الخميس 20 جمادى الأولى 1446 هـ :: 21 نوفمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

الفرحة الكبرى


عناصر المادة
الخطبة الأولى
التعبد لله تعالى بالشعور بالفرح
الفرح المحمود والفرح المذموم
الفرح بالعبادة دليل الإيمان
الخطبة الثانية
فرح المسلمين بهداية أقربائهم وإصابتهم للحق
استمرار الفرح بمواسم العبادات عبادة
سيولة الأسهم وحكم شرائها وبيعها بالتقسيط

الخطبة الأولى

00:00:08

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

التعبد لله تعالى بالشعور بالفرح

00:00:29

نحن متعبدون بمشاعرنا وأحاسيسنا، وما يعتمل في نفوسنا، ومن أعظم الشعور الفرح، وهو أعلى أنواع نعيم القلب، ولذته، وبهجته، فالفرح ضد السخط والحزن، الفرح لذة القلب لنيل المشتهى، لذة تقع في القلب لإدراك المحبوب، ونيل المشتهى، وسرور يحدث فيه لأجل ذلك، وهو فوق الرضا، فإن الفرح بالشيء: بهجة، وسرور، ولذة، والرضا: طمأنينة، وسكون، وانشراح، وهذا الفرح منه ما هو صفة لله ، كما قال النبي ﷺ: لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها، قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح رواه البخاري ومسلم. [رواه البخاري 6308 ومسلم 2747 واللفظ لمسلم]. فالرب يفرح فرحاً يليق بجلاله وعظمته، يفرح بتوبة التائب إليه، يفرح ربنا بهذا العمل الصالح الذي يصعد إليه، والفرح يدل على صدقه إذا كان بالإيمان، إذا كان بالعبادة والدين، إذا كان بفضل الله ورحمته، كما قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ سورة يونس 58.

أيها الإخوة: يفرح الناس اليوم لتحصيل وظيفة، أو نجاح في امتحان، أو حصول على شهادة، أو زيادة في المرتبات والأجور، يفرحون أحياناً لأمور من المعاصي، كما يفرح بعض أهل الألعاب بأمور من الدنيا، فبأي شيء يجب أن يكون فرحنا؟ أليس هذه المشاعر نحن مؤتمنون عليها؟ فكيف نبذلها؟ وكيف نوجهها؟ الفرح، والحزن، والحب، والبغض، ونحو ذلك، هذه أشياء لها علاقة قوية بالإيمان، من أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض بالله، وكذلك الفرح للإيمان والدين، وبالإيمان والدين دال على إيمان صاحبه، قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ أي: بهذا القرآن، وَبِرَحْمَتِهِ الهداية والإسلام، فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ بما جاء الله به من الهدى ودين الحق، هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ أولى مما يفرحون به من حطام الدنيا، وزهرتها الفانية الذاهبة.

لما قدم خراج العراق إلى عمر، خرج عمر ومولى له، فجعل عمر يعد الإبل، فإذا هي أكثر، فجعل عمر يقول: "الحمد لله تعالى، ويقول مولاه: هذا والله من فضل الله ورحمته، فقال عمر: كذبت، ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ سورة يونس 58. وهذا مما يجمعون".

فينبغي أن نوجه فرحنا ليكون فرحاً بالإيمان والدين، وليس فرحاً بالدنيا لمجرد الدنيا، كما قال قوم قارون: لَا تَفْرَحْ قالوا له: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ سورة القصص 76. فالفرح منه ما هو عبادة، الفرح بالقرآن، بالعلم، بالآيات، ومنه ما هو مباح، كالفرح بأمور الدنيا المباحة إذا جاءت للإنسان، فرحته بولد، بزواج، بوظيفة، بشهادة، فإذا نوى بها وجه الله صارت عبادة، وفرح مذموم وهو الفرح بالدنيا الذي يقود إلى الأشر والبطر، والاستعلاء والتكبر على خلق الله.

