الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على إمام المتقين، وقائد الغُر المحجلين، والشافع المشفّع يوم الدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد قال الإمام الترمذي -رحمه الله- في كتابه الشمائل المحمدية: "باب ما جاء في عيش رسول الله ﷺ"؛ ومراد المؤلف -رحمه الله- بهذا الباب أن يبين كيف كانت معيشته ﷺ، وكيف كانت معيشة أصحابه وما كانوا عليه من الزهد في الدنيا، ولو شاءﷺ لكان عنده من الدنيا الحظ الأوفى، ولكنه اختار أن يكون عبدًا نبيًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وقد ترجم البخاري -رحمه الله- شيخ المؤلِّف الترمذي في صحيحه باب: "كيف كان عيش النبي ﷺ وأصحابه" [صحيح البخاري: 8/96].
والعيش يُطلق به ويُراد المعيشة والحياة، ويراد به ما تقوم به معيشة الإنسان وحياته أيضًا، والحديث عن محمد بن سيرين قال: "كنا عند أبي هريرة وعليه ثوبان ممشقان من كتّان، فتمخّط في أحدهما، ثم قال: "بخٍ بخٍ، يتمخّط أبو هريرة في الكتان؟ لقد رأيتني وإني لأخِرُّ فيما بين منبر رسول الله ﷺ وحجرة عائشة من الجوع مغشيًا علي، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي يرى أن بيّ الجنون، وما بي جنون، وما هو إلا الجوع" [رواه الترمذي: 2367، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 108].
والحديث قد أخرجه البخاري رحمه الله كما تقدّم.
وقوله: "ثوبان ممشقان"، يعني: مصبوغان بالمشق وهو الطين الأحمر، وقوله: "من كتان": وهو معروف؛ نوع من الثياب معتدل في الحر والبرد واليبوسة، ولا يلزق بالبدن، فتمخط في أحدهما أي انتثر فيه، ثم قال: "بخ، بخ"، وهذه كلمة تدل على الرضا والتعجب، أو الإعجاب بالشيء والفخر ومدح الشيء، ومراد أبي هريرة بهذا هنا التعجُّب من حاله التي صار إليها، فإنه كان جائعًا في عهد النبي ﷺ، يخر مغشيًا عليه من الجوع، والآن يمتخط في الكَتان، ويسأل أمام الناس ويتعجب من حاله ويقول: "وإني لأخر"، أسقط، ما بين المنبر والحجرة: وهو مكان القبر الشريف كما ذكر ابن حجر -رحمه الله-، فيخر من الجوع، فيأتي إنسان يضع رجله على عنقي ليسكن القلق والاضطراب والتلوي الذي يعتريه، يظن به جن، قد ركبه جني أو صرعه جني، وأنه مجنون وأنه يتلوى ويتلبط من الجنون" [فتح الباري لابن حجر: 13/307]. والمجنون معروف أنه لا يسيطر على نفسه ولا على جسده ولا على حركاته، فهو يتخبط، يظن الرائي لأبي هريرة أن ما به جنون، وهذا الذي أصابه وغشي عليه بسببه وسقط على الأرض، يقول: وما بي إلا الجوع، ليس بي جنون ولكن الجوع الذي يجعلني أتلوى، ويظن الذي يراني أنني مجنونًا، ويظن الذي يراني أنني مجنون، وقد كان أبو هريرة عريف أهل الصفّة، وأهل الصفّة كانوا يقلون ويكثرون بحسب الأحوال، ويأتون إلى المدينة ليس لهم أهل ينزلون عليهم، فينزلون في المسجد وهم أضياف الإسلام، وجعل لهم النبيﷺ مكانًا خاصًا وهو المكان المرتفع خلف حجراته، فإذا وقف الواقف اليوم جاعلاً مبنى الحجرات بينه وبين القبلة، فيكون مكان أهل الصفة ملاصقًا لهذا المكان مكان الحجرات فيما بين الواقف وبين القبلة.
ووجه المناسبة بين الحديث والباب: ضيق عيش النبي ﷺ وأصحابه، ولو كان عنده ﷺ شيء ما ترك أبو هريرة جائعًا يتلوى من الجوع، حتى وصل به الحال إلى أن يسقط، وقد جمع الله لحبيبه ﷺ بين مقام الفقير الصابر والغني الشاكر على أتمّ الوجوه، فهو سيّد الفقراء الصابرين، وإمام الأغنياء الشاكرين، فحصل له من الفقر مع إمكان الغنى لو أراد ما لم يحصل لأحد سواه، ومن الشكر على الغنى ما لم يقدر عليه غيره، ومن سبر سيرتَه وجد الأمر كذلك، فكان أصبر الخلق في مواطن الفقر، وأشكر الخلق في مواطن الغنى، فجمع له بين الأمرين في حياته.
