: العدل بينهم في الهبات والأعطيات: لا تشهدني على جور [رواه البخاري: 2650، ومسلم: 1623]، لا تشهدني إذاً، فإني لا أشهد على جور [رواه مسلم: 1623].
وظلم الأولاد، مآسي في البيوت؛ لأنه يرمي الأم والأولاد، ثم لا يعترف بأي نفقة، ولا يسأل، ولا يمر، ولا يأتي، ولا شيء، وهكذا تكبر البنت ويكبر الابن وما في حنان ولا عطف، ثم يأتي بعدما كبر يتعرف عليه فيجابه بقطيعة وعقوق، وهذا من العقوبة المعجلة، وليس هذا بمبرر للابن أو البنت أن يعق أن أباه أهمله؛ لأن العقوق معصية أيضاً في حقه: وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ [البقرة: 281].
حقوق الأقارب والجيران
وإذا نظرنا إلى حقوق الأقارب أيضاً، من حقوقهم: وجوب الإنفاق عليهم، الأقرب فالأقرب، بعض العلماء يوجبون الإنفاق على أقارب غير الأصول والفروع، إذا كان ماله يتسع، ولذلك عندهم خلاف في قضية إعطاء القريب الزكاة، ومن الذي لا يعطى، إذا كان يرث منه، ولذلك عليه أن ينفق عليه.
وإذا جئنا إلى الجيران ورعاية الجيران، وكف الأذى، ودفع الضرر، وقال تعالى: وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ [النساء: 36].
فالجار ذو القربى: الذي بينك وبينه قرابة.
والجار الجنب: الذي لا قرابة بينك وبينه.
ولا زال جبريل يوصي النبي ﷺ بالجار حتى ظن أنه سيورثه [رواه البخاري: 6014، ومسلم: 2624].
والجار يشمل المسلم وغير المسلم والعابد والفاسق والنافع والضار والقريب والأجنبي والأقرب داراً والأبعد، ولهم مراتب، ولذلك قال أحمد -رحمه الله-: "الجيران ثلاثة: جار له حق وهو الذمي الأجنبي له حق الجوار، وجار له حقان وهو المسلم الأجنبي له حق الجوار وحق الإسلام، وجار له ثلاثة حقوق وهو المسلم القريب له حق الجوار وحق الإسلام، الأخوة، وحق القرابة".
وأولى الجوار بالرعاية من كان أقربهم إليك باباً.
العلماء عندما يذكرون حقوق الجيران، وأن يبدأ في السلام، ويعوده في ا لمرض، ويعزيه في المصيبة، ويهنئه في الفرح، ويتلطف معه، ويشاركه في السرور، ويتجاوز عن زلاته، ويغض بصره عن محارمه، ويحفظ عليه داره إذا غاب، ما هو إذا جاء لص قال: والله مالي دخل، لا، هو من مسؤوليته.
وكان عبد الله بن أبي بكر ينفق على جيرانه الأربعين إلى أربعين دار.
وكان عبد الله بن المبارك له جار يهودي فأراد اليهودي أن يبيع داره، فقيل: بكم تبيع؟ قال: بألفين، قيل: لا تساوي ألفاً، قال: صدقتم، ألف للدار وألف لجوار عبد الله بن المبارك، فأخبر ابن المبارك فدعاه فأعطاه ثمن الدار وقال: لا تبعها.
حقوق الأخوة في الله والأصدقاء
وإذا جئنا إلى حقوق الأخوة في الله والأصدقاء والإخوان.
سامح أخاك إذا خلط | منه الإساءة والغلط |
وتوقى عن تعنيفه إن | زاغ يوماً أو سقط |
من ذا الذي ما ساء قط | ومن له الحسنى فقط |
فلا صديق إلا بعيب بعض الناس لا يتحمل أبداً، ولا يريد أن يتحمل أي شيء من إخوانه.
وكنت إذا الصديق أراد غيضي | وأشرقني على حنق بريقي |
غفرت ذنوبه وصفحت عنه | مخافة أن أعيش بلا صديق |
وتبادل الرسائل النافعة التي تذكر بالله، الأخوة أصلاً حق لأي شيء؟ لأجل العلاقة التي نشأت بسبب المحبة في الله.
وقضية حق المسلم على المسلم بينت حقوق الإخوة، وأحاديث أخرى بينت أيضاً مثل عدم هجر الأخ لأخيه أكثر من ثلاث ليال.
وبلغ من رعاية السلف لحقوق إخوانهم في الله: أن الواحد كان منهم يفرح إذا طلب منه صاحبه ويعطي أكثر مما طلب، ويتعاهد قبل أن يطلب، ولذلك لما أتى رجل أخاً له، فدق الباب فخرج قال: لماذا جئتني؟ قال: لأربع مائة درهم ركبتني، فدخل ووزن له أربع مائة درهم ودفعها إليه، ودخل داره يبكي، فقالت له امرأته، لماذا؟ أنت الآن أعطيته، قال: إنما أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى احتاج إلى مفاتحتي.
