سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وتحية طيبة في مساء هذه الليلة، نسأل الله أن يجعلها ليلة خير وبركة،
مقدمة بين يدي الموضوع
إن هذه التربية التي ننشدها هي سياج آمن، يقي الفرد المسلم الشرور التي تطيح به عن طريق الاستقامة، وتزل بقدمه عن الصراط المستقيم، هذه التربية التي تخبرنا الأيام والأحداث أنه لا بد منها، لا بد أن تكون هذه التربية قائمة على منهاج الكتاب والسنة، تربيتنا على العقيدة الصحيحة، تربيتنا على العبادة والإخلاص، تربيتنا على العلم الشرعي، تربيتنا على الأخلاق الإسلامية، تربيتنا على المجاهدة والمصابرة، والدعوة إلى الله ، والصبر على الأذى في سبيل الله.
ومن هذا المنطلق نتحدث الليلة عن جانب من الجوانب المهمة في التربية؛ التربية على الأخلاق، الأخلاق الإسلامية، أخلاق الكتاب، الأخلاق المذكورة في الكتاب والسنة، أخلاق الرسول ﷺ، أخلاق الأنبياء والسلف الصالح، أخلاق الصحابة والعلماء والصالحين والمجاهدين .
سوء الخلق يدمر العلاقات الاجتماعية والزوجية
إن في واقعنا أزمة أخلاق، نعم، وإن كثيراً من المشكلات الموجودة في المجتمع نتيجة سوء الخلق، نعم، هذه ظاهرة واضحة، فأنت ترى أيها الأخ المسلم، سوء الخلق يدمِّر العلاقات الزوجية، ومنهم من لا تذكره زوجته بخير أبداً، وهو أو غيره لا يشعر بمودة زوجته له على الإطلاق، منهم من تذكره زوجته بعد وفائه بالخير العميم، وتشعر نحوه بشعور مكين من الروابط التي قامت بينه وبينها بهذه الأخلاق الإسلامية، وإنني أوقن أن ما جاء امرأة مصعب بن عمير لما تبلغت بوفاة زوجها فلم تتمكن من أن تملك نفسها، لقد صبرت على خبر موت الأب والأخ، ولكن موت الزوج كان وقعه عليها عظيماً، ذلك أن مصعب الداعية المجاهد قد ضرب مثلاً عظيماً في تضحيته وجهاده، في الدعوة إلى الله، وضرب مثلاً عظيماً في خُلقه مع زوجته في بيته.
وأكثر المشكلات الزوجية اليوم عائدة إلى سوء الخلق، وأكثر حالات السعادة الزوجية منبعها: حسن العشرة، والأخلاق الحسنة.
سوء الخلق مصيبة كبيرة، حتى بين المصلين في المساجد، فإنك ترى في بعض التعاملات وبعض الحركات ما ينبئك أن هذه الجموع من المصلين تحتاج إلى تربية عميقة على هذه الأخلاق الفاضلة، لكي يعرف الناس التعامل مع بعضهم حتى داخل أروقة المساجد، بين الطلاب والمدرسين نماذج من سوء الأخلاق، فمن جهة بعض المدرسين تعد وظلم، ومن جهة بعض الطلاب استفزاز وتحدٍ، وقلة أدب وتواقح، وبين الموظف والمراجع كثير من سوء الخلق، فتجد هذا يضغط عليه، أو يعطيه من الكلام السيئ ما يثير حفيظته، وتجد ذاك يسيء في الخدمة و التعامل، ويرمي المعاملات والأوراق، ويؤخّر ويسوّف، ويظلم، ويعذّب هذا المراجع، وهكذا، وكثيراً ما تسمع في بعض الدوائر والأماكن من أنواع السباب والمشاتمات بين الموظفين والمراجعين ما ينبئك على أن هناك أزمة أخلاق في المجتمع، بين الجار وجاره، كثير من الحالات التي فيها سوء خلق، من أنواع الأذية من الأصوات العالية، أو رمي القاذورات، ونحو ذلك من الإساءات المتعمدة التي تكون بين شخصيات مختلفة من الجيران، رجالاً، ونساء، بين سائقي السيارات في الشوارع تلمح هذا النمط من الأخلاق المتدنية، التي تعبّر عن ظلمٍ وتعدٍ وتحدٍ، وكل منهم يريد أن يكسر أنف الآخر بطريقة سياقته لسيارته، وهكذا سوء الخلق، حتى بين بعض الطلبة المنتسبين للعلم، سوء أدب، شيء من سوء الأدب مع العلماء في طريقة الخطاب والسؤال والمناقشة، وهكذا، أو التهجُّم والاتهام، ونحو ذلك، وكثير ممن انفض عنهم طلبتهم أوتوا من هذا الباب سوء الخلق.
مخططات أعداء الإسلام للقضاء الأخلاق والفضيلة
وإن مخططات أعداء الإسلام تركز على سوء الخلق وإفساد الأخلاق تركيزاً كبيراً، سواء كان هؤلاء من اليهود، أو الماسونيين، أو المبشّرين بدين النصرانية وغيرها، هؤلاء مخططاتهم قائمة على نزع الأخلاق كما قال رئيسهم في مؤتمرهم: إن مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، وبالتالي فلا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية.
ونحن مسلمون، لنا منهاج ولنا كتاب ولنا مراجع، لنا أمور نحتكم إليها ونرجع إليها، الكتاب والسنة.
حثُّ القرآن الكريم على التزام الأخلاق الحسنة
وإذا تأملت يا أخي المسلم كتاب الله لوجدته يذكر هذا الجانب بجلاء، الحث على الخلق الحسن ويعدد أنماط الأخلاق الحسنة، التي ينبغي على المسلم أن يتخلّق بها، فأنت تجد في كتاب الله مثلاً: وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [سورة لقمان:18، 19]، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [سورة الضحى:9، 10] وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [سورة الإسراء:26، 27]، وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [سورة الإسراء:29].
ويقول أيضاً في خُلقٍ آخر ذميم: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [سورة الإسراء:37]، ومدح الله قوماً فقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [سورة الفرقان:63]، هذا من حسن أخلاقهم، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [سورة المؤمنون:1- 3]، وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة آل عمران: 134]، لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ [سورة النساء:148]، وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [سورة النور:22]، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [سورة الشورى:40].
جمع الله مكارم الأخلاق في آية واحدة موجهة لرسوله ﷺ، خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [سورة الأعراف:199].، قال مجاهد: "يأخذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تحسس"[1]، مثل قبول الأعذار، والعفو، والمساهلة، وترك الاستقصاء في البحث، والتفتيش عن حقائق بواطنهم، والعُرف هو المعروف، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [سورة الأعراف:199] مثل قول الله: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [سورة الفرقان:63]. وأما رسولنا ﷺ فقد دعا إلى مكارم الأخلاق بقوله وفعله، وكان قدوة حتى إن الله مدحه في كتابه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [سورة القلم:4]، فأكدّ أن محمد ﷺ قد تخلّق بالأخلاق الحسنة بهذه المؤكدات في الآية، وَإِنَّكَ: أكدها بـ: "إن"، لَعَلَى: وأكدها باللام، خُلُقٍ: هذه النكرة تفيد التفخيم، تفخيم شأنه وحاله وخُلُقه ﷺ، ثم وصف هذا الخلق بأنه عظيم، أمر رابع.
وفي الصحيحين عن هشام بن حكيم أنه سأل عائشة -رضي الله عنها- عن خلق رسول الله ﷺ فقالت: "كان خلقه القرآن"، فقال: لقد هممتُ أن أقوم ولا أسأل شيئاً؛ لأن الجواب كان معبراً ودقيقاً، يعني أن تصرفاته ﷺ كانت ترجمة حيّة لأوامر الله ونواهيه المذكورة في القرآن.
وعن سبب بعثته يقول ﷺ: إنما بُعثتُ لأتمم صالح الأخلاق[2]. هذه هي الشخصية العظيمة المتصفة بالخلق العظيم وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [سورة القلم:4].
قالت عائشة -رضي الله عنها-: "لم يكن رسول الله ﷺ فاحشاً ولا متفحّشاً، ولا صخّاباً في الأسواق" لم يكن يرفع صوته في مجامع الناس، ولا يجزي بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، وقالت: "ما ضرب رسول الله ﷺ بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا ضرب خادماً ولا امرأة"[3].
وجاء أيضاً في الحديث الصحيح: "ما سُئِل رسول الله ﷺ شيئاً قط فقال: لا"[4].
يعني: ما سُئل شيئاً من متاع الدنيا المباح، إذا كان ميسوراً أعطى، وإذا كان معسوراً ليس عنده وعد بالخير في المستقبل، وعن أنس بن مالك قال: "خدمتُ رسول الله ﷺ عشر سنين، فما قال لي أُف قط، وما قال لي لشيء صنعته لم صنعته؟ ولا لشيء تركته لم تركته؟ وكان رسول الله ﷺ من أحسن الناس خُلقاً، ولا مسستُ خزّاً ولا حريراً، ولا شيئاً كان ألين من كفّ رسول الله ﷺ، ولا شممتُ مسكاً قط، ولا عطراً كان أطيب من عرق النبي ﷺ"، حديث صحيح[5].
وعن عمرو بن العاص قال: كان رسول الله ﷺ يقبل بوجهه وحديثه على أشر القوم يتألفهم بذلك، فكان يقبل بوجهه وحديثه عليّ حتى ظننت أني خير القوم، فقلت: يا رسول الله أنا خير أو أبو بكر؟ قال: أبو بكر فقلت: يا رسول الله، أنا خير أو عمر؟ فقال: عمر فقلتُ: يا رسول الله، أنا خير أو عثمان؟
قال: عثمان فلما سألتُ رسول الله ﷺ فصدَقني، فلوددتُ أني لم أكن سألته" حديث صحيح.[6].
وعن جرير بن عبد الله البجلي ، قال: "ما حجبني رسول الله ﷺ منذ أسلمتُ، ولا رآني إلا تبسّم، وعن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله، إنك تداعبنا، قال: نعم، غير أني لا أقول إلا حقاً[7].
هذا نبيكم محمد ﷺ في أخلاقه وألفاظه وتعاملاته.