لما أنزل الله على نبينا ﷺ الوحي، وبعثه للعالمين، كان من أهل الكتاب من عنده علم ببعثة النبي ﷺ، فلما رأوا هذه الآيات تطابق ما عندهم فرحوا وأسلموا، قال تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ سورة الرعد 36. لماذا يفرحون؟ لأنهم وجدوا عندك ما يصدق ما عندهم، ووافقت الكتب بعضها بعضاً، وصدّق بعضها بعضاً، وهذا حال عبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، ونحوهم، فرح المسلمون بانتصار العدو الأقل شراً، على العدو الأكبر شراً، فرح المسلمون بانتصار الأقل كفراً على الأشد كفراً بالمقارنة، فقال تعالى: الم ۝ غُلِبَتِ الرُّومُ ۝ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ۝ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ سورة الروم 1-4. يفرح المؤمنون، وكانت الفرس يعبدون الأصنام كقريش، والروم لم يكن عندهم تلك العبادة كالفرس، فكانت قريش توالي الفرس، وكان المسلمون يتمنون انتصار الروم على الفرس؛ لكسر قوة تلك الدولة العاتية، الظالمة، الكافرة، التي كانت أقرب إلى قريش، أقرب إلى الشرك والكفر من الروم، مع أن الجميع كفار، لكن لأنه كانت هناك مصلحة في النهاية للمسلمين بانتصار الأقل كفراً، أو الأقل قوة على الأشد قوة وعتواً، ولذلك كان الفرح سائغاً، صحيحاً، شرعياً.

الفرح المحمود والفرح المذموم

00:08:30

عباد الله: من الفرح إذن ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ سورة هود 10. حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً سورة الأنعام 44. وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ سورة الروم 36. يفرحون بالدنيا التي تسبب الأشر والبطر، وبعض الناس لا يفرحون بنعمة الله النعمة الدينية، هل يفرح بنعمة الهداية؟ هل يفرح بنعمة العلم؟ لو تعلّم مسألة فقهية لم يكن يعلمها من قبل هل يزداد فرحه؟ هل يفرح بها كأنه عثر على كنز؟ قليل من الناس من يدرك ذلك، وقد وصل الأمر ببعض الصالحين أنه يفرح بالبلاء لإطاقته الصبر عليه، والأجر الذي يعرفه من الصبر على البلاء، كما قال ﷺ: أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء[رواه ابن ماجه 4024]. كان المسلمون يقاتلون في سبيل الله، فإذا نالوا الشهادة فرحوا بالأجر فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ سورة آل عمران 170. ولذلك لما طعن حرام بن ملحان وهو المسلم يوم بئر معونة، قال بالدم هكذا على وجهه ورأسه، ثم قال: فزت ورب الكعبة. فقال الذي طعنه – جبار بن سلمى -: ما فزت؟ قالوا: الجنة. قال: صدق، ثم أسلم جبار بعد ذلك.

فرح الشهداء بالنعيم الذي وجدوه في أول الشهادة، وقال القائل منهم: فزت ورب الكعبة، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ.

والمؤمنون كانوا يفرحون بالإيمان والعلم إذا أنزلت سورة، إذا أنزلت آية جديدة، إذا جاء علم إلهي فرحوا به جداً وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ سورة التوبة124. افرح إذا حفظت سورة، افرح إذا تعلمت معنى آية، افرح إذا حصلت جواب مسألة فقهية، افرح إذا تعلمت حديثاً لم تكن تعلمه من قبل، هذا هو الفرح الشرعي، هذا هو الفرح الذي ينشغل أكثر الناس عنه بالفرح في أمور الدنيا، وهذا دليل على قوة الإيمان في القلب، ولذة في القلب بسبب هذه النعمة الدينية التي حصلت، خذوا مثالاً على فرح الصحابة رضوان الله عليهم.

روى البخاري عن أنس : أن رجلاً سأل النبي ﷺ عن الساعة: متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها؟ قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله ﷺ، يعني: ما عندي كثير صلاة ولا صيام، ما عندي نوافل كثيرة، هذه الواجبات وأشياء قليلة من النوافل، لكن عندي شيء في قلبي، ما هو؟ قال: إني أحب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت، أنت مع من أحببت في الآخرة ستحشر معهم، قال أنس: فما فرحنا بشيء، -انظروا إلى قول أنس- فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي ﷺ: أنت مع من أحببت قال أنس: "فأنا أحب النبي ﷺ، وأبا بكر، وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم" [رواه البخاري 3688]. فرحة عظيمة، بعبارة عظيمة  المرء مع من أحب  [رواه البخاري 6168 ومسلم 2640]. هذه المحبة التي ترفع أناساً إلى درجات لم يكونوا بغيرها بالغيها.

الصحابة كانوا يصلون العشاء، ومرة تأخر النبي ﷺ في الخروج إليهم، حتى ابهارّ الليل ثم خرج فصلى بهم، فلما قضى صلاته قال لمن حضره: على رسلكم، أبشروا، إن من نعمة الله عليكم أنه ليس أحد من الناس يصلي هذه الساعة غيركم -في الأرض لا يعبد الله في هذه الوقت قريباً من نصف الليل إلا أنتم- قال أبو موسى: "فرجعنا ففرحنا بما سمعنا من رسول الله ﷺ" [رواه البخاري 567 ومسلم 641]. ما هو سبب فرحهم؟ قال العلماء: علمهم باختصاصهم بهذه العبادة، التي هي نعمة عظمى مستلزمة للمثوبة الحسنى.

ألم تعلم يا عبد الله أن للصائم هذه الفرحة العظيمة، واحدة عند فطره، والأخرى إذا لقي ربه: للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه[رواه البخاري 1904].

ما هو الفرح الأول؟ بتمام نعمة الله عليه بإكمال اليوم، وبما أباح الله له من الطعام والشراب والنكاح الذي كان ممنوعاً منه في النهار، الفرحة الثانية: عند لقاء الرب ، مما يشاهده المحتضر الذي يموت، إذا قدم على الله بعد موته من أجل الصيام، فله فرحتان.

الفرح بالعبادة دليل الإيمان

00:15:33

إن ترقب مواسم العبادة والفرح بقدومها دليل الإيمان، إذا دخل رمضان فرح المؤمنون، إذا جاء الأضحى فرح المؤمنون، إذا جاءت العشر الأواخر فرح المؤمنون، إذا جاءت عشر ذي الحجة الأوائل فرح المؤمنون، إذا جاءت صلاة الجمعة يوم الجمعة فرح المؤمنون؛ لأجل هذه المواسم العظيمة التي تضاعف فيها الحسنات، وتكتب فيها هذه الأجور، هذا فرح ديني، هذا فرح إيماني يجب أن لا يغيب عنا، أن نستحضره، أن نستذكره، أن نستجمعه في عقولنا وقلوبنا ونفوسنا.

أما فرح الحبيب بصحبة الحبيب، فرح الصدّيق بصحبة النبي ﷺ فلا تسل عن ذلك، فإنه لما جاءه في غير الوقت المتوقع في مكة قال: أشعرت أنه قد أذن لي في الخروج، قال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال: الصحبة[رواه البخاري 2138]. وافق على الصحبة، قالت: "فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم – تقول عائشة -: أن أحداً يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يومئذ يبكي من الفرح".

بكاء من الفرح الغامر لأجل أنه وافق على صحبته في هذه الطاعة العظيمة المشاركة في الهجرة، في العبادة، والصحبة للوحي والنبي ﷺ في الطريق وأبو بكر معه ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ سورة التوبة 40. الفرح.

لما قدم النبي ﷺ المدينة كيف كان الفرح؟ يقول البراء كما في البخاري: "أول من قدم علينا مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، وكانا يقرئان الناس – أي القرآن – فقدم بلال، وسعد، وعمار بن ياسر، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي ﷺ، ثم قدم النبي ﷺ، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله ﷺ، حتى جعل الإماء يقلن: قدم رسول الله ﷺ [رواه البخاري 3925]. الإماء عندهن علم بالقضية، ويقلن: هذا الذي ذكر لنا من قبل قد جاء، وفي رواية: حتى رأيت الولائد والصبيان والإماء يقولون: هذا رسول الله قد جاء [رواه البخاري 4941]. حديث صحيح.