ففي هذا الحديث: بيان ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه من الشّدة وضيق العيش، وأن الشّدة وضيق العيش لا يدلان على هوان العبد على ربه، كما أن السَّعة لا تدل على كرامة العبد، وقد قال الله في كتابه: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا [الفجر: 15-17]، أي: ليس الأمر كذلك.
والفقر وشدة الفقر ليست عذرًا للتخلف عن طلب العلم، فمع أن أبا هريرة كان يتلوى من الجوع ويسقط مغشيًا عليه، لكن كان يحضر المجالس ويحفظ ويواظب يحضر ، بل كان ألزم الناس لمجالس النبي ﷺ وأحفظ الصحابة قاطبة لحديثهﷺ على الرغم من تأخر إسلامه، وكثيرون ممن واظبوا على العلم وعندهم سعة في الدنيا لا يتلوون من الجوع ما حصل لهم مثل علمه ، وكما لم يكن الفقر مانعًا لسلفنا عن طلب العلم، فكذلك لم يكن مانعًا لهم عن الجهاد، وقد سبق في حديث البخاري: "لقد فتح الفتوح قوم ما كانت حلية سيوفهم الذهب ولا الفضة، إنما كانت حليتهم العلابي والآنك والحديد".
وفي الحديث: أن من صفات عباد الله أنهم يتذكرون نعمة الله عليهم، ومهما تقلبت بهم الأيام وتحسنت أحوالهم وازدادت أموالهم وترفهت ثيابهم ومطاعمهم فإنهم لا ينسون ما كانوا عليه.
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا | من كان يألفهم في المنزل الخشن |
فلو انتقلوا من الحي الفقير إلى حي غني وبنوا بيوتًا وقصورًا، لكنهم يتذكرون من كانوا معهم من أهل ضيق العيش، ولا يزالون يواسونهم ويرسلون إليهم وجيرانهم السابقين، حسن العهد من الإيمان، يتعاهدونهم دائمًا، فالمؤمن إذا أنعم الله عليه ما بطر ولا نسي ربه ولا نسي أيام فقره، وقد قال : وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [يونس: 12].
وأهل التواضع إذا أغناهم الله يتحدثون عن أيام فقرهم بخلاف أهل الطغيان، فإنهم إذا أغناهم الله يقولون: ورثنا هذا المال كابرًا عن كابر، مع أنه أصلاً هو أصلاً ماذا كان؟ أبرص يقذره الناس، أقرع كذلك، ولما أعطاهم الله وجاءهم الملَك على صورته وهيئته الأولى قالوا: إنما ورثنا هذا المال كابرًا عن كابر، الحقوق كثيرة، الأعمى لما أتاه الله المال قال: كنت وكنت خذ ما شئت لا أمنعك من شيء أبدًا [رواه البخاري: 3464، ومسلم: 2964].
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قصة تُشْبه هذه؛ كما قال أبو هريرة فيها: "آلله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدتُ يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ ولم يفعل، ثم مرّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ فلم يفعل، ما فطن له أحد، ثم مرّ بي أبو القاسم ﷺ فتبسّم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: أبا هر ، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق ، وذكر قصة إناء اللبن وكيف أنه سقى أهل الصفة كلهم وسقى أبا هريرة بعد ذلك شرب محمد ﷺ. [رواه البخاري: 6452].
الصحابة -رضوان الله عليهم - عاشوا حياتين فعلاً، عاشوا حياة الفقر والشدة، بل عاشوا حياة القتل والتعذيب والمطاردة والحصار والهجرة وترك البلد وفراق الأهل والوطن وانتقلوا إلى بلد غربة؛ وتأقلموا مع ذلك بالرغم من المصاعب النفسية، وجاهدوا وقاتلوا، وحصار الخندق بعد حصار شِعب أبي طالب، والحصار من جميع الجهات، ومع ذلك صبروا وثبتوا، ولما مات -عليه الصلاة والسلام- صبروا على مصيبة موته، وحاربوا المرتدين مع أن أكثر العرب ارتدت ما بقي إلا أهل مكة والمدينة والطائف، ثم بعد ذلك انطلقوا في الفتوحات في فارس والروم أرمينيا وأذربيجان، ابن عمر في أرمينيا وأذربيجان، وحذيفة في المغرب وفي المشرق وقسم إيوان كسرى فتح، وأخذت الخزائن خزائن فارس والروم والذهب والفضة، وما تغير الصحابة هم هم -رضوان الله عليهم-، وهذا أبو هريرة مثال جُعل أميرًا أميرًا على بلد وتزوج امرأة، ما كان يحلم أن يتزوج بها من قبل، ومع ذلك كان يحمل الحطب على ظهره ويقول: "طرِّقوا للأمير طرِّقوا للأمير"، فهو يتواضع .