تواضع النبي ﷺ
أما في تواضعه فكان عجباً من العجب، عن أنس بن مالك قال: إن امرأة من الأنصار ومعها صبي جاءت إلى النبي ﷺ فقالت له: إن لي إليك حاجة، فقال: اجلسي في أي طريق المدينة شئت أجلس إليك[8].
وفي رواية لمسلم: فخلا معها في بعض الطريق حتى فرغت من حاجتها[9].
وليس المقصود أنه اختلى بها الخلوة المحرمة، وإنما في الطريق، ابتعد شيئاً ما عن الناس حتى لا يسمعوا كلامها؛ لأنها تريد أن تقول له شيئاً خاصاً.
وعن أنس : "كان النبي ﷺ يُدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة فيجيب"[10].
والإهالة السنخة هو الدهن المتغير الرائحة من طول المكث، ليس خبيثاً ولا متعفناً، لكن حصل له تغير في رائحته من طول مكثه، ما كان يستحقر هذه الأشياء، ولو كانت بسيطة كان يلبِّي الدعوة، لو دُعيتُ إلى كراع لأجبتُ[11].
جاء أعرابي يوماً يطلب من النبي ﷺ شيئاً فأعطاه ﷺ ثم قال له: أحسنتُ إليك؟قال الأعرابي: ولا أجملت، لا أحسنتَ ولا أجملت!، فغضب المسلمون وقاموا إليه , فأشار إليهم: أن كفوا، ﷺ، انظروا إلى التعامل والدعوة والأسلوب، ثم قام ﷺ ودخل منزله، فأرسل إلى الأعرابي وزاده شيئاً، فقال له: أحسنتُ إليك؟ قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فقال النبي ﷺ: إنك قلت ما قلت آنفاً، وفي نفس أصحابي من ذلك شيء، فإن أحببتَ فقل بين أيديهم حتى يذهب ما في صدورهم عليك قال: نعم، فلما كان الغد جاء فقال له النبي ﷺ: إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه، فزعم أنه رضي، أكذلك؟ يقول للأعرابي أكذلك؟ أمام الناس، قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فقال رسول الله ﷺ: مثلي ومثل هذا كمثل رجل له ناقة شردت عليه، فأتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً، فناداهم صاحبها، فقال لهم لاحظ التطابق بين المثل وهذه القصة والأعرابي، فأتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً، فناداهم صاحبها، فقال لهم: خلّوا بيني وبين ناقتي، فأنا أرفق بها منكم وأعلم، فتوجه لها بين يديها فأخذ من قمام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت، وشدّ عليها رحلها واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار[12].
القرآن الكريم والسنة النبوية دستور الأخلاق الحسنة
وهذا القرآن العظيم فيه دستور للأخلاق، وهذه سنة رسول الله ﷺ فيها ذكر كثير للأخلاق الحسنة، والتحذير من الأخلاق السيئة، وعلماؤنا قد اهتموا بهذا الموضوع اهتماماً كبيراً، ولذلك تجدهم قد أفردوا الأخلاق بمؤلفات مثل كتاب: مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا، ومساوئ الأخلاق للخرائطي، ولا تكاد تجد مصنفاً في الحديث إلا وتجد فيه من أبواب الأدب، الأخلاق والبر والصلة، وأفرد البيهقي -رحمه الله- الآداب بكتاب مستقل وغيره، وألّف ابن عبد القوي "منظومة الآداب"، وشرحها السفّاريني في كتابه العظيم: "غذاء الألباب شرح منظومة الآداب"، وتجد كتباً مستقلة في بيان شمائله ﷺ ، ككتاب الشمائل المحمدية للترمذي، والشمائل المحمدية لابن كثير، وكتاب أخلاق النبي ﷺ لأبي الشيخ، وصنّف ابن القيم -رحمه الله- خصص جزءاً من كتابه زاد المعاد لبيان أخلاقه ﷺ، وتجد الأحاديث فيها ذكر حسن الخلق والحض عليه والحث، قال ﷺ: البرُ حُسْنُ الخُلُق ما هو البر؟ جماع تعريف البر؟
البر: حُسنُ الخُلُق، وقال: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلقٍ حسن[13]. وقال: أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا، صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وحسن الخلق، وعفّة مطعم[14].
وقال: إن الناس لم يُعطَوا شيئاً خيراً من خلقٍ حسن[15].
وقال: عليك بحسن الخُلُق، وطول الصمت، فو الذي نفسي بيده ما تجمّل الخلائق بمثلهما[16].
وقال: ما عمل ابن آدم شيئاً أفضل من الصلاة، وصلاح ذات البين، وخُلُق حسن[17].
وقال ﷺ: أكملُ المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، الموطَئون أكنافاً الكنف هو: الجانب، والمقصود أن من يصاحبهم لا يناله منهم أذى، الموطّئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون[18]، يحبون ويأنسون. ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف[19].
وقال: إن أقربكم مني منزلاً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً[20]. إن أحبكم إلي وأقربكم مني في الآخرة مجالس أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة أسوأكم أخلاقاً، الثرثارون المتفيهقون[21]. يعني المتكبرون المتشدقون، الذي يكثر الكلام من غير احتراز، وقال: أكملُ المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم[22]. وقال: خيركم إسلاماً أحاسنكم أخلاقاً إذا فَقِهوا[23]. وقال: خير الناس ذو القلب المخموم، واللسان الصادق قيل: ما القلب المخموم؟ قال: هو التقيُ النقيُ الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد قيل: فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة
قيل: فمن على أثره؟ قال: مؤمن في خلق حسن[24].
والله يحب مكارم الأخلاق ويكره الأخلاق السيئة، قال ﷺ: إن الله تعالى جميل يحب الجمال، ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها[25]، وقال: إن الله كريم يحب الكرم، ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها[26].
وجاءت أحاديثه ﷺ بجملة من الأخلاق الحسنة، انظر إليه ﷺ واستمع لقوله وهو يقول: صِل من قطعك، وأحسِن إلى من أساء إليك[27].
يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا،[28] وإذا غضب أحدكم فليسكت[29]. وقال: من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاءحديث صحيح[30].
وقال: من كان سهلاً ليناً حرّمه الله على النار[31].
وقال: المؤمنون هينون لينون كالجمل الأنف الذلول الذي يقاد بسهولة، إن قيد انقاد، وإذا أنيخ على صخرة استناخ[32].
وقال: من كفّ غضبه ستر الله عورته[33].
حب الله ورسوله لخُلُقي الحلم والأناة
وقال الرسول ﷺ مبيناً ومؤكداً على أخلاق معينة يركز عليها في حديثه: إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة[34]، وقال: التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة[35].
وقال: التؤدة والاقتصاد والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزء من النبوة[36].
وقال: التأنّي من الله والعجلة من الشيطان[37]، هذا في خلق التأني يركز عليه، في أحاديث أخرى يركز على الحياء، فيقول: إن لكل دين خُلُقاً وخُلُق الإسلام الحياء[38]استحيوا من الله حق الحياء[39].
يقول لواحد من الصحابة: أوصيك أن تستحي من الله تعالى كما تستحي من الرجل الصالح من قومك[40].
وقال: الحياء خير كله[41]، الحياء من الإيمان[42].
وقال: الحياء لا يأتي إلا بخير[43].
ويركز على خلق ثالث وهو: "الرفق" فيقول: إن الله تعالى رفيق يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف[44]. وقال: عليك بالرفق، إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه[45].
وقال: عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش[46].
وقال: ما أعطي أهل بيت الرفق إلا نفعهم[47]. وقال: من يُحرم الرفق يحرم الخير كله[48].
تحذير السنة النبوية من الأخلاق المذمومة
وهناك أخلاق مذمومة نهى عنها وحذّر منها، جاء في الحديث الصحيح: كان أبغض الخلق إليه الكذب رواه البيهقي وغيره عن عائشة -رضي الله عنها.
وقال ﷺ في ذمّ خُلُق آخر: يا عائشة، إن شرار الناس الذين يُكرمون اتقاء شرهم[49]، ليس الدافع على إكرامهم إلا أن الواحد يريد أن يتقي شرهم.
وهذا الخلق له أهمية في الأخلاق الاجتماعية، وفي العلاقات الزوجية، وفي تعاملات الناس، وفي كل شيء، حتى إنه ﷺ قال: ثلاثة يدعون الله فلا يُستجاب لهم، رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلّقها[50].
قيل: هؤلاء الثلاثة لا يُستجاب دعاؤهم في خصومهم، وليس المعنى لا يستجاب دعاؤهم على الإطلاق، وهذا الحديث لا يعني أيضاً أنه إذا كانت المفاسد في الطلاق أكثر أنه يطلق، ولكن المرأة إذا ساء خلقها جداً فإن المصلحة في تطليقها؛ لأنها نكد.
ولذلك إبراهيم الخليل لما جاء إلى بيت ابنه ولم يكن إسماعيل موجوداً، طرق الباب فخرجت زوجته فسألها عن إسماعيل فقالت: خرج، فقال: كيف عيشكم؟ قالت: نحن بشرٍّ وضيقٍ وذمّت في عيشها، هذا لمن؟ لرجل غريب لا تدري من هو؟ ذمّت زوجها وحياتها معه، فعلم أنها امرأة سوء، فقال لها أن تقول لزوجها إذا رجع: أن يغير عتبة بابه فعلم إسماعيل أن أباه يوصيه بتغيير هذه الزوجة[51].
في المقابل الزوج، من الصفات التي تُشترط للموافقة عليه: أن يكون حَسَنُ الخُلُق، ولذلك يقول في الحديث الصحيح: من أتاكم ترضون خُلُقه ودينه فزوجوه[52]، خُلُقهُ ودينه فخصّ الخُلُق حتى لا يتعب زوجته بعدما يتزوجها.
أما الأخلاق فهي سجايا في النفس وطبائع في النفس، عرّف العلماء حُسْن الخُلُق فقالوا: "بذل الندى، وكف الأذى، واحتمال الأذية"، وقالوا: "بذل الجميل، وكفُّ القبيح، وقالوا: "التخلّي عن الرذائل والتحلّي بالفضائل".
أركان الأخلاق الحسنة والأخلاق السيئة
واعلموا أن حسن الخلق يقوم على أربعة أركان، يعني منشأ الأخلاق الحسنة الفاضلة في هذه الأمور الأربعة، ما هي؟
قال ابن القيم: "أولا: الصبر، ثانياً: العفة، ثالثاً: الشجاعة، ورابعاً: العدل".
"فأما الصبر فهو حبس النفس، يحبس النفس عن الأخلاق السيئة، ويصابر صاحبه على الأخلاق الحسنة، والعفّة تحمل على اجتناب الرذائل والقبائح من الأقوال والأفعال، وتمنع من الفحشاء، وأما الشجاعة فتحمل على عزة النفس، وإيثار معالي الأخلاق والشِّيم، والبذل، وكظم الغيظ، ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب[53].
وأما العدل فهو يُحمل على اعتدال الأخلاق، والتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط"[54].
"وأما الأخلاق السافلة فمجتمعة في أربعة أركان: الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب.
فأما الجهل فيري صاحبه الحسن قبيحاً، والقبيح حسناً؛ لجهله، والظلم يحمل صاحبه على وضع الشيء في غير موضعه، فيغضب في موضع الرضا، ويرضى في موضع الغضب، ويجهل في موضع الأناة، ويبخل في موضع البذل، ويحجم في موضع الإقدام، ويقدم في موضع الإحجام، ويلين في موضع الشدة، ويشتد في موضع اللين، ويتواضع في موضع العزة، ويتكبر في موضع التواضع، وهكذا.
"وأما الشهوة فإنها تحمل على الشُّح والبخل والجشع والنهم والدناءات كلها، وأما الغضب فيحمل على الحسد، والحقد، والعدوان، وحب الاعتداء على الآخرين، والكبر، وكل صنفين من هذه الأخلاق الرديئة يتكون منه أخلاق إضافية سيئة، وجماع الأخلاق السيئة على أمرين: إفراط النفس في الضعف، وإفراطها في القوة، فيتولد من إفراطها في الضعف: المهانة والخسة واللؤم والذل، ويتولّد من إفراطها في القوة: الظلم، والعنف، والحدّة، والطيش، ويتولّد من تزوج أحد الخلقين بالآخر أولاد غية كثيرون، فإن النفس قد تجمع قوة وضعفاً، فيكون صاحبها أجبر الناس إذا قدِر، وأذلهم إذا قُهر، جبان عن القوي، جريء على الضعيف، فالأخلاق الذميمة يولّد بعضها بعضاً كما أن الأخلاق الحميدة يولّد بعضها بعضاً، ولذلك كل واحد يكتسب خُلُق طيب فليتوقع أنه سينتقل إلى خلق آخر.[55].
وينبغي أن نتنبه -أيها الإخوة- أن الأخلاق مسألة دقيقة، وأحياناً يكون بين الخلق الذميم والمحمود شعرة واحدة، فالخلق المحمود بين طرفين ذميمين، كل خلق محمود في الغالب بين طرفين ذميمين، فالجود، الكرم، بين طرفين ذميمين ما هما؟ الجود بين البخل والتبذير، لاحظ الجود، الكرم، خلق محمود بين خلقين مذمومين وهما البخل والتبذير، فإذا أمسك بخيل وإذا صرف هكذا ضيع الأموال مبذر، والوسط كريم.
والتواضع وسط بين الذل والكبر، فالإنسان إذا تواضع لدرجة أنه صار يصبر على الضيم، أو يرضى بالأشياء السيئة، ولا يعترض على أي شيء، فإنه عند ذلك لا يكون متواضعاً أبداً، وإذا زاد وتجبر وتكبر نافى التواضع، فالتواضع بين الذل والمهانة من جهة، وبين الكبر والعلو من جهة، فهو وسط بينهما.
والحياء وسط بين الوقاحة في الجرأة من جهة، وبين العجز والخور، فبعض الناس يكون جريئاً وقحاً، ما عنده حياء، وبعض الناس يظن أن عنده حياء ويستكين لكل شيء فيكون عاجزاً خواراً، يظن أن هذا حياء وهو العجز والخور، وإذا تجرأ وزاد عن الحد دخل في الوقاحة، والحياء رتبة بينهما.
والأناة خلقٌ محمود بين طرفين ذميمين، الأناة، هما: الاستعجال، والطرف الثاني: التفريط والإضاعة.
بعض الناس أحياناً يظن نفسه متأنٍ لكن في الحقيقة أنه فرط وأضاع وانتظر حتى راحت عليه الفرصة، وبعض الناس متعجل جداً ومتسرّع، والأناة وسط بينهما، فهو لا متسرّع، ولا أنه ينتظر الفرص حتى تفوت عليه، فهو يتمهل ويتروى، ولكن يقتنص الأشياء المحمودة فلا تفوت عليه.
والشجاعة خُلُق محمود بين طرفين مذمومين، هما: الجبن والتهور، فهناك أناس متهورين متسرعين إقدامهم غير محمود، وهناك أناس جبناء، والشجاعة بينهما، والسعيد من عرف كيف يسير.
والقناعة خلق بين الشح والحرص من جهة، وبين الخسة والإضاعة من جهة، بعض الناس يعني يضيق على نفسه وعلى أهله يظن أنه قنوع، بينما هو يعيش في خسة ويضيع أهله ومن يقوت، وبعض الناس يكون عنده حرص وشح، والقناعة وسط بينهما.
والرحمة وسط بين القسوة والضعف، وبعض الناس يكون قاسي القلب، لا يرحم الله من لا يرحم الناس، وبعضهم يكون ضعيفاً ذليلاً، ومن ضعفه يعني يظن أنها رحمة وليست برحمة، أنه لا يذبح شاة، ولا يؤدب ولداً، ولا يقيم حداً، وهذا رسول الله ﷺ أرحم الناس ذبح بيده الشريفة ثلاث وستين ناقة، وأقام حد قطع اليد على رجال ونساء سرقوا، ورجم بالحجارة من زنى وهو محصن، ومع ذلك رحيم.
وطلاقة الوجه والبشر بين التعبيس والتقطيب من جهة وتصعير الخد، وبين إذهاب الهيبة وزوال الوقار.
فأنت إذا كان قطبت وعبست في وجه كل أحد هذا خلق مذموم، وإذا جلست كلما شفت واحداً في الشارع تضحك له هكذا في كل مكان وكل مجال، فماذا يعني ذلك؟ إذهاب هيبتك، وزوال وقارك.
ولذلك -أيها الإخوة- يحتاج الإنسان إلى عقل حتى يتخلّق بالأخلاق الحسنة، وأحياناً يزيد الناس في شيء فيصلون إلى المذموم من جهة، أو ينقصون منه فيصلون إلى المذموم من الجهة الأخرى، وهذه قضايا تلاحظ بالتأمل والتفكير.
الأخلاق الحسنة بين الاكتساب والجبلّة
ونأتي الآن إلى الجزء المهم من الموضوع، أو الجزء الأهم من الناحية العملية، وإلا فإن ما فات هو تقدمة مهمة لهذا الأمر، ما هو؟ كيف نغير أخلاقنا السيئة، ونستبدلها بأخلاق حسنة؟ كيف نتخلق بالأخلاق الحسنة؟ للإجابة على هذا السؤال نبدأ بمقدمة هل الأخلاق مسألة موروثة أو مكتسبة؟ هل الأخلاق تأتي بالوراثة، أم يمكن اكتسابها؟
الحقيقة أن الأخلاق موروثة ومكتسبة، هناك أخلاق موروثة يجبل عليها الإنسان، يجبل قد يجبل على خصال حميدة أو يجبل على خصال غير حميدة، وقد يكون الإنسان أباه حليماً فيخرج الولد حليماً، قد يكون الإنسان أباه كريماً فيخرج الولد كريماً، قد يكون الأب بخيلاً فيخرج الولد بخيلاً، يطبع على خصلة موروثة فيه، في جبلته، ونلاحظ على الأطفال أشياء من هذا، تجد ولداً كلما جاء طفل يطلب منه لعبة أعطاه إياها، يعني يعطي ألعابه للأطفال، وطفل كلما جاء مثيل له يأخذ لعبة ضربه وأخذها منه ومنعه من أخذها، هذه الأشياء من الطفل هذا كيف جاءته؟ قضية موروثة، ممكن تكون موروثة، ولكن هذه الأشياء الموروثة، هل هي قابلة للتغير، أم أنها طابع قد ختم به على صاحبها فلا يمكن تغييرها أبداً؟
الجواب: أن هناك مجال للتغيير في الأخلاق الموروثة، هناك مجال للتغيير، ولذلك أمرنا بالمجاهدة، الأخلاق المكتسبة أمرها سهل أسهل من الأخلاق الموروثة في كثير من الأحيان؛ لأنك أنت الآن تتعلم وتتعود وتكتسب، الأخلاق الموروثة الطبائع هذه التي تغييرها أصعب، تغييرها أصعب، والإنسان يصعب عليه أن يغالب طبيعته، ولكننا لا نستسلم لهذه الصعوبة، ولأن هذه قضية قد تكون موروثة إذن نحن لا نغير، كلا، فلا بد أن نغير، والله لم يكلفنا بمستحيل، وأمرنا بالمجاهدة، ولا يكلف بالمستحيل، فإذن التغيير ممكن.
الأخلاق منها ما هو جبلّي موروث، ومنها ما هو كسبي يمكن أخذه، فمثال على الأدلة على أن الأخلاق منها جبلّي ما ورد في الحديث الصحيح: إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة[56].
هذين الخلقين جُبِل عليهما هذا الرجل، هذا رجل جاهلي أصلاً، جبل على هذين الخلقين: الحلم والأناة، وأما الدليل على أن الأخلاق ممكن تكون مكتسبة، فهو حديثه ﷺ: إنما العلم بالتعلُّم والحلم بالتحلُّم[57].