الفرح بقدوم الرسول النبي القائد المعلم المربي، الفرح بقدوم مصدر العلم والوحي، يمر عن طريقه من الله تعالى، لما جاء إخوانه وأصحابه ﷺ من عند النجاشي إلى المدينة بعد فتح خيبر، فرح النبي ﷺ فرحاً عظيماً، وخاصة عندما جاء ابن عمه، وأمير المهاجرين إلى الحبشة جعفر بن أبي طالب، قال ﷺ: والله ما أدري بأيهما أنا أفرح: بفتح خيبر أم بقدوم جعفر[رواه الحاكم في المستدرك 4941]. حديث حسن. لا أدري بأيهما أفرح، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر.

وهكذا يفرح المؤمنون إذا فتحت مدن وقرى وبلدات كانت تحت سيطرة الكفار، ويفرح الإنسان المسلم بقدوم أخيه في الله سالماً من أسفار الطاعة، هجرة وجهاد، حج وعمرة، طلب علم وصلة رحم.

إن النبي ﷺ أيها الإخوة لما مرض في مرض موته حزن الصحابة كثيراً، وفي يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة فاجأهم النبي ﷺ أنه يكشف ستر الحجرة ينظر إليهم وهو قائم، قال أنس – راوي الحديث-: كأن وجهه ورقة مصحف، وكان من قبل قد اختفى في موقع الإمامة، وأبو بكر يصلي بالناس، فوجئ الصحابة يوم الاثنين أن النبي ﷺ يكشف ستر الحجرة ينظر إليهم وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف من النور، ثم تبسم يضحك، قال: فهممنا أن نفتتن من الفرح، أن ننصرف عن الصلاة، أن نفتتن في الصلاة من الفرح برؤية النبي ﷺ، وخرج وصلى بجانب الصديق، وأرخي الستر بعد ذلك، وتوفي من يومه ﷺ[رواه البخاري 680].

أيها الإخوة: إن النبي ﷺ حرم المعازف، والدف من المعازف أبيح في استثناءات كالعيد، والعرس للنساء، يوم من الأيام النبي ﷺ لما رجع من بعض مغازيه جاءت أمة سوداء فقالت: إني كنت نذرت إن ردك الله صالحاً، وفي رواية: سالماً أن أضرب عندك بالدف، قال: إن كنتِ فعلتِ أي: نذرتي: فافعلي، وإن كنتِِ لم تفعلي أي: لم تنذري فلا تفعلي فضربت فدخل أبو بكر وهي تضرب، ودخل غيره وهي تضرب، ثم دخل عمر فجعلت دفها خلفها، خافت وارتعدت من عمر وكفت، فقال ﷺ: إن الشيطان ليفرق منك يا عمر[رواه أحمد 22989]. وهذا الحديث رواه عدد من الأئمة واختلف العلماء فيه، كيف يفسرونه، هل هو منسوخ؟ هل هو خاص بالنبي ﷺ؟ وإذا كان خاصاً فكيف سمح لها أن تضرب بالدف عنده، ولم يكن نكاح ولا عيد، ونذر المعصية لا يجوز الوفاء به؟ وأقوى الأقوال في ذلك: أنه ما برر لها ذلك العمل عند النبي ﷺ إلا اقتران النذر بعبادة وهو الفرح بقدومه؛ ولذلك قال العلماء: وهذه خصوصية للنبي ﷺ دون الناس جميعاً، أن قدومه سالماً أجاز ذلك العمل من تلك المرأة فقط في ذلك الحال، قال العلماء: ضرب الدف ليس مما يعد في باب الطاعات، وأحسن حاله أن يكون من باب المباح، غير أنه لما اتصل بإظهار الفرح بسلامة مقدم رسول الله ﷺ من غزاته، وكانت فيها مساءة للكفار، وإرغام للمنافقين أبيح لها خاصة، في ذلك الموقف خاصة أن تفي بنذرها، فتأمل كيف صار الفرح بقدومه مبيحاً لها في ذلك الموقف الخاص أن تفعل ما فعلت، وبذلك يعلم ما هو السبب وراء ذلك الضرب بالدف المستثنى، خصوصية فرحاً لقدوم النبي ﷺ.

اللهم اجعلنا من الفرحين بذكرك يا رب العالمين، اللهم اجعلنا ممن يفرحون بالوحي يا أرحم الراحمين، اللهم ارزقنا الفرح بالعلم والإيمان، وطاعتك يا رحمن، إنك أنت السميع العليم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.

الخطبة الثانية

00:25:03

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصبحه ومن والاه، وعلى خلفائه وأزواجه وذريته وأهل بيته، ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.

فرح المسلمين بهداية أقربائهم وإصابتهم للحق

00:25:32

عباد الله: كان المسلمون يفرحون بهداية أقربائهم إلى الإسلام، وهذا أبو هريرة لما أبطأت أمه وأسمعتهم في النبي ﷺ ما يكره، ذهب يقول للنبي ﷺ: ادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال الرسول ﷺ: اللهم اهد أم أبي هريرة قال أبو هريرة: فخرجت مستبشراً بدعوة النبي ﷺ، فلما جئت -أي: إلى بيت أمه- فصرت إلى الباب، فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي، صوت المشي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلت ولبست درعها، وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله ﷺ فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قلت: يا رسول الله أبشر قد استجاب الله دعوتك، وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه وقال خيراً [رواه مسلم 2491].

يجب أن نفرح بهداية الكافر، بهداية الضال، بعودة المنحرف إلى طريق الحق، فرح هذا فرح الإيمان أهم من فرحنا بنجاحه، وتخرجه، وتوظفه، ونحو ذلك، وبعض الناس يفرحون بتخرج أولادهم، ووظيفة أولادهم، أكثر مما يفرحون بهداية أولادهم، بل ربما بعضهم إذا اهتدى ولده حاربه، وناصبه العداء، لماذا؟ لماذا لا تفرح بهداية الولد؟ لماذا لا تفرح باستقامة الولد؟ عندما كان ضائعاً، عندما كان منحرفاً، عندما كان محارباً لله ورسوله بالمعاصي، ما فعلت شيئاً لتقف في طريقه، ثم لما هداه الله تريد أن تقف في طريقه، وتصده عن الحق وأهل الحق، ومجالس الأخيار، وحلق العلم، كلا يا أخي، أيها الأب عليك بالفرح بولدك إذا هداه الله، واستقام ورافق الأخيار، وبدأ بحفظ القرآن، وتعلم العلم.

وكذلك فرح أبي بن كعب لما جاءه النبي ﷺ يوماً فقال: إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، قال أبي: الله سماني لك، قال: الله سماك لي فجعل أبي يبكي [رواه البخاري 4960]. قيل لأبي: يا أبا المنذر ففرحت بذلك؟ قال: وما يمنعني والله تبارك وتعالى يقول: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فلتفرحوا هو خير مما يجمعون [رواه أحمد 21137]. وهذه إحدى القراءتين في الآية، والقراءة في رواية أحمد رحمه الله.

فاطمة رضي الله عنها جلست عند النبي ﷺ بعدما جاءت تمشي إليه مشيتها كمشيته قال: مرحباً بابنتي فقام إليها ثم أجلسها عن يمينه، ثم أسر إليها حديثاً فبكت، ثم أسر إليها حديثاً فضحكت، قالت عائشة: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن، فسألتها بعد وفاة النبي ﷺ، قالت: إنه أسر إلي: إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي، وإنك أول أهل بيتي لحاقاً بي، فبكيت، فقال: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة فضحكت لذلك.[رواه البخاري 3623و3624].

كان المسلمون يفرحون بمعرفة الحق وإصابته في الفتيا، كان العلماء إذا وافقت فتواهم حديث النبي ﷺالذي لم يسمعوا به من قبل، فتلك الفرحة العظيمة.

يقول ابن مسعود لما سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يسم لها مهراً، ولم يدخل بها، ومات، ما الأمر فيها الآن، هل لها مهر أم لا؟ هل عليها عدة أم لا؟ هل لها ميراث أم لا؟ مات زوجها بعد العقد، لكن لم يدخل بها، فقضى ابن مسعود : أن لها مثل صداق نسائها، مثل مهر مثل نسائها، لا وكس ولا شطط، لا زيادة ولا نقص، وعليها العدة، عدة الوفاة، ولها الميراث، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله ﷺ في بروع بنت واشق، امرأة منا، مثل الذي قضيت. ففرح بها ابن مسعود [رواه الترمذي 1145]. وفي رواية أبي داود: ففرح عبد الله بن مسعود فرحاً شديداً حين وافق قضاؤه قضاء رسول الله ﷺ [رواه أبو داود 2116]

وفرح الصحابة رضوان الله عليهم لما وصلهم مصحف عثمان، وكانت الخشية أن يفتتن الناس، فلما جاءتهم النسخ في الأمصار، قال الرواة: فرح بها أصحاب النبي ﷺ، المصحف الإمام يوزع الآن على الأمصار لكي يجتمعوا عليه، وعلى ترتيب سوره، وآياته، فلا يكون بين المسلمين اختلاف.