قال: وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "إن كنا آل محمد ﷺ نمكث شهرًا ما نستوقد بنار إن هو إلا التمر والماء".
يعني: ما هو شأننا أو عيشنا إلا التمر والماء، وقوله: "إن كنا" مخففة من المثقلة يعني: إنَّا كَّنا، "آلَ محمد" النصب على الاختصاص، يعني: هم آل محمد ﷺ، "نمكث شهرًا ما نستوقد بنار": لا نخبز ولا نطبخ؛ لأنه ما عندنا شيء أصلاً نخبزه، نوقد نار لماذا، إن هو طعامنا لم يكن إلا التمر والماء؛ لأنه لا يحتاج إلى إيقاد نار.
وفي رواية: أن تلك الحال كانت ربما استمرت بآل بيت النبي ﷺ شهرين كاملين، ليس يوم ولا يومين، شهرين، فتقول عائشة -رضي الله عنها- لعروة -رحمه الله-: "والله يا ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال -كم المدة؟ المدة شهران، ثلاثة أهلة في شهرين- وما أوقد في أبيات رسول الله ﷺ نار"، قلت: يا خالة فما كان يعيشّكم؟ قالت: "الأسودان التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله ﷺجيران من الأنصار كانت لهم منائح، فكانوا يرسلون إلى رسول الله ﷺ من ألبانها فيسقيناه" [رواه البخاري: 2567، ومسلم: 2972].
ثم قال: وعن سماك بن حرب قال: سمعت النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- يقول: "ألستم في طعام وشراب ما شئتم، لقد رأيت نبيكم ﷺ وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه" حديث صحيح ورواه مسلم أيضًا. [رواه مسلم: 297، والترمذي: 2977].
فيقول النعمان بن بشير لمن معه من التابعين أو من الصحابة: ألستم في طعام وشراب ما شئتم، وسع عليكم ما تشاءون، وعندكم من الأصناف ما تشتهون، لقد رأيت نبيكم ﷺ من إعراضه عن الدنيا ما يجد من الدقل: التمر الرديء واليابس، ولذلك لا يجتمع دائمًا تراه منثورًا، لأنه يابس رديء دقل، "ما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه".
وفي رواية لمسلم وابن ماجه عن سماك بن حرب قال: سمعت النعمان يخطب قال: ذكر عمر ما أصاب الناس من الدنيا، فقال: "لقد رأيت رسول الله ﷺ يظل اليوم يلتوي ما يجد دقلاً يملأ به بطنه"، يلتوي يعني يتلوى من الاضطراب والجوع.
وفي الحديث: بيان ما كان عليه النبي ﷺ من ترك التوسُّع في الطيبات من المآكل والمشارب، وترك الشبع حتى من خبز الشعير ما شبع، حتى خبز الشعير، الشعير اليوم يطعمونه للدواب، الناس اليوم لا يأكلون الشعير، من قديم كانوا يأكلون الشعير ويعملون منه خبزًا، هو أصلاً ﷺ حتى من خبز الشعير ما شبع، وهو القائل: "إياي والتنعم؛ فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين".
وفي الحديث: الأكل مع الضيف، والأكل مع الأهل، وهذا من أخلاق النبوة.
وقول المؤلّف -رحمه الله- وعن أنس بن مالك: "أن رسول اللهﷺ لم يجتمع له غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلا على ضفف" [رواه الترمذي: 377، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 117].
وعن مالك بن دينار قال: "ما شبع رسول الله ﷺ من خبز قط، ولا لحم إلا على ضفف".
قال مالك سألت رجلاً من أهل البادية: ما الضفف؟ قال: أن يتناول مع الناس، "الغداء": طعام أول النهار، و"العشاء": طعام آخر النهار"[رواه الترمذي: 73، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 109]، من قبلُ كان عندهم وجبتان كان لهم وجبتان فقط، في أول النهار وفي آخر النهار، فكان ﷺ لا يجتمع عنده الخبز واللحم إلا مع الضيوف، وقوله: "على ضفف" فُسر في حديث مالك بن دينار بالتناول مع الناس، يعني أنه ﷺ ما كان يأكل وحده، لكن مع الناس، واليوم الوجبات، هذه بروست تبع نفر واحد، وهذا تبع نفر واحد، الناس تصمم الأكلات كل واحد يأكل وحده، فالنبي ﷺ كان إذا اجتمع عنده خبز ولحم لازم يكون مع ناس، أما لوحده ما كان عنده خبز ولحم، مع بعض ما في خبز ولحم مع بعض، والمعنى ما شبع ﷺ في زمن من الأزمان إذا أكل وحده، ولكن شبع منهما إذا نزل به الضيف، أو كان يأكل مع أهل بيته، فيشبع حينئذ لضرورة الإيناس والمجابرة، يعني لأجل أن لا يستحي الضيف، لأنه لو توقف عن الأكل توقف الضيف، وقيل الضفف اجتماع الأيدي على الطعام، أو يكون الأكلة أكثر من الطعام، فإذن، كان ﷺ يأكل مع الضيف وكان لا يتوسع من الطيبات وفي هذا الحديث مشروعية أن يوسع الإنسان على ضيفه أكثر مما يوسع على نفسه أو أكثر مما يعتاده.
وقد جاء في البخاري ومسلم من حديث أبي شريح العدوي أنه قال: سمعت أذناي وأبصرت عيناي حين تكلم رسول الله ﷺ فقال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، وجائزته ، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه وقال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت [رواه البخاري: 6018، ومسلم: 47].
قال النووي -رحمه الله-: "قال العلماء: معناه الاهتمام به في اليوم والليلة" [شرح النووي على مسلم: 12/31].
ومعنى جائزة الضيف في اليوم والليلة: يعني الاهتمام بالضيف طيلة اليوم والليلة، وإتحافه بما يمكن من البر والألطاف، واليوم الثاني والثالث يُطعمه ما تيسّر، ولا يزيد على عادته، وبعد الثلاثة صدقة ومعروف، إن شاء فعل، وإن شاء ترك، إذن، أول يوم هذا الزيادة الجائزة، ثاني وثالث من طعام البيت لا حرج مثل ما يأكل أهل البيت، والرابع إن أراد أطعمه وإلا ترك، لكن هذا التوسُّع في إكرام الضيف مقيد بعدم التكلف؛ لحديث البخاري عن أنس قال: "كنا عند عمر فقال: نُهينا عن التكلُّف" [رواه البخاري: 7293]، وعند الحاكم من حديث سلمان : "نهانا عن التكلُّف للضيف" [رواه الحاكم: 5935، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 6871].
قال النووي: "معنى النهي محمول على ما يشق على صاحب البيت مشقة ظاهرة؛ لأن ذلك يمنعه من الإخلاص وكمال السرور للضيف" [شرح النووي على مسلم: 13/213]، لكن لو كان الإنسان مقتدرًا فلو وسع على الضيف بما لا يشق عليه فلا حرج، وأتى للضيف بما يكرمه به فلا حرج، أما أن ينهي الراتب بعزيمتين وبعد ذلك يبقى نصف الشهر بلا نفقة لأهله، هذا يجعله أصلاً يكره الضيف، وإذا نزل به ضيف امتعض قال: خرب البيت وذهب المصروف وحلّ بنا وحلت بنا المجاعة، ولذلك الناس من العادات السيئة عندهم يتكلّفون التكلف الزائد عن القدرة، ثم يندمون ويعضون أصابع الندم وهكذا، المشكلة لا هو راضٍ أن يقدّم للضيف شيئًا مما هو ضمن طاقته، ولا هو بالذي عنده قدرة أن يتوسّع ويوسّع على الضيف بدون أن ينسى أهله، فلعل الذي يدفع إلى ذلك قضية المظاهر وحب الظهور بمظهر الذي يعطي الضيف ويكرم الضيف، والمسألة على حسب القدرة.
وهذه الأحاديث تدل على أن النبي ﷺ كان يعاني من شظف العيش، وكان ﷺ يقوم بحقوق الضيوف وبحقوق أهله ويشارك الناس ويجبر خاطرهم، وكان يقبل الهدية "منائح الأنصار"، وكان ﷺ تتوالى عليه المدة الطويلة ولا يجد ما يطبخ في بيته، ومعنى ذلك أن أهله أيضًا على نفس الحال، ومع ذلك صبروا، مع ما فتح الله به عليه ما تغير حاله ﷺ.
نسأل الله أن يجعل عيشنا كفافًا وأن يغنينا من فضله، إنه سميع مجيب.