وفي حديث آخر: ومن يتصبّر يصبّره الله[58]، فدلّ ذلك على أن الصبر والحلم خُلُقان يمكن اكتسابهما إذا تعوّد الإنسان عليهما، ومعنى الحلم بالتحلم: أن تعوّد نفسك على الحِلم، وتراغم نفسك على الحِلم، وتحملها على هذا الخلق، بعد فترة يصبح هذا الأمر فيك مَلَكة وسجيّة، فتكتسب هذا الخُلُق.، وأيضاً في دعاء الاستفتاح يقول ﷺ: اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت[59].
معنى ذلك: أن الأخلاق المحمودة قد تأتي، ربما يسأل الله فتأتيه، وأخلاق مذمومة يسأل الله أن يصرفها عنه فتصرف.
فإذن، هذه الأخلاق المكتسبة تُنال بالتخلُّق والتكلُّف حتى تصير سجية وملَكة.
ما هي وسائل تغيير الأخلاق السيئة، واكتساب الأخلاق الحسنة؟
إليكم -أيها الإخوة- خمسة عشر وسيلة من وسائل اكتساب الأخلاق الحسنة، والتخلص من الأخلاق الذميمة، وهذا مبحث مهم، وهذا هو لب الموضوع، وهذا هو الأمر الذي لا بد من السعي في فهمه وتطبيقه.
العلم والتأمل بأدلة الوحيين في حسن الخلق وسوئه
أولاً: العلم والتأمل بما دل عليه القرآن والسنة من الأخلاق الحسنة، وما حذر من الأخلاق السيئة، فأول شيء المسألة العلمية أن تعلم ما هي الأخلاق الحسنة وما هي الأخلاق السيئة؟ وقد ذكرنا طرفاً من هذا في أول الدرس، ذكرنا أمثلة من الأخلاق الحسنة التي أمر بها القرآن والسنة، وأمثلة من الأخلاق السيئة التي نهى عنها الله في كتابه، ونهى عنها رسول الله ﷺ، لكن لو تدبر الإنسان، فكِّر معي -مثلاً- في هذه الآيات: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [سورة المعارج:19]، وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [سورة الكهف:54]، وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا [سورة الإسراء:11]، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [سورة العلق:6، 7]، إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [سورة العاديات:6]، يعني جحود وكفور. فيظهر لك هنا أن الله ذكر أخلاقاً مذمومة في الإنسان، منها: العجلة، منها الجدال، منها الطغيان، منها الجحد، ومنها الهلع، وفسّره بقوله: إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [سورة المعارج:20، 21].
إذن، نحن إذا تأملنا في الأخلاق السيئة، وتعلمنا الأخلاق السيئة اجتنبناها، وإذا تعلمنا الأخلاق الحسنة شرعنا في اكتسابها.
المجاهدة
ثانياً: المجاهدة من أعظم وسائل تغيير الأخلاق السيئة إن لم تكن هي أهمها على الإطلاق، كيف يكتشف الإنسان أن عنده خلق سيئ؟ إذا حصلت حادثة وصار شيء أثاره فقال كلمة سيئة، أو أتى بتصرف غلط، يعرف أن عنده خلق غضبي سيئ، أو فُحْش في الكلام، فماذا يفعل في المواقف التي يُستثار فيها؟ ينبغي أن يكبت نفسه، ويمسك نفسه، ويصبر عن أن يتكلم بكلمة فحش، أو يأتي بتصرف غير لائق بالمسلم، إذا دُعي إلى الإنفاق، النفس تقول له: أحجم، دعها لأولادك، الظروف لا تسمح الآن بالإنفاق، الآن لا بد أن ّنوفر، المجاهدة أن يحمل نفسه على الإنفاق، ويرغمها على الإنفاق، ويدفع ويعطي بسخاء، فيزول هذا الشح من نفسه ويحل محله الكرم والسخاء والجود، إذا هو أدمن هذه العادة؛ وهي الإنفاق في سبيل الله، ومقاومة النفس، فالمجاهدة ومقاومة النفس هي الأساس، والله وعد خيراً فقال: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [سورة العنكبوت:69]، وكثير من الشباب والناس عموماً يحاولون ويجاهدون أنفسهم، فواحد يقول لك: أنا إنسان حمقي، سريع الانفعال، شديد الغضب، وأحاول في نفسي وأجاهد نفسي أجاهد نفسي، لكنني أفشل أحياناً، فهذا الفشل شيء مفهوم؛ لأن هذه الجبلة التي عندك في هذا الخلق لا يمكن أن تغيرها بين عشية وضحاها، فستنجح أحياناً، وستفشل أحياناً، هذا أمر مفهوم واضح، ولذلك فإن اليأس من الفشل في بعض الأحيان لعملية المجاهدة شيء مذموم يحتاج إلى تغيير، ولا بد أن يكون الأمل في نفوسنا، ونحن نحاول أن نغير أخلاقنا.
الأخذ بالأسباب الشرعية لكسب الخلق الحسن وإزالة الخلق السيء
ثالثاً: الأخذ بالأسباب الشرعية لإزالة الأخلاق السيئة، وللحمل على الأخلاق الحسنة، مثال الرسول ﷺ أمرنا بأشياء عند الغضب، الغضب شيء مذموم، طيب ماذا تفعل؟ فيه إرشادات شرعية، فيه أوامر شرعية، أسباب شرعية:
أولاً: أن يسكت، قال: ومن غضب فليسكت[60].
إذن، إذا غضبتَ إجراء تتخذه وتسكت.
ثانياً: يتعوذ بالله من الشيطان، كما ورد في حديث المستبين.
كذلك ثالثاً: قال: ومن كان قائماً فليقعد[61].
ورابعاً: قال: أمرنا أن نتوضأ، فصار عندك أربع إجراءات شرعية عند الغضب، أولاً: السكوت، ثانياً: الاستعاذة بالله من الشيطان، ثالثاً: تغيير الحالة، فإن كنت قائماً فلتقعد، وإذا كنت قاعداً، هل تقوم؟ لا؛ لأن القيام يشجِّع على الاعتداء وعلى البطش، وإنما تغير من الحالة إلى الحالة التي هي أدنى منها، التي أدنى منها، نعم.
ورابعاً: يتوضأ؛ لأن الغضب من حرارة شيطانية فيكسره بالوضوء.
إذا غضبتَ اعمل الأشياء الأربعة، وشرطٌ وعهدٌ أنك تخلص من الغضب في ذلك الموقف أبداً.
ولذلك من رحمة الله أن الشريعة جاءت رحمة للعباد، ومصلحتنا، والله مصلحتنا في اتباع الشريعة، فإذا غضبتَ اسكت، انزل، اقعد، اهدأ، توضأ، واستعذ من الشيطان، هذه إجراءات نبوية، إرشادات ينبغي الأخذ بها.
التدرُّج في اكتساب الأخلاق الحسنة وترك الأخلاق السيئة
رابعاً: من وسائل تغيير الأخلاق واستبدالها بأخلاق حسنة التدرج، الناس يختلفون في مدى استعدادهم للتغيير، الناس عندهم استعداد للتغيير، أي واحد هات أي واحد أسوأ واحد ممكن يتغير، لكن أين لبُّ الموضوع؟ نسبة التغير، فلان ممكن يتغير بسرعة، وفلان يمكن يتغير ببطء، وهذا أمر ملاحظ في التربية، في ناس يرتقون بسرعة وفي ناس يرتقون ببطء شديد، والإنسان حتى لا يصاب باليأس لا يقال له: شوف أنت اليوم عندك هذه الصفة أنت جبان، غداً نريدك شجاعاً، غداً نريدك شجاعاً، وإلا فأنت فاشل في تربية نفسك، غلط، هذه سجايا، إذا أنت تريد أن تغير بين عشية وضحاها فأنت تصادم طبيعة النفس، أنت تصادم قضاء الله في الناس، والله من حكمته في خلقه أنه جعل تغيرهم في هذه قضية الأخلاق ليس سريعاً، فإذا أردت التغيير أن يتم بين عشية وضحاها فأنت تصادم هذه الأمور الطبيعية وستفشل، لكن هذا لا يعني أنه إذا كان عندك استعداد للتغير السريع ألا تتغير تغير بسرعة، لكن التدرج في هذه الأمور يختلف الناس فيه سرعة وبطئاً، قال الشاعر:
ومكلِّف الأشياء فوق طباعها | متطلب في الماء جذوة نار[62] |
هل تجد في الماء شعلة نار؟ ما تجد، فعكس طبائع الأشياء، لا يمكن.
ولذلك نقول: هذه الفقرة ترك المثاليات؛ لأن بعض الناس الذين يريدون تغيير الأخلاق السيئة قد يكون عنده مثالية في النظرة فيفشلون، ولذلك نحن صح نطمح للشيء المثالي، لكن لو ما وصلنا إليه بسرعة لا نيأس.
عدم إشغال النفس بتتبع الأخلاق السيئة
خامساً: عدم إشغال النفس بتتبع الأخلاق السيئة فقط، يعني بعض الناس يقول: أنا الآن سأفتش عيوبي، ماذا عندي؟ بخل، وغضب، فحش في القول، جبن، استعجال وتهور، إلى آخره، فهو الآن يريد أن يجتث هذه الأشياء واحدة واحدة، فيشغل نفسه بتتبع الأخلاق السيئة فقط، دون أي شيء آخر، وينسى قضية العبادات التي تزّكي النفس، فالعبادات لها أثر؛ لذلك الله قال: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ [سورة المعارج:19- 22]، والذين يحفظون فروجهم، وأماناتهم، ولعهدهم راعون، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [سورة الذاريات:19].
فإذن، الصلاة والصدقة وحفظ الفرج والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، هذه أشياء تعين على التخلص من الأخلاق السيئة، فبعض الناس أحياناً ينشغل بالأخلاق السيئة فقط، وينسى أن يشتغل بعبادات وأشياء تعينه على التخلص من الأخلاق السيئة، ما مثال هذا؟ نوضحه بمثال ذكره ابن القيم -رحمه الله-، وذكر مناقشة لطيفة مع شيخه ابن تيمية، ذكرها في مدارج السالكين، ضمن النقاش يقول: مثال هذا الشخص الذي ينشغل بأشياء سيئة فقط، ويغفل عن الأشياء الأخرى وأن يسير إلى الله، "مثله مثل إنسان مسافر في طريق سفر في أرض فيها حيات وعقارب، فإذا قال أنا أريد أن أبحث عن كل حية وعقرب وأقتلها حتى لا تنهشني، فإذا انشغل في تتبع الحيات والعقارب فقط قد لا يصل، وقد يُغلب من حية أو عقرب تنهشه فيهلك، لكن ماذا يكون الوضع الصحيح؟ قال: "يمشي ويتحاشى الشر، فإن عرض له شيء فليقتله ويواصل المسيرة، يمشي ويتحاشى الشر، فإن عرض له شيء فليقتله، إذا تصدى لك شيء وصار أمامك ولا يمكن تمشي أقتله وأكمل المسيرة[63].
فإذن، الاشتغال بالتنبيش في العيوب والأخلاق السيئة فقط هذه قد يستهلك فيها الإنسان وقتاً طويلاً جداً، فيذهل عن الدعوة، وطلب العلم، والعبادة، والتربية الإيمانية، وأشياء أخرى تكون مساعدة جداً في التخلص من الأخلاق السيئة، ولذلك ممكن الواحد يتربى تربية إسلامية بالعبادة فيكتشف أن خُلُقاً سيئاً قد زال منه دون أن ينشغل أصلاً بتتبع أصل الخُلُق السيئ ومحوه وإزالته، لكن لو ظهر الخلق السيئ فينبغي عليك أن تجاهد نفسك في تلك اللحظة والحالة للتخلص منه، وهذه مسألة دقيقة تحتاج إلى شيء من التأمل والتفكير.
ولذلك نحن مطالبون بتزكية النفوس، ليس باجتثاث الأخلاق السيئة والبحث عنها فقط، وإنما بالعبادات والتعلُّم والأشياء الأخرى، وهذا معنى قول الله في وظيفة الرسول ﷺ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [سورة الجمعة:2].
هب أن داعي الجهاد قد قام، ورفعت راية لا إله إلا الله حقاً حقاً، وقام المسلمون يجاهدون، ثق بأن الجهاد إذا حصل سيقضي على كثير من الأخلاق السيئة في نفوسنا وإن لم نتعن نحن التنبيش عنها أصلاً والانشغال باجتثاثها من جذورها، ممكن تروح رحلة حج، وترجع تغيرت فيك أخلاق سيئة، خلق أو خلقين سيئة خفت أو زالت من رحلة حج، لأن في أشياء الواحد عندما يرى المناسك والناس والزحام فإنه يصبر على أشياء كثيرة وقد يزول منه أخلاق سيئة، فتكون رحلة الحج رحلة تربوية قد استفاد منها إزالة هذه الأخلاق السيئة من نفسه، لكن هذا لا يعني أن الإنسان مثلاً لا يبحث عن أشياء عن آفاته مطلقاً لا هذا غلط، ولكن المقصود ألا ينشغل بذلك عن بقية الوسائل التي تزكي نفسه.
المحاسبة
سادساً: المحاسبة، المحاسبة أمر مهم، والنفس اللوامة التي تلوم نفسها على ما يحصل منها من الأشياء هذا أمر مهم في التخلص من الأخلاق السيئة واكتساب الأخلاق الحسنة، ولا بد أن يحاسب الإنسان نفسه أشد من محاسبة الشريك لشريكه، كما قال بعض السلف، والمحاسبة ليست مسألة جداول وأرقام كما يفعله بعض المبتدعة في محاسبة النفس، يأخذون جداولاً وهل فعلت كذا؟ هل فعلت؟ ويعطي أرقاماً ويجمع الأرقام وإذا حصلت على كذا عدد فأنت بخير، وإذا كذا فأنت، هذه ليست طريقة السلف في المحاسبة، وليس هو التطبيق الصحيح لقول الله : وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [سورة الحشر:18]، التعود على محاسبة النفس على المواقف والأخطاء، إذا وقعت في خطأ تعزم على التصحيح في المستقبل وتستفيد من هذا الخطأ للمستقبل، ولنأخذ لكم مثالاً واقعياً أو مثالاً جيداً: ابن حزم رحمه الله له كتاب جيد، جيد كتاب مختصر، ولكن فيه فوائد كثيرة اسمه الأخلاق والسير في مداواة النفوس، ليس شيئاً كاملاً يمكن يوجد فيه ثغرات، لكنه كتاب مفيد وفيه تأملات عميقة، كتاب الأخلاق والسير.
الآن نأخذ مثالاً، كيف تكون محاسبة النفس ؟كيف تكون في إزالة خلق سيئ؟، يضرب مثلاً يقول: العجب، العجب خلق سيئ، كيف تناقش نفسك مناقشة تخلصك من العجب؟، كيف تحاسب نفسك محاسبة تخلصك من العجب؟، اسمع معي ماذا يقول؟ يقول: من امتحن بالعجب فليفكر في عيوبه، فإن أعجب بفضائله، فليفتش ما فيه من الأخلاق الدنيئة، فإن خفيت عليه عيوبه جملة ما شاف ولا عيب، حتى يظن أنه لا عيب فيه، فليعلم أن مصيبته إلى الأبد، وأنه أتم الناس نقصاً، وأعظمهم عيوباً وأضعفهم تمييزاً، لأن العاقل هو من ميز عيوب نفسه فغالبها وسعى في قمعها، والأحمق هو الذي يجهل عيوب نفسه، قال: واعلم يقيناً أنه لا يسلم إنسي من نقص حاشا الأنبياء، فمن خفيت عليه عيوب نفسه فقد سقط، ما يمكن يوجد واحد فينا الآن نحن المجتمعين هنا، ما يمكن يوجد فينا واحد لا عيب فيه، ما يمكن مستحيل، وما أدري لسماع عيوب الناس خصلة، يعني لو أنت فكرت استماع عيوب الناس ما فائدته؟ ما يمكن تجد إلا فائدة واحدة، وهي الاتعاظ بما يسمع المرء منها فيجتنبها ويسعى في إزالة ما فيه منها بحول الله تعالى وقوته، ثم يقول للمعجب: ارجع إلى نفسك، فإذا ميزت عيوبها فقد داويت عجبك، لأنك إذا تفطنت في العيوب وظهرت لك أمامك في لائحة العيوب، فكيف ستعجب بنفسك وقد ظهرت أمام عينيك لائحة عيوبك، ولا تمثل بين نفسك وبين من هو أكثر عيوباً منك، هذه مسألة مهمة، يعني لا تقل في نفسك إيه في ناس أسوأ مني وأتعس مني، وأكثر عيوباً مني، لا يقول: إذا فعلت ذلك ستستسهل الرذائل، وتكون مقلداً لأهل الشر، ثم يقول: فإن أعجبت بعقلك ففكر في كل فكرة سوء تحل بخاطرك، لو واحد أعجب بعقله، كم فكرة سيئة خطرت في باله، فكر كم مرة مثلاً تأمل كم مرة فكرت أن تفعل فاحشة، كم مرة خطر في بالك خاطر سوء؟ كثير، ففكر في كل فكرة سوء تحل بخاطرك وفي أضاليل الأمان الطائفة بك، فإنك تعلم نقص عقلك حينئذ، وإلا لو كان عقلك كاملاً، ما جاءت فيه هذه الخواطر السيئة، وإن أُعجبت بآرائك فتفكر في سقطاتك واحفظها ولا تنسها،
وهكذا كل أحد من الناس بعد النبيين صلوات الله عليهم، وإن أعجبت بعملك، إذا صار الإعجاب من جهة العمل، فتفكر في معاصيك، افرض أنك مثلاً شاهدت إنساناً ملهوفاً محتاجاً يستغيث فأعنته وقدمت له خدمة عظيمة جداً، وقام على رجليه، فقد يدخل في نفسك عجب بالعمل تقول يعني اليوم أنا اليوم لو مت أنا من أهل الجنة، لو مت أنا الآن على هذا العمل قد يأتي في بالك عجب بالعمل، فماذا تفعل؟ يقول: تفكر في معاصيك وفي تقصيرك، وفي معاشك ووجوهه، فو الله لتجدنّ من ذلك ما يغلب على خيرك، ويغطي على حسناتك، فليطل همك حينئذ، وأبدل من العجب تنقصاً لنفسك، وإن أُعجبت بعلمك، افرض أن واحداً طالب علم صار يقرأ ويحفظ ويفهم ويستنبط أشياء ويستنتج ويفهم معنى كلام العلماء وهذه يحصل، فاعلم أنه لا خصلة لك فيه، كيف تزيل العجب؟ أن تعتقد أنه موهبة من الله وهبك إياها ربك، فلا تقابلها بما يسخطه، فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها، تولد عليك نسيان ما علمت وحفظت، ولقد أخبرني عبد الملك بن طريف وهو من أهل العلم والذكاء، واعتدال الأحوال، وصحة البحث، أنه كان ذا حظ من الحفظ عظيم، لا يكاد يمر على سمعه شيء يحتاج إلى استعادته، مرة واحد ويحفظ، وأنه ركب البحر فمر به فيه هول شديد جداً أنساه أكثر ما كان يحفظ، وأخل بقوة حفظه إخلالاً شديداً"[64].
يقول ابن حزم: "وأنا أصابتني علّة فأفقت منها وقد ذهب ما كنت أحفظ إلا ما لا قدر له، فما عاودته إلا بعد أعوام"[65]، يعني ما استرجعت هذه المحفوظات بعد هذا الهم والكربة أو هذه العلة إلا بعد أعوام. والذي يعجب بعلمه أيضاً لإذهاب العُجب من نفسه من الوسائل، ثم تفكر في أن ما خفي عليك وجهلته من أنواع العلوم أكثر بكثير مما تعلم، فالذي أعجبت بنفاذك فيه أكثر مما تعلم منه، فاجعل مكان العجب استنقاصاً لنفسك واستقصاراً لها فهو أولى.
وسيلة أخرى: تفكر فيمن كان أعلم منك، تجدهم كثيراً، فلتهن نفسك عندئذ وتفكر في إخلالك بعلمك وأنك لا تعمل شيء آخر،كم علمت من العلم اللي عندك، لو صار عندك عجب، فكر كم في المائة من العلم الذي تعلمته نفذته وطبقته، فيسقط عجبك بالكلية، وإن أعجبت بشجاعتك فتفكر فيمن هو أشجع منك، ثم انظر في تلك النجدة التي منحك الله إياها فيما صرفتها؟ فإن كنت صرفتها في معصية فأنت أحمق؛ لأنك بذلت نفسك فيما ليس ثمناً لها، وإن كنت صرفتها في طاعة فقد أفسدته بالعُجب، فصرت الآن بين النارين، ثم تأمل هذه الشجاعة كيف ستزول عنك إذا بلغت من الكبر عتياً، وصرتَ من عداد العيال والصبيان في الضعف، وإن أُعجبت بجاهك ومنصبك ومكانتك؛ في الشركة والمؤسسة -مثلاً- فتأمل في مخالفيك وأندادك ونظرائك من الناس الذين لهم وجاهات، وتأمل في خستهم وما وصلتهم إليه وجاهاتهم من معصية الله .
ولذلك لما جلس ابن السماك -رحمه الله- يعظ الرشيد مرة دعا بحضرته بقدح فيه ماء ليشربه الرشيد فقال له: يا أمير المؤمنين لو منعت هذه الشربة، صرت في مكان عطشان فيه ولا ماء، بكم كنت ترضى أن تبتاعها؟ كم تعطي من ملكك لتبتاع الشربة؟ فقال الرشيد: "بملكي كله"، يعني أموت لو ما شربت، قال: "يا أمير المؤمنين، فلو مُنعت خروجها منك، يعني صار معك حصر بول مثلاً، بكم كنت ترضى أن تفتدي من ذلك؟ قال: بملكي كله".
قال: "يا أمير المؤمنين، أتغتبط بملك لا يساوي بولة ولا شربة ماء"[66].
فعلمّه التواضع وعدم العُجب بالخلافة والمُلك.
وإذا فكر الإنسان في نفسه وطبائعه وتولد الأخلاق، فإنه سيقف على يقين بأن الفضائل هي ما منحه الله للإنسان، وأنه لولا الله لعجز وهلك، ويسأل الله ألا يكله إلى نفسه طرفة عين، يقول: قد تتغير الأخلاق الحميدة بالمرض والفقر والخوف والغضب والهرم، أنت الآن ما تلاحظ أن كبار السن يصير عندهم نوع غضب أكثر، حدة أكثر، يعني يثور لأتفه الأسباب كبر السن، نعم، تأمل إذن نعمة الله عليك، يقول: لقد أصابتني علّة شديدة ولدت علي ربواً في الطحال شديداً، فولد ذلك علي من الضجر وضيق الخلق وقلة الصبر والنزق أمراً حاسبت نفسي فيه، إذ أنكرتُ تبدُّل خلقي، واشتد عجبي من مفارقتي لطبعي، وصح عندي أن هذا المرض يولد من هذه المفاسد أشياء كثيرة.
فإذن، الإنسان بالتأمل والمحاسبة، ومناقشة النفس، يمكن أن يزيل أخلاقاً سيئة من نفسه.
التحويل والتوجيه
سابعاً من وسائل تغيير الأخلاق: التحويل والتوجيه.
مثلاً افرض أن واحداً عنده غضب، أو عنده -مثلاً- حدّة، طمع، فخر، علو، خيلاء، كيف يحول الأخلاق هذه ويوجهها لكي يستثمرها في الأشياء الطيبة؟ بعض الناس من مشاكلهم أو من المشكلات التي يواجهونها في تغيير الأخلاق السيئة أنه يريد أن يجتث الخلق بالكلية، فيريد ألا يكون عنده خيلاء أبداً، ما في حدة مطلقاً، وقد يعجز، ويكون حاله مثل حال أهل البلدة، أهل بلدة تفجر النهر عليهم وسال وصار منحدراً منصباً إليهم، يعلمون أنه سيغرق زروعهم وثمارهم ومبانيهم، بنيانهم وعمرانهم، طائفة قالت: ماذا نفعل؟ نبني سدوداً، ونجعل يعني هذا الماء هذا السد يوقف الماء المتدفق، لكن هؤلاء الناس ما حسبوا بأنه يمكن أن يكون الماء قوياً جداً فيهدم السد، أناس آخرون قالوا: أحسن شيء نذهب إلى منبع النهر فنسده، ولا نجعل فيه مجال لأن يخرج منه الماء وينبع، ولا خلاص إلا بقطعه من ينبوعه، لما يذهبوا ليسدوا ينبوع النهر تعذر عليهم، وأبت الطبيعة النهرية إلا الجريان، فكلما سدوه من موضع نبع من موضع آخر، فأشغلهم هذا منع النهر هذا من النبع، أشغلهم عن الزروع والثمار والعمران التي هم كانوا فيها، فرقة ثالثة رأت ما حل بالأولى من الدمار، والثانية من ضياع الأعمال، فأخذوا في حفر مجاري للنهر في أماكن يتوجه إليها مفيدة، أرض قابلة للزراعة، صاروا يحفرون لهذا النهر مجاري وسواقي وفروع، فصار النهر بدلاً من أن يذهب إلى قريتهم ليدمرها صار يذهب في هذه المجاري إلى أراضٍ زراعية قابلة للزراعة فنبت فيها أشياء كثيرة، فانتفعوا ونجوا من المهالك.
وعلاقة هذا بموضوعنا أن بعض الناس أحياناً يقولون: لا بد نجتث هذا الخلق اجتثاثاً، ثم لا يمكنهم ذلك ويفشلون، وقد ينشغلون بأشياء عن القضايا الأخرى من الطاعات، لكن ما رأيكم لو أننا حولنا الحدة مثلاً قطع الشيء بالكلية القضية جُبِل عليها الإنسان، قطعها بالكلية قد يكون مستحيلاً، ولا تنقاد له طبيعة النفس، فما هو الحال، ما هو الحل؟ يجعل الحدة إذا انتُهكت محارم الله، لاحظ معي هذا التحويل، هذا التحويل مهم جداً، يجعل الحدّة إذا انتُهكت محارم الله، ويجعل الطمع ويجعل الطمع في الخيرات والمسابقة فيها وتحصيل الثواب، فبدل ما كان طمعه في الدنيا صار طمعه في الآخرة، فالطمع لا زال موجوداً ما يمكن اجتثاثه من النفس، لكن حولناه بدلاً من أن يذهب إلى الطمع الدنيوي المهلك صار طمعاً في الأعمال الصالحة.
الفخر قد يصعب اجتثاثه من النفس بالكلية، لكن بدلاً من أن يكون فخراً بالجاهلية، وفخراً بالآباء والأجداد، وفخراً بالقبيلة، فليكن فخراً بالإسلام.
أبي الإسلام لا أب لي سواهُ |
إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ[67]
|
القهر، الإنسان أحياناً يحب أن يرغم أنوف الناس، يجب أن يقهر، يحب أن يكون له العلو والغلبة، فلماذا لا يحول القهر هذا إلى قهر الأعداء، وقهر المنافقين، وقهر العلمانيين، وقهر أعداء الله، والرد على اليهود والنصارى، والرد على أهل الشبهات، فيقهرهم بالحجة، فيكون القهر في نفسه، ما يمكن اجتثاثه من نفسه، لكن يحوله الآن إلى قهر لأعداء الله، فيصرفه إلى مجرى نافع ومفيد.
الخيلاء، قد يكون عندك خيلاء؟ نعم، ممكن، حوّل الخيلاء إلى الأشياء الطيبة.
مثلاً: الخيلاء على أهل الباطل، مثل الاختيال في الحرب، الرسول ﷺ أذِن بلبس الحرير ومشية الخيلاء في الحرب، وقال: هذه مشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن[68].
وصار الصحابي يخرج يتبختر ويتمايل ويلبس الحرير أمام صفوف الأعداء، فإذن، حوّلنا الخيلاء من شيء سيئ على عباد الله المستضعفين إلى الخيلاء على الأعداء وفي الحرب، فإذن هناك خيلاء، وهكذا.
ومن تأمل هذا الباب وجد أن فيه موائمة وملائمة لطبيعة النفس، واستفادة وتحصيل أرباح، وعدم انشغال بأمور هي أقل جدوى، وهذه المسألة مهمة في التربية، لا يدركها ولا يتفطن لها إلا من وصل فعلاً إلى قناعة بالطرق السليمة في توجيه الأخلاق وتهذيبها.
التصعيد
ثامناً: التصعيد. وهو: تحويل تطلعات الشخص من الأشياء الدنيئة إلى الأشياء العالية، ومن الأشياء الصغيرة التافهة إلى كبار الأمور، فمثلاً يقول الله : وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [سورة طه:131]، لا تشغل نفسك بالصغائر والتراهات، وجمع الأموال، والركض وراء الدنيا، هذه أشياء زهرة تبلى وزهرة، والزهرة تموت بسرعة وتذبل، هذه فتنة نفتنهم فيه، وقال: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [سورة طه:131]، صعّد في نفسه الاهتمام من الأشياء الدنيئة زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ما متعنا أزواجاً منهم إلى وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى.
ولذلك التربية من الأشياء التي فعلها -عليه الصلاة والسلام- في نفوس أصحابه الدالة على عظم تربيته لهم، أنهم كانوا ناس هممهم تافهة مشغولين في الجاهلية بأي شيء؟ الخمر، النساء، الحروب، دفن البنات، النوادي، المنتديات، الكلام الفارغ التافه، ما عندهم هدف، صاروا بعد الإسلام قادة في العالم فاتحين قدوات علماء حكماء، الرسول ﷺ نقل الصحابة من اهتمامات دنيئة في الجاهلية إلى معالي الأمور، والتطلّع نحو قيادة العالم، وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام، أنت إذا كان عندك طموحات وأهداف عُليا تسعى لها حسب طموحاتك.
بعض الناس يقول: أنا أريد أن أكون مدير الشركة، هذه طموحاتي، أنا أريد أن أكون دكتوراً إلى آخره، فتنصرف أعمالهم في هذا الشيء، لكن إذا وضعوها في طلب العلم، في الجهاد، في الدعوة، اهتدى على يديه خلق، وحفظ آيات وأحاديث بمعانيها، وتعلّم أحكاماً، وجاهد في الله فأبلى بلاء حسناً، فيكون قد صعدت في نفسه الاهتمامات بالأشياء الدنيئة إلى مستوى عالي في الاهتمام بالأمور العظيمة، وهذا الأمر فيه وسائل مثل: التشويق، التحبيب، التحسين والتزيين، الممارسة، انظر مثلاً في قول الله لما حدثت حادثة الإفك، وتكلم في عائشة من تكلم، وكان ممن تكلم غلامٌ لأبي بكر اسمه: مسطح بن أثاثة، تكلم في عائشة، أبو بكر بعد أن نزل براءة عائشة غضب ومنع قطع النفقة عن مسطح عقاباً له، فنزل قول الله : وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [سورة النور:22].
فأبو بكر الصديق لما رأى المسألة، أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ قال: "بلى يا رب، أنا أحب أن تغفر لي". انتقلت القضية في نفسه من الانتقام من هذا الشخص إلى شيء أعلى وهو الحلم والعفو عمن ظلمك والإحسان إلى من أساء إليك، وهكذا، فارتفعت المسألة بهذا الأسلوب وهو: أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ[69].
الإبدال
تاسعاً: الإبدال من وسائل تغيير الأخلاق السيئة، انظر إلى كل خلق ذميم وضع بدلاً منه عكسه، مثل ما ذكرنا نحن في الشجاعة والتهور، ومثل ما ذكرنا في التسرع والتأني، ومثل ما ذكرنا في البخل والكرم، ومثل إلى آخره، أبدل كل خلق ذميم، حاول أن تأخذ عكسه، فأبدل الجبن ليصبح مكانه شجاعة، والكرم بدل البخل، والتواضع بدل الكبر، والحياء بدل القحة، والجرأة غير المحمودة وهكذا.
قراءة سير أخلاق الأنبياء والصالحين
عاشراً: قراءة سير الصالحين في أخلاقهم، أخلاق الأنبياء الصحابة الصالحين العلماء؛ لأن هؤلاء قدوة حسنة، وهذا جانب القدوة، فأنت إذا قرأتَ في أخلاقهم، كل عالم من العلماء إذا نظرتَ إلى ترجمته تجد مثلاً نسبه ولادته نشأته مثلاً طلبه رحلاته، لابد تجد جانب اسمه أخلاقه، أخلاقه، كلما جئت إلى واحد من العظماء تجد جانباً من حياته مسطرة أخلاقه، اقرأ هذه أخلاقه، اقرأها فإنها تحملك على التشبه بهؤلاء الكرام، إن التشبه بالكرام فلاح.
ملازمة أصحاب الأخلاق الحسنة والاحتكاك بهم
الحادي عشر: ملازمة أصحاب الأخلاق الحسنة من الأحياء والاحتكاك بهم، تستفيد تخيلوا يا جماعة لو وضعنا جباناً في وسط قوم شجعان ماذا يحدث له؟ لو وضعنا بخيلاً في وسط قوم كرماء، ماذا يحدث له؟ يتغير يتأثر من الوسط، وهذا يؤكد لنا أهمية التربية الجماعية، وأن الناس الذين يريدون أن يتربوا داخل بيوتهم دون اختلاط بالطيبين لن يستفيدوا كثيراً.
تكثير الدوافع للتخلق بالخلق الحسن والابتعاد عن الخلق السيئ
الوسيلة الثانية عشرة: تكثير الدوافع لهذا التخلق بالخلق الحسن والابتعاد عن الخلق السيئ، كلما كثرت دوافعك لشيء كلما تحمست له أكثر، فمثلاً بعض الناس مثلاً يعمل عمل فيه شفقة، من باب الرحمة، صار عنده رحمة بالأمر تفاعل مع الحدث، بعض الناس يعملون يعني من باب إنسانية في التعامل، بعض الناس يعمل هذا التصرف الطيب من باب العادة؛ لأنه متعود على هذا الشيء، بعضهم يعمله تقليداً للآخرين، وبعضهم يعمله ابتغاء الأجر، وابتغاء الجنة، ولتكفير السيئات، ولتعليم الآخرين يكون قدوة وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [سورة الفرقان:74]. ولتربية نفسه.
إذن: كلما كثرت دوافعك للتخلص من الخلق السيئ صار حماسك لهذا أكثر، فكثر الدوافع وتفطن وأنت تعمل كل عمل، حاول التغيير، ما هي دوافعك لهذا؟ لتنال الأجر، ورضا الله والجنة، وتكون قدوة للآخرين، وتربي نفسك على هذا الأمر وهكذا.
الترغيب في الخلق الحسن والترهيب من الخُلُق السيء
الثالث عشر: التأمل في الحوافز الأخروية في مصير أصحاب الأخلاق الحسنة، ومصير أصحاب الأخلاق السيئة، بمعنى آخر الترغيب والترهيب، فعندما يقرأ الإنسان حديثه ﷺ أثقل شيء في الميزان الخُلُق الحسن، أثقل شيء في ميزان المؤمن خلق حسن إن الله يبغض الفاحش المتفحش البذيء[70]، إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً[71].
وإن حسن الخلق ليبلغ درجة الصوم والصلاة، إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة القائم الصائم،[72] وفي رواية: القائم بالليل الظامئ بالهواجر، ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة[73].
ماذا تشعر إذا أنت قرأت أحاديث الترغيب هذه؟ بحافز ودافع إلى هذا العمل، فيكون هذا من المعين لك على التخلص من الأخلاق السيئة، مثلاً خذ هذا: أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه[74]، مثلاً حديث من كفّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة[75]، هذا في الآخرة، وفي الدنيا من الترغيبات يقول ﷺ: صلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار، يعمرن الديار، ويزدن في الأعمار[76].
فإذن: من باب التكثير والتوسعة عليك في الدنيا أن تحسن الخلق، وإذا أردت وسيلة أو من أسباب زيادة العمر فحسن خلقك، لأن حسن الخلق من أسباب زيادة العمر. في المقابل انظر أحاديث الترهيب: البذاء من الجفاء والجفاء من نار والجفاء في النار، البذاء فحش القول، والجفاء الغلظة وسوء الخلق، البذاء من الجفاء والجفاء في النار، قال -عليه الصلاة والسلام-: وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسلحديث صحيح[77].
الدعاء
الوسيلة الرابع عشر: الدعاء، اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء، واهدني لصالح الأعمال حديث صحيح[78].
جهود المربين
المسألة الخامسة عشرة، وهي الختام في هذا: "جهود المربين"، الماضي هذا كان تربية فردية، هذه الأشياء التي أنت تفعلها لنفسك، هذه تربيتك الفردية، من وسائل تحسين الأخلاق: التربية الجماعية، جهود المربين الموجهة إلى الشخص، وهذا الكلام الآن إلى صعيد آخر، لا شك أن تغيير الخلق يعتمد على مجهود الشخص الفردي أصلاً.
ولكن هناك أيضاً عوامل أخرى خارجية، وهي: جهود المربين نحو هذا الشخص، فالمربي عليه أن يعطي كل إنسان نفسيته ما يلائمها فتهدأ، انظر مثلاً إلى هذا الجانب التربوي، المربي ﷺ ماذا فعل لكي يهدئ النفوس ويراعي الجوانب؟، في البخاري عن عمرو بن تغلب: "أن رسول الله ﷺ أتي بمال أو سبي فقسمه، فأعطى رجالاً وترك رجالاً، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، الذين ما أعطاهم عتبوا، فحمد الله، ثم أثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فو الله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكني أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكِلُ أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم: عمرو بن تغلب هذا المربي يقول كلاماً له أثر، قال عمرو بن تغلب: "فو الله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله ﷺ حمر النعم"،[79] فأعطى الجزعين مالاً أصلح به نفوسهم، وأعطى عمرو بن تغلب ثناءً كان أحب إليه من عطاء المال الكثير، فأصلح نفسه"، نفس الموقف حصل بعد حنين، مسلمة الفتح، الناس الذين أسلموا الآن مائة من الإبل يعطيهم مائة من الإبل يتألّف قلوبهم، يزيل الحواجز والعداوات بالإعطاء، خذ مائة من الإبل.
الأنصار الذين جاهدوا مع الرسول ﷺ وخرجوا من المدينة وتعبوا ما أعطاهم ولا شيء، تكلم بعضهم، قالوا يعطي كفار قريش، يعطي قريشاً ولا زالت سيوفنا تقطر من دمائهم، تونا الآن طالعين من فتح مكة، يعطي هؤلاء من غنائم حنين مائة من الإبل، ونحن ما لنا شيء، فلما سمع ﷺ ذلك، بلغته المقولة جمعهم، فسأل: ماذا حصل؟ ماذا قيل؟ قال فقهاؤهم: يا رسول الله أما أولو العلم فينا ما قالوا شيء، وأما بعض أحداثنا صغار الأسنان فقد قالوا هذه الكلمة، فقال الرسول ﷺ كلمته المؤثرة جداً لدرجة أنهم قد بكوا حتى أخضلوا لحاهم، ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وترجعون برسول الله إلى رحالكم[80] ﷺ، اللهم اغفر للأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار[81] فالأنصار طابت أنفسهم فعلاً، هذه كلمات، لكن طابت أنفسهم قالوا: "بلى رضينا، رضينا بهذا القسم العظيم، يذهب الناس بالشاء والبعير، ونحن نرجع بأكبر غنيمة وأعظم شيء معنا في الدنيا رسول الله ﷺ، نرجع به، رضينا برسول الله حظاً وقسماً ونصيباً، فجهود المربين أيضاً من وسائلهم: استغلال الحوادث، يعني لو أنت مثلاً رأيت ظلم أمامك حصل، ممكن تربي ولدك أو صديقك أو متبوعك بهذه الحادثة، فتقول انظر إلى الظلم، ماذا جرّ من العواقب الوخيمة؟، هذا الشخص الذي يتربى معك يكره الظلم؛ لأنك استغللت الحادثة في تفهيمه أن هذا الظلم عاقبته وخيمة، أو رذيلة من الرذائل أو فضيحة من الفضائح، أو بالعكس -مثلاً- مشهد طيب رأيت مشهداً فيه عدل، فلفت نظر من معك إلى هذا المشهد، فاستغللت الحدث والتعليق عليه، ومشاهد الشجاعة أو الجبن، كذلك من وسائل المربين: ضرب الأمثال.
الرسول ﷺ كان يربي الناس على الكرم وعدم البخل، والإنفاق وعدم التقتير، عدم المنع والشُّح، يقول مثلاً يضرب لهم يقول: المنفق مثل واحد عليه درع، مثل واحد عليه درع، وكلما أنفق ازداد هذه حتى صارت سابغة لجميع أعضاء جسمه، ومثل البخيل عليه درع، كلما بخل ازدادت الحلقات حبساً على أجزاء جسده، فضرب هذا المثل ضرب المثال، هذا من عمل المربين أو من علمهم أيضاً ضرب المثل بأصحاب الأخلاق الفاضلة ما ترى إلى حديث الرسول ﷺ: أرأف أمتي بأمتي أبو بكر -مثلاً- وأصدقهم حياء عثمان[82].
فهو لفت نظرنا، استخدم شخصيات تميزت بأخلاق معينة حتى يحمسنا نحن الأمة الذين نتربى على أحاديثه بأن نكون عندنا رأفة، ويكون عندنا حياء، بأن نقتدي بأبي بكر في رأفته، وبعثمان في حيائه، وكان يقول: إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً، لا يُرى من جلده شيء استحياء منه[83].
هذا يعلِّم، يضرب لنا مثلاً من الواقع، شخصية تميزت بالحياء، فتتحمس النفوس، فهكذا تكون جهود المربين.
إذن، من عوامل تصحيح الأخلاق السيئة واستبدالها بأخلاق حسنة، وهذا واجبنا جميعاً أن نربي أنفسنا ونربي غيرنا.
والحقيقة -أيها الإخوة- أن الكلام في موضوع الأخلاق كلام طويل، ونظرا لكثرة المشاكل الموجودة في الواقع والعلاقات، والإخوة الذين ساءت علاقتهم مع بعضهم، والأزواج والناس والجيران، فالأمر يحتاج إلى تأكيد، ويحتاج إلى زيادة كلام، وعرض وإيضاح، ولذلك يحتمل أن يكون هناك درس آخر بعنوان: "شجرة أخلاق المسلم"، نذكر فيها ونعدد الأخلاق الإسلامية ما هي؟ ما أدلتها وأمثلتها؟ نتخلق، نحن الآن عرضنا الأخلاق، وأهميتها، وأدلتها في القرآن والسنة، وقدوتنا الرسول ﷺ، فنسأل الله أن يهدينا سبلنا، وأن يقينا شر أنفسنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
- ^ تفسير ابن كثير: (3/ 531).
- ^ رواه أحمد: (8952)، وقال محققه الأرنؤوط: صحيح.
- ^ رواه البخاري: (3559)، ومسلم: (1975).
- ^ رواه مسلم: (2311).
- ^ رواه الترمذي: (2015)، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: (296).
- ^ رواه الترمذي: (في الشمائل: (345)، وحسنه الألباني في مختصر الشمائل: (295).
- ^ رواه الترمذي في السنن: (1990)، والشمائل: (238)، وأحمد: (8722)، وقال الألباني في السلسلة: حديث حسن صحيح: (1726).
- ^ رواه أحمد: (12197)، وأبو داود: (4818)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (7857).
- ^ رواه مسلم: (2326).
- ^ رواه أبو يعلى الموصلي: (4015)، والترمذي في الشمائل: (316)،وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: (4939).
- ^ رواه البخاري: (5178).
- ^ رواه البزار: (8799)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه البزار والطبراني في الأوسط، وإسناد الطبراني حسن، (14192).
- ^ رواه الترمذي: (1987)، وأحمد: (1987)، وحسّنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (97).
- ^ رواه أحمد: (6652)، والطبراني في الكبير: (14120)، والبيهقي في الشعب: (4463)، وصححه الألباني في السلسلة: (733).
- ^ رواه الطبراني في الكبير: (463)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (1977).
- ^ رواه الطبراني في الكبير: (295)، والبيهقي في الشعب: (4591)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة: (1938).
- ^ رواه البيهقي في الشعب: (10579)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (5645).
- ^ رواه الطبراني في الصغير: (605)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (1231).
- ^ رواه أحمد: (22840)، والحاكم في المستدرك: (59)، والطبراني في الصغير: (605)، وحسنه الألباني في الجامع الصغير: (1231).
- ^ رواه الترمذي: (2018)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (2201).
- ^ [رواه أحمد: (17732)، والطبراني في الكبير: (676)، و البيهقي في الشعب: (4616)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (1535).
- ^ [رواه الترمذي: (1162)، وأحمد: (7402)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: (284).
- ^ رواه أحمد: (10066)،وقال محققه الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
- ^ رواه ابن ماجه: (4216)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (3291).
- ^ رواه الحاكم في المستدرك: (151)، والطبراني في الكبير: (5928)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (1801).
- ^ رواه ابن أبي شيبة: (26617)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (1744).
- ^ رواه أحمد: (17452)، وصححه الألباني في السلسلة: (891).
- ^ رواه البخاري: (69).
- ^ وزيادة وإذا غضب أحدكم فليسكت رواها أحمد: (2136)، وقال محققه الأرنؤوط: إسناده صحيح.
- ^ رواه أحمد: (15637)، أبو داود: (4777)، والترمذي: (2493)، وابن ماجة: (4186)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (6522).
- ^ رواه في الشعب: (7769)، وضعفه ابن حجر في المطالب العالية: (13/ 321).
- ^ رواه البيهقي في الشعب: (7777)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (6669).
- ^ رواه الطبراني في الكبير: (13646)، وأبو نعيم في الحلية: (6/ 348)،وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (176).
- ^ رواه مسلم: (17).
- ^ رواه الحاكم في المستدرك: (213)، والبيهقي في الكبرى: (20803)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (3009).
- ^ رواه الطبراني في الأوسط: (1017)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (3010).
- ^ رواه البيهقي في الكبرى: (20270)، وأبو يعلى لموصلي: (4256)، وصححه الألباني في السلسلة: (1795).
- ^ رواه ابن ماجه: (940)، والطبراني في الصغير: (13)، وحسنه الألباني في السلسلة: (940).
- ^ رواه الترمذي: (2458)، والطبراني في الكبير: (3192)، وحسنه الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب: (1724).
- ^ رواه الطبراني في الكبير: (5539)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (2541).
- ^ رواه مسلم: (37).
- ^ رواه البخاري: (24)، ومسلم: (36).
- ^ رواه البخاري: (6117)، ومسلم: (37).
- ^ رواه الطبراني في الصغير: (429)، وابن أبي شيبة في مصنفه: (429)، وأبو نعيم في الحلية: (8/ 306)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (2652).
- ^ رواه الطبراني في الصغير: (429)، وابن أبي شيبة في مصنفه: (429)، وأبو نعيم في الحلية: (8/ 306)، وصححه الألباني في المشكاة: (5068).
- ^ رواه البخاري: (6030)، ومسلم: (2594).
- ^ رواه الطبراني في الكبير: (2274)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (5541)
- ^ رواه أبو داود: (4809)، والطبراني في الكبير: (2454)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (6606).
- ^ رواه البزار: (251)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (7923).
- ^ رواه الحاكم في المستدرك: (3181)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (3075).
- ^ رواه البخاري: (3364).
- ^ رواه الترمذي: (1084)، وابن ماجه: (1967)، والحاكم في المستدرك: (2695)، وحسّنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (270).
- ^ رواه البخاري: (6114)، ومسلم: (2609).
- ^ مدارج السالكين: (2/ 294).
- ^ مدارج السالكين: (2/ 294).
- ^ رواه مسلم: (17).
- ^ رواه البيهقي في الشعب: (10254)، والأصبهاني في الحلية: (5/ 174)، وحسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة: (342).
- ^ رواه البخاري: (1469).
- ^ رواه مسلم: (771).
- ^ رواها أحمد: (2136)، وقال محققه الأرنؤوط: إسناده صحيح.
- ^ رواه أبو داود: (وصححه الألباني في المشكاة: (5114).
- ^ صيد الخاطر: (400).
- ^ مدارج السالكين: (2/ 299).
- ^ الأخلاق والسير لابن حزم: (68).
- ^ الأخلاق والسير في مداواة النفوس: (68).
- ^ الأخلاق والسير لابن حزم: (70).
- ^ معجم الشعراء للمرزباني: (258).
- ^ رواه ابن اسحاق في السيرة: (326).
- ^ رواه البخاري: (4750)، ومسلم: (2770).
- ^ رواه البيهقي في السنن الكبرى: (20798)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (135).
- ^ رواه أحمد: (24677)، والبيهقي في الشعب: (7612)، وصححه الالباني في صحيح الجامع الصغير: (1578).
- ^ رواه أبو داود: (4798)، وأحمد: (24595)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (1932).
- ^ رواه الترمذي: (2003)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (5726).
- ^ رواه أبو داود: (4800)، والطبراني في الكبير (8/ 98)، والبيهقي في السنن الكبرى: (21176)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب: (2648).
- ^ رواه الطبراني في الكبير: (6026)، والبيهقي في الشعب: (5741)، وقال ابن الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الثلاثة، وفيه مسكين بن سراج وهو ضعيف. (8/ 191).
- ^ رواه البيهقي في الشعب: (7599)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (7215).
- ^ رواه الطبراني في الكبير: (10777)،والبيهقي في الشعب: (7673)، وحسّنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (176).
- ^ رواه الترمذي: (3591) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: (1298).
- ^ رواه البخاري: (923).
- ^ رواه البخاري: (3778)، ومسلم: (1059).
- ^ رواه البخاري: (4906)، ومسلم: (2506).
- ^ رواه الترمذي: (3790)، وابن ماجه: (154)، والنسائي في الكبرى: (8185)، وأحمد: (13990)، وصححه الألباني في السلسلة: (1224).
- ^ رواه البخاري: (3404).