السبت 22 جمادى الأولى 1446 هـ :: 23 نوفمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

اللهم اهدنا فيمن هديت


عناصر المادة
حاجة المسلم إلى الهداية مع الفتن
المعاني الدلالية والإرشادية للهداية
أنواع ومراتب الهداية
هداية الدلالة والإرشاد
هداية التوفيق والتسديد
الهداية إلى الجنة أو النار
مرتبة الإفهام
مرتبة الإلهام
الرؤيا الصادقة
الهداية إلى التوحيد
الهداية للسنة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أشهد ألا إله إلا هو الحي القيوم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً.

حاجة المسلم إلى الهداية مع الفتن

00:00:00

الهداية نعمة عظيمة من الله ، الهداية ما أحوجنا إليها مع كثرة الفتن الهداية، ما أحوجنا إليها مع اختلاط الأمور، ما أحوجنا إليها مع كثرة هذه الطرق التي تحرف عن سبيل الله، ما أحوجنا إلى نعمة الهداية وكثير يتخبط في الجهل، ما أحوجنا إلى نعمة الهداية وكثير في ضلالهم يعمهون، ما أحوجنا إلى نعمة الهداية وكثير سادرون في الغي، ما أحوجنا إلى نعمة الهداية وكثير من الناس انغمروا في المعاصي، ما أحوجنا إلى نعمة الهداية وقد دخل كثيرون في البدع وما خرجوا منها، ما أحوجنا إلى نعمة الهداية وهناك تخبُّط في المواقف، ما أحوجنا إلى نعمة الهداية، وقد صار الحق في كثير من الأحيان عزيزًا، وضل كثير من الناس عنه، هذه الهداية إلى الصراط المستقيم التي نسألها الله يومياً، هذه الهداية التي يحرص عليها الناس منة من الله يهبها من يشاء، كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ  [النساء: 94]، ولذلك ما يستطيع حتى من اهتدى إلى طريق السنة أن يتكبر، ولا من اهتدى إلى التدين والالتزام بالإسلام أن يتكبر ولو رأى غيره؛ لأنه يعلم بأن ما هو فيه نعمة الله، ولو شاء لكان مثل ذلك الغير، لكن الله الذي هداه وهو الذي تولاه وهو الذي رحمه ولطف به، كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ  قال ابن زيد - رحمه الله -: "كذلك كنتم كفرة فمنّ الله عليكم بأن أسلمتم" [تفسير القرطبي: 5/340].

الله ذكّر الصحابة بهذا، فهو المنعم بالأعمال، وهو المنعم بالثواب، وهو المنعم بالقبول، وهو المنعم بالهداية للإيمان، وهو المنعم بتبيين طريق الحق، والله ذكرّ الأعراب الذين ما دخل الإسلام حقاً في قلوبهم، ما دخل الإيمان في قلوبهم، لكن أسلموا بالكلمة، لكن القلوب لا زالت، قال: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ  [الحجرات: 17]، فالله هو الذي جعل المسلم مسلماً، وهو الذي جعل المصلي مصلياً وهو الذي جعل الصائم صائماً، الخليل قال:  رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ  [البقرة: 128]، وقال:  رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي  [إبراهيم: 40].

فالمنة لله الذي يجعلك أنت وأولادك أو أهلك قائمين بأمر الله، تطيعون الله، تصلون لله، تعرفون القبلة، ناس ما يعرفون القبلة، لا يسجدون لله سجدة، الصحابة لما شعروا بنعمة الهداية حقاً، أولاً: ازدادوا منها، ثانياً: ثبتوا عليها، ثالثاً: دائماً يسألونها ربهم، رابعاً: حاولوا نقلها إلى غيرهم، حاولوا أن يدخل غيرهم في هذه النعمة التي دخلوا فيها، ودائماً كانوا يذكرون نعمة ربهم، ألم تر أن سلمة بن الأكوع قد روى في ذلك المشهد الذي خرجوا فيه مع رسول الله ﷺ إلى خيبر وساروا ليلاً فقال رجل من القوم - من المسلمين - لعامر أحد الصحابة: "يا عامر ألا تسمعنا من هنيهاتك" هذه الأراجيز القصار التي يقولها سائق الإبل وكان عامر رجلاً شاعراً فنزل يحدو بالقوم يقول:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فاغفر فداءً لك ما أبقينا، وثبّت الأقدام إن لاقينا

 وألقين سكينةً  علينا، إنا إذا صيح بنا أبينا، وبالصياح عوّلوا علينا

فقال رسول الله ﷺ من هذا السائق الذي يسوق الإبل ويحدو؟ قالوا: عامر بن الأكوع

فقال:  يرحمه الله  [رواه البخاري: 6891، ومسلم: 1802].

وهذه الدعوة إيذاناً وإعلاماً من الوحي بأن الرجل في طريقه إلى الشهادة، ولذلك قالوا: هلا متعتنا به، هذا أجل من الله مضروب سيأتي، وقد بين النبي ﷺ للصحابة هذا المبدأ في خطبته بالأنصار المؤثرة المشهورة:  يا معشر الأنصار ألم آتكم ضلالا فهداكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟ وأعداء فألّف الله بين قلوبكم بي؟ 

قالوا: بل الله ورسوله أمنُّ وأفضل" [رواه البخاري: 4330، ومسلم: 1061]. فلاحظ قوله: ألم آتكم ضلالاً؟  كنتم على شرك، كنتم على كفر، كنتم لا تعرفون ديناً ولا ملة ولا صلاة ولا صياماً ولا زكاة ولا ذكراً ولا دعاءً ولا تلاوة ولا تعرفون قرآناً ولا حكماً ولا فقهاً  ألم آتكم ضلال  انظر هذه المنّة الشعور بهذه المنّة يجعل الواحد يقدِّر النعمة يحافظ عليها، لا يغشى كتب الشبهات، يقرأ ولا يغشى قنوات الشك ويتفرج ولا يلج مواقع الريب والبدع ويعرض نفسه للهلكة، هذا يعرف قيمة الهداية ويدعو ويسأل الله الثبات، لكن إذا صار الواحد أخذها أباً عن جد ونحن على مثل دين آبائنا أي نعمة سيستشعرها

وعمارة الجنات هم أهل الهدى الله أكبر ليس يستويان
فسل الهداية من أزمّة أمرنا بيديه مسألة الذليل العاني

[نونية ابن القيم: 286].

العاني: الأسير.

