الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد.
فقد تحدثنا في المرة الماضية عن طرف من أخبار النبي ﷺ في حزنه، بعد أن تحدثنا عن شيء من أخباره في فرحه، ونتحدث اليوم عن طرف من أخبار ﷺ في ضحكه، والضحك متى ما دعت أسبابه ووجدت مقتضياته من الأمور الممدوحة، وقد كان النبي ﷺ بلغ الكمال البشري دائم التبسم، حسن الثغر، طيب النفس، وكان ﷺ تعلو محياه البسمة المشرقة، فإذا قابل بها الناس أسر قلوبهم، فمالت إليه نفوسهم، وكان ضحكه ﷺ إما ملاطفة ومؤانسة لأزواجه، وأصحابه، وضيوفه، أو مشاركة لهم في فرحتهم، أو تصديقًا لخبر ما، أو إقرارًا بصحة أمر، أو تعجبًا من حال إنسان، أو فرحًا وسرورًا ببعض المواقف، أو لسماع ما يضحك ويدخل السرور على النفس، وهذا الضحك في اللغة إذا كان بصوت يسمع البعيد فهو قهقهة، وإن لم يسمع من بعد وكان بصوت فهو ضحك، وأما التبسم فهو مقدمات الضحك ومبادئه، فمنزلة التبسم من الضحك بمنزلة السنة من النوم، والسنة هي النعاس، فالتبسم انفتاح الفم بلا صوت، والضحك انفتاحه مع صوت قليل، والقهقهة انفتاحه بصوت قوي.
صفة ضحك النبي ﷺ
فأما ضحكة ﷺ فقد جاء وصفه في حديث عبد الله بن الحارث بن جزء ، وهو آخر الصحابة موتًا بمصر في سنة ستة وثمانين للهجرة، قال: ما كان ضحك رسول الله ﷺ إلا تبسمًا [رواه الترمذي: 3642، وهو حديث صحيح، صححه الألباني مختصر الشمائل: 194].
يعني لا يزيد على التبسم يعني في الغالب، وقد جاء في قوله تعالى: فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا [النمل: 19] ، يعني شارعًا في الضحك مبتدأ بها.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت النبي ﷺ مستجمعًا قط وضاحكًا، حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم". [رواه البخاري: 6092].
ومعنى مستجمعًا قط ضاحكًا، المستجمع المجد في الشيء القاصد له، يقال: استجمع السيل إذا اجتمع من كل موضع، والمعنى أنها ما كانت تراه مبالغًا في الضحك مستوعبًا للضحك بحيث لا يترك شيئًا منه، ويبلغ منه الغاية، أو النهاية، كلا هذا ما حصل.
واللهوات: جمع لهاة، وهي اللحمة التي بأعلى الحنجرة من أقصى الفم.
وفي هذه الأحاديث دلالة على أن ضحك النبي ﷺ كان تبسمًا في الغالب، وأنه ﷺ في بعض الأحيان كان تبدو نواجذه إذا ضحك.
والنواجذ: جمع ناجذة، وهي الأضراس لا تكاد تظهر إلا إذا بالغ الإنسان في الضحك، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: :والذي يظهر من مجموع الأحاديث أنه ﷺ كان في معظم أحواله لا يزيد على التبسم، وربما زاد على ذلك فضحك، والمكروه من ذلك إنما هو الإكثار من الضحك، أو الإفراط فيه؛ لأنه يذهب الوقار". [فتح الباري: 4/337].
وكان ﷺ يتبسم أو يضحك في وجه بعض زواره ترحيبًا بهم.
فعن جرير بن عبد الله قال: "ما حجبني رسول الله ﷺ منذ أسلمت"، يعني: ما منعي من الدخول عليه في بيته إذا استأذنت عليه، "ولا رآني إلا ضحك" [رواه البخاري: 3822، ومسلم: 2475].
وفي رواية: "ولا رآني إلا تبسم في وجهي". متفق عليه [رواه البخاري: 3035، ومسلم: 2475].
فتفسر الرواية الأولى بالرواية الثانية. فمعنى ضحك يعني تبسم، وهذا من طلاقة الوجه، وهو مناف للتكبر، ويجلب المودة، والابتسامة لها أثر كبير في النفوس.
وفي هذا الحديث فضيلة ظاهرة لجرير لأن النبي ﷺ كان يفرح بلقائه، ويبش لرؤياه وجرير من سلالة ملوك اليمن، وهو رجل له شأن في قومه، وكان سيدًا فيهم، ولذلك كان النبي ﷺ يتألف الوجهاء، وكان جميل الخلقة، حتى روي عن عمر أنه قال: "إن جريرًا يوسف هذه الأمة". [معرفة الصحابة، لأبي نعيم: 5/83].
وقد قال ﷺ: يدخل من هذا الباب رجل من خير ذي يمن على وجهه مسحة ملك يعني: من الجمال. الحديث رواه البخاري في الأدب المفرد. [سنن النسائي الكبرى:8302، والبخاري في الأدب المفرد:250، وصححه الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة: 3193].
ضحك النبي ﷺ مؤانسة وملاطفة لزوجاته
ومن المواقف التي ضحك فيها النبي ﷺ في مؤانساته وملاطفته لزوجاته:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "رجع إليّ رسول الله ﷺ ذات يوم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعًا في رأسي، وأنا أقول: ورأساه" وهو تفجع على ما في الرأس من شدة الصداع، "قال: بل أنا ورأساه أنا أحق منك بهذه الكلمة لأن مرضك زائل بصحة تعقبه، أما أنا مرضي فهو قرب الوفاة، يعني هذا فحوى الكلام، هو قال: بل أنا ورأساه، قال: ما ضرك لو مت فغسلتك، وكفنتك ثم صليت عليك، ودفنتك قلت: لكأني بك والله لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي -يعني بعد الدفن- فأعرست فيه ببعض نسائك"، فتبسم رسول الله ﷺ، ثم بدئ بوجعه الذي مات فيه". [رواه أحمد: 25950، وابن ماجه: 1465، وحسنه الألباني صحيح ابن ماجة: 1197]، وذكر النووي تضعيفه [الأذكار النووية: 1/298].
وأصل القصة في البخاري، على أية حال بلفظ قالت عائشة رضي الله عنها ورأساه، فقال رسول الله ﷺ: ذاكِ لو كان وأنا حي يعني لو متي وأنا حي فأستغفر لكِ، وأدعو لكِ، فقالت عائشة: واثكلياه، والله إني لأظنك تحب موتي، ولو كان ذاك لظللت آخر يومك معرسًا ببعض أزواجك". [رواه البخاري: 7217].
وأصل الثكل فقد الولد، وليس المراد هنا حقيقة، بل من جنس ما كان يجري على لسان العرب في كلامهم، وتبسم النبي ﷺ منها لعبارتها التي دلت على كمال غيرتها حتى بعد وفاتها، والآن حتى لو مت ودفنتني ترجع إلى بيتي أنا وتعرس فيه ببعض زوجاتك في تلك الليلة فهذا تبسمه ﷺ منها، وفيه ما طبعت عليه المرأة من الغيرة، ومداعبة الرجل أهله، وأن ذكر الوجع ليس بشكاية فكم من ساكت وهو ساخط، يعني في قلبه على فعل الله، وكم من شاك وهو راض، لكن يشكو شكوى شرعية يصف حاله إلى طبيب يداويه، أو لقريب يواسيه.
فالمعول على ذلك عمل القلب لا نطق اللسان، كما أشار ابن حجر في فتح الباري، لكن اللسان مغرفة القلب، فالكلمات تدل على ما في القلب، وفي الحديث جواز تغسيل الرجل امرأته خلافًا لما ذهب إليه بعض الفقهاء وبعض الناس من أن المرأة إذا مات تصبح أجنبية عن زوجها، فلا يحل له أن يغسلها، أو تكشف عليه وهذا غير صحيح، لقوله ﷺ: ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك، وكفنتك، ثم صليت عليك.
ومن ذلك ضحكه ﷺ لما حدث بين نسائه من مواقف طريفة:
قالت عائشة: "كان عندنا رسول الله ﷺ، وسودة بنت زمعة، فصنعت حزيرة وهو حسا مطبوخ من الدقيق والدسم والماء" وفي رواية: "أتيت النبي ﷺ بخزيرة" وهي لحم يقطع ثم يطبخ بماء كثير وملح، فإذا نضج يذر عليه الدقيق ويعصد. قالت: وجئت به، فقلت لسودة: كلي.
قالت: لا أحبه.
فقلت: والله لتأكلن أو لألطخن به وجهك.
فقالت: ما أنا بذائقته وأخذت بيدي من الصحفة شيئًا فلطخت به وجهها، ورسول الله ﷺ جالس بيني وبينها، فخفض لها رسول الله ﷺ ركبتيه لتستقيد مني، فتناولت من الصحفة شيئًا فمسحت به وجهي، وجعل رسول الله ﷺ يضحك".
يضحك لماذا هذا تحمل الرجل الكبير لما يكون بين زوجاته من الغيرة، ويأخذها بالمزاح، وهذا من حسن خلقه ﷺ ومعاشرته لزوجاته.
قالت: فجعل رسول الله ﷺ يضحك، فمر عمر فقال: يا عبدا لله! يا عبد الله! فظن النبي ﷺ سيدخل، فقال: قوما قوما فاغسلا وجوهكما، فقالت عائشة: فما زلت أهاب عمر لهيبة رسول الله ﷺ". [رواه النسائي الكبرى: 8917، وأبو يعلى في المسند: 4476، وقال العراقي: إسناده جيد، وحسن إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة:3131].
وضحك النبي ﷺ أيضًا من كلام عائشة الطريف عن لعبها: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "قدم رسول الله ﷺ من غزوة تبوك أو خيبر، قالت وفي سهوتها ستر، فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة -لعب- فقال: ما هذا يا عائشة؟، قالت: بناتي. ورأى بينهن فرسًا له جناحان من رقاع" جمع رقعة وهي الخرقة، فقال: ما هذا الذي أرى وسطهن؟، قالت: فرس، قال: وما هذا الذي عليه؟، قالت: جناحان، قال: فرس له جناحان، قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة؟ قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه". [رواه أبو داود: 4934، وهو حديث وصححه الألباني مشكاة المصابيح: 3265].
فهذا ضحكه ﷺ مما أدخلت عليه زوجته من قلبه من كلامها من المداعبة، وقد قال ﷺ لجابر بن عبد الله: هلا جارية تلاعبها وتلاعبك، أو تضاحكها وتضاحكك متفق عليه. [رواه البخاري: 5367، ومسلم: 715].
فهذه الملاعبة والمضاحكة بين الزوجين تملأ القلوب مسرة، والبيت أنسًا، واستدلوا بهذا الحديث على جواز اتخاذ البنات من اللعب لأجل البنات، يعني اللعبة على هيئة بنت لأجل البنت، لماذا لتدريبهن على الأمومة والتربية منذ صغرهن، وليس من هذا القبيل باربي وساندي، فهذا شيء آخر لأن هذه الألعاب المتقنة الصنع جداً، والتي فيها كل شيء لون البؤبؤ بالتفصيل، فليس من جنس لعب عائشة، لعب عائشة فيها الهيكل العام جسم يدان رجلان شيء على هيئة رأس، أما ما هو موجود اليوم هذا فيه تدريب على قلة الحياء، وتمرين البنات على العري؛ لأن ألبسة ما يسمى بالعرائس هذه التي تأتي من خارج فيها من السوء ما الله به عليم، بالإضافة إلى الإسراف العظيم في الأموال فيها.
ضحك النبي ﷺ مع أصحابه
وضحك النبي ﷺ من سلمة بن الأكوع لما أعطى حجفته لعمه: وبقي دون سلاح، فعن سلمة قال قدمنا الحديبية مع رسول الله ﷺ، ونحن أربعة عشر مائة وعليها خمسون شاة لا ترويها، فقعد رسول الله ﷺ على جبا الركية ما حول البئر، فإما دعا وإما بصق فيها فجاشت يعني البئر، وارتفعت وفاضت قال فسقينا، واستقينا ثم إن رسول الله ﷺ دعانا للبيعة في أصل الشجرة، فبايعته أول الناس، ثم بايع وبايع حتى إذا كان في وسط من الناس، قال: بايع يا سلمة، قلت: قد بايعتك -يا رسول الله- في أول الناس، قال: وأيضًا، ورآني ﷺ عزلاً"، يعني ليس معي سلاح، "فأعطاني رسول الله ﷺ حجفة أو درقة شبيهتان بالترس، ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس، قال: ألا تبايعني يا سلمة، قلت: قد بايعتك -يا رسول الله- في أول الناس وفي أوسط الناس، قال: وأيضًا، فبايعته الثالثة، ثم قال لي: يا سلمة أين حجفتك، أو درقتك التي أعطيتك؟، قلت: يا رسول الله لقيني عمي عامر عزلاً فأعطيته إياها، فضحك رسول الله ﷺ وقال: إنك كالذي قال للأول اللهم أبغني حبيبًا هو أحب إليّ من نفسي. [رواه مسلم: 1807].
وكان ﷺ يتبسم مشاركة لأصحابه في حديثهم: وانبساطهم حتى لو لم يتكلم معهم بما يتكلمون به، ولكن يسمع ويتبسم، فعن سماك بن حرب قال: قلت: لجابر بن سمرة أكنت تجالس رسول الله ﷺ؟
قال: نعم كثيرًا جالست النبي ﷺ أكثر من مائة مرة، كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام"، إذًا هذا الدليل على الجلوس بعد الفجر إلى ارتفاع الشمس، فكان أصحابه يتناشدون الشعر، ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية، وهو ساكت، فيضحكون فربما تبسم معهم". [رواه مسلم: 670، والترمذي: 2850]، وهو حديث صحيح.
وقد جاء في بعض الروايات في شرح ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية، أن أحدهم قال مرة: ما نفع أحدًا صنمه مثل ما نفعني.
قالوا: كيف هذا؟
قال: صنعته من الحيس، فجاء القحط، فكنت آكله يومًا فيومًا، هذا مما كان في الجاهلية، فكانوا يتذاكرون أشياء من هذا القبيل، ويتبسم، وهم يتندرون بهذه الأشياء.
وقال: آخر رأيت ثعلبين صعدا فوق رأس صنم لي وبالا عليه.
فقلت: أرب يبول الثعلبان برأسه؟ فجئتك يا رسول الله، وأسلمت.
اليوم -سبحان الله- كان أحدهم يذكر لنا أن واحد من اليابانيين من العباقرة، وعنده عشر براءات اختراع يشتغل معه في الشركة.
يقول: فجاءهم صباح يوم حزينًا كئيبًا.
قالوا: مالك.
قال: اسكتوا.
قالوا: وأيش فيك؟
قال: ضيعت ربي اليوم فقده.
قالوا: كيف فقده؟
قال: حطيته جنبي قبل ما أنام -زي العادة- قمت الصباح ما حصلته، طبعًا هؤلاء اليابانيين يعبدون بوذا.
يقول: فقال أحدهم له: أي والله صحيح الذي يضيع ربه فعلاً يصير حزيناً، حق له أن يكتئب.
قال: وثاني يوم جاء قال: والله طلع أنا أمس بالليل كذا سويت بيدي كذا، وأنا ما أدري وضربته وطلع يعني وراء في خزانة الملابس.
هذا يدلنا على أهل الجاهلية سواء في القديم، وإلا في الحديث هو مبدأ واحد الذي ما يعرف ربه هذا يسويه من حيس، وهذا يسويه من تمر، وهذا يجيب بوذا، ولذلك -سبحان الله- يعني الكفرة يتعجب الإنسان من حالهم الذين لا يعرفون الله هؤلاء الكفار، ولذلك أكبر نعمة علينا أننا عرفنا ربنا، كيف تعرفه؟ بأسمائه وصفاته وآلائه ومخلوقاته، فإذًا الكفار هؤلاء لا يعرفون ربهم، ومنهم من يعبد عيسى، ومنهم من يعبد شجرًا، ومنهم من يعبد حجرًا.
وكان ﷺ يضحك تعجبًا مما يرى أو يسمع أحيانًا، أو من جرأة بعض الأعراب، كالذي جبذه جبذة شديدة، وقال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك. [رواه البخاري: 5809، ومسلم: 1057]، ضحك لماذا؟ ضحك حلمًا على هذا الأعرابي الذي جاء وجبذه هذه الجبذة، ومن باب الحلم على الجاهل، وأن هذا الرجل قد فعل شيئًا يعني يتعجب منه، وأتى بجرأة عجيبة، ومع ذلك النبي ﷺ ضحك في وجهه تأليفًا له، كان يتألف الأعراب.
وضحك النبي ﷺ من حال أصحابه لما رأى سرعتهم إلى الكن في المطر: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: شكا الناس إلى رسول الله ﷺ قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يومًا يخرجون فيه، قالت عائشة: فخرج رسول الله ﷺ حين بدا حاجب الشمس" ضوؤها وناحيتها "فقعد على المنبر فكبر ﷺ، وحمد الله ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 2 - 4]، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغًا إلى حين، ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، وقلب أو حول رداءه، وهو ورافع يديه، ثم أقبل على الناس، ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابة، فرعدت، وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأتي مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن الناس بسرعة المطر كل واحد يريد أن يحتمي، ضحك ﷺ حتى بدت نواجذه، فقال: أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله. [رواه أبو داود: 1173، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود: 1040].
فلما رأى سرعتهم يعني في مشيهم والتجاؤهم إلى الكن، وهو ما يقي من الحر والبرد من المساكن، فكان ﷺ ضحك تعجبًا من طلبهم المطر اضطرارًا، ثم طلبهم الكن فرارًا، وهذا ضحك التعجب اشتكوا أولاً من عدم المطر، فلما سقوا هربوا طالبين الكن.
وتبسم ﷺ من أم قيس لما توفي ولدها: فعن أم قيس أخت عكاشة بن محصن قالت: "توفي ابني فجزعت عليه، فقلت للذي يغسله -هذه الآن مات ولدها- فقلت للذي يغسله: لا تغسل ابني بالماء البارد فتقتله، فانطلق عكاشة بن محصن إلى رسول الله ﷺ فأخبره بقولها، فتبسم، ثم قال: ما قالت طال عمرها؟ وهذا استفهام تعجب.
قال: فلا نعلم امرأة عمرت ما عمرت". [رواه النسائي: 2009، ضعفه الألباني صحيح وضعيف سنن النسائي: 1882]، قال ابن كثير في إرشاد الفقيه: "إسناده صحيح" وقال محققو المسند: "إسناده محتمل للتحسين". [مسند أحمد: 27044].
وفي الحديث معجزة له ﷺ، فإنه عندما حكي له قول المرأة ضحك تعجبًا من قولها لأن كون الولد يغسل بماء بارد أو حار لا يضره لأنه مات.