وقال عبد الله بن عثمان: ما سألني أحد حاجة إلا قمت بها بنفسي، فإن تم وإلا قمت بها بمالي، فإن تم وإلا استعنت له بالإخوان، فإن تم وإلا استعنت له بالسلطان، شفاعة حسنة.
كان بعضهم يواسي بعضاً في الحفاء، وهذا يأخذ بركابه ويودعه إلى الباب، وهذا يشق لهم عكة السمن أو العسل، لماذا؟ على الأقل ما بقي، يلعقونه، ويخلف أخاه بعد موته بكذا سنة.
فستر عيوب الأصحاب، وعدم نشرها، والرفق والمودة، والعيادة، والسلام، وإجابة الدعوة، والتشميت، وإتباع الجنازة، ونشر المحاسن، وترك الغيبة.
القيام بالرعاية للحقوق هذه صفة إسلامية: إني لأضع اللقمة في فم أخ من إخواني فأجد طعمها في حلقي [إحياء علوم الدين: 2/174].
من الحقوق: الذب عنه في غيبته، ونصرته إذا صار مظلوماً.
أين مثل الأخ الصالح؟ إن أهل الرجل إذا مات يقسمون ميراثه ويتمتعون بما خلف، والأخ الصالح يحزن عليه، ويدعو له في ظلمة الليل، ويستغفر له وهو تحت أطباق الثرى.
والتماس المعاذير، والاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، وأحمد قال عن إسحاق: "كان يخالفنا في أشياء، ولكن لم يزل الناس يعني العلماء يخالف بعضهم بعضاً"، وأثنى عليه قال: لم يعبر الجسر، مثل إسحاق -رحمهم الله- [ينظر: سير أعلام النبلاء: 11/371].
حقوق المرضى والمعاقين
وإذا جئنا إلى المرضى والمعاقين سنجد في الشريعة لهم حقوق، بينما كانت الأمم من قبل ماذا تعطيهم؟ الفراعنة كانوا يتخلصون من الأطفال المعاقين، اسبرطة كانوا يجعلون الولد في العراء في البرد، إذا تحمل وعاش معناه هذا يستحق الحياة وإلا يموت ونتخلص منه.
أفلاطون كان يريد إخراج المعاقين من مدينته الفاضلة؛ لأنهم لا يؤدون المطلوب لهذه المدينة المزعومة.
وكان القانون الإنجليزي القديم يحرم بعض فئات المعاقين من الحقوق عموماً.
وبعض النازية يرى بأن المعوق هذا عالة على المجتمع، وليش يكلف المجتمع مالاً؟ يعدم، والله قال: لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة: 91]، لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [النور: 61]، فأقام عذرهم تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى [عبس: 1 - 2].
ولذلك اشتغل الخلفاء برعاية أصحاب العاهات، وأمر عمر بن عبد العزيز بإحصاء المعوقين في كل الدولة الإسلامية.
وأوجب الفقهاء لهم رواتب من بيت المال إذا كانوا عاجزين عن نفقة أنفسهم.
وبنى بعض الخلفاء أول مستشفى للمجذومين عام 88هـ، وأعطى كل مقعد خادماً، وكل أعمى قائداً، ووضع ديوان اسمه: ديوان المرضى، وأنشأ بعض الخلفاء مأوى للعميان والنساء العاجزات في بغداد والمدن الكبيرة.
والسلطان قلاوون بنى بيمارستان -وهو المستشفى- لرعاية المعوقين.
وأيضاً كان الحرص على إدخال المعوق في المجتمع ولا يحس بأنه منبوذ، و لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ [الحجرات: 11].
جراحات السنان لها التئام | ولا يلتام ما جرح اللسان |
السنان لو جرح ممكن يلتئم، وبعض الجرح من اللسان لا يلتئم، هؤلاء فيهم بركة؛ لأن ضعفهم يستنزل من الله -تعالى- معونة، ولذلك قال ﷺ: هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟ [رواه البخاري: 2896].
قال ابن بطال -رحمه الله-: "الضعفاء أشد إخلاصاً في الدعاء، وأكثر خشوعاً في العبادة لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا"[فتح الباري، لابن حجر: 6/89].