" تسألها "ممن؟ قال ابن القيم: فسل الهداية من أزمّة أمرنا... بيديه مسألة الذليل العاني

 وكيف تكون حالك وأنت تسأل الهداية؟ مسألة الذليل العاني، والهداية ليست درجة واحدة، ولذلك عندما يتأمل الواحد في معنى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ  [الفاتحة: 6]، يظهر له من المعاني رَقِّنا في درجات الهداية؛ لأن الهداية درجات، وثبّتنا عليها، حتى يقول الواحد: اهتدينا، نسأله الهداية ونحن مهتدون لماذا؟ فهذا الجواب؛ "فالهداية أعظم نعمة من الله على العبد، ولذلك أمرنا أن نسأله إياها مراراً وتكراراً كل يوم وليلة في صلواتنا، بل لا تصح صلاة عبدٍ لم يسأل ربه هذه الهداية، فإن العبد محتاج إلى معرفة الحق الذي يُرضي الله في كل حركة ظاهرة وباطنة، فإذا عرفها فهو محتاج إلى من يُلهمه قصد الحق، فيجعل إرادته في قلبه، ثم إلى من يقدره على فعلها وفعله، ومعلوم أن ما يجهله العبد أضعاف أضعاف ما يعلمه، ولو أراد العبد ما أراد إذا ما مكنه الله لا يمكنه أن يفعل فهو مضطر إلى هداية الله في كل وقت وحين"، وكم من الأفعال عندك أنت الآن؛ تبيع وتشتري وتنكح وتفعل وتفعل وتربي وتؤدب وتقرأ، أنت ألست محتاجاً إلى هداية الله في الكتب التي تقرأها؟ ألست محتاجاً إلى هداية الله في المواقع التي تدخلها؟ ألست محتاجاً إلى هداية الله في المتابعين الذين تتابعهم؟ ألست محتاجاً إلى هداية الله في أي عالم تأخذ عنه؟ ألست محتاجاً إلى هداية الله في أي مفتٍ تستفتيه؟ ألست محتاجاً إلى هداية الله في الطريقة التي تشتري بها. تبيع بها؟ تستأجر بها؟ ألست محتاجاً إلى هداية الله في المرأة التي ستتزوجها من هؤلاء النسوة الكثيرات؟ ألست محتاجاً إلى هداية الله في التخصص الذي تختاره؟ ألست محتاجاً إلى هداية الله في هذه المواقف الكثيرة التي تحتاج أن تتخذها في حياتك؟ ألست محتاجاً إلى هداية الله في القرارات التي تتخذها؟ والهداية نحن نحتاجها حتى في شيء مضى لنحاسب أنفسنا عليه؛ لأن الهداية إذا ما حصلت ما ترى أنت الذي فعلته، لو كان خطأ لا تراه خطأ، لكن لو هداك تحس بأن ما فعلته خطأ فتصحح وتتوب، إذا كان صواباً تشكر الله، - هذه الهداية في الماضي - الهداية في الحال أنت ابن وقتك، أنت كل يوم الآن تختار اختيارات وتتخذ قرارات، أنت تحتاج هداية حتى في الاستخارة، أنت تحتاج إلى هدايته ليرشدك، هذه التجارة، هذا التخصص أو المجال التجاري هل هو حلال أم حرام؟ البيعة هذه التي ستقدم عليها، الاستئجار الذي ستستأجره هل هو حلال أو حرام؟ هل هو موافق للشرع أو لا؟ أنت تحتاج إلى هدايته لتقرر هذه الهداية في الحال، الآن وأنت تتخذ قرارات كل يوم تحتاج إلى هدايته اضطراراً، أنت مضطر إليه وإلا ممكن تجلب على نفسك الدمار، ممكن تختار اختياراً يضرك غاية الضرر، ولذلك مسألة الهداية العبد لا ينفك عن الحاجة إليها

لا ربّ أرجوه لي سواك إذ لم يخب سعي من رجاك
إن أنت لم تهتدنا ضللنا يا رب إن الهدى هداك
أحطتَّ علما بنا جميعا أنت ترانا ولا نراك

الهداية أنواع: فيه هداية عامة، فيه هداية حتى هداها للكفار في معايشهم، وفيه هداية للمؤمنين خاصة أنواع الهداية.

المعاني الدلالية والإرشادية للهداية

00:00:00

تعالوا نتعرف على مراتب الهداية، وأنواع الهداية، من جهة المعنى: الإرشاد والدلالة إلى ما يوصل للمطلوب المبتغى المرجو هذه من جهة اللغة، كما في لسان العرب والتعريفات وبصائر ذوي التمييز.

وحقيقتها شرعيًا: هي العلم بالحق، مع قصده وإيثاره على غيره، ليس فقط أن تعلم، لكن أن تأخذ بذلك، تتبناه تعتقد به، تتخذه، تلزمه.

أنواع ومراتب الهداية

00:00:00

وأنواع ومراتب الهداية من الله لخلقه أربعة:

 أولاً: الهداية العامة المشتركة بين جميع الخلق.

وهي هداية كل نفس إلى مصالح معاشها وما يقيمها، وهي المذكورة في قوله تعالى:  قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه: 50]، فأعطى كل شيء صورته التي تجعله لا يشتبه بغيره، الإنسان إنسان، والحيوان حيوان، والشجرة شجرة، كل شيء له صورة، وأعطى كل موجود خلْقه الذي خصّه به.

وهذه الهداية العامة تشمل هداية كل مخلوق إلى مصالح معاشه، وما يقيم به حياته، ويجلب ما ينفعه، ويدفع ما يضره، فيهدي كل مخلوق إلى تحصيل مقومات حياته، فمثلاً الناس يسعون  إلى الطعام والشراب والزواج والسكن، ويعرفون كيف يدافعون عن أنفسهم؟ وكيف يتقون الأضرار كالنار والبرد؟ ويحاولون اتقاء أسباب الأمراض، وكذلك اتقاء العدو، من علّم الهدهد الحصول على غذائه من باطن الأرض وقد قال:  أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ  يعني المخبوء في السماوات والأرض،  وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ  [النمل: 25].

والهدهد مهندس كما قال المفسرون، عنده قدرة على اكتشاف الماء في باطن الأرض، والهدهد ما تكبّر بهذه المعرفة التي أعطاه الله إياها، وهبه إياها، بل اعترف قال: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ  الأشياء المخفية في السماوات والأرض، من علم المولود فن الرضاعة وأن يلتقم الثدي فيمصه حتى يدخل اللبن جوفه ليعيش عليه؟ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ  [النحل: 78]، من الذي هدى النحل أن تتخذ من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون ويصنعون لها من الأبنية والمناحل؟ تأوي إلى بيوتها وتصنع غذاءها وغذاءنا، وتطعم ملكاتها، من الذي هداها إلى هذه الطريقة العجيبة في البناء المحكم، وهذه الخلايا السداسية المدهشة؟ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى  [طه: 50]، من الذي هدى هذه الطيور المهاجرة التي تقطع أحياناً جيئة وذهاباً خمسين ألف كم؟ وتستمر أحياناً في الطيران مئة ساعة متواصلة! من الذي علّمها الاتجاهات لتعبر المحيطات والبراري والصحاري؟ من الذي علّمها أن تخزن الذرة في جسمها دُهناً يعينها في رحلتها في هذا الطيران الطويل؟ الدقة العجيبة في معرفة الاتجاهات، لو انحرف هذا الطير درجة واحدة في بداية إقلاعه سينتهي إلى كم ألف كيلو بعيداً عن الجهة التي فيها مصلحته؟ وطيور تهاجر لتضع بيضها هناك، ويفقس وتقوم صغارها وتطير معها، رحلات عجيبة الآن يكتشفونها في ناشيونال جيوغرافيك، الآن تُعرض، ومن قديم الله خلقها وركبت مع نوح في السفينة قبل علماء الحيوان هؤلاء، الآن اكتشفوا بعض وليس كل، من الذي سددها في طريقها؟ إنه  الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى  [طه: 50].

هذه الهداية أيضاً تشمل إعطاء كل إنسان وكل كائن وكل شيء حي صورته اللائقة به، الإنسان له صورته اللائقة به، والأسد له صورته اللائقة به، والسمكة لها صورتها اللائقة بها، ولو تخيلت وضع شكل مكان شكل آخر ستكون النتيجة؟ عذاب، هذه الهداية تشمل إعطاء كل عضو في البدن الشكل والطبيعة المناسبة لوظيفته فيقول لك مثلاً: خلايا الدماغ غير الخلايا الأخرى، هناك خلايا لو تجددت ذهبت الذاكرة، وهناك خلايا لازم تتجدد وإلا يموت.

وكذلك حتى أشكال البشر تختلف، ترى اللي على خط الاستواء التي في بلاد معينة يكون لونه أبيض جداً وفي بلاد أخرى أسود جدًا، وفي بلاد أخرى فاتح غامق أحمر أصفر، درجات، ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم، ترى اللون مهم للمكان حتى شكل الأنف هذا شعب انوفهم كبيرة، هؤلاء أنوفهم صغيرة؛ لأن كمية الأكسجين التي يلزم أن تدخل لهذا غير هذا، وما يمكن يقوم إلا بهذا ومصلحته تقتضي هذا وهكذا، من الذي هيأ للجمادات أشكالاً وحركات حتى هذه الشمس والقمر والكواكب والأرض، هذه الكواكب السيارة؟  لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 40]، هذه هداية مذكورة في كتاب الله.

هداية الدلالة والإرشاد

00:00:00

هناك هداية أخرى، هداية الدلالة والإرشاد؛ تمييز الحق، معرفته، الاستدلال عليه، الشواهد عليه، الأعلام المنصوبة لتمييزه؛ بحيث يصير مشهودًا للقلب، القلب يعرفه بشواهده، هذه المرتبة حُجّة الله على خلقه، هذه المرتبة التي لا يُعذّب أحدًا إلا إذا وصلت إليه هذه الهداية؛ هداية الدلالة والإرشاد، قال الله تعالى:  وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ  [التوبة: 115]، فالإضلال عقوبة لمن يبين الله له ويرفض  وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ  [فصلت: 17] هديناهم دلالة الهداية والإرشاد، ما قبلوا، بيّنا لهم الحق بالأدلة، ما أخذوا، أرسلنا لهم رسولنا ليشرح لهم، ما آمنوا، أنزل الله على أقوام كتباً فلم يأخذوا بها، فهو بين - سبحانه - ما في تقصير من ربنا أبدًا، أرسل كتباً، أنزل أدلة، نصب شواهد، وضع علامات، لكن الناس هؤلاء يرفضون، والذي ما بلغه يمتحنه يوم القيامة، ما يظلم الله أحداً فهداهم هداية البيان والدلالة فلم يهتدوا فأضلهم عقوبة لهم، من هؤلاء؟ الذين رفضوا؛ لأنهم أعرضوا عن هداه وأصموا آذانهم، وكذلك أغلقوا أعينهم، وما كان الله ليغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا هم.

وهداية الدلالة والإرشاد عند الرسل والأنبياء وورثتهم من العلماء، قال تعالى عن نبيه ﷺ:  وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ  [الشورى: 52]، وقال تعالى عن أنبيائه:  رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ  [النساء: 165]، ولذلك النبي ﷺ قال:  ليس أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل [رواه البخاري: 7416، ومسلم: 1499]. من أجل ذلك.

وفي رواية:  بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين  [رواه البخاري: 7416 ، ومسلم: 1499].

فحجة الله قائمة بهذه الهداية.

هداية التوفيق والتسديد

00:00:00

النوع الثالث: هداية التوفيق والتسديد، هداية فتح القلب لنور الحق، هداية قبول الحق اتباع الحق وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ  [يونس: 25]، هذه الهداية ليست إلا عنده، فعمهم بالدعوة على ألسنة رسله حجة منه عليهم، وخص بالهداية من شاء منهم نعمة وفضلاً منه هذه الهداية لا يقدر عليها إلا الله، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا ولي، ولا عالم، ولا داعية، هذه هداية عند رب العالمين، النبي ﷺ كم حاول مع عمه، إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ  [القصص: 56]،  لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة: 272]، ما هو الذي ليس عليه أي هداية؟ هداية التوفيق هذه عند الله، ولذلك قال: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ  [البقرة: 272]، ما الذي عند نبيه؟ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم  [الشورى: 52] التبيين الدلالة والإرشاد، ما الذي اختصّ نفسه به؟ هداية التوفيق هذه، دخول نور الإيمان إلى القلب قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن.

الهداية إلى الجنة أو النار

00:00:00

الهداية الرابعة: هي الهداية إلى الجنة أو النار إذا سيق أهلهما إليهما، وهذه غاية الدلالة ومنتهاها كما قال تعالى:  إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ  [يونس : 9]، هذا الهدى نتيجة ذاك الهدى، هذا الاهتداء إلى البيوت في الجنة هو نتيجة الهداية إلى الحق في الدنيا واتباعه، ولذلك يقول أهل الجنة: الحمد لله الذي هدانا لهذا، هم يرون الآن بيوتهم، يرون الآن مساكنهم قصورهم ملكهم، وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا  [الإنسان: 20]، اللهم لا تحرمنا الملك الكبير يا رب العالمين، هناك ملك كبير في جنات النعيم، إذن هؤلاء يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا [الأعراف: 43]، سواء قلنا: الهداية التي في الدنيا، الهداية للحق واتباع الحق أم قلنا: الهداية إلى البيوت التي في الجنة والملك الذي لهم في الجنة فالطريق واحد، يعني هذا يؤدي إلى هذا، لا مانع أن يكون المراد في الآية الأمرين، فهدايتهم في الدنيا كانت سبباً لهدايتهم إلى مساكنهم في الجنة، والله قال: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ  [محمد: 4 - 6]، هم قتلوا يهديهم إلى أين؟ يهديهم إلى ملكهم في الجنة، إلى ثوابهم فلا يفوتهم منه شيء سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ  [محمد: 4 - 6].

 قال مجاهد: "يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم، وحيث قسم الله لهم منها لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خُلقوا، لا يستدلون عليها أحداً"

وقال محمد بن كعب: "يعرفون بيوتهم إذا دخلوا الجنة كما تعرفون بيوتكم إذا انصرفتم من الجمعة" [تفسير ابن كثير: 7/310]. وقد أخبر النبي ﷺ عن خبرهم في هذا الحديث: إذا خلص المؤمنون من النار حُبسوا بقنطرة بين الجنة والنار فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا نُقُّوا وهُذِّبوا أذن لهم بدخول الجنة، فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم بمسكنه في الجنة أدلُّ بمنزله كان في الدنيا [رواه البخاري: 2440]. فالرجل من أهل الجنة، المرأة من أهل الجنة، يعرف وتعرف مسكنها مسكنه في الجنة أكثر مما تدل بيتها أو بيته في الدنيا، والعجيب أن هؤلاء يستدلون عليها بدون مرشدين، ما في مرشد مثل حملات الحج يرشدهم أين المخيم، لا يوجد من يأتي ليبين له أين البيت، لا بالجي بي إس ولا مرشدين لا آدميين ولا أجهزة، يعرفون بيوتهم في الجنة بلا خرائط ولا أجهزة ولا مرشدين كما قال مجاهد - رحمه الله -: "يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم وحيث قسم الله لهم منها لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا وهؤلاء يعرفونها من غير استدلال"[تفسير ابن كثير: 7/310]، ما يحتاج أن يسأل الملائكة، أين بيتي وأين مكاني؟ لا، إذا دخل من باب الجنة يعرف مباشرة أين مسكنه، وهذا من العجائب.

أهل النار لهم هداية؟ نعم، لكن أي هداية؟ بئست الهداية،  احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ  [الصافات: 22 - 23]، الملائكة تحشرهم رغماً عنهم وتدلهم رغماً عنهم  فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ  أرشدوهم دلوهم لكن مرغمين.

هداية التوفيق هذه مراتب هذه درجات هذه أنواع فما هي أنواع هذه الهداية؟

هداية التوفيق هذه العظيمة التي قال الله عنها:  مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي  [الأعراف 178]  مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا  [الكهف17] ، النبي ﷺ شرح لعلي شرح له أمرا جميلاً جليلاً متعلقاً بهذه الهداية ماذا قال ﷺ لعلي بن أبي طالب؟ قال له: يا علي سل الله الهدى والسداد حديث صحيح، [رواه أحمد: 1124، والنسائي: 5210، والحاكم: 7700، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 7952]، هذا الحديث قد ورد في صحيح مسلم أيضاً دعاء بشأنه: قل اللهم اهدني وسددني واذكر بالهدى هدايتك الطريق والسداد سداد السهم  يعني أنت الآن ماذا تقول؟ ما هو الدعاء الذي علّمه؟ كلمتين، قال: اللهم اهدني وسددني  وقال له:  واذكر بالهدى هدايتك الطريق والسداد سداد السهم  [رواه مسلم: 2725].

يعني: اذكر في حال دعائك اهدني وسددني، اذكر هداية الطريق، كيف يستدل الناس على الطرق؟ كيف الواحد إذا خرج للسفر يكون حريصاً جدًا على معرفة الطريق؟ لو ما عرف الطريق يمكن يهلك في الصحراء، موسى خرج يقول:  عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ  [القصص: 22]، وهداية الطريق هذه التي فيها تحري وتفكير وإعمال الفكر، أين العلامات في آثار من سبقنا؟ بعض الناس الآن كيف يعرف الطريق؟ إما بعلامات أو بآثار من سبق، يقول: هنا فيه آثار ناس كانوا ماشيين من هنا، الله جعل لنا في الكتاب والسنة علامات، والسلف تركوا لنا آثاراً لنسلكها ونعرف الطريق بما سبق من مشيهم هم، الآن اذكر بقولك: ((اهدني)) هداية الطريق،  وسددني  سداد السهم، الذي يسدد السهم ماذا يفعل؟ يريشه ويبريه ويعده ويوجهه ويتحين والفرصة والهدف والدقة، ولذلك قال:  اهدني وسددني واذكر سداد السهم  حتى ما تضل، ما تحيد عنه، ولذلك الواحد الآن لما يجي يقول الأذكار، نبيك وإلا رسولك، الأذكار هذه فيها السنة كذا وإلا كذا، لأنه يريد أن يهتدي إلى الطريقة النبوية حقيقة ما هي؟ والنبي ﷺ كان من دعائه: واهدني ويسر الهدى لي لأنه هناك ناس تتعب حتى تهتدي، وهناك ناس ما تهتدي أصلاً، وهناك ناس تبحث وتموت وما وصلت، وهناك ناس ما تصل إلا قبل نهاية الطريق في آخر العمر، لكن قال: اهدني ويسِّر الهدى لي  حتى أجد الحق بسرعة، ما يضيع الوقت، يضيع نصف عمري، ثلاثة أرباع عمري، أنا ما عرفت الحق، وقد علم النبي ﷺ الحسن بن علي الدعاء العظيم:  اللهم اهدني فيمن هديت  هذا من باب الطرفة؛ واحد من الأئمة كان شابًا صغيرًا، يقول: جالس أمرن نفسي، أول مرة أصلي بالجماعة في رمضان، وأول تراويح، وأول دعاء قنوت، يقول: وأروح أحفظ الدعاء وعندما أتيت قلت: اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عفيت وتوفنا فيمن توفيت، يقول الشيبان الذين ورائي، أول دعاء آمين، ثاني واحد آمين، ثالث واحد سكتوا، يقول: وبعد الصلاة استلموني، قالوا: أنت يا ولدي، من زين أعمالنا تريد تعجّل بنا! اللهم اهدنا فيمن هديت، والشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - كان أحياناً في المناقشات إذا واحد أطال النقاش، الشيخ يقول: اللهم اهدنا فيمن هديت، يختمها يغلقها يقول: اللهم اهدنا فيمن هديت، في الحديث القدسي: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم [رواه مسلم: 2577]، يعني اطلبوا مني الهداية أنتم تحتاجون الحديث رواه مسلم.

والهداية قال ابن القيم: "الهداية لا نهاية لها" [فوائد لابن القيم: 130]، يعني أنت مهما ارتفعت فيها في ما هو أعلى، لأنه ممكن يفتح على العبد من معاني آيات يعني من كتابه ومعاني سنة نبيه ومعاني أسمائه وصفاته، ممكن يفتح عليه أشياء درجات بعضها فوق بعض، الهداية التوفيقية من الله، الهداية درجات ومراتب، وأنواع يدخل فيها مرتبة التحديث من هو المحدَّث؟ الذي يُحدّث في سره وقلبه بما يلقيه الله تعالى فيه، والنبي ﷺ قال:  قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم [رواه مسلم: 2398].

ومعنى مُحدَّثون: ملهمون يلهمهم الله الحق، يقذفه في قلوبهم، يجعل نفوسهم تميل إليه، تعرفه، تميزه، تصيبه، فإذن، محدَّثون يعني: مصيبون في اختيارهم، في قراراهم، في كلامهم، مصيبون في فتواهم، وإذا ظنوا شيئًا كان كذلك، عمر مر أمامه سواد بن قارب فقال عمر: "هذا كأنه كان كاهنهم في الجاهلية" فالرجل لما أُخبر قال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم، قال عمر: "حدِّثني" أنا أعرف أنك مسلم أنا أتكلم الآن عن الماضي قال: صحيح أنا كنت في الجاهلية كاهناً، قال: "ما أعجب ما جاءتك به جنيتك" فأخبره كيف أنها أخبرته بالبعثة النبوية وأن الجن كان عندهم خبر" [رواه البخاري: 3866]، وقال البخاري في تفسير الحديث في تفسير لفظة: "محدِّثون": يجري الصواب على ألسنتهم الله  أو يجري الصواب على ألسنتهم" [صحيح البخاري: 4/174].

