السبت 19 شوّال 1445 هـ :: 27 أبريل 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

30- ما جاء في صفة كلام رسول الله ﷺ في الشعر 1


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، بعد:

فقد قال الإمام الترمذي -رحمه الله-: "باب ما جاء في صفة كلام رسول الله ﷺ في الشِّعر"

هل جاء في كلامه شيء من الشِّعر؟ هل أنشد شيئًا من الشِّعر؟ هل كان يستمع إليه؟ أراد الترمذي -رحمه الله- أن يبين من أحوال النبي ﷺ هل كان يتعاطى الشِّعر؟

الشِّعر كما قال الفيومي: الشعر العربي هو النظم الموزون، وحده ما تركب تركبًا متعاضدًا، وكان مقفًا موزونًا، مقصودًا به ذلك، فقد يقول الإنسان كلامًا يوافق شيئًا من أوزان الشعر، لكنه لا يقصد أن يقول شعرًا، فلا يسمى شعرًا ولا يسمى صاحبه شاعرًا، ولهذا ما ورد في الكتاب والسنة موزونًا فليس بشعرٍ لعدم القصد، ومأخوذ من شعرتُ إذا فطنتُ وعلمتُ، وسمي شاعرًا لفطنته وعلمه به، وقال الفيروزآبادي: الشِّعر غلب على منظوم القول لشرفه بالوزن والقافية" [القاموس المحيط: 416].

وبالإضافة إلى ذلك فإن الشاعر يتميز بأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، ولذلك سُمّي شاعرًا؛ لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، كما قال ابن رشيق، وإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه أو استظراف لفظ وابتداعه أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني؛ لا يكون حينئذ شاعرًا.

استهلّ الترمذي -رحمه الله- هذا الباب بحديث المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها- قال: قيل لها هل كان رسول اللهﷺ يتمثّل بشيء من الشِّعر؟

قالت: " كان يتمثل بشعر ابن رواحة ويتمثل بقوله: ويأتيك بالأخبار من لم تزود". وهذا الحديث صحيح. [رواه الترمذي في الشمائل: 242، وصححه الألباني في مختصر الشمائل:  206].

وقول السائل: "هل يتمثل بشيء؟"  يعني: هل يستشهد بشيء، هل أنشد بيتًا، قالت: "كان -يعني أحيانًا- يتمثّل بشعر ابن رواحة؛ وهو عبد الله بن رواحة الخزرجي أحد النقباء، شهد بدرًا وأحد والخندق والمشاهد بعدها إلا الفتح، وما بعده، وذلك؛ لأنه قُتل يوم مؤتة شهيدًا أميرًا فيها.

فكان ﷺ يعجبه شعر ابن رواحة فيتمثل به، ويتمثّل بشعر غيره، كما تمثل بقول أخي قيس: طرفه بن العبد البكري، صاحب المعلقة المشهورة الذي قال في قصيدته: ويأتيك بالأخبار من لم تزوِّد، من التزويد وهو إعطاء الزاد، والزاد طعام يتخذه المسافر، وقوله: "ستبدي" من الإبداء، ستظهر لك الأيام ما كنت غافلاً عنه، وينقل لك الأخبار من لم تعطه الزاد، فهذا معنى البيت كما قال في تحفة الأحوذي.

وقال ابن عبد البر: "الحديث هذا فيه إجازة إنشاد الشِّعر، والتمثل به، واستماعه، وإذا كان رسول الله ﷺ يسمعه وأبو بكر ينشده، فهل للتقليد والاقتداء موضع أرفع من هذا؟"

وما استشهد به النبي ﷺ وأُنشد بين يديه أكثر من أن يحصى، ولا ينكر الشعر الحسن أحد من أهل العلم ولا من أولي النهى.

