الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، و نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
حقيقة الكبر
فإن لله من الأسماء والصفات العظيمة ما علمنا إيّاها؛ كي نستفيد من معانيها، ونتعبده بها، ولا ننازع الله شيئًا اختص به سبحانه، ومن أسمائه سبحانه المتكبر، فالكبر لائق به، غير لائق بخلقه، وله الكبرياء ، فهو أهل له، وكذلك العظمة والكبرياء إزاره ورداؤه من نازعه في واحد منهما طرحه في النار ولا يبالي.
والكبرُ والعجب بالنفس من الأدواء الخطيرة القاتلة، قال النبي ﷺ: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس[مسلم:91]. الكبر عرفه بأنه جحود الحق مع الاستهانة به والاستعلاء والاستنكاف عن قبوله، وغمط الناس حقوقهم، هو استصغارهم واحتقارهم وعدم اعطائهم حقهم، الكبر الذي يدفع الإنسان لعدم قبول الحق، هكذا عرفه.
الكبر بطر الحق، وغمط الناس، فلا يقبل النصيحة إذا نصح، ولا يقبل التنبيه على الخطاء لو نبه، قال عمر لأبي موسى : "لا يمنعك قضاء قضيته فراجعت فيه عقلك فهديت لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل"[سنن الدارقطني:4471].
وقال عبد الرحمن بن مهدي: "كنا في جنازة فيها عبيد الله بن الحسن، وهو على القضاء -قاضي البلد- فسألته عن مسألة، فغلط فيها فقلت: أصلحك الله، القول في المسألة كذا وكذا، فأطرق ساعة ثم رفع رأسه، فقال: إذًا أرجع وأنا صاغر، لأن أكون ذنبًا في الحق، أحبّ إليّ من أن أكون رأسًا في الباطل"، هكذا أخلاق المؤمنين.
الكبر أن تزدري الناس، والعجب أن ترى أن عندك شيئًا ليس عند غيرك، ويوجد حتى في بعض المتعبدين، الكبر على العصاة حتى كأنه يرى الجنة خلقت له وحده، وأن النار خلقت لهؤلاء سيدخلونها قطعًا، وربما غفر الله للعاصي وعذب هذا المتكبر، قال ابن عيينة -رحمه الله-: "من كانت معصيته في الشهوة فأرجو له"، أي أن يتوب "ومن كانت معصيته في الكبر فاخش عليه فإن آدم عصى مشتهيًا" أي بسبب الأكل من الثمرة "فتاب الله عليه فغفر له، وإبليس عصى متكبرًا فلعن".
الكبر مانع من قبول الحق
الكبر خلق ذميم في باطن الإنسان، الكبر آفته عظيمة، لا يقدر على قبول النصيحة، ولا يعطي حقوق الناس، وشر المتكبرين المتكبر على الله، هذا أفحش الكبر، ولذلك كان فرعون -عندما قال أنا ربكم الأعلى- أبغض الخلق إلى الله، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ غافر:60 بينما كان المسيح عبدًا لله لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَالنساء:172 لكن الكفار ماذا قالوا؟ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًاالفرقان:60، والنوع الثاني من الكبر: التكبر على الرسل، وعدم الانقياد لهم، ولذلك قال المتكبرون: فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا المؤمنون:47،قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَاإبراهيم:10،وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا الفرقان:21، وقال تعالى عن فرعون ومن معه: وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّالقصص:39.
والنوع الثالث من الكبر: التكبر على العباد، فيستعظم نفسه، ويستحقر غيره، ويأبى الانقياد للحق، والتواضع للضعيف، هذا الكبر الذي به الرذائل مجتمعة، هذا الكبر أشدّه وأسوأه التكبر على الله ، الذي ينازع الله صفاته فيتكبر، ولا يليق الكبر إلا بالعلي الكبير ولله المثل الأعلى، لو أن مملوكًا لملك ووصيفًا وخادمًا أخذ تاج الملك، وجلس على كرسي الملك، ونفخ صدره؛ ثم رآه الملك فجأة، فماذا ترُاه به سيفعل؟ إن الذين يستكبرون ينازعون الله صفة الكبر، التي لا تليق إلا له وبه وبعض الناس يتكبرون، ويعينهم على ذلك الآخرون.
أسباب الكبر وعلاجه
ومن أسباب الكبر المال، وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًاالكهف :34إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ القصص:76ومع ذلك لما نصح قال: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِيالقصص:78،كبر وغرور وهكذا الإنسانإِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌالزمر:49، وهكذا يظن بعض الناس نفسه، أن عنده ما ليس عند البشر، وأنه أحسن واحد فيهم.
وقد يعينه أولئك، كاختلال الموازين عند الناس، فإنها تعين المتكبرين، مر رجل على رسول الله ﷺ فيه استكبار، النبي ﷺ قال مقارنًا بينه وبين شخص مسكين من فقراء المسلمين: هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا![البخاري:5091]وأخبر النبي ﷺ في صبي تكلم وهو صغير أنه كان: يرضع من أمه فمر رجل راكب على دابة فارهة، وشارة حسنة فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا فانطق الله الصبي، فترك الثدي وأقبل إليه فنظر إليه فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديه فجعل يرتضع، ومروا بجارية وهم يضربونها، ويقولون زنيت سرقت، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت أمه -أي أم الصبي-: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع ونظر إليها، فقال: اللهم اجعلني مثلها[مسلم:2550]أي في هذا الحال من التواضع.
أيها الإخوة: ينبغي علينا أن لا نعين المتكبرين، بل أن ننصحهم، فإن استكانة بعض الناس وذلهم يدفع المتكبرين إلى مزيد من التكبر، وبعض الناس يتكبر بالعلم والشهادة، فإذا صار في رتبة عالية من الشهادات الدنيوية نفخ صدره، ولم يعد يعرف من كان يصاحبه، ولذلك ترى هؤلاءِ مبغوضين مكروهين من الخلق.
وفي المقابل لو أن شخصًا ممن فتح الله عليه في العلم فبلغ فيه مبلغًا عظيمًا تواضع للخلق؛ لتأثر الناس بتواضعه أكثر مما يتأثرون من تواضع الضعيف ومتوسط الحال، ولذلك ترى تواضع الطبيب الاستشاري، وأستاذ الكرسي في الجامعة، والغني الذي عنده الأموال الطائلة، وصاحب المنصب العالي إذا تواضعوا أثر تواضعهم في الناس، ما لم يؤثر تواضع غيرهم ممن هو أدنى منهم، وأما الذين درسوا بعض العلوم، فعادوا بشهادات، فبمجرد أن يطبع د نقطة، فإذا به خلقًا آخر، حاله كحال القائل:
وإني وإن كنت الأخير زمانه | لأتٍ بما لم يأتِ به الأوائل |
وقد كان العلماء يؤدبون المتكبرين، وإذا آنسوا من طالب كبرًا ربما طردوه من الدرس، أو امتنعوا عن تحديثه، قال الشاذكوني -رحمه الله-: جاءني فلان -أي من طلاب الحديث- فقعد يتقعر في كلامه في الدرس، يتفاصح، ويستعرض فقلت له : من أي بلد أنت؟ قال من أهل الري، ألم يأتك خبري؟ ألم تسمع بنبأي؟ أنا ذو الرحلتين قلت: من روى عن النبي ﷺ: إن من الشعر حكمة[البخاري:6045]قال: حدثني بعض أصحابنا قلت: من؟ قال: فلان وفلان، قلت: يا غلام ائتني بالدرة، فأتاني بها، فضربه بها خمسين، وقلتُ: أنت تخرج من عندي ما آمن أن تقول: حدثني بعض غلماننا".
أيها الإخوة: لا يجوز التعالي لا بالشهادة الشرعية، ولا بشهادات العلوم الدنيوية، وإنما التواضع لخلق الله.
ولما جاء ابن المبارك إلى أحد الزهاد فدخل عليه، فلم يلتفت إليه، ولم يأبه به، وكان ابن المبارك على غناه من المتواضعين، فلما انصرف من عنده، قيل له: هذا أمير المؤمنين في الحديث، عبد الله بن المبارك، فبهت الرجل، وخرج خلفه مسرعًا يعتذر، وقال: يا أبا عبد الرحمن: اعذرني وعظني، قال ابن المبارك، إذا خرجت من منزلك فلا يقع بصرك على أحد إلا رأيت أنه خير منك".
إذًا من وسائل معالجة الكبر أن ينظر الإنسان فيمن حوله، ويقول: كم من واحد من هؤلاء عند الله أفضل مني؟ ولو كان الإنسان عنده شيء من العبادة، أو العمل للدين فيقول لنفسه محاسبًا: وما يدريني أن لدي من العجب ما أفسد عملي عند الله؟ وأن لدي من الكبر ما ذهب بالأجر والثواب، وما يدريني أن هذا العاصي ربما يكون عنده من الأسف والندم والتوبة والأوبة والانكسار بين يدي الله ما يغفر الله به ذنبه؟ ويعذبني أنا!
ومن الناس -يا عباد الله- من يتكبر بنسبه ويأنف من مخالطة من هو دونه في النسب، ولسان حاله يقول للآخرين : أنت من أنت؟ من أبوك؟ من أي قبيلة؟ انظر مع من تتكلم، ونحو ذلك، وقال عمر : "أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا" يعني بلالًا[البخاري:3754]، فانظر إلى تواضع عمر القرشي لبلال الحبشي العبد الأسود ، ولذلك لما قام أحد الصحابة أخذه شيء من حمية الجاهلية، فقال لذاك: يا ابن السوداء! قال النبي ﷺ له: إنك امرؤ فيك جاهلية فقال: على حين ساعتي هذه من كبر السن؟ يعني: يا رسول الله العجب كيف خفي عليّ هذا وأنا على هذا الحال؟ من كبر السن، أخطأت في هذا؟ قال: نعم، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يدهأي صار عبدًا عنده أو خادمًا ملكه إيّاه فمن جعل الله أخاه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه[البخاري:30، ومسلم:1661].
ومن الناس من يتفاخر بشكله، وكثيرًا ما يكون عند النساء التفاخر بالجمال، فلو أن الله أعطاها مسحة منه، لرأت أنها فوق كثير من الخلق، شامخة بأنفها، مستعرضة بشكلها، والجمال يذهب مع الوقت، وهؤلاء الممثلات عندما يبلغن السن المتقدم من ذا الذي ينظر في وجوههن؟ وهنّ اللاتي كن يملأن الشاشات، فهذا ذاهب، ويبقى التقوى، ذلك الخلق العظيم، ولباس التقوى ذلك خير، ويجب أن لا تعان البنت المستكبرة بجمالها، فلا يتعجب أهلها من جمالها، ويثنوا عليها بجمالها؛ لئلا تزداد كبرًا وغطرسةًً، بل يلفت نظر المتكبر إلى عيوبه.
ومن الناس من يتكبر بأتباعه وأنصاره وعشيرته، ومن هم من يتكبر بعدد موظفي شركته، وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَسبأ:35وقد كان علاج شيء من العجب دخل في نفس نبي بكثرة أتباعه، كان علاجًا قويًا، عن صهيب قال كان رسول الله ﷺ يحرك شفتيه أيام حنين، لما كان معه الآلاف المؤلفة، أيام حنين بشيء لم يكن يفعله قبل ذلك، ثم قال النبي ﷺ: إن نبيًا كان فيمن كان قبلكم أعجبته أمته، أي في عددها، أعجبه هذا العدد، فقال: لن يروم هؤلاء شيء أي لن ينالهم شيء وهم بهذا العدد، فأوحى الله إليه أن خيرهم بين إحدى ثلاث قضاء من الله نازل ولابدّ، ما هي الثلاث؟ قال له: إما أن أسلط عليهم عدوًا من غيرهم فيستبيحهم أو الجوع أو الموت، فشاور النبي قومه، قالوا: أما القتل أو الجوع فلا طاقة لنا به، أن يتسلط علينا الأعداء وأن نرى المجاعة لا نطيق ولكن الموت قال رسول الله ﷺ: فمات في ثلاث سبعون ألفًا، قضى الله على سبعين ألف من قوم ذلك النبي في ثلاث فقط، علاج هذه النتيجة، ومن هو؟ نبي كريم من أحب خلق الله إلى الله ، كان ذلك العلاج والقدر، قال ﷺ فأنا أقول الآن: اللهم بك أحاول، وبك أصول، وبك أقاتل[أحمد:18933]أجول أو أصول بك، بحولك وقوتك يا الله، ليس بكثرة جندي ومن معي، وهكذا كانت تلك القصة عبرة، وكان النبي ﷺ يقول: اللهم بك أحول وبك أصول وبك أقاتل[أحمد:23928].
عباد الله: إنه ينبغي على المسلم أن يعرف قدره، وينظر مما خلق، من نطفة من ماء مهين، فلا يتكبر على خلق الله، نسأل الله أن يرزقنا التواضع، وأن يجعلنا من أحاسن الناس أخلاقًا، الموطئين أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون إنه هو السميع المجيب.
أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، أشكره على آلائه، وأثني على نعمائه، ، خلق فسوى، لا إله إلا هو، ولا ربّ سواه، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
المتكبرون ومحاربة الرسل
عباد الله: ما الذي بعث إبليس على الكبر؟ وما الذي دفعه إلى الكفر؟ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ البقرة:34فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ ص:73-74وهكذا كان فرعون وجنوده، وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ القصص:39-40، وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ العنكبوت:39،إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَالمؤمنون:46، وهكذا قوم ثمود: قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَالأعراف:75، وهكذا قوم عاد فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةًفصلت:15 ، وقوم شعيب قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَاالأعراف:88، وقوم نوح قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا نوح:5-7.
وهكذا مشركو العرب قال الله عنهم: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا الفرقان:21، إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَالصافات:35، وهكذا فعل الوليد بن المغيرة، ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًاالمدثر:11-12، قوافل وراء قوافل، أرباح وراء أرباح، وَبَنِينَ المنة بالذكور عليه وكانت العرب تكره البنات شُهُودًاالمدثر:13، ليسوا مسافرين لكن عنده حاضرين، وهذا أقر للعين أن يكون الأبناء حول الأب، وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُالمدثر:15-24. هكذا يصف القرآن ونبي الإسلام أنه ساحر، وهذا سحر، إنها نتيجة الكبر.
صفات المتكبرين
عباد الله: هذا المتكبر يترفع عن الانقياد للحق، وعن الاستسلام لأمر الله، ويصعر خده للناس، ويلوي صفحة عنقه، يلتفت كأنه لا يرى الآخرين شيئًا، يشيح بوجهه عنهم احتقارًا لهم، ويرفع أنفه، وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًالقمان:18، هذه مشية الخيلاء، والذين يسحبون ثيابهم على الأرض خيلاء، سيفعل الله بهم فعلاً شنيعًا يوم الدين، وهناك رجل من الناس أطال ثوبه خيلاء، ومشى متكبرًا في الأرض فخسف الله به الأرض، فهو لا يزال يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، قيل: إنه قارون، فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَالقصص:81 والمتكبر يريد أن يسعى الناس إليه، ويقومون له، قال ﷺ مهددًا هذه النوعية: من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار[الترمذي:2755].
ومن صفاتهم التقعر في الحديث قال ﷺ: إن أبغضكم إليّ، وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة: الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون[الترمذي:2018] المتشدق: المتطاول على الناس بكلامه، المتفيهق: الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه تكثرًا وارتفاعًا وإظهارًا لفضله على غيره، ثم المتكبر يستهزئ بالناس، يسخر منهم، همزًا ولمزًا ونبزًا بالألقاب، ثم يترفع عن مجالسة الفقراء والمساكين والضعفة، قال سعد: "كنا مع النبي ﷺ ستة نفر فقال المشركون : اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، فوقع في نفس رسول الله ﷺما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله : وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ الأنعام:52[مسلم:2413]وجاء الأقرع وعيينة -من سادات العرب- فوجدا رسول الله ﷺ مع صهيب الرومي، وبلال الحبشي، وعمار وخباب من الموالي والمماليك، قاعدًا في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي ﷺ حقروهم، وهكذا كان سبب نزول الآية وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَالأنعام:52[ابن ماجة:4127].
آفات الكبر، علاج الكبر
وهكذا يكون من علاج الكبر -أيها الإخوة- أن يجلس الإنسان مع الضعفاء مع الفقراء، أن يتواضع لله، وماذا عليه لو استعمل سيارة سائقه، أو ساق به مرة؟ وماذا عليه لو خدم نفسه بنفسه، أو خدم في بيته، إن التنظيف علاج للكبر يكون أيضًا مستخرجًا لما في النفس من هذه الأشياء، وكان النبي ﷺ يخدم نفسه بنفسه، يفلي ثوبه، يرقع دلوه، يخيط إزاره أو رداءه ﷺ.
عباد الله: إن رسول الله ﷺ كان يكره أن يقوم الناس له، وكان يكره التصدر، وكان المكان الذي يجلس فيه هو صدر المجلس، أينما كان المكان يلتفون حوله ﷺ، وهو يقول: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي[مسلم:2965]، ويكفي في عقوبة الكبر أن يصرف الله المتكبر عن رؤية الحق، سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاًالأعراف:146 هذا نتيجة الكبر، من التواضع لله أن ترفع اللقمة الساقطة فتميط عنها الأذى وتأكلها.
عباد الله: إن الكبر سببٌ للهزيمة، وزوال المال، وزوال المنصب، وزوال السلطان، مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْالحاقة:28-29، والمتكبر هالك مع الهالكين، ثلاثة لا تسأل الله عنهم: رجل ينازع الله رداءه، فإن رداءه الكبرياء، وإزاره العز، ورجل في شك من أمر الله، والقنوط من رحمة الله، والمتكبر يلقى الله وهو عليه غضبان، قال ﷺ: يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذلّ من كل مكان [الترمذي:2492]، إذًا المتكبرون على هيئة النمل صغار يوم القيامة، الجزاء من جنس العمل يطأهم الناس بأقدامهم، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فلا بدّ من تنظيف النفس، لأن الجنة لا يدخلها من في قلبه كبرٌ.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الأخيار الأبرار، اللهم اجعلنا ممن يقول الحق وبه يعدل يا رب العالمين، اللهم اجعل ما أتيتنا عونًا لنا على طاعتك، أغننا ولا تطغنا، اللهم إنا نسألك أن تكفينا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَالصافات:180ـ181