ولذلك عمر وافق الوحي في أشياء كثيرة فقد قال: "وافقت ربي في ثلاث، فقلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلّى، كان عمر يعجبه الصلاة عند المقام ويتمنى، وفعلاً جاءت الآية:  وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى  [البقرة: 125]، عمر رأى أن الحجاب ضرورة، قلت: "يا رسول الله هذا قبل نزول الحجاب لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر" أنت يأتيك ويقصدك ويطرق بابك البر والفاجر معروف مكانته ومنزلته فلو أمرت نساءك أن يحتجبن، يعني كأنه ما يليق الآن يأتي ناس بعضهم من المنافقين وبعضهم كفار وبعضهم حديث أتى الآن البر والفاجر فنزلت آية الحجاب:  وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ  [الأحزاب: 53]، الموطن الثالث: واجتمع نساء النبي ﷺ  في الغيرة عليه وصار فيها أذية فقال لهن عمر عبارة هي من عمر نزلت بالنص في القرآن هو قالها عمر:  عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ [التحريم: 5]، فنزلت بالنص، الله تكلم بالقرآن من قبل، لكن -سبحان الله- عمر وافق الكلمات الإلهية بالنص، فنزلت الآية، وفي قضية أخذ الفدية من أسرى بدر، وفي قضية الصلاة على المنافقين، وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا [التوبة: 84]، يعني موافق عمر سبحان الله نزلت على محدث مصيب موفق ملهم. [رواه البخاري: 402، ومسلم: 2399].

ولو قال قائل: هؤلاء الصوفية عندهم ناس يقولون إنهم من أهل الكشف ويصيبون وتأتيهم إلهامات فيقال: انظر أولاً ما هو المصدر؟ الآن عمر مصدره الحق الذي جرى على لسانه فقهه بالكتاب والسنة، ويقذف الله في قلب أوليائه ما يشاء، هذا توفيق من الله ذاك الصوفي يقول: رأيت الله وكلّمني مباشرة! كُشف لي اللوح المحفوظ فقرأت أحداث المستقبل! اجتمع بالنبي ﷺ يقظة! فالطريقة غير الطريقة، تلك الله يقذف في قلب عمر من نور الإيمان والتوفيق والإلهام وإصابة الحق ويجري على لسانه، هؤلاء عالم آخر، هذا أولاً.

ثانيا: ما يقوله الملهم المحدّث من أهل الدين والسنة الموفّق هو شيء موافق للكتاب والسنة، ما يخرج عنها أما هؤلاء وضعهم مخالفة الكتاب والسنة، فتراهم يقولون أقوالاً خارجة مخالفة، والذي يقول لك هذا استثناء وهذه خصوصية لنا، وهذا حكم خاص بنا، وهذا يجوز لنا ما لا يجوز لغيرنا، والباطنية أهل الرفض يلصقون بالأئمة، والإمام ينسخ الكتاب والسنة، والأئمة يفعلون، ولهم أحكام خاصة، فالفرق كبير؛ في واحد يقول: ونحن عندنا أئمتنا ومشايخ الطريقة والقُطب الأعظم وكذا، نقول: لا، مختلف في الطريق، مختلف في أصل المسألة، مختلف حتى في النتائج، وفي ماهية المعلومات والنتائج ما هي؟ ففرق عظيم بين من قلبه يتبع مشكاة النبوة فيلقي الله في قلبه منها ما يشاء وبين من يزعم الخروج عن الدين واستثناءات، وحدثني قلبي عن ربي، ونحن نأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت وأنتم تأخذونه عمن يموت، ونحو ذلك من هذه التراهات والكفريات الكبيرة، فنقول: أنت نعم هناك من يحدثك لكنه شيطان.

مرتبة الإفهام

00:00:00

مرتبة الإفهام قال تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ  [الأنبياء : 78]،  فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ  هذه من أنواع الهداية داخلة في الهداية، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ  فالله يفهم من يشاء من خلقه ما يشاء، هذه قضية الأختين كل واحدة معها ولدها، ذهبتا إلى مكان في الخارج، فعدا الذئب على ولد إحداهما فافترسه، فتنازعتا في الولد الباقي، فارتفعتا إلى داود كان في يد الكبرى قيل: فقضى به للكبرى، خرجتا من عنده مرتا بسليمان ما القضية؟ كذا كذا، ماذا حكم أبي؟ كذا قال: لا، هات السكين أشقه بينكما، قالت الصغرى: لا، هو ولدها -يرحمك الله-، فقضى به للصغرى، استعمل القرائن  فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ .

  علي لما سُئل: هل خصّكم رسول الله ﷺ بشيء أنتم آل البيت؟ خصكم بشيء بين الأمة؟ قال: "لا والذي فرق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه، وما في هذه الصحيفة" [رواه البخاري: 3047]. فيها الدية وفكاك الأسير وأحكام: لا يُقتل مسلم بكافر "وبلّغنا إياه وعلمناه"

والنبي ﷺ قال لابن عباس: اللهم فقِّهه في الدين وعلِّمه التأويل  [رواه أحمد: 2397، وابن حبان: 7055، وصححه الألباني في الصحيحة: 2589]، فالله يعلِّم ويفهِّم من يشاء من عباده.

وهذه من الهداية، ألا ترى أن الله يهدي علماء إلى معانٍ، يهديهم إلى أحكام، يهديهم إلى معرفة ما تحتاجه الأمة في النوازل مثلاً، وعلمه من علمه، وجهله من جهله، من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، والخوارج بالعكس تماماً، لا فقه ولا يفتح الله عليهم، ولذلك تراهم في ضلالهم يعمهون هم وأهل البدع، ألا يوجد ناس نيتهم طيبة لكن لا يهتدون؟ نعم كم من مريد للحق لم يصبه، يوجد، ولذلك تجد الأدعية، في أدعية الاستفتاح، وغيرها، واهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، في مرتبة من المراتب الإسماع من مراتب الهداية، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ [الأنفال: 23]، قال الله تعالى:  وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ  [فاطر: 22]،  يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ  ومعنى: لَأَسْمَعَهُمْ  الإسماع إسماع الصوت، هذا يشترك فيه الدابة والكافر، هل هو يسمعهم فقط آياته؟ ثمود أسمعهم آياته، لا فائدة، إذن، هناك إسماع خاص، هناك إسماع الآذان، وهناك إسماع القلوب، هذا الذي عبّر عنه ابن القيم - رحمه الله – بقوله: "وهذا الإسماع يعني إسماع القلوب أخص من إسماع الحجة والتبليغ" هذا ممكن تبلغه الآذان، قال: "فإن ذلك حاصل لهم وبه قامت الحجة عليهم، لكن ذاك إسماع الآذان وهذا الخاص إسماع القلوب، فإن الكلام له لفظ ومعنى، وله نسبة إلى الأذن والقلب وتعلُّقٌ بهما، فسماع لفظه حظ الأذن، وسماع حقيقة معناه ومقصوده حظ القلب، والذي ينعدم عنده هذا السماع - يعني سماع القلب - ميت،  إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ [الأنعام: 36]. [مدارج السالكين: 1/67].

لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي

هو سماع الأذن حصل لكن ماذا يقصد الشاعر؟ سماع القلب

ونارا لو نفخت لقد أضاءت ولكن صرتَ تنفُخ في رمادِ

مرتبة الإلهام

00:00:00

عندنا مرتبة الإلهام، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا  [الشمس: 7 - 8]، هي في قوله تعالى في دعاء سليمان:  فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ [النمل: 19].

ماذا قال المفسِّرون؟ ابن قتيبة: "أوزعني ألهمني أن أعمل صالحا ترضاه" [زاد المسير: 3/357].

وقال ابن القيم: "ألهمني ذلك واجعلني مُغرًا به، وكُفّني عما سواه" [شفاء العليل: 57].

حديث: اللهم ألهمني رشدا وقني شر نفسي  رواه الترمذي وقال حسن غريب. معناه: حول هذا.

هذا الإلهام الإيماني وليس الإلهام الشيطاني عام للمؤمنين بحسب إيمانه، فكل مؤمن يلهمه بحسب قوة إيمانه، والله - عز وجل - يسمع ويلهم ويوزع ويبصِّر ويفهِّم ويعلِّم، ويرزق الفراسة، والفراسة نوع آخر أيضاً، نور يقذفه الله في القلب يفرِّق به صاحبه بين الحق والباطل، والصادق والكاذب،  إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ  [الحجر: 75]، من هم المتوسمون؟ قال مجاهد: "للمتفرِّسين" لأصحاب الفراسة. [تفسير الطبري: 14/94].

قال ابن القيم: "وأهل الفراسة يعرفون صدق الصادق من ثبات قلبه وقت الإخبار، وشجاعته ومهابته، ويعرفون كذب الكاذب بضد ذلك، ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة" [التفسير القيم: 347].

هذه الفراسة أشياء أحيانًا مما يلوح على الشخص من هيئته، من طريقة كلامه، من تصرفاته المتفرس أو صاحب الفراسة يعرف، والفراسة الإيمانية هي مقصودنا، الفراسة التي يُعرف فيها الحق من الباطل والصادق من الكاذب، أما الفراسة داخلة فيها، كان اثنان من السلف عند الكعبة فمر شخص فقال أحدهما: هذا حداد، وقال الآخر: هذا نجار، فذهب واحد وسأله، قال: ما عملك؟ قال: كنت حداداً، وأنا اليوم نجار، من أين؟ أحياناً هي أشياء تعرف من أصابعه، من لونها، مما الفراسة فيها آثار، يعني نافخ الكير فيه آثار، حامل المسك له آثار، رائحة، شكل، ممكن بعض الأذكياء تجد عندهم منها وهي دون الفراسة الإيمانية، والذي فيها الحق والباطل تمييز الحق والباطل بالفراسة، لا، هذه كما يقولون: قد توجد عند المؤمن والكافر، أحمد بن طولون بينما هو يتنزه، وكان هو الحاكم رأى سائلاً في ثوب خلِق، رأى سائلاً في ثوب بالٍ، فوضع دجاجة في رغيف، وحلوى، وأمر بعض الغلمان أن يدفعها إليه، فلما وقعت في يده لم يهش ولم يعبأ بها فقال للغلام: جئني به، فجاءه، فلما وقف أمامه استنطقه فأحسن الجواب، يعني قال كلاماً ولم يضطرب من هيبته، فقال: هات الكتب التي معك واصدقني من بعثك؟ طلعوا من عفشه هذا، فتشوه، هات الكتب التي معك، اصدقني من الذي أرسلك؟ فقد صحّ عندي أنك صاحب خبر، يعني جاسوس وأحضر السياط تهديدًا، فاعترف الرجل، قال: أنا فعلاً جاسوس، أرسلت لأبحث في أخباركم في البلد، فقال بعض جلسائه -يعني جلساء ابن طولون -: والله إن هذا سحر كيف اكتشفه؟ فقال ابن طولون: والله ما هو بسحر ولكنها فراسة، رأيت سوء حاله فأرسلت إليه بطعام يشره إلى أكله الشبعان، يعني طعام شهي فما هشّ له ولا مد يده إليه، فأحضرته فتلقاني بقوة جأش، فلما رأيت رثاثة حالة وقوة جأشه علمتُ أنه صاحب خبر" يعني متنكر، هو كشف التنكر بفراسته. [الطرق الحكمية: 1/112].

من الأشياء التي تدخل في الهداية أيضاً، لمة الملك، اللمة ما يقذفه الملك في نفس العبد، وأصله الإلمام النزول والقرب، والنبي ﷺ: قال:  إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة  ولمة الملك قال:  إيعاد بالخير وتصديق بالحق ، والشيطان بالعكس،  إيعاد بالخير ، يعني: أنت الآن لو قمت تصلي الليل فالذي بعثك وأزك عليه ملك كريم، لو خطر في بالك خاطر أنك تصوم غداً، الذي أزك وبعثك عليها ملك كريم، إذا نفسك سخت بمال لتتصدق، إذا جاءت فكرة في عمل خيري، فإن الذي رماها في نفسك ملك كريم قال: لمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق، قال:  فمن وجد ذلك فليعلم  أنه من الله، فليحمد الله ، ومن وجد الأخرى تؤزه للمعصية قال:  فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم  الحديث رواه الترمذي وهو حديث صحيح.  

من الهداية واعظ الله في قلب كل مسلم الذي يقول له إذا جاء يفعل معصية ويفتح بابها: ويحك لا تفتحه إنك إن تفتحه تلجه  [رواه أحمد: 17634، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 3887]. هناك تزيين إغراء.

الرؤيا الصادقة

00:00:00

من مراتب الهداية أيضاً الرؤيا الصادقة التي فيها هداية للحق، إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا، لم يبق من النبوة إلا المبشرات الرؤيا الصالحة.

من الناس الذين هداهم الله بالرؤيا: خالد بن سعيد بن العاص الأموي كان من السابقين الأولين، قيل: كان سبب إسلامه أنه رأى رؤيا أنه على شِعب نار، فأراد أبوه أن يرميه فيها، فإذا النبي ﷺ آخذ بحجزته" هذا الذي رآه في المنام، في الصباح ذهب إلى أبي بكر الصديق قصّ عليه المنام والرؤيا التي رآها فقال: اتبع محمدًا ﷺ فإنه رسول الله، فجاء فأسلم فبلغ أباه المشرك فعاقبه ومنعه القوت ومنع إخوته من كلامه، فتغيب بعد ذلك وهاجر إلى الحبشة فكان من مهاجرة الحبشة" [الإصابة في تمييز الصحابة: 2/ 202]، عبد الله بن عمر، رأى رؤيا عظيمة وقال أنه كان شاباً وينام في المسجد على عهد النبي ﷺ فرأى في النوم قال: "كأنّ ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أناس قد عرفتهم فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، قال: فلقينا ملك آخر فقال لي: لم ترع - يعني: لا خوف عليك - فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي ﷺ فقال:  نِعْم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل  فكان بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلا" [رواه البخاري:  1122، ومسلم: 2479]. وهذه بشارة لابن عمر أنه ليس من أهل النار، وأنه لن يدخل النار، وكانت هذه الرؤيا من الأشياء التي دفعت عبد الله بن عمر لقيام الليل والمحافظة عليه.

الهداية إلى التوحيد

00:00:00

من صور الهداية الهداية إلى التوحيد، وهذا رأس الهداية،  فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ  [الأنعام: 125] وهذا الهدى للتوحيد أعظم أسباب شرح الصدر، وأعظم ما يفتح الله به على الإنسان، وأعظم الأسباب التي توسع الصدر بعد ضيقه، وأعظم الأسباب التي تثبت القلب،  الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ  [الأنعام: 82]، هداية توحيد، والذين لبسوا إيمانهم بظلم يعني بشرك، هؤلاء لم يلبسوا إيمانهم بظلم، ماذا يحدث لصاحب هذه الهداية؟ أن يتقرب إلى الله بالفرائض ثم بالنوافل حتى يحبه فإذا أحبه كان سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصره به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فتصبح الحواس كلها مشغولة بطاعة الله، تصبح الأعضاء كلها مشغولة بطاعة الله، عاملة بأوامر لله فلا يمشي إلا إلى ما يرضي الله، لا ينظر إلا إلى ما يحبه الله، لا يسمع إلا ما أمر الله به وأذن به ولا تتحرك جوارح هذا العبد إلا في الله ولله وبالله، بالله استعانة، لله إخلاصاً، وعلى الله توكلاً، وفي الله على دينه وشرعه وسبيله ومنهجه، فهذا هو حال الصادق الموحد، سماء إيمانه حُرست بالنجوم، فإذا أراد شيطان أن يقترب، الله حرسه، ولو استرق شيطان شيء،  إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ  [الأعراف: 201].

رجاع إلى الله مباشرة، فيعوّض ما استُلب منه ويزيد بالتوبة والإنابة.

الهداية للسنة

00:00:00

من أنواع الهداية: الهداية للسنة، الهداية للسنة واجتناب البدع، والذين يقعون في البدع ممن لم يعتصموا بالكتاب والسنة الذين اعتصموا بالكتاب والسنة عصمهم الله، هذه الهداية للسنة، فالواحد ما يقع في بدع،  وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا  [الأحزاب: 46]، السنة كسفينة نوح، الاعتصام بالسنة نجاة، ولذلك يضل عن السنة من ليس من أهل هذه الهداية، كان السلف يفرحون جداً بالهداية إلى السنة، وبعضهم يعبر عن الفرح أن الله نجاه من البدع، يقول ابن عمر - رضي الله عنهما -: "ما فرحت بشيء من الإسلام أشد فرحًا بأن قلبي لم يدخله شيء من هذه الأهواء"

يعني: البدع.

وقال مجاهد: "ما أدري أي النعمتين أعظم عليّ؛ أن هداني للإسلام أو عافاني من الأهواء" يعني من البدع.

يا جماعة اليوم المبتدعة مئات الملايين، قال المروذي قلت لأبي عبد الله الإمام أحمد: "من مات على الإسلام والسنة مات على خير، قال: "اسكت، بل مات على الخير كله" ليس فقط على خير، على الخير كله.

الهداية إلى مراتب الإيمان شأنها عظيم، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا  [البقرة: 137].

وقال الله إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ  [يونس: 9]، هؤلاء بالفرقان الذي يؤتيهم الله نتيجة هذه الهداية ويميزون بين الخير والشر والحق والباطل والسنة والبدعة ويعبدون الله كأنهم يرونه ويرتقي العبد في الإيمان بالنبي ﷺ حتى يتبع سنته في الصغيرة والكبيرة،  وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ  [التغابن: 11]، وحتى عند المصيبة يعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلِّم، هذه الهداية التي يعرف فيها بالنور الذي يقذفه الله في قلبه يعرف الطاعة من المعصية ويميز، فيتقي ربه ويرجو ثواب الله ويترك معصية الله على نور من الله، ويخشى عقاب الله ويميز بين أنواع من الحلال والحرام،  وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ  [التوبة: 115].

يقول سلمان الفارسي : "إنما مثل المؤمن في الدنيا كمثل المريض معه طبيبه الذي يعلم داءه ودواءه فإذا اشتهى ما يضره منعه وقال له: لا تقربه فإنك إن أتيته تهلك فلا يزال يمنعه حتى يبرأ من وجعه" [حلية الأولياء: 1/207] فالنفس تشتهي أشياء لكن إذا كان لا يوجد في الداخل طبيب يمنع من الهداية، الإنسان يمرض ويموت، الهداية إلى الطريق الأمثل في الدعوة، أنت الآن تريد أن تدعو أهلك زوجتك ابنك بنتك قريبك جارك صاحبك في العمل شخص بعيد غريب شخص عبر الشبكة تدعوه بينك وبينه آلاف الأميال، الهداية إلى ما تقوله له هداية، الهداية إلى الأسلوب، إلى الوسيلة، ماذا تبدأ معه؟ هذه هداية، وما هو كل الناس يوفق إليها، أحياناً من الناس من يكون منفراً، وبعضهم يبدأ بالعكس يعطيهم من التفصيلات، ولا بد كان يعطيهم من القواعد والأسس في البداية، فإذن، الهداية في الدعوة يحتاجها الإنسان  ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ  [النحل: 125]، على علم وبصيرة قل هذه سبيلي فالآن البدء بالأهم، الآن تبدأ بموعظة ليفتح الله بها القلب، تأخير مسائل أحياناً في الحلال والحرام حتى يتمكن الإيمان.

وكذلك لما الواحد بهداية الله له في هدايته للناس كيف يبدأ؟ بتعظيم الله، قضايا الإيمان، الجنة والنار، ترقيق القلوب، من الهدايات، هدايتك إلى الكسب الحلال، الآن المكاسب والوظائف كثيرة جدًا ومتشعبة جدًا، فهناك ناس يهديهم الله للكسب الحلال والتجارة الحلال والمدخل الحلال والبداية الصحيحة، وهناك ناس يخبط في الحرام عمداً جهلاً، وفيه ناس الله ييسر لهم الرزق، وهناك ناس شغلهم عسير، وهناك ناس يهديهم الله إلى أعلى المكاسب بأقل المشقات والتعب، تلقاه أحياناً يأتي بملايين بمكالمة مكالمات باع اشترى ملايين، وهناك ناس يشتغل من الصباح إلى الليل بالكاد، هذه هدايات، المكاسب هدايات، وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ  [المائدة: 88]، فإذا هداك إلى العمل المباح من أنواع التجارات وهداك للذي يناسبك، يمكن يناسبك الزراعة، يمكن يناسبك الصناعة، يمكن يناسبك التجارة والصفقات، ويمكن ما يصلح لك إلا الوظيفة، وهو يهديك إلى ما يصلحك، إذا هداك إلى الأحسن أنعم عليك، وأحيانًا يمنع عنك مالاً، ويمنع عنك سعة لمصلحتك،  إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم من الطعام والشراب تخافونه عليه  [رواه أحمد: 23622، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 3179].

هذه قضية الهداية في الرزق وتحري الحلال فيها قصة مع الإمام محمد بن الحسن الشيباني - رحمه الله - أن أصحابه قالوا له: ألا تصنّف له كتاباً في الزهد؟ قال: "قد صنّفت كتاباً في البيوع" [المبسوط للسرخسي: 30/282].

يقصد: أنا ألّفت في أحكام البيوع؛ بحيث لو فهمه من قرأه، يعرف يتحرّي الحلال من الحرام ويبتعد عن المشتبهات فيكون زاهداً".

والعبد في النهاية لن يأخذ من رزقه إلا ما كتب له ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها

لو أن في صخرة صماء ململمة في البحر راسية ملس نواحيها رزقا
لعبد براها الله لانفلقت حتى تؤدي إليه كل ما فيها
أو كان في السبع الطباق مسلكها لسهّل الله في المرقى مراقيها
حتى ينال الذي في اللوح خُطّ له فإن أتته وإلا سوف يأتيها

الهدايات منها مثلاً أن يحوز الأجر العظيم، الأجر الأكبر؛ لأن الأعمال الصالحة تتفاوت، فيه شيء نفعه لازم، وفيه شيء نفعه متعدٍ، فيه شيء من الأعمال درجته أعلى من درجة عمل آخر، فيه شيء أحياناً اقل جهداً وأكثر أجراً، عن أم المؤمنين جويرية - رضي الله عنها - أن النبيﷺ خرج من عندها بكرة أول النهار من طلوع الفجر حين صلى الصبح وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى -دخل في الضحى- وهي جالسة فقال: ما زلت على الحال التي فارقتك عليها قالت: نعم، فقال: لها ﷺ  لقد قلتُ بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن، -يعني الوقت أقل وجهد أقل والأجر أكبر ما هي؟- سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته [رواه مسلم: 2726].

حديث:  ألا أخبرك بأكثر أو أفضل من ذكرك الليل مع النهار والنهار مع الليل؟ أن تقول: سبحان الله عدد ما خلق وسبحان الله ملء ما خلق وسبحان الله عدد ما في الأرض والسماء وسبحان الله ملء ما في الأرض والسماء وسبحان الله عدد ما أحصى كتابه وسبحان الله عدد كل شيء وسبحان الله ملء كل شيء وتقول الحمد لله مثل ذلك  [رواه النسائي في الكبرى: 9921، وابن حبان في صحيحه: 830، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 2578].

ألا ترى أن بعض الناس يهديهم الله؛ لأن يقولوا آمين مع قول الإمام آمين فيوافق تأمينهم تأمين الملائكة فيغفر لهم بكلمة واحدة، ما هو أي واحد يهديه الله لهذا مع كثرة المصلين.

أحيانًا من الهداية يدلك على أن تفتح للناس أبواب خير فتؤجر مثل أجرهم وتكون أنت الذي تسببت وبدأت، أحياناً يهديك لتصفية نية تنال بها أجراً عظيماً لا يناله بعض العاملين، ويمكن أنت ما تمكنت العمل لتعمل ويصير أجرك أكبر، بنية حسنة يهديك إلى تصفيتها واستحضارها، أحياناً يهديك إلى كلام أبلغ من كلام، وكلام أفضل من كلام، قال سبحان الله عشرين، الحمد لله عشرين، ولا إله إلا الله والله أكبر عشرين، الحمد لله رب العالمين، قال: كتبت ثلاثون، هذه من القرآن هذه آية وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ  [الحج: 24]،  لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء: 114]، يهديك لإصلاح بين الناس أو لأمر بالمعروف أو لنهي عن المنكر تحوز به أضعاف أضعاف غيرك.

أحياناً يهديك لأحسن الأخلاق كما قال في الحديث: اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت  [رواه مسلم: 771].

يهديك للصدق والأمانة والتواضع والوفاء والعدل والبر والرحمة والحلم والأناة، ويهديك لأخلاق لا يهدي إليها غيرك، أحيانًا يهدي بعض العلماء لحل إشكالات لا يهدي غيرهم إليها، ولذلك النبي ﷺ في استفتاح قيام الليل:  اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم  [رواه مسلم: 770].

وابن تيمية يقول: أنا أنظر في الآية أحياناً مئة تفسير وأقول: "يا معلّم إبراهيم علّمني ويا مفهّم سليمان فهّمني حتى تنفتح علي"، [المستدرك على مجموع الفتاوى: 5/150]، وقال مرة - حتى في المسائل الفقهية -: أحياناً تأتي جنازة، أنا عندي خبر أن هذا الرجل من أهل بدعة أو نفاق، لكن ما أعرف ما وضعه، مات على ماذا؟ كيف وضعه؟ تغير، ما تغير، فأنا أعرف تاريخه، مات، والجنازة أمامي، ماذا أفعل؟ قال: فرأيت النبي ﷺ  في المنام وهذه المسألة وقال: "يا أحمد الشرط الشرط" [إعلام الموقعين: 1/154]. يعني أشرط؛ اللهم إن كان هذا إن مات هذا على الإسلام وكذا فاغفر له وارحمه وعافه واعفُ عنه وأكرم نزله ووسع مدخله، مثلاً واحد معروف من أهل البدع معروف تاريخه إن كان هذا مات على السنة فاغفر له وارحمه وعافه واعفُ عنه.

جاء رجل إلى الإمام مالك - رحمه الله - وعنده الشافعي عمره خمسة عشر سنة، وسفيان بن عيينة والزنجي كبار من أهل العلم فأقبل رجلان فقال أحدهما: أنا رجل أبيع القماري، الطيور، هذه الطائر المعروف، وقد بعت هذا قُمريًا، وحلفت له بالطلاق أنه لا يهدأ من الصياح - يعني التغريد - فلما كان بعد ساعة أتاني وقال: قد سكت فرد عليّ وقد حنثت، فقال مالك: بانت منك امرأتك مادام أنت حلفت بالطلاق على شيء وظهر أنه ليس صحيحًا، فمرا بالشافعي فقصّا عليه القصة فقال له: أردت ألا يهدأ أبدًا، أو أن كلامه أكثر من سكوته، صياحه أكثر من سكوته، قال: بل أردت أن كلامه أكثر من سكوته؛ لأني أعلم أنه يأكل ويشرب وينام، فقال الشافعي: رد عليك امرأتك فإنها حلال، ما صار شيء ما دام أن الكلام ما اختلف، وأن الصمت الذي حصل للطائر مؤقت فبلغ ذلك مالكًا، فقال للشافعي: من أين لك هذا؟ قال: من حديث فاطمة بنت قيس، فإنها قالت: يا رسول الله، إن أبا معاوية وأبا جهم خطباني فقال:  إن معاوية رجل صعلوك وإن أبا جهم لا يضع عصاه عن عاتقه  [رواه أحمد: 27333، وقال محققه الأرنؤوط: حديث صحيح]، أو ضرّاب للنساء، ومعلوم أن أبا جهم كان ينام ويستريح وليس طول اليوم وهو يضرب أربعة وعشرين ساعة، فعجب مالك وقال الزنجي الإمام الآخر: أفت فقد آن لك أن تفتي" [الوافي بالوفيات: 2/122].

النبي ﷺ الله هداه في اللبن والخمر أن يشرب اللبن، فقال: أصبت أصاب الله بك أمتك على الفطرة، يوسف اختار السجن الهداية إلى التصرف الصحيح في المواقف العصيبة كثيرة في هذا الباب المواقف وما أكثر الآن الحاجة إلى المواقف الصحيحة في هذا الزمان نسأل الله أن يهدينا للحق.