وهل قال النبي ﷺ شيئًا من الشعر؟ وإذا كان قاله فما هو الجمع بينه وبين قوله تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس: 69]، هذا هو الأصل في النبيﷺ أنه لا يقول الشعر، والقرآن ليس شعرًا، والنبي ﷺ كان أُميًا لا يقرأ ولا يكتب ولا يقول الشِّعر، وهذا من حفظ الله لكتابه للقرآن؛ لأنه لو كان قارئًا لقالوا: إنه أتى بهذا القرآن من غيره وقرأ في الكتب وأتى بالقرآن، لكن لا يقرأ ولا يكتب، فمن أين جاء بالقرآن؟ فلا بد أن يكون بوحي يوحى إليه، وليس هو بشاعر مع فصاحته ومع بلاغته ﷺ ليس بشاعر، فإن القرآن أعلى من الشِّعر، وأبلغ وأعظم، ولذلك فإن القرآن قد كان في حسِّه متغلبًا على أي شيء آخر من الفصاحة عند العرب كالشعر، لكن كان يسمع الشعر، ربما يستشهد به.

وقد حاول الكفار أن يقولوا إن القرآن من الشعر، وأن النبي ﷺ شاعر، ومن أسباب ذلك الكلمات الموزونة التي وقعت في القرآن، ووجود القوافي المتشابهة، يعني مثلاً آيات كلها تنتهي بالواو والنون ونحو ذلك، فقالوا هذا شعر، لكنهم كذبوا في ذلك؛ لأنه من المعلوم أن للشعر أوزانًا وبحورًا، وليس هذا على أوزان الشعر أبدًا، والله ذمّ الشعراء إلا طائفة منهم، قال :  وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ، الغاوون الذين يتبعون الشعراء فيكون الشعر هذا فيه إغواء لهؤلاء، لماذا ذمهم؟ قال تعالى عنهم:  وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ  واستثنى طائفة:  إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا  [الشعراء: 224 - 227]، وقد قال تعالى عن النبي ﷺ: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ  [يس: 69].

وعن أبي هريرة ، قال: قال رسول الله ﷺ:  إن أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل  [رواه البخاري: 3841، ومسلم: 2256]. هذا الشاعر هو لبيد، "أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، وكاد أمية بن أبي الصلت أن يُسْلِم" والحديث هذا أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة في باب أيام الجاهلية، ومسلم في كتاب الشِّعر.

النبي ﷺ أثنى على عبارات صحيحة للشعراء، فقال: أصدق كلمة قالها الشاعر ، أصدق كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد، وهذه الكلمة هي:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
وكل أناس سوف تدخل بينهم دويهية تصفرُّ منها الأنامل

فقال: "أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل".

ولبيد هو: ابن أبي ربيعة العامري، قدِم على النبي ﷺ سنة وفد قومه، وكان شريفًا في الجاهلية والإسلام، وقد نزل الكوفة، ومات سنة واحد وأربعين للهجرة، لبيد هذا من فصحاء العرب وشعرائهم، أسلم ولكن هذا البيت قاله في الجاهلية قبل أن يُسلِم.

وهو: لبيد بن ربيعة بن عامر بن مالك العامري، يُكْنى: بأبي عقيل، وذكره في الصحابة البخاري، وابن أبي خيثمة، وقال لعمر لما سأله عما قاله من الشعر في الإسلام، عمر يسأل لبيد بعد ما أسلم: ماذا قلت من الشعر في الإسلام؟ قال: قد أبدلني الله بالشعر سورة البقرة" [فتح الباري لابن حجر: 7/153]، أنا لما دخلتُ في الإسلام وقرأت القرآن، القرآن طغى على شعري؛ ولذلك فعلاً القرآن أسكت الشعراء، فلم يقولوا إلا قليلاً، ولما ترى ما كانوا يقولون قبل نزول القرآن من معلّقات والأبيات العظيمة، فلما جاء القرآن؛ لأنه أعلى من الشعر انشغل الشعراء به.

ولبيد أصلاً كان في الجاهلية معمّر، ولما جاء الإسلام أسلم، ومات سنة واحد وأربعين للهجرة، فيكون عاش مائة وخمسين عامًا، وهو القائل:

ولقد سئمتُ من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس كيف لبيد

إذًن، ومن يعش ثمانين حولاً فلا أبًا لك يسأمِ، هذا عاش مائة وخمسين!

والحديث فيه منقبة للبيد ، وأن هذه الكلمة كلمة حق: "ألا كل شيء ما خلا الله باطل"، ومعنى باطل هنا يعني: فاني ومضمحل، وقد قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن: 26]،  كُلُّ ‌شَیۡءٍ ‌هَالِكٌ ‌إِلَّا ‌وَجۡهَهُۥ  [القصص: 88]، ، فكل ما عدا الله يفنى، ويجوز عليه الذهاب والاضمحلال، أما الله فإنه باق سبحانه، وأي شيء آخر يبقى ولا يفنى، فإنما هو بإبقاء الله له، فإن قال قائل: الجنة باقية والنار باقية، والولدان مخلّدون والحور العين، نقول: هذا بإبقاء الله لها، ولو أنه أراد أن يفنيها فنيت وذهبت واضمحلت، ولكنه قضى بأن تبقى الجنة والنار.

وقوله في الحديث: "وكاد أمية بن أبي الصلت أن يُسلم" قارب الإسلام، أُمية بالتصغير، ابن أبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي، كاد أن يُسلم لكثرة ما في شعره من حقائق الوحدانية، وكان متعبّدًا في الجاهلية من بين الخلائق، وكان يتدين ويؤمن بالبعث، وأدرك الإسلام إلا أنه لم يُسلم، لكن في الحقيقة الرجل كان يعتقد بأن الله واحد، ويؤمن بالبعث بعد الموت، لكن ما كتب الله له أن يدخل في الدين.

وذكر أبو الفرج الأصبهاني أنه قال عند موته: "أنا أعلم أن الحنيفية حق"، يعني: أن الإله واحد، والمعبود واحد، "ولكن الشك يداخلني في محمد، فالله أعلم بالحقيقة".

وقال الحافظ: "في هذا الحديث تلميح" الحافظ -رحمه الله- كان يعلّق على إيراد البخاري لهذا الحديث في هذا الباب؛ لأن البخاري قد أورد الحديث في كتاب فضائل الصحابة في باب أيام الجاهلية، قال ابن حجر: "وفي إيراد البخاري هذا الحديث في هذا الباب تلميح بما وقع لعثمان بن مظعون بسبب هذا البيت مع ناظمه لبيد بن ربيعة قبل إسلامه، والنبي ﷺ يومئذ بمكة، وقريش في غاية الأذية للمسلمين، فذكر ابن إسحاق عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عمن حدّثه -وهذه جهالة في السند-، عن عثمان بن مظعون أنه لما رجع من الهجرة الأولى إلى الحبشة دخل مكة في جوار الوليد بن المغيرة، فلما رأى المشركين يؤذون المسلمين وهو آمن رد على الوليد جواره" يعني: يريد أن يصبح عثمان أُسوة بالآخرين من الصحابة، يعني هو أجاره واحد مشرك وحماه، وإخوانه الباقين المسلمين يعذبون لا أحد يحميهم من قريش؟ فذهب إلى الوليد ورد قال: أردُّ عليك جوارك وأنت في حِل الآن، وأنت غير  مسئول عن حمايتي، "وبينما هو في مجلس لقريش، وقد وفد عليهم لبيد بن ربيعة فقعد ينشدهم من شعره"، لبيد ينشد قريشًا وعثمان بن مظعون المسلم فيهم، "فقال لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، فقال عثمان بن مظعون: صدقت، فقال لبيد: وكل نعيم لا محالة زائل، فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول، قال لبيد: متى كان يؤذى جليسكم يا معشر قريش؟" يعني هذا يتعدّى عليّ يقول إني أنا كذبت، لبيد كان كافرًا قريش كفار، عثمان ما عنده أحد يحميه الآن، فقام أحدهم فلطم عثمان فاخضرّت عينه، فالوليد الكافر الذي أجاره من قبل لامه قال: لم رديت عليّ جواري؟ أنت رديت علي جواري خذ الآن ماذا حصل لك، "قال: قد كنتَ في ذمّة منيعة" يقول الوليد: قد كنتَ في ذمة منيعة، قال عثمان: "إن عيني الأخرى لما أصاب أختها لفقير"ة، قال عيني الأخرى التي ما أصيبت فقيرة تريد مثل الذي أصاب العين الأخرى، يعني أنه مستعد أن يتحمل في سبيل الله، "قال الوليد: عُد إلى جوارك، قال: بل أرضى بجوار الله تعالى"، فيه قوة المسلمين في الرد، وأن الواحد إذا قيل أمامه الكلمة الباطلة ما يتحمل، بالرغم من أنه مستضعف وهو واحد وهؤلاء جماعة ويضربون، ولا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، ولكن يصبرون، فلما سمع عبارة: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، قال: صدقت، وكل نعيم لا محالة زائل، قال: كذبت، هذا نعيم الجنة لا يزول" [فتح الباري لابن حجر: 7/153].

ثم ساق الترمذي -رحمه الله- حديث جندب بن سفيان البجلي قال: أصاب حجر إصبع رسول الله ﷺ فدميت، فقال ﷺ:  هل أنت إلا إصبع دميتِ، وفي سبيل الله ما لقيتِ [رواه الترمذي في الشمائل: 244، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 208]. فالآن هذا الكلام هل هو شعر؟ الحديث أخرجه البخاري في باب: من يُنكب في سبيل الله، في كتاب الجهاد، هل أنتِ إلا إصبع دميتِ ، دميتِ: دمي الشيء يدمى دمًا ودُميًّا فهو دَمٍ، والمعنى أن إصبعه ﷺ جرحت، وكان خارج في الجهاد، فظهر منها الدم فصارت في هذه الحالة قد دميتِ، "هل أنت": يعني ما أنت إلا إصبع دميت، صفة للإصبع، ولما توجعت قال: هل أنت إلا إصبع دميتِ، تثبتي فإنك ما ابتليتِ بشيء من الهلاك والقطع إلا هذا الدم الذي خرج وهذا شيء يسير في سبيل الله ويهون في مرضاة الله.

فيؤخذ من هذا البيت: هل أنت إلا إصبع دميتِ، وهذا ممكن أيضًا نعلمه لأطفالنا؛ لأن الأطفال إذا رأى الواحد الدم تروّع هاله الأمر، فيؤخذ من البيت أو من هذا الكلام الذي قاله ﷺ عدم تهويل الأمور، عدم تهويل الأمور، فلما جرحت إصبعه فأوجعته قال: هل أنتِ إلا إصبع دميتِ ، فما قطعتِ، ما أصابك البتر والقطع، كل المسألة جرح، فيؤخذ منه عدم تهويل الأمور، فكأنه يقول لنفسه: لا تجزعي، لا تخافي، ما هذا إلا جرح يسير أصاب الإصبع، وفي سبيل الله ما لقيت، يعني محسوب عند الله تعالى لا يضيع.

وقد اختلفوا هل قاله النبي -عليه الصلاة والسلام- ابتداء أو قاله متمثلاً به؟ يعني قاله مستشهدًا به من كلام غيره، أو أنه لم يقصد الشعر، قال كلامًا فخرج موزونًا دون قصد، فإما أنه أخذه من غيره فاستشهد بكلام غيره، أو أنه قاله هكذا فخرج موزونًا وهو شيء نادر جدًا، وهذا يشبه الرجز الذي قاله جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة؛ لأن جعفر قال رجزًا في معركة مؤتة، ولما قُتل أخذ الراية بعد جعفر عبد الله بن رواحة فقاتل فأُصيب إصبعه؛ فارتجز وجعل يقول:

هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت
يا نفس إلا تقتلي تموتي هذي حياض الموت قد صليتِ
وما تمنيتِ فقد لقيتِ إن تفعلي فعلهما هديتِ

"فإن تفعلي فعلهما هديتِ": يقصد التأسي بأخويه اللذين مضيا وقتلا؛ جعفر وزيد.

ثم قال الترمذي -رحمه الله-: عن البراء بن عازب، قال: "قال له رجل أفررتم عن رسول الله ﷺ يا أبا عمارة، فقال: لا، والله، ما ولّى رسول الله ﷺ ولكن ولّى سرعان الناس، تلقتهم هوازن بالنبل ورسول اللهﷺ على بغلته، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بلجامها، ورسول الله ﷺيقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب [رواه الترمذي: 1688، وصححه الألباني في وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 1451]. 