حقوق العمال
وإذا نظرنا إلى العمال، هذا حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، الثالث أعظمهم أجراً، لماذا؟ لأنه راعى حق عامل عمل عنده، فقال: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره، وفي رواية: أن أجره كان فرقاً من أرز، كذا مد ثمره له، زرعه، قال: اللهم إني استأجرت أجيراً بفرق أرز، فلما قضى عمله، قال: أعطني حقي، فعرضت عليه فرغب عنه، فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقراً وراعيها، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أد إلي أجري، اتق الله ولا تظلمني حقي، فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون؛ لأن هذا كم عمل الآن، حتى أخذ فرق الأرز وزرع ونمى ونمى ونمى، حتى صار فيه قطيع من إبل وبقر وغنم ورقيق؟ استثمار، هو أصلاً ما يجب عليه، الذي عليه أن يحفظ حقه فقط، لكن تنمية الحق واستثماره مع الضمان، يعني لو خسر فيه يضمنه.
الخلافات التي تحصل اليوم بسبب ضياع الحقوق -كما سبق-، والسرقات من هنا، وأكل الحق من هنا، وقصقصة المزايا والرواتب والعمولات من هنا، والخيانات من الناحية الأخرى، ويريد أن يجلسه بعد الدوام.
يا أخي: هو أنت بينك وبينه ثمان ساعات، تجلسه بعد الدوام، هذا بأجر إضافي؟ لا، هو نايم في الصباح، والموظف من سبعة الصباح مرابط، فيأتي بعد الظهر لما يصير وقت الانصراف يقول: اجلس أنا أبغى كذا وكذا، وهكذا يأتي به على مهنة ويوظفه على أخرى، أنت اتفقت معه هناك من بلده على مهنة معينة، أنت الآن تأتي به خياطاً فتوظفه حمالاً مثلاً، هل يجوز شرعاً؟ إذا رضي طيب، لكن إذا ما رضي، وهكذا..
حق العالم
ولو انتقلنا إلى قضية حق العالم وحق المتعلم في قطاع مهم جداً من قطاعات المجتمع، وعلى رأس المعلمين علماء الشريعة، ونظرنا ماذا قال العلماء في حقوقهم، في الجلوس عنده، والاحترام، ولا تغمز بالعين، ولا تشر بيد، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا تطلبن عثرته، وتقبل معذرته، وتوقره لله، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه، ولا تمله، ولا تشبع من طول صحبته، والتوقير والإقبال، والحقوق هذه لأجل ماذا؟
العلم الذي عنده من الكتاب والسنة.
فإذاً، هو توقير من توقير الله ، فضلاً عن الوقيعة فيه وغيبته، وكذلك الداعية، وكذلك المربي، معلم الخير.
فانظر الآن ماذا يفعل الطلاب بالمعلمين؟ وأي حق هذا؟ كسر السيارة والزجاج والتوعد والضرب والاعتداء الصارخ الواضح، -طبعاً- غيبة واستهزاء به وبين الطلاب والسخرية.
حق المتعلم
وفي المقابل بعض المعلمين لا يعطون المتعلمين حقوقهم، ولا يعطون الطلاب أدنى احترام، ولا يعطون الطلاب حقوقهم في التصحيح والدرجات، ولا فيه تكافؤ فرص أحياناً في واجبات واختبارات وقبول أعذار، وأذونات بالغياب، أين العدل؟ من حقوقهم أن تعدل بينهم.
وهذه من جهلها وهي تدرس في سورة نون، قالت: نا والقلم وما يسطرون، فقالت الطالبة: نون، فطردت الطالبة، لماذا؟ يعني هذا الذي سيربي أمة الآن عندما ينطق الطالب حق يطرد.
الضرب والمعاقبة، لماذا يضرب على الوجه؟ ولا يجلد أحدكم فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله.
وهذه الطالبة نسيت الدفتر، أين تم كتابة الملاحظة؟
على وجهها بالقلم الأحمر، يعني الإهانة، قال الضياء المقدسي: وما علمت أن ابن قدامة المقدسي أوجع قلب طالب أبداً، وكانت له جارية تؤذيه بخلقها، فما يقول لها شيئاً، وأولاده يتضاربون أحياناً فلا يكلمهم.
كان الشيخ ابن قدامة في القراءة يمازحنا وينبسط، يقول بهاء المقدسي: كلموه مرة في صبيان يشتغلون عليه، فقال: هم صبيان ولا بد لهم من اللعب وأنتم كنتم مثلهم.
وعبارات السب والشتم هذه لا يمكن أن تكون من حقوق المتعلمين أبداً، إذا جئنا لكبار السن الآن، تقطع العلاقات، وضياع الآداب، أين الرعاية والأدب؟ ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا [رواه الترمذي: 1919]، يقول سمرة بن جندب : "لقد كنت على عهد رسول الله ﷺ غلاماً فكنت أحفظ عنه فما يمنعني من القول إلا أن هاهنا رجالاً هم أسن مني" متفق عليه [رواه مسلم: 964]، فعنده المعلومة لكن لا يقولها أحياناً احتراماً لمن هو أكبر منه.
حقوق الولاة والوجهاء
وإذا جئت إلى قضية حقوق أهل الخبرة وأهل المكانة الاجتماعية، ووجهاء الناس، النبي ﷺ ما أمر أن ننزل الناس منازلهم؟ ما قال: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود [رواه أبو داود: 4375، وهو حديث صحيح، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 638]؟ وما معنى: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم يعني اعف عن أصحاب المروءات والخصال الحميدة، وجوه الناس إذا صار لهم زلة سامحوهم إلا ما يوجب حداً، هذا حد الله ما يمكن التلاعب فيه، فممكن التجاوز، ليس التجاوز عن مجرم يفسد في الأمة، وفي أعراض الناس، ويقال له: تعال أنت من قبيلة معروفة، عفونا عنك، مروج مخدرات له نسب عفونا عنك، لا، لكن زل زلة وهو من أشراف الناس، قد يكون في قبيلته وجيها،ً في جماعته، في أهله، من أعيان الناس، صاحب خبرة صاحب علم، يراعى، لا يقصر بالرجل العالي عن درجته، ولا ينزل إلا في منزلته، وقد قالت عائشة -رضي الله عنها-: "أمرنا رسول الله ﷺ أن ننزل الناس منازلهم" [مقدمة صحيح مسلم: 1/6].
كان الراعي والرعية في هذه الأمة الحقوق بينهم متبادلة، فمثلاً: السلطان يطاع في طاعة الله.
ثانياً: تبذل له النصيحة سراً وعلناً.
ثالثاً: يعرف له حقه.
رابعاً: يحذر من نفسه ومن عدوه، وبعد ذلك إعلامه بسيرة عماله، وإعانته على الأعباء، ورد القلوب النافرة عنه، والذب عنه بالقول والفعل.
فترى الراعي يرعى حق الرعية في حفظ الدين، ودفع المفسدين، وتنفيذ الأحكام، وإقامة الحدود والتعزيرات، وتحصين الثغور، وتنظيم موارد بيت المال، ومراجعة العلماء، ورعاية مصالح المسلمين العامة، والإصلاح بين الرعية، ورعاية أهل الذمة، ودعوة غير المسلمين إلى الإسلام، والقيام بالجهاد في سبيل الله، وجباية الفيء والصدقات، ومحاسبة العمال، وإكرام وجوه الناس.
وقضية الراعي والرعية إذا حصل القيام بالحقوق، هذا راضٍ وهذا راضٍ، فلا هذا مظلوم ولا هذا ظالم؛ لأن الحقوق مبذولة من الطرفين.
حقوق الضيف
وإذا جئنا إلى الضيف، قال ﷺ: وإن لزورك عليك حقاً [رواه البخاري: 1975، ومسلم: 1159]، ولضيفك عليك حقاً [رواه الترمذي: 2413]، فكان ﷺ يقري الضيف، يكرمه.
والضيف تكرمه فإن مبيته | حق ولا تك لعنة للنزل |
وأعلم بأن الضيف مخبر أهله | بمبيت ليلته وإن لم يسأل |
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه [رواه البخاري: 6018، ومسلم: 47].
والإيثار كان عندهم حتى يجودون بطعام أطفالهم، وتنويع الطعام للضيف، وإبراهيم جاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات: 26].
الكراهية أن يخرج إلى حد السرف.
لكن فراشي فراش الضيف والبيت | بيته ولم يلهن عنه غزال مقنع |
أحدثه إن الحديث من القرى | ...................................... |
ملاطفة الضيف ومسامرة الضيف.
............................. | وتعلم نفسي أنه سوف يهجع |
وهذه المراعاة في مقابل أشياء على المضيف تجاه صاحب البيت، حقوق فلا يحرجه، قال ﷺ: لا يحل لضيف أن يثوي عنده صاحبه حتى يحرجه [رواه البخاري: 6135].
((يثوي)) يعني يقيم: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ [يوسف: 21]، ولا يكلفه ما لا يطيق، ولا يتصرف في مائدته إلا بإذنه، أو يكون هناك عرف، وإذا دعي يجيب، يضع نفسه في الموضع الذي يضعه فيه صاحب البيت، ولا يتلف ما أعطيه، بعدين يكتشف بعد ما ذهب الضيف في فاتورة هاتف كذا كذا مئات، لماذا؟
ضياع الحقوق إلى ماذا يؤدي؟ يؤدي إلى أن بعض الناس يرفض أن يضيف الضيفان، ويقول: هؤلاء حصل منهم كذا كذا كذا، الآن أنا لا أضيفهم، لماذا منع المعروف؟ بسبب ضياع الحقوق.
رعاية السلف لحق العصاة
سبحان الله! كان للسلف رعاية حتى مع العصاة، حقوق للعصاة، فقد يكون عنده معصية مسر بها فلا يفضح، يستر.
ثم طريقة التعامل، دخل لص على مالك بن دينار فما وجد شيئاً يأخذه فناداه مالك: لن تجد شيئاً من الدنيا، فهل ترغب في شيء من الآخرة؟ فقال: نعم، قال: توضأ وصل ركعتين، ففعل، ثم جلس، فخرج مالك إلى المسجد معه الحرامي الذي تاب، فجاء واحد سأل مالك قال: من هذا؟ لأنه غريب، من هذا الذي معك؟ قال: جاء ليسرق فسرقناه. [سير أعلام النبلاء: 5/363].
ولما تسور أحد اللصوص على بيت الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-، وقبض عليه، وأرادوا أن يسجنوه، فأيقظ الشيخ طباخه، وأمره أن يصنع عشاءً للسارق، ثم خرج ونام معه إلى صلاة الفجر، وسأله: لماذا فعلت؟ قال: عندي أب مريض يحتاج إلى علاج ما عندي نفقة، فسأل عن البلدة، وكلف وكيلاً له بالذهاب هناك، وتكفل بعلاج أبيه، فأصبح هذا اللص يحضر دروس الشيخ باستمرار.
حكى اليافعي -رحمه الله-: أن سارقاً خطف عمامة النووي وهرب، الحرامية من زمان من ضمن الأشياء التي كانوا يفعلوها العمائم، العمامة هذه كانت عمائم تيجان العرب، ولها قيمة، فيعني إذا ما وجد شيئاً يخطف العمامة من الرأس، وليس على دراجة نارية، يهرب على رجليه، على الأقل فيه تكافؤ، فخطف لص عمامة النووي -رحمه الله- وهرب فتبعه الشيخ يعدو خلفه، ويقول: ملكتك إياها، قل: قبلت، والسارق ما يفهم شيئاً، ما عنده خبر من ذلك، لماذا فعل ذلك؟ يريد أن ينجيه، يقول هذا كما قال الإمام أحمد -رحمه الله-: وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم في سببك؟ فعلى الأقل وهبها إياه حتى لا يكون عليه إثم السرقة، تبقى عنده مسروقة، وهو يأثم عليها طيلة غصبها وسرقتها فأراد أن يخفف عنه.
الإمام أحمد -رحمه الله- بعض الخلفاء عذبوه، لكن سامح بعضهم، فقيل له: لماذا وهذا عذبك وفعل وفعل؟ قال: رأيت الله يقول: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور: 22].
وأمر النبي ﷺ أبا بكر بالعفو في قصة مسطح.
وبعضهم صرح بأنه عفا عنهم لأجل قرابتهم من رسول الله ﷺ.
والخدم أوصانا بهم ﷺ ولهم حقوق، وقال السائل: يا رسول الله كم أعفو عن الخادم؟ قال: كل يوم سبعين مرة [رواه أبو داود: 5164، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2289].
أتت جارية لصفية -بنت حيي- إلى عمر، وصفية كانت من اليهود على دين اليهود، فتزوجها النبي ﷺ وأسلمت، جارية لصفية جاءت إلى عمر، وعمر الآن خليفة مسؤول عن أمهات المؤمنين، يرعى زوجات الرسول ﷺ، فقالت: إن صفية تحب السبت، وتصل اليهود، فبعث عمر يسألها، فقالت: أما السبت فلم أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحماً فأنا أصلها، فقال عمر للجارية: ما حملك على ما صنعت؟ الافتراء هذا؟ قالت: الشيطان، قالت صفية للجارية: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: الشيطان، قالت: فاذهبي فأنت حرة. [الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 4/1872، وسير أعلام النبلاء: 2/232].
حقوق العامل ورب العمل
إذا نظرنا الآن إلى واقع الشركات والمضاربات واستثمار الأموال، وتوظيف الأموال، نحن نعرف أن شركة المضاربة من الشركات الشرعية التي يعطي فيها صاحب المال ماله إلى عامل صاحب خبرة يعمل بالمال على شيء بينهما، الربح بالنصف، ثلث وثلثين ... إلخ، وفيه حقوق للمضارب وحقوق لرب المال، رب المال إذا قال للمضارب: ضارب به في العقار ما يجوز يضارب فيه السكر مثلاً، إذا قال: ضارب فيه بالسيارات ما يجوز يضارب فيه بالأسهم، وإذا خسر المضارب يغرم المال؛ لأنه خالف حقوق المضارب، انتهكها؛ لأنه خالف حقوق رب العمل وانتهكها؛ لأنه خالف حقوق رب المال وانتهكها، وكذلك في حال الخسارة دون تفريط من المضارب، لا يجوز لرب المال أن يحمل الخسارة على المضارب؛ لأن المضارب خسر جهده، وصاحب المال خسر ماله، فإذا ما قاموا بالحقوق، فتصبح العداوات والافتراق والهجران والمحاكم والقضايا والشرطة والدعاوى بسبب ماذا؟ عدم رعاية الحقوق.
كم من الناس ضاعت أموالهم اليوم عند مضاربين وهميين كذابين محتالين مهملين مخالفين للحقوق؟ كم مساهمة عقارية معطلة ومتعثرة اليوم؟ وكم مضاربات مالية أيضاً معلقة؟ وكم خصومة؟ وكم دعوة؟ وكم قضية؟ وكم ساعات تذهب من القضاة والمحاكم؟
حقوق المؤجر والمستأجر
إذا جئت إلى المؤجر والمستأجر، فيه حقوق، لا يجوز أن يحول بينه وبين الانتفاع بالدار؛ لأنه أجره إياه ملك المنفعة، ولا يجوز لهذا أن يؤخر عنه الإيجار، وأن يمنعه حقه، ما الذي يحدث الآن؟ هنالك ظلم من بعض المستأجرين، فلا يدفع ويريد أن يبقى وبالقوة، يقول: رح اشتك.
وتغمط الحقوق ولا يوفى بها ومع سبق الإصرار والترصد.
حقوق المؤلفين والملكية الفكرية
حقوق المؤلفين والملكية الفكرية، طبعاً بعضهم يغالي فيها لدرجة أنه يمكن يقول: أنت سرقت الفكرة مني، سأرفع دعوى عليك، حقوق الملكية الفكرية لها ضوابط، والشخص أو الشركة إذا تعبوا على منتج وطوره، ابتكروه، وطوره وسوقوه، أنفقوا عليه، ثم يأتي واحد كذا وينسخه معتدياً على حقوقهم، فهناك حقوق للتأليف والاختراع والإنتاج؛ لتشجيع الناس على الاختراع والإنتاج، حقوق مالية، وحقوق معنوية، مصانة لا يجوز الاعتداء عليها، حقوق لبرامج واسطوانات وكتب، سئلت اللجنة الدائمة: هل يجوز أن أسجل شريطاً من الأشرطة وأبيعه دون طلب الإذن من صاحبه؟ وهذه الكتب التي تحمل علامة حقوق الطبع محفوظة؟
فأجابت اللجنة: لا مانع من تسجيل الأشرطة النافعة وبيعها، وتصوير الكتب وبيعها، لما في ذلك من الإعانة في نشر العلم إلا إذا كان أصحابها يمنعون من ذلك، فلا بد من إذنهم.
كذلك أفتت اللجنة في قضية نسخ البرامج التي يمنع أصحابها نسخها إلا بإذنهم، فأفتت بعدم الجواز؛ لقوله ﷺ: المسلمون على شروطهم [رواه أبو داود: 3594، وصححه الألباني في إرواء الغليل: 1303]، سواء كان صاحب هذه البرامج مسلماً أو كافراً غير حربي؛ لأن حق الكافر غير الحربي محترم كحق المسلم [فتاوى اللجنة الدائمة: 13/188].
ومن فتاوى اللجنة: يجب على المالك أن يفي للمستأجر بما تعاقدا عليه من تسليم المنزل والقيام بمقتضى الشروط المشروعة التي اتفقوا عليها أو جرى بها عرف.
حقوق بين الدائن والمدين
هناك حقوق بين الدائن والمدين، المدين يجب أن يوفي الدائن دون مماطلة ولا جحد، والدائن ما يحرج المدين إذا كان معسراً؛ لأن الله قال: فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة: 280] المماطلة في الدين خطيرة، مطل الغني ظلم [رواه البخاري: 2287، ومسلم: 1564]، و يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين [رواه مسلم: 1886].
ماذا يحدث اليوم؟ كم من المشكلات قائمة بسبب عدم الوفاء بالحقوق بين الدائن والمدين.
وبعض الدائنين يتدخلون في الأمور الشخصية للمدينين بغير حق.
وبعض المدينين يماطلون ويتهربون بغير حق.
حقوق غير المسلمين
وإذا جئنا حتى لغير المسلمين، ونظرنا سنجد أن هنالك حقوقاً لغير المسلمين تجب رعايتها: إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ [التوبة: 4]، وقال تعالى: فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ [النساء: 135].
فالمسلم مطالب بالعدل ولو كان الطرف الآخر كافراً، روى أبو داود عن أبي رافع قال: "بعثتني قريش إلى رسول الله ﷺ، يعني بعثته رسولاً، والآن المدة هذه أي واحد يأتي من المشركين إلى المسلمين يرد، قال: فلما رأيت رسول الله ﷺ ألقي في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله إني والله لا أرجع إليهم أبداً؟ فقال رسول الله ﷺ: إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد البريد هذا الرجل الذي جاء مرسلاً لا أحبسه، ولا أخيس بالعهد، ولكن ارجع فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن يعني الرغبة في الإسلام، فارجع، لاحظ يرجع إلى الكفار وإذا ما زال عنده رغبة في الإسلام في ذلك الوقت يعود، قال: ثم أتيت رسول الله ﷺ فأسلمت [رواه أبو داود: 2758، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 702].
فقوله: لا أخيس بالعهد يعني يراعى حتى مع الكافر، ولذلك من أعطى كافراً أماناً حتى ولو بحركة وكلمة، حتى العلماء قالوا: لو قال: قف، تعتبر هذه أماناً، أعطاه ماءً ليشرب أماناً، فلا يجوز له أن يخفر هذا، ولا أن يقتله.
وعن حذيفة قال: ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبي حُسيل، قال: فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمداً، فقلنا: ما نريده ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله ﷺ فأخبرناه الخبر، فقال: انصرفا نفي لهم بعهدهم، ونستعين بالله عليهم [رواه مسلم: 1787] يعني ما رضي يخرج معهم في بدر؛ لأنهم أعطوا المشركين كلمة.
النبي ﷺ بعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر، فيخرص بينه وبين يهود خيبر يقدر الثمر على النخل، وتكون بينهم حسب الاتفاقية، فجمعوا له حلياً، اليهود من حُلي نسائهم، جمعوا له رشوة، فقالوا: هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم، فقال عبد الله بن رواحة: يا معشر يهود والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، ولكن قال: وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم، فأما ما عرضتم من الرشوة فإنها سحت وإنا لا نأكلها، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض [رواه مالك في الموطأ: 2، وأحمد: 14953، وقال محققو المسند: "إسناده قوي على شرط مسلم"].
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "من أظهر لكافر أماناً لم يجز قتله بعد ذلك لأجل الكفر بل لو اعتقد الكافر الحربي أن المسلم آمنه وكلمه على ذلك صار مستأمناً" [الصارم المسلول، ص: 88] يعني هو المسلم ما أمنه، لكن الحربي ظن أن المسلم أعطاه أماناً، فجاء ووضع سلاحه، وجلس يتكلم بشكل طبيعي، قالوا: هذا الظن من الحربي يعتبر أماناً، ولا يجوز للمسلم أن يقتله، لماذا؟ لأن النبي ﷺ برئ ممن يقتل المعاهد، وبرئ ممن يقتل المستأمن، ولذلك القتال في المعركة والاسترقاق ما يجوز إلا في المعركة.
ومن حقوق الكفار علينا: تعليمهم الإسلام ونصحهم: حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التوبة: 6] رجعه إلى مكانه، نرده إلى مكانه آمناً ونرافقه إلى الحدود.
ومن حقوقهم: نعدل حتى في القضاء، كان بين أبي بن كعب وعمر خصومه في حائط، فجعل بينهما زيد بن ثابت فأتياه في منزله، فلما دخل عليه قال له عمر: جئناك لتقضي بيننا فتنحى له زيد عن صدر فراشه، قال: هاهنا يا أمير المؤمنين، فقال: هذا أول جورك، أجلسني مع خصمي، فجلس بين يديه، فادعى أُبي وأنكر عمر، فقال زيد لأبي: أعف أمير المؤمنين اليمين، فقال عمر: تقضي باليمين ثم لا أحلف، فحلف عمر[أخبار القضاة، لوكيع: 1/109].
فإذاً، كان حتى لو صارت القضية فيها يهودي، نصراني، يكون هنالك رعاية للحقوق، هذا الذي جعل الذميون يسلمون.
وأثر في قريش جداً لما اختلط المسلمون بهم بعد الحديبية، طبعاً قبل الحديبية كان فيه معارك وصفوف متمايزة تماماً.
من فوائد صلح الحديبية وبركته: أن الأمان حصل، فكان المسلمون يأتون مكة لزيارة أقاربهم، فيقولون أشياء عن المدينة وعن النبي ﷺ، والمشركون يأتون المدينة لزيارة أقاربهم، حصل فيه تداخل استغله المسلمون في الدعوة، فأثمر ثمرة عظيمة، وهذا من البركات المترتبة على ذلك الصلح العظيم.
حقوق الأسرى
الآن يقولون اتفاقية "جنيف" للأسرى.
ونحن عندنا حقوق الأسرى من أول، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان: 8]، ولا يجوز الأسر إلا في حال الحرب، ولا يجوز تجويع الأسير، ويجب معاملته بالحسنى، وعدم الإهانة والإذلال، وقال ﷺ: استوصوا بالأسارى خيراً وحسنه الهيثمي [رواه الطبراني في الكبير: 977، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع: 832].
وكسوة الأسير، كسوة لائقة به في حر الصيف وبرد الشتاء، هذا موجود في هذه الشريعة.
وكذلك فإن هنالك حقوق للجميع.
عاقبة الإخلال بالحقوق
الآثار الوخيمة ستكون عاقبة للإخلال بها، والنبي ﷺ لما قال لنا: لا تحاسدوا لا تناشجوا لا تباغضوا لا تدابروا لا يبيع بعضكم على بيع بعض [رواه مسلم: 2564]، كل هذه لأنها خروقات في الحقوق، ولذلك فإن النبي ﷺ لم يرض بها.
وكذلك تحدث اليوم من أنواع سوء الظن والقطيعة والجفاء والجرائم والانتقام بسبب الإخلال في الحقوق، اليوم فيه حالات إفلاس وسجن بسبب الإخلال في الحقوق.
أمور مهمة يجب مراعاتها في الحقوق
الواحد في نظرته للحقوق يجب أن ينظر إلى قاعدة: وعامل الناس بما تريد أن يعاملوك به.
قصة رمزية، يقال: إن رجلاً وولده دخلا وادياً فانشغل الرجل بشيء، ترك الولد في الوادي، فجعل الولد يلهو بكلمات وأصوات، فلاحظ الولد أنه إذا قال كلمة ترجع إليه لأجل الصدى، فظن أن هناك من يكلمه ويرد عليه، فقال متوجساً: من أنت؟ فرجع له الصدى: من أنت؟ أفصح عن نفسك؟ أفصح عن نفسك؟ أنت جبان، أنت جبان، فظن أنه هذا يستهزئ به، وبدأ يسب ويلعن، وكلما سب سبة رجعت عليه، وكلما لعن لعنة رجعت عليه، يقول: ولد ولد، ما يدرك، ثم جاء والده فوجده منهاراً مضطرباً، فقال: ما الأمر؟ أخبره عن السبب، قال: هون عليك يا بني، تعال فصاح بأعلى صوته، أنت رجل طيب، فجاء الصوت أنت رجل طيب، جزاك الله خيراً، جزاك الله خيراً، الولد سأل أباه بدهشة قال: يا أبت، لماذا يتأدب معك ويسيء إلي؟ فقال: يا بني هذا الصوت الذي سمعته هو صدى عملك، فلو أحسنت المنطق لأحسن الرد، يعني هو صدى عملك هذا هو، ولكنك أسأت فكان الجزاء من جنس العمل، قال ابن القيم -رحمه الله-: من رفق بعباد الله رفق به، ومن رحم خلقه رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن صفح عنهم صفح عنه، ومن تتبع عوراتهم تتبع عورته، ومن هتكهم هتكه، ومن منعهم خيره منعه خيرهم، ومن شاق شاق الله به، ومن مكر مكر به، ومن خادع خادعه، وهكذا..
ولذلك لا بد اليوم نحن في قضية الحقوق أن نراعي الحقوق، ونتعلم الحقوق شرعاً.
ثانياً: وأن لا نخون في الحقوق، لا تخن من خانك، ولذلك النبي ﷺ مدح الأنصار والصحابة: ستكون أثره وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول فما تأمرونا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم [رواه البخاري: 3603، ومسلم: 1843]، أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك [رواه أبو داود: 3535، والترمذي: 1264، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 240].
ومن الأمور المهمة جداً: إعادة الحقوق المغتصبة، إنسان قد يغتصب ويظلم، وبعد ذلك هذه نسيت؟، لا، أو يقضى يوم القيامة فيها؟ ولذلك فلا بد من إعادة الحقوق المغتصبة.
في بعضها الآن لا يمكن إعادتها، الاعتذار وطلب المسامحة.
وإذا كنا على هذا المستوى من أداء الحقوق فسيكون بذلك سبب تفريج الكربات؛ كما حصل للثلاثة في الغار: واحد أدى حق والديه، وواحد أدى حق الموعظة: ولا تفض الخاتم إلا بحقه، ما انتهك الفرج، لما علم بأن هذا لا يمكن إلا بعقد الزواج "إلا بحقه"، وواحد أدى حق العامل.
فإذاً، الوفاء بالحقوق سبب لتفريج الكربات.
هذا الموضوع من الموضوعات العظيمة جداً التي ينبغي رعايتها.
نسأل الله أن يعيننا على القيام بحقوقه وحقوق خلقه، ونسأله عز وجل أن يسامحنا فيما قصرنا فيه من حقه، وأن يتحمل عنا ما قصرنا فيه من حقوق عبيده.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.