وكذلك فإن المسلمين كانوا يفرحون برخصة الله، كان المسلمون في رمضان يحرم على الواحد بعد العشاء أن يأتي زوجته، وإذا نام لا أكل ولا شرب ولا نكاح حتى لو استيقظ قبل الفجر، إذا نام في الليل لا أكل ولا شرب ولا نكاح حتى لو استيقظ قبل الفجر، فليس عندهم وقت إلا ما بين المغرب والعشاء، وقت ضيق، فوقع بعض المسلمين على نسائهم، فأنزل الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ سورة البقرة 187. قال البراء: ففرحوا بها فرحاً شديداً، الفرح برخصة الله .

استمرار الفرح بمواسم العبادات عبادة

00:33:39

أيها المسلمون، عباد الله: يبقى فرحنا بالعبادات يتوالى، شعبان شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله، ورمضان العبادة العظيمة، والقيام الكبير في ذلك الشهر، قال بعض السلف: إني لأفرح بالليل حين يقبل، لما يلتذ به عيشي، وتقر به عيني من مناجاة من أحب، وخلوتي به، والتذلل بين يديه.

وأما الحج وما أدراك ما الحج، فكما قال ذلك الرجل يصف حبه للطواف وسعادته بالطواف، وفرحه بالطواف:

ففي ربعهم لله بيت مبارك إليه قلوب الخلق تهوي وتهواه
يطوف به الجاني فيغفر ذنبه ويسقط عنه جرمه وخطاياه
فكم لذة كم فرحة لطوافه فلله ما أحلى الطواف وأهناه
فيا شوقنا نحو الطواف وطيبه فذلك شوق لا يحاط بمعناه
فمن لم يذقه لم يذق قط لذة فذقه تذق يا صاحِ ما قد أذقناه

إنها أعظم من السرور بخمر الألعاب الإلكترونية، إنه أعظم من السرور بالأرباح التي تحصد على شاشات البورصة، إن الفرح بالعلم عظيم، قال أبو عبيد وقد ألف كتاب غريب الحديث في أربعين سنة: وربما كنت أستفيد الفائدة من أفواه الرجال، فأضعها في موضعها من هذا الكتاب، فأبيت ساهراً فرحاً مني بتلك الفائدة، لا يستطيع أن ينام الليل من فرحته بالفائدة.

أما فرح المسلمين بهلاك الشديد من الكفار عظيمة، حتى كانوا يسجدون شكراً، كما سجد علي عندما حصل قتل ذي الثدية من الخوارج، وسجد أبو بكر لما جاءه قتل مسيلمة.

وقال ابن كثير في تاريخه عن رجل يقال له: الحسن بن صافي بن بزدن التركي، من المتحكمين في بغداد، كان باطنياً خبيثاً، متعصباً للروافض، وكان في خفارته وقوته حتى أراح الله المسلمين منه، قال ابن كثير: وحين مات فرح أهل السنة بموته فرحاً شديداً، وأظهروا الشكر لله، فلا تجد أحداً منهم إلا يحمد الله.

وهكذا نحن نفرح لما أصاب الكفار من المصائب، من قتل، أو ذبح، أو جرح، أو بلاء، أو زلزال، أو إعصار، أو هبوط اقتصادي، أو زيادة بطالة، ونحو ذلك من المصائب؛ لأن هذا من الإيمان، الفرح بما أصاب أعداء الله بأيدينا أو من الله مباشرة، فينبغي أن لا نغفل عن هذه العبادة وهي التعبد لله بمشاعرنا، ومنه هذا الفرح.

سيولة الأسهم وحكم شرائها وبيعها بالتقسيط

00:36:47

أيها الإخوة: ويسأل كثير من الإخوان عن مسألة تتعلق بتحصيل السيولة من وراء شراء الأسهم بالتقسيط وبيعها، وإليكم الجواب مختصراً في نقاط:

أولاً: إذا أردت أن تشتري أسهماً فتأكد أنها أسهم لشركة مباحة، مجال عملها مباح كالزراعة، والصناعة، والعقار، ونحو ذلك، وليس مجالاً محرماً كأعمال الميسر، والخمر، والسياحات المحرمة، والتأمين التجاري المحرم، ونحو ذلك من أنواع النشاطات.

ثانياً: أن تكون طريقة التعامل في الشركة وفق الكتاب والسنة، فإذا كانت مثلاً تقترض بالربا لتبني مصانع، وتكثر خطوط الإنتاج، وتوسع المباني، ونحو ذلك، فإن هذا الاقتراض الربوي الذي يدخل في صميم الشركة، في أبنيتها، في مصانعها، وآلاتها، ومعداتها خطير جداً، والمساهم شريك، والشريك مسؤول عما يقع في الشركة، وهذا يظهر من ميزانياتها، وكلام الخبراء الاقتصاديين المسلمين، في أنواع الشركات.

ثالثاً: لا بد أن تتأكد عند شراء أسهم أن الذي تشتري منه يملك هذه الأسهم، تشتري منه بالتقسيط يملك هذه الأسهم، فإذا امتلكها جاز لك الشراء منه.

رابعاً: إذا أردت أن تبيع هذه الأسهم ففارق مجلس العقد، خذ ما يثبت امتلاكك للأسهم، وغادر مجلس العقد، لينقطع خيار المجلس، ثم تبيعها في ذلك المجلس بعد فراقه، أو في مجلس آخر، أو في مكان آخر، ومعروف أن الشبكة في شراء الأسهم وبيعها واحدة متصلة بعضها ببعض في مقار بيع الأسهم، مفارقة مجلس العقد لينتهي خيار المجلس، ثم تبيع بعد ذلك، ثم لا يجوز لك أن تبيعها نقداً على من اشتريتها منه بالتقسيط، لا يجوز أن تبيعها عليه نقداً بسعر أقل؛ لأن هذا بيع العينة، فإذا أردت أن تبيع الأسهم التي اشتريتها من شخص بالتقسيط، فلتبعها على طرف ثالث لا علاقة له بالذي اشتريتها منه، حتى لا تقع في الحيلة على الربا.

وبذلك يكون تحصيل السيولة في هذه الحالة في الجملة أمراً مباحاً، علماً أننا نحذر الإخوان من قضية تركيب الديون على نفسه، فربما يكون أسوأ بكثير مما فر منه عندما أراد أن يحصل السيولة، فليكن عاقلاً متزناً في التصرفات المالية، سائلاً مستشيراً ومستخيراً ربه.

اللهم إنا نسألك أن تغنينا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، اللهم اجعلنا ممن يحبون الخير ويقضون به، وبه يعدلون، اللهم اهدنا لعمل الصالحات لا يهدي لها إلا أنت، واصرف عنا السيئات، لا يصرفها عنا إلا أنت، اللهم اجعلنا مقيم الصلاة ومن ذرياتنا ربنا وتقبل دعاء، ربنا اغفر لنا ولوالدينا، وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وقوموا إلى صلاتكم.

1 - رواه البخاري 6308 ومسلم 2747 واللفظ لمسلم
2 - رواه ابن ماجه 4024
3 - رواه البخاري 3688
4 - رواه البخاري 6168 ومسلم 2640
5 - رواه البخاري 567 ومسلم 641
6 - رواه البخاري 1904
7 - رواه البخاري 2138
8 - رواه البخاري 3925
9 - رواه البخاري 4941
10 - رواه الحاكم في المستدرك 4941
11 - رواه البخاري 680
12 - رواه أحمد 22989
13 - رواه مسلم 2491
14 - رواه البخاري 4960
15 - رواه أحمد 21137
16 - رواه البخاري 3623و3624
17 - رواه الترمذي 1145
18 - رواه أبو داود 2116