ونلاحظ هنا أن الترمذي -رحمه الله- يجمع الأحاديث التي فيها شعر أو ما يشبه الشعر؛ لكي تفهم على وجهها الصحيح، هذا استعاره من غيره، أو استشهد به من كلام غيره، هذا رواه فكسره، قدّم وأخر، هذا قاله ربما من عنده فوافق وزن شعر أو ما قصد أن يقول شعرًا، فكل واحد له، هذا رجز وليس بشعر.

هذا الحديث رواه البخاري ومسلم، والسائل يسأل البراء: "أفررتم عن رسول الله ﷺ": يقول له: أتولّيت يوم حنين؟.

"قال أبو عمارة" وهو البراء : "لا، والله، ما ولى رسول الله ﷺ ولكن سرعان الناس"، السرعان: الذين يتسارعون إلى الشيء، "تلقتهم هوازن بالنبل": رشقتهم ورمتهم بالسهام، وهوازن: القبيلة العربية الكبيرة المعروفة التي فيها عدة بطون، وينسبون إلى هوازن بن مضر بن حفصة بن قيس بن غيلان بن إلياس بن مُضر.

"ورسول الله ﷺ على بغلته": وكان لونها أبيض كما في رواية الشيخين، "وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم" ابن عم النبي ﷺ، وكان إسلامه قبل فتح مكة؛ لأن النبي ﷺ خرج فلقيه في الطريق وهو سائر إلى فتح مكة، فأسلم وحسُن إسلامه وخرج إلى غزوة حنين، وكان فيمن ثبت مع أنه حديث عهد بالإسلام، ثبت النبي ﷺ على بغلته البيضاء، وثبت معه نفر من أصحابه، وكان يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب ، فما هذا الذي قاله؟

قال بعضهم: إنه كان نظمًا لغيره، أنت النبي لا كذب، أنت ابن عبد المطلب، فقلبه إلى: أنا النبي لا كذب،  أنا ابن عبد المطلب .

وقيل: إن هذا رجز؛ والرجز ليس من أقسام الشعر، وهذا مردود؛ لأنه يعتبر من أقسامه.

ثالثًا: إنه لا يسمى شعرًا حتى يكون هناك أبيات وقصيدة، وما هذا إلا كلمات يسيرة.

رابعًا: وهو أعدل الأجوبة أنه خرج بغير قصد الشعر، فصار موزونًا، فوافق وزنًا للشعر وكان بغير قصد.

لماذا سمّى نفسه ابن عبد المطلب مع أنه محمد بن عبد الله؟ لأن ابن عبد المطلب أشهر، ويجوز أن ينتسب الإنسان إلى جده، يقول: أنا ابن فلان يقصد الجد، وعبد المطلب مشهور في العرب بالنباهة والذِّكر وطول العمر، عبد الله ابنه والد النبيﷺ مات شابًا، ما كان له ذكر كثير ليس مشهورًا، يعني عبد الله والد النبي ﷺ تاريخيًا لا يكاد يوجد له قصص وأخبار وأشياء، بخلاف الجد، الجد عبد المطلب، ولذلك كان العرب ينسبونه إلى جده، فيأتي واحد يسأل عن النبي ﷺ فيقول: أيكم محمد؟ فيقال: هذا، فيقال: ابن عبد المطلب؟ فيقولوا: نعم، كما جاء ضمام بن ثعلبة قال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فالعرب كانت تعرفه بنسبته إلى جده، واشتهر بين الناس أنه يخرج من ذرية عبد المطلب رجل يدعو إلى الله، ويهتدي الخلق على يديه، ويختم الله به الأنبياء، كان هذا أيام عبد المطلب، يعني هناك كلام حول هذا الموضوع، فلما خرج ﷺ انتسب إلى جدّه ليتذكر ذلك من كان يقوله ويعرفه، وذكر سيف بن ذي يزن قديمًا لعبد المطلب قبل أن يتزوج عبد الله آمنة.

وأراد النبي ﷺ تنبيه أصحابه بأنه لا بد من ظهوره، وأن العاقبة له لتقوى قلوبهم إذا عرفوا أنه ثابت غير منهزم، فقوله:  أنا النبي لا كذب ، لست كذابًا؛ أنا نبي موحى إليّ من الله، أنا مؤيد، أنا حق، وليس بكذب، ولا يخذلني ربي، وأنا متأكد من وعد الله لي، وأنه سينصرني، أنا النبي لا كذب، وأنا لا أفر، أنا ابن عبد المطلب، أنا هنا مكاني، من يعرفني فليأتني.

وكان بسبب ثبات النبي ﷺ عودة جيش المسلمين الذين فر كثير منهم، وكانوا من مسلمة الفتح، حديثو عهد بالإسلام، أما القدامى الصحابة فكثير منهم قد ثبتوا.

وعن أنس أن النبي ﷺ دخل مكة في عمرة القضاء، وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول:

خلّوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تنزيله
ضرْبًا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله

فقال له عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله ﷺ وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال ﷺ:  خلّ عنه يا عمر؛ فلهي أسرع فيهم من نضح النبل أخرجه الترمذي أيضًا في كتاب الأدب من سننه، وصححه الألباني. [رواه الترمذي: 2847،  وصححه الألباني في صحيح مختصر الشمائل: 210].

فالنبي ﷺ أذِن لابن رواحة أن يقول الشعر أمامه، لما دخل مكة في عمرة القضاء، وعمرة القضاء بعد الحديبية، لأن من شروط الحديبية النبي ﷺ يرجع بلا عمرة، ويأتي السنة القادمة، فلما جاء السنة التي بعدها ودخل مكة على الاتفاق، كان عبد الله بن رواحة من عزة الدين في نفسه أنه يمشي بين يدي النبي ﷺ أثناء دخول مكة وهو يرفع صوته وقريش يسمعون:

خلّوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تنزيله
ضرْبًا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله

وقريش تسمع، والنبي ﷺ قال:  لهي أسرع فيهم من نضح النبل ، يعني هذا الكلام أشد وقعًا على قريش من رميهم بالسهام، وهذا يبين أثر الإعلام والحملات الإعلامية، وأنه ينبغي على المسلمين أن يكونوا أقوياء، وأن لا يذلوا، وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ [آل عمران: 139]، فقال ابن رواحة هذا الكلام الشديد على الكفار على مسمع منهم، "خلوا بني الكفار": يا بني الكفار، "عن سبيله": عن سبيل رسول الله ﷺ، ونحُّوا جانبًا لماذا تصدون عن سبيل الله؟ لماذا تصدونه عن دعوة الله؟، "اليوم نضربْكم على تنزيله": نضربكم بالتسكين لضرورة الشعر، "على تنزيله": على حكم تنزيله، "ضربًا يزيل الهام" والهامة هي أعلى الرأس، وقيل: هي الناصية والمفرق، "عن مقيله": عن موضعه، يزيل الرأس عن موضعه، "ويذهل الخليل عن خليله"، يعني: يذهل يشغل ويلهي من الشدة، ينسي ذلك الضرب الخليل ينسيه خليله.

قوله ﷺ: فلهي : الأبيات،  أسرع فيهم : في الكفار، من نضح النبل : يعني أشد تأثيرًا وأسرع من تأثير النبل.

فالشعر سلاح قوي إذا أحسن استعماله واستخدامه وهو من الجهاد باللسان، وقد قال ﷺ:  جاهدوا المشركين بأموالكم، وأيديكم، وألسنتكم ، حديث صحيح، رواه أبو داود والنسائي. [رواه أبو داود: 2504، والنسائي: 3096، وصححه الألباني في المشكاة: 3821].

إذن، ينبغي على المسلمين أن يهتموا بالحرب النفسية الإعلامية التي توهن من عزائم الكفار وتؤذي نفوسهم وتسبب لهم الكآبة والإحباط والذل والشعور بالهزيمة.

سنأتي على بقية الباب -بمشيئة الله تعالى- فيما جاء في صفة كلام الرسولﷺ في الشعر، باب ما جاء في صفة كلام رسول الله ﷺ في الشعر، والله تعالى أعلم.