وضحك ﷺ تعجبًا من سرعة تغير رأي أصحابه: مرة كما حصل في حصار الطائف، فعن عبد الله بن عمر قال: حاصر رسول الله ﷺ الطائف فلم ينل منهم شيئًا، وكانوا أعدوا ما يكفي لحصار سنة، ورموا المسلمين بسكك الحديد المحماة وبالنبل، فقال النبي ﷺ: إنا قافلون غدًا إن شاء الله، فثقل عليهم، وقالوا: نذهب ولا نفتحه، فقال: اغدوا على القتال، فغدوا فأصابهم جراح، فقال: إنا قافلون غدًا إن شاء الله، فأعجبهم، فضحك النبي ﷺ". [رواه البخاري: 4325، ومسلم: 1778].
ضحك لأنهم امتنعوا عن الرحيل أولاً، ثم انقادوا له ثانيًا لما أصابتهم الجراح، ولم ينالوا شيئًا من العدو، وهو بين الأمس واليوم للحالين المختلفين فرجعوا إلى الرأي السديد، لكن بعدما أصابتهم المشقة فقصد أولاً الشفقة عليهم والرفق بهم بالرحيل لصعوبة فتحه، وشدة الكفار، ولأن البقاء بلا جدوى إلا الخسائر، ولكن أصروا فبقي يومًا آخر، ولكن أصابهم ما أصابهم فأعجبهم، قراره مرة ثانية بالرجوع.
وضحك ﷺ من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل: كما جاء في حديث أبي أمامة قلنا: ومن هم؟ في زيادة عند أبي نعيم، قال: قوم من العجم يسبيهم المهاجرون، فيدخلونهم في الإسلام [تاريخ أصبهان: 2/268، وصححه الألباني في سلسلة الصحيحة: 2874]، يعني: يؤخذون أسارى قهرًا في السلاسل والقيود إلى دار الإسلام، ويكونون من السبي يوزعون على بيوت الناس، ثم يرزقهم الله الإيمان، فيدخلون به الجنة، فهذا ما أضحك النبي ﷺ.
وضحك عجبًا لأمر المؤمن، كما جاء في حديث صهيب: بينا رسول الله ﷺ قاعد مع أصحابه إذ ضحك، فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟، قالوا: يا رسول الله. ومم تضحك؟ قال: عجبت لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابه ما يحب حمد الله وكان له خير، وإن أصابه ما يكره صبر كان له خير، وليس كل أحد أمره كله له خير إلا المؤمن[رواه أحمد: 18959، وهو حديث صحيح، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 147].
وضحك ﷺ من قوم يأمون الكعبة مصادرهم شتى يخسف بهم: فعن عائشة قالت: بينما رسول الله ﷺ نائم إذ ضحك في منامه، ثم استيقظ، فقلت: يا رسول الله مم ضحكت؟
قال: إن أناسًا من أمتي يؤمون هذا البيت لرجل من قريش قد استعاذ بالحرم، فلما بلغوا البيداء خسف بهم مصادرهم شتى يبعثهم الله على نياتهم، قلت: كيف يبعثهم الله على نياتهم ومصادرهم شتى؟ قال: جمعهم الطريق منهم المستبصر يعني القاصد العامد وابن السبيل والمجبور يهلكون مهلكًا واحدًا، ويصدرون مصادر شتىرواه أحمد، وإسناده صحيح. [مسند أحمد: 24738]، وأصله في صحيح مسلم [2884].
وضحك النبي ﷺ تعجبًا لسعة رحمة الله وعدله؛ لأن هؤلاء الذين يغزون البيت الحرام جمعهم الطريق مع ناس ما لهم علاقة بالموضوع، ابن السبيل والمجبور فنزل عليهم ما أهلكهم هلك الجميع في الطريق، لكن يوم القيامة الله لا يظلم أحدًا، فكل واحد يبعث على نيته.
وضحك ﷺ تعجبًا من هيبة نسائه لعمر بن الخطاب: فعن سعد قال: استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله ﷺ وعنده نسوة من قريش يسألنه ويستكثرنه"، يعني يطلبن النفقة والحوائج، "عالية أصواتهن على صوته"، قيل: إن هذا يحتمل أن يكون قبل نزول النهي عن رفع الصوت على صوته، أو أن ذلك كان من طبعهن، أو أن الصوت علا باجتماع الأصوات وليس صوت كل واحدة فوق صوته، "فلما استأذن عمر على النبي ﷺ تبادرن الحجاب" بالانتقال من مكانهن، والاختفاء والاستتار، "فأذن له النبي ﷺ، فدخل والنبي ﷺ يضحك.
فقال: أضحك الله سنك -يا رسول الله- بأبي أنت وأمي.
فقال: عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي لما سمعت صوتك تبادرن الحجاب.
فقال: أنت أحق أن يهبن يا رسول الله، ثم أقبل عليهن، فقال: يا عدوات أنفسهن تهبنني ولم تهبن رسول الله ﷺ.
فقلن: إنك أفظ وأغلظ من رسول الله ﷺ.
وقال ﷺ هنا: إيه يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكًا فجًا إلا سلك فجًا غير فجك [رواه البخاري: 3294، ومسلم: 2396].
وهذا الحديث يحمل على ظاهره، وهو أن الشيطان يهرب من عمر، إذا الشيطان وجد عمر سالكًا طريقًا لا بدّ أن يهرب، فإذا كان الشيطان يهابك فكيف لا يهبنك هؤلاء النسوة.
ضحك النبي ﷺ من التصريح بما يستحيا من ذكره
وأخيرًا: في هذا الدرس ويليه مواضع أخرى لكن في درسنا هذا نختم هذه القصة في ضحك النبي ﷺ من التصريح بما يستحيا من ذكره، في واقعة فتوى ومسألة نسائية، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي ﷺ قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي رسول الله ﷺ وأنا جالسة، وعنده أبو بكر.
فقالت: يا رسول الله، إني كنت تحت رفاعة فطلقني فبت طلاقي"، يعني ثلاثًا مبتوتة، "فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنه والله ما معه يا رسول الله إلا مثل هذه الهدبة، وأخذت طرف الثوب بثوبها" يعني: أنه ما يستطيع الوقاع، "وأخذت هدبة من جلبابها، فسمع خالد بن سعيد قولها وهو بالباب لم يؤذن له، فقال خالد: يا أبا بكر ألا تنهى هذه عما تجهر به عند رسول الله ﷺ، قالت: فلا والله ما يزيد رسول الله ﷺ على التبسم، فقال لها رسول الله ﷺ: لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعةيعني: أنت الآن تأتين بهذه الأعذار، والكلام هذا، تريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته [رواه البخاري: 5792، ومسلم: 1433].
الجامع بينهما الحلاوة هذا في الطعم الحسي وذاك في المعنوي، وفي رواية: جاءت امرأة رفاعة إلى رسول الله ﷺ فقالت: إن رفاعة طلقني فأبت طلاقي، وإني تزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وما معه إلا هدبة الثوب، فضحك رسول الله ﷺ وقال: لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته [رواه النسائي: 5534، وهو حديث صحيح، صححه الألباني صحيح الجامع: 5085].
فكان ضحكه ﷺ وتبسمه تعجبًا منها: إما لتصريحها بما يستحيي الناس من التصريح به غالبًا، وإما لضعف العقل الذي حملها على بغض الزوج الثاني، والقيام بهذه الحركة لمحاولة الرجوع إلى الزوج، يعني طلقني من هذا حتى أرجع إلى الأول، فأتت بهذا الفعل، أو التشبيه والقصة الأخرى، وفيها الرواية الأخرى أن الرسول ﷺ رأى مع الرجلين ولدين أشبه به من الغراب بالغراب، فقال: يعني هذا الذي تزعمين ما تزعمين لو كان ما يستطيع من وأين جاء الأولاد فإذًا لا يصدق القاضي الدعوى، وإنما لا بدّ من النظر والتمحيص.