تابع الأسباب الحاملة على قطيعة الرحم
وهذا الشاب مثلاً الذي يجلس ما عنده خبرة بالكلام، فيبقى منزوياً لا يحسن أن يتكلم ولا أن يدخل في موضوع، وربما إذا دخل في موضوع أسكتوه، أو أن كلامه صار في وضع محرج.
من أين أتت هذه القلة بالخبرة؟
نتيجة عدم الممارسة والمعايشة، لو أنك جلست في المجالس كثيراً في مجالس هؤلاء لصارت عندك الخبرة في الكلام والمحاورة، وجذب أطراف الحديث، وإدارة النقاش، وغير ذلك.
فإذاً، قد تكون في البداية تخفق نوعاً ما، لكنك بعد فترة من الزمن ستتحسن قدراتك على المناقشة والمحاورة، وسيستمتع بك الآخرون وسينجذبون إليك، وتصبح شخصاً ناجحاً في مجالس العائلة، وهذه مسألة مهمة، وربما أحياناً الواحد لا يحسن بعض الأعراف السائدة، قد لا يحسن تقديم الضيافة حسب العرف المتعارف عليه في تلك العائلة أو القبيلة فينشأ عنه مثلاً نظرة احتقار من الآخرين، كيف هذا ماسك الدلة؟ كيف يبدأ؟
فيجب أن تتعرف إلى الأعراف الموجودة وتسير معها إذا لم تكن مخالفة للشرع، إذا ما كانت مخالفة للشرع. لابد أن تعرف هذه من الخبرة في الحياة، لابد أن تعرف ما هي عادات القبيلة التي أنت منها؟ ما هي أعراف العائلة التي أنت فيها، حتى تستطيع أن تسايرهم لتدخل في قلوبهم لتحببهم إليك؟
وكذلك حديث من الأحاديث يبين لنا علاج سبب من الأسباب، السبب في القطيعة: أنهم هم يقطعونك، هم يسيئون إليك، فأنت أيضاً ترد بالقطيعة، في صحيح الإمام مسلم عن أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني وأحسن إليهم ويسيئون إلي وأحلم عنهم ويجهلون علي؟ فقال: لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم المل كأنما تطعمهم الرماد الحار، لئن كنت كما قلت، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك [رواه مسلم: 2558] في أي حالة؟
إذا استمر بك الحال على ذلك على الصبر على هذه الإساءة، لكن إذا تخليت وقلت: خلاص هم يسيئون إلي أنا ما علي منهم، وتقطعهم أيضاً، فهذا ليس هو الحل، وتقطع على نفسك أجراً عظيماً باب عظيم من الأجر تسده، وهو أنك أنت تحسن لمن أساء إليك، وتصل من قطعك.
الحلول لمشكلة قطع الرحم
كيف نحل هذه المشكلة؟ ما هي الحلول لمشكلة قطع الرحم الحاصل الآن؟
أولاً: أن يحس المسلم بخطورة هذا الذنب، وعظم هذه المشكلة وما يترتب عليها من سلبيات، وهذه تحتاج إلى توعية في عدة مجالس، تحتاج إلى توعية.
ثانيا: أن يستشعر المسلم رقابة الله عليه، وأن طاعة الله واجبة، والإثم العظيم المترتب على هذه القطيعة.
كذلك: أن يحدث بيننا تناصح وتسديد من بعضنا لبعض حتى نتمكن من تجنب هذا المزلق.
وكذلك: الشروع جدياً عملياً بإنشاء العلاقات مع الأقارب وألا يخجل الإنسان، يقول: كيف أكلم واحداً صار لي مثلاً عشر سنوات ما كلمته؟ أنا أرسل رسالة الآن أو اتصل بالهاتف على واحد من خمسة عشر سنة ما كلمته، أو خمس سنوات ما سمع صوتي، ماذا سيقول؟ لا يمكن، المسألة محرجة.
لا يا أخي أقدم ولا تخف، فإن الله سيعيد سيرة الرحم الأولى إذا شاء بسبب مبادرتك أنت، ويجب على الإنسان كذلك أن يوسع من تصوراته، فإذا كنت تتصور بأن الدعوة محصورة على نطاق ضيق في زملائك في العمل مثلاً، فيجب عليك أن توسع هذا التصور لكي تشمل الدعوة كذلك الأقارب وتغير ذلك المفهوم الضيق الذي استقر عندك، وأن تضرب الأمثلة والقدوة الحسنة وإشاعة الأخبار التي فيها وصل الناس لأرحامهم والآثار الإيجابية التي ترتبت على ذلك: فلان كان ما يصل.
الآن بمجرد تلك المكالمة حصل من الخير كذا وكذا، فلان ما كان يدخل بيت قريبه الفلاني، الآن زاره مرة مرتين ثلاثة حصل من الخير كذا وكذا، أن تنتشر هذه الأخبار في مجالسنا، حتى يحصل نوع من التشجيع فنقدم.
ومن صفات المؤمنين: أن الله يقول فيهم: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 3] فيتواصى الناس بعضهم ويتابع بعضهم بعضاً على هذه الأمور الخيرية.
وكذلك أن يتوسط الإنسان ويعتدل في أي شيء، في تحميل نفسه تكاليف الخير، فإذا جاء يطلب العلم لا يكلف نفسه بطلب العلم كل الوقت، وإذا جاء مثلاً يزور الناس لا يكلف نفسه كل وقت في زيارة الناس، وإنما يجعل هذه الأعباء التي عليه بحيث يتمكن من صلة الرحم.
يا أخي: ممكن أن تخفف بعضها لكي يتبقى عندك وقت تصل به رحمك، خفف من بعض أشغالك سواء كانت دنيوية أو كانت أخروية من أجل أن تصل إلى هذا المقصود، لا بأس أن تخفف من بعض أعبائك لكي تصل إلى هذا الهدف، ومراعاة نفسيات الأقارب، وإذا أخطأوا تتحمل خطأهم، هذا فلان قد يكون مهذاراً، قد يكون متعدياً في الكلام، هذا فلان ما يحب الكثرة في الكلام، هذا فلان يحب الإسهاب والتطويل، فلان يحب أن تبدأ له بمقدمات، فلان يحب الدخول في الموضوع مباشرة، يجب أن يكون لديك خبرة بنفسيات أقاربك، حتى تستطيع أن تدخل فيهم.
إيجابيات صلة الرحم
وإيجابيات صلة الرحم كبيرة جداً؛ فمنها: تطبيق قول الله : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] يعني لو لم يكن إلا هذا لكفى.
وفي صحيح الإمام مسلم عن أبي هريرة قال: لما نزلت: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دعا رسول الله ﷺ قريشاً فاجتمعوا، فعم وخص: يا بني فلان، يا بني فلان إلى أن قال: يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها وأصل الحديث في البخاري [رواه مسلم: 204].
وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ أمر قرآني.
كذلك من إيجابيات صلة الرحم: يقول رسول الله ﷺ: فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر [رواه الترمذي: 1979، وأحمد: 8868، والحاكم: 7284، وقال محققو المسند: "إسناده حسن"].
صلة الرحم محبة في الأهل، يحبك أهلك.
مثراة في المال ، الله يوسع لك في رزقك ويعطيك بسبب صلة الرحم.
منسأة في الأثر يعني يؤخر لك في الأجل ويطول عمرك بسبب زيارة الرحم؛ لأنه ورد في حديث في الصحيحين عن أنس مرفوعاً: من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه [رواه البخاري: 5986، ومسلم: 2557].
قد يقول إنسان: كيف يبسط له في أثره في عمره والعمر قد كتب وانتهى؟
فأجاب العلماء عن هذا قالوا: إن التغيير يحصل في صحف الملائكة؛ لأن الملك الذي علمه الله إذا فلان ما وصل رحمه فيكون عمره مثلاً خمسون عاماً، فإذا وصل رحمه فيكون عمره ستون عاماً، فيعلم الملك إذا وصلت رحمك بزيادة في أجلك، فيزيدها عنده.
أما في اللوح المحفوظ فإن المسألة لا تتغير، يمحو الله ما يشاء ويثبت، قيل: يعني في صحائف الملائكة التي فيها المقادير، وعنده أم الكتاب اللوح المحفوظ لا يتغير فيه شيء، اللوح المحفوظ ما يتغير؛ لأنه مكتوب لو أن فلاناً ما وصل رحمه سيعيش خمسين، لو وصلها سيعيش ستين، وهو مؤكد أنه سيفعل أحد الأمرين؛ لأن هذا شيء قد قدر وانتهى من أول، فمكتوب أجلك فيه النهائي.
كذلك يقول الرسول ﷺ في الحديث الحسن الذي رواه أحمد عن عائشة مرفوعاً: صلة الرحم، وحسن الجوار، وحسن الخلق؛ يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار [رواه أحمد: 25259، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح"].
يعمران الديار ويزيدان في الأعمار، هذه من بركة صلة الرحم.
كذلك يوجد للشاب المسلم دور أكبر مع أهله يقيهم النار التي وقودها الناس والحجارة، وهذا دور عظيم فيه أجر كبير.
وكذلك: يصبح الإنسان معروفاً بين أقاربه وأهله، فتزول العداوات والاستغرابات، ويكسب احترام الجميع، وكذلك: يجد من أقربائه من ينصره ويعينه في دعوته مادياً ومعنوياً إذا هو وصل رحمه، فيجد الناصر والمعين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويثني الناس عليه وعلى أعماله ويساعدونه، ويقفون بجانبه في ساعات الشدة.
ومن إيجابيات صلة الرحم: أن التداخل مع الأقارب سهل.
أنت الآن إذا أردت أن تتعرف على رجل بعيد قد تتعنى لذلك ويكون فيه مشقة، كيف تدخل مع هذا الرجل، لكن هذا قريب هذا لو بعد عشرين سنة أعلمت بأن فلان قريبك بكل سهولة تطرق عليه الباب تقول: يا أخي أنا فلان بن فلان قريبك وأحب أن أتعرف عليك، لن يستغرب الأمر.
فإذاً، التداخل مع الأقارب سهل لطبيعة القرابة الحاصلة فلن تجد عناء ولا مشقة في التعرف عليهم أو دخول قعر بيوتهم.
وكذلك: عندما تكسب الناصر والمعين تجد من يذب ويدافع عنك وعن عرضك في المجالس التي تنتقد أنت فيها من وراء ظهرك، وحتى إذا صار عليك اعتداء وأنت موجود وهناك القريب الذي وصلته لا شك أنه سيقف بجانبك، لكن لو بينك وبينه عداوات فسيقول في نفسه: يستاهل خليه.
صحيح وأحياناً قد يكون الدفاع هذا من باب العصبية والقبلية، لكن أثره إيجابي على الدعوة إلى الله، والرسول ﷺ والصحابة، لماذا دافع بنو هاشم على الرسول ﷺ؟ لماذا وقفوا معه حتى كافرهم دخلوا في الشعب، من باب العصبية صحيح، الرسول ﷺ كانت علاقته فيهم طيبة، وبعضهم عرض عليه جواره، عرضوا على أبي بكر الصديق، صحيح أنها تنطلق أحياناً من باب العصبية، لكنها في النهاية في صالح الدعوة إلى الله ، وهم يعلمون أن ينطلقوا من حب الله وليس من باب العصبية.
والأقارب على درجة عظيمة من الأهمية، وأن نصرتهم لك نصرة عظيمة إذا أنت أحسنت صلتهم، ولا أدل على ذلك من قول أحد الشعراء يقول:
أخاك أخاك إن من لا أخا له | كساع إلى الهيجا بغير سلاح |
وإن ابن عم المرء فاعلم جناحه | وهل ينهض البازي بغير جناح |
وصلة الرحم من إيجابياتها أيضاً: أنها توجد القدوات والأئمة الذين يؤتم بهم، ويتحرك الناس وراءهم يقتدون بهم على مستوى العائلات والأسر والعشائر.
وهؤلاء القدوات الذي يعملون لصالح الإسلام لا شك أنهم سيؤثرون على أقاربهم الذين يقتدون بهم لصالح الإسلام أيضاً.
وكذلك من الإيجابيات في صلة الرحم: القيام بدور فعال في محاربة البدع والجهل والمنكرات والخرافات في أوساط العائلات، فإنه لا شك أن لواصل الرحم مكانة في نفوس أقربائه، وهذا يسهل عليه تعليمهم السنة وإنكار البدعة ويسهل عليه ويسهل تقبل أولئك الأقارب من هذا الرجل، ودفع عداوة الأقارب بصلتهم مسألة مهمة فالشاعر يقول:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة | على النفس من وقع الحسام المهند |
لأن ظلم البعيد قد يحتمل، لكن ظلم القريب يكون أشد في النفس
ومن إيجابياتها: إيجاد الأجواء المريحة داخل الأسرة مما يضمن الاستقرار النفسي في بيتك بدلاً من حياة النكد والخصام التي تقلق راحة الإنسان الذي يقطع رحمه، ونقول: يا إخواني إنه من المؤسف أحياناً أن يكون الفسقة أو الفجار هم الذين يدور حولهم أفراد الأسرة والعائلة، وترى بعضهم مثل مراكز المعلومات في الأسرة يعلمون من تزوج من سافر من حضر من ولد له أولاد، أخبار كثيرة جداً.
بينما ذلك الرجل المتمسك بدينه يجهل أحوال أسرته وأقاربه تماماً ويلتف الناس حول ذلك الرجل يأخذون منه أخبار أسرتهم، وصاحبنا هذا يقبع في جهل تام بأحوال أسرته.
نريد ممن يتمسك بدين الله أن يكون محوراً يدور عليه أفراد أسرته.
نريد منه أن يكون مركزاً تتجمع لديه الأخبار عن عائلته والتغيرات الاجتماعية التي تصير بينهم.
وقد يقول قائل: كيف أوازن بين أداء الرسالة التي أوكلها الله وكلفني بها مسلم آمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبين صلة الرحم؟
فنقول: إن تقوى الله خير معين، والله -تعالى- تكفل بأن يعين من اتقاه.
وكذلك: استغلال أوقات الفراغ يكون أحياناً عند المسلم أوقات فراغ، لكنه لا يحسن الاستغلال فتضيع عليه، لو أنه صرف أوقات الفراغ هذه في تنفيذ بعض الأشياء التي تمكنه من صلة رحمه لأتى بنتائج عظيمة. وفي الجانب الآخر نقول: لا نعني أن الإنسان يستغرق في صلة الرحم بحيث أنها تأخذ كل الوقت ولا يكون عنده وقت لطلب العلم ولا للدعوة إلى الله ولا للتربية الإسلامية مع إخوانه في الله لا نقصد هذا، بل إن الله حذر فقال: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ[التغابن: 14].
وقال: لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ [المنافقون: 9].
فإذاً، الموازنة شرط أساسي للمسلم الذي يريد أن يأخذ بالواجبات.
كيفية صلة القريب الكافر
نأتي الآن إلى مسائل تتعلق أو مشاكل تتعلق بصلة الرحم: لو كان القريب كافراً فكيف يكون الحال في صلته؟
في صحيح البخاري: "باب صلة الوالد المشرك" عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: ((أتتني أمي راغبة في عهد النبي ﷺ" يعني راغبة في صلتي، يعني ترغب بما عندي من الخير الذي أعطاني الله إياه، فسألت النبي ﷺ.
الصحابة يتحرجون هذه كافرة، كيف تحسن إليها؟
فسألت الرسول ﷺ: أأصلها؟ قال: ((نعم)) [رواه البخاري: 5978].
وفي رواية للبخاري: قال: صلي أمك [رواه البخاري: 2620، ومسلم: 1003].
وكذلك عقد باباً بعنوان: "باب صلة الأخ المشرك"، وساق رحمه الله فيه حديث عبد الله بن دينار قال: سمعت ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: رأى عمر حلة سيراء يعني من حرير تباع فقال: يا رسول الله ابتع هذه والبسها يوم الجمعة إذا جاءك الوفود؟ قال: إنما يلبس هذه من لا خلاق له ، فأتي النبي ﷺ منها بحلل أو بحلة من هذه، فأرسل إلى عمر بحلة، فقال عمر: كيف ألبسها وقد قلت فيها ما قلت: يا رسول الله؟ قال : إني لم أعطكها لتلبسها ما أعطيتك إياها لتلبسها، هذه حرير والحرير لا يجوز للرجال، ولكن تبيعها أو تكسوها، بيعها وانتفع بقيمتها، "فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم" [رواه البخاري:5981].
فعمر كان حريصاً على صلة أخيه ذلك المشرك لعله يجتذبه إلى الصف الإسلامي، ولو لم يكن فيها إلا درء شره عن المسلمين لكان مغنماً عظيماً.
حكم هجر الأقارب العصاة والفسقة
ونأتي الآن إلى مسألة الهجر: الآن علماء السلف نصوا على وجوب هجر العصاة والفسقة، والأقرباء قد يكون فيهم كثير من العصاة والفسقة وأهل البدع ربما، فالآن الحكم الذي ذكره العلماء أن هؤلاء يهجرون، وهذه تسبب مشكلة، لو الآن يعني أردنا أن نقوم بهجر كل صاحب معصية معلن بها، لو نبغى نهجر كل صاحب معصية معلن بها، اللي يستمع الأغاني مثلاً نهجره، واللي يفعل كذا وكذا من الفجور ينظر إلى النساء الأجانب وينظر إلى هذه الأفلام وهذه الأشياء هؤلاء نريد أن نهجرهم مثلاً؛ لأنهم مصرون على الفسق الذي هم عليه، لو أردنا أن نهجرهم ستصبح عندنا مشكلة كبيرة في هذا العصر.
من أول في الزمن السابق كان المجتمع طيباً، لو هجرت هذا صاحب الفسق والمعصية سيكون الهجر مؤثراً في نفسه فيرجع؛ لأن الناس أكثريتهم طيبون، فسيجد هو نفسه في وحشة في غربة فسيرجع.
لكن الآن أكثر الناس خارجون عن طاعة الله عصاة، لو هجرت هؤلاء هل سيكون هجرك هذا معيناً دافعاً لهم على الرجوع إلى الحق؟
لا.
يمكن ما يسأل عنك ولا عن أخبارك، ويقول: أنا مستغني عنك وعن خدماتك، أنا عندي ألف واحد ممن هم على شاكلتي أعيش بينهم، أنا ما احتاج إليك، هجره لن يؤدي إلى ردعه.
فنحن نريد الآن أن ننظر إلى هذه المشكلة من الناحية الشرعية، هل يجب علينا هجر الفسقة والفجرة من أقاربنا، أو حتى من عامة الناس؟
يقول ابن تيمية -رحمه الله- كلام نفيس جداً في "الفتاوي في المجلد الثامن والعشرين" يقول: الهجر على وجه التأديب وهو هجر من يظهر المنكرات يهجر حتى يتوب منها، كما هجر النبي ﷺ والمسلمون الثلاثة الذين خلفوا... والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات" [مجموع الفتاوى: 28/ 204].
الهجر تعزير، كتارك الصلاة والزكاة والتظاهر بالمظالم والفواحش والدعوة للبدع.
وهذا الهجر الآن الكلام المهم، وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين، باختلاف المهاجرين الذين يريدون أن يهجروا، باختلاف الهاجرين في أي شيء؟ في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به المقصود بالهجر المقاطعة، ما المقصود منها؟ هل المقصود أن نقاطعهم، هل المقاطعة هي مقصد لذات المقاطعة نحن نريد أن نقاطع للمقاطعة، وإنما نريد أن نهجر لأي شيء؟ لإصلاحهم، أو نحن ما نريد، ليس الهدف هو المقاطعة، المقاطعة وسيلة نصل بها إلى إرجاعهم، لكن إذا كانت المقاطعة لا تحقق الهدف، فيقول ابن تيمية -رحمه الله-: "يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله" تأديب الناس الباقين أنهم لا يقلدوه ويتبعوه "فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعاً" في ذلك الوقت يكون الهجر مشروعاً، "وإن كان لا المهجور ولا غيره" يعني من العامة "يرتدع بذلك" يعني بالهجر "بل يزيد الشر"؛ لأنه يمكن الآن في صلة قد يتأثر في يوم من الأيام، لكن إذا هجرته انقطع مصدر الخير تماماً، لأنني كنت على صلة به، والآن أنا هجرته، انقطع الخير تماماً، وهناك من يتلقفه من أهل الشر كثيرون جداً، ففي هذه الحالة ليس من المصلحة الهجر، بل إبقاء الصلة مع هذا الرجل ونصحه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر هو الأفضل وهو الأصلح، الهجر لن يأت بنتيجة.
ابن تيمية -يا إخواني- من العلماء الذين فقهوا حال الناس كما فقهوا الشريعة، يعني لا ينطلق فقط من كتب العلماء بدون معرفة لواقع الناس وأحوال الناس، وهكذا يجب أن يكون العالم الذي نتلقى عنه خبيراً بأحوال الناس وأوضاع المجتمع كما أنه خبير بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، حتى تنطلق الأحكام صحيحة، حتى تنطلق الأحكام من واقع الناس من المصالح والمفاسد، وهذا الكلام النفيس جداً قد لا تجده لكثير من أهل العلم الذين انزووا عن المجتمع وعكفوا فقط على الكتب يقول: "بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف" [مجموع الفتاوى 28/ 206].
يمكن يكون عندك قريب يحبك جداً، لو أنك قطعته ما كلمته مطلقاً، سيأتي إليك يقول: يا فلان لماذا تفعل بي كذا، أنا أحبك جداً، لماذا تقطعني؟ فتقول له: أنت والله أنا لا أكلمك حتى تصلي، أنا لا أكلمك حتى تترك هذه المنكرات.
فيتركها؛ لأنه يحبك جداً، في هذه الحالة يكون الهجر أنفع أو الصلة؟ الهجر أنفع، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي ﷺ يتألف أقواماً ويهجر آخرين.
هذا الكلام ليس من البدع الآن طرأت القضية على عهد ابن تيمية قالها، لا، كلام له مستند من سيرة الرسول ﷺ، "كان يتألف قوماً ويهجر آخرين، كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلفة قلوبهم"[مجموع الفتاوى: 28/ 206].
الرسول ﷺ المؤلفة قلوبهم أعطاهم على مائة، مائة من الإبل أعطاهم، الثلاثة الذين خلفوا كعب وغيره من الصحابة الثلاثة هؤلاء خير إيماناً والا المؤلفة قلوبهم؟
كعب ومن معه خير.
الرسول ﷺ قطع كعباً ومن معه وأمر الناس بمقاطعتهم وأولئك المؤلفة قلوبهم يعطيهم على مائة مائة من الإبل، لماذا؟ ما هو السبب؟
حسب الحالة؛ لأن كعباً ومن معه ينفع فيهم الهجر، وتؤثر فيهم المقاطعة الكلامية، وهذا النتيجة كانت كذلك.
وأولئك المؤلفة قلوبهم من رؤساء القبائل والعشائر الذين يريد الرسول ﷺ أن يدخلهم في الإسلام كان الأنفع أن يعطيهم مع أنهم فجرة مع أنهم فسقة مع أنه يمكن بعضهم كفار، لكن يريد أن يستميلهم، فلذلك كان إعطاؤهم وصلتهم أنفع، القضية أين الحكمة؟ ما هو الأنفع في الدعوة إلى الله؟ لما كان أولئك سادة مطاعين في عشائرهم فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة وبين ما ليس كذلك.
من أول حصل في بعض بلاد المسلمين منكرات في عهد السلف وما بعده، كثر القدر في البصرة، صار الناس الذين عندهم بدعة في القدر القدرية كثيرين، فصار هل من المصلحة هجر كل من عنده بدعة في القدر وهم كثيرون في المدينة؟
لا، ليس من المصلحة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة، فلذلك كان من المصلحة لما كثر هؤلاء عدم مقاطعتهم وهجرهم؛ لأنهم إذا قاطعتهم وهجرتهم مستغنون عنك يقومون بذاتهم، لا يحتاجون إليك وإلى صلتك ولا إلى الجو الذي أنت تعيش فيه وتكون جزء منه، بخلاف البلاد الطيبة الأخرى التي ظهر فيها بدع بسيطة أو ناس قلة فيهم فسق مثلاً، فيهجرون لأجل ذلك الشيء؛ لأن المجتمع أكثره طيب، فسوق يتأثرون لو هجروا.
وينبغي أن يفرق كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- وينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله والهجر لحق نفسك، بعض الناس أحياناً يقول: هذا فاسق أريد أن أهجره، وحقيقة ما هجره من أجل فسقه، وإنما هجره لأنه مثلاً جرح فيه في مجلس من المجالس، صارت مشكلة بينهما فقال: أنا أريد أهجره، ما هجره لله، وإنما هجره لحظ نفسه، سوء تفاهم صار بينهما قال: أنا أهجره في الله، وهذا نابع ليس لله وإنما لحظ النفس.
والذي ترك المعصية وتاب، للعلماء فيه قولان ذكرهما شيخ الإسلام -رحمه الله- وسئل -رحمه الله- عن شارب الخمر هل يسلم عليه؟ وهل إذا سلم هو رد عليه السلام؟ وهل تشيع جنازته؟
فقال: الحمد لله من فعل شيئاً من المنكرات كالفواحش والخمر والعدوان وغير ذلك فإنه يجب الإنكار عليه بحسب القدرة، من رأى منكم منكراً فليغيره بيده الحديث معروف [رواه مسلم: 49].
فإن كان الرجل متستراً بذلك وليس معلناً له.
هذا يشمل بعض الأقارب الذين عندهم منكرات لكنهم متسترون عليها، يعني واحد يشرب الخمر لكن في بيته، لا يجاهر بسكره أمام الناس ولا في المجلس، وإنما يغلق على نفسه ويشرب وإذا بعد ذلك استفاق قام وجلس مع الناس، يعني هذا غير معلن بالفسق، غير المعلن الذي يشرب أمام الناس وفي المجلس، ويخرج صور النساء اللاتي كان معهن -والعياذ بالله- في أماكن الفجور والدعارة.
فيجب أن يفرق بين المعلن بفجوره والمستتر، فيقول: فإنه يجب الإنكار عليه بحسب القدرة، فإن كان الرجل متستراً بذلك وليس معلناً له أنكر عليه سراً، تأتي بينك وبينه وتنكر عليه، ما تفضحه بين الناس وستر عليه إلا أن يتعدى ضرره، مثل إن أولاده في البيت يقتدون به، فتأتي لأولاده وتقول: احذروا من أبيكم، أبوكم يشرب الخمر وهذا حرام وإثمه عظيم جداً، وتأتي لهم بالآيات والأحاديث وتحذرهم؛ صحيح أنه قد يكون مستتراً في البيت، لكن قد يتعدى لأولاده، فأنت تحذر الأولاد، والمتعدي لا بد من كف عدوانه، وإذا نهاه المرء سراً فلم ينته، فعل ما ينكف به من هجر وغيره، لو نصحناه سراً ما في فائدة، ماذا نفعل؟
نهجره إذا كانت المصلحة في هجره، ولذلك يقول: فعل ما ينكف به من هجر وغيره إذا كان ذلك أنفع في الدين.
وهنا تظهر الحكمة ورجاحة العقل في تقدير هل الهجر أنفع للدين أم لا؟
هذا الفقه أنت تعلم هل الهجر أنفع للدين؟
وأما إذا أظهر الرجل المنكرات وجب الإنكار عليه علانية ولم يبق له غيبة، ما له غيبة ولا حرمة، فلا يسلم عليه ولا يرد عليه السلام إذا كان الفاعل لذلك متمكناً من ذلك، إذا كان الذي لا يسلم ولا يرد السلام متمكناً من ذلك، يعني موقفه قوي من غير مفسدة راجحة.
واحد متزوج من أختك وهو مثلاً يرى المنكرات والمعاصي، لكنه مسلم على أية حال فاسق، لو أنك ما سلمت عليه ولا رديت عليه السلام لطلق أختك وشرد الأولاد وبقوا بدون عائل، فهنا أنت توازن بين مصلحة ترك السلام عليه وعدم الرد عليه وبين تلك المفسدة، أيهما أعظم وتبني بناء على ذلك القرار الذي تتخذه بشأن هذا الرجل، وما هو الموقف الذي تتخذه مع هذا الرجل.
وهذه القواعد مثل هذا الكلام الذي يقوله شيخ الإسلام -رحمه الله- مهم جداً، إذا كان الفاعل لذلك الهجر أو ترك السلام وترك رد السلام متمكناً من ذلك من غير مفسدة راجحة.
وأيضاً ما يأخذنا الهوى فنقول: والله في مفسدة كبيرة وأنا أخاف أني أترك السلام عليه وأخاف إني ما أرد عليه وأني أهجره وقد يكون، لا، أنت ضعيف شخصية أو أنك مثلاً يأخذك الهوى، بل من الممكن أنك تهجره وإنك تترك رد السلام عليه وينزجر، لكن أنت يأخذك الهوى فلا تفعل لا، كن قوياً في دينك وتجرد وأنت تتخذ المواقف من الناس.
ثم قال رحمه الله: "وينبغي لأهل الخير والدين أن يهجروه ميتاً كما هجروه حياً إذا كان في ذلك كف لأمثاله من المجرمين فيتركون تشييع جنازته"[مجموع الفتاوى: 28/ 218]، واحد على مستوى العائلة مات وهو معروف أنه شارب خمر مثلاً، لو فيه ناس في العائلة صالحون كبار لهم وزن في العائلة، لو تركوا تشييع جنازته والصلاة عليه عمداً أمام أفراد العائلة الباقين، وفعلهم هذا له أثر في البقية، حتى لا يتأثروا بالميت هذا، فيفعلون مثل أفاعيله، فإذا رأوا فلاناً وفلاناً وفلاناً من وجهاء العائلة والصالحين في العائلة ما صلوا عليه، فطبعاً هذه كبيرة، قد يردعهم هذا العمل، يقولون: والله إذا متنا ما يصلون علينا هؤلاء إذاً ما فينا خير، فيتراجعون عن المنكرات التي يقارفونها، ولكن إذا كان ما أحد داري لا ولا يعمل حساب لهذا الأمر سواء صليت والا ما صليت صل عليه فإن صلاتك تنفع هذا الميت ما دام مسلماً تنفعه الصلاة.
أما إذا كان ترك الصلاة مفيداً لغيره فتترك الصلاة عليه تأديباً لغيره، ولا يجوز لأحد أن يحضر مجالس المنكر باختياره لغير ضرورة.
ورفع لعمر بن عبد العزيز قوم يشربون الخمر فأمر بجلدهم فقيل له: إن فيهم صائماً، فقال: ابدؤوا به، أما سمعتم الله يقول: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ [النساء: 140] فالله نزل في الكتاب ألا نجالسهم ولا نقعد معهم ولا نكلمهم، فكيف نفعل هذا؟
الواقع العملي عند زيارة الأقارب
ننتقل الآن إلى الواقع العملي عند زيارة الأقارب، كثير من بيوت الأقارب فيها منكرات، بعضهم يفتح الأغاني ويفتح المسلسلات المحرمة، أو عنده تماثيل في البيت، عنده منكرات كثيرة يجلس أمامك قد يدخن قد تأتي بنت العم أو بنت الخال أو زوجة العم وليست محرماً لك أو زوجة الخال وليست محرماً لك تجلس أمامك سافرة، ماذا يكون الموقف؟
يمكن أن نقسم المنكرات إلى نوعين:
نوع ضرره متعد إليك، أنت الآن الذي تزور البيت هذا.
ونوع ضرره مقتصر على نفس الشخص الذي يفعله، فتح الأغاني هذا منكر متعدي، لأنك أنت الآن تتضرر من السماع، تتضرر إيمانياً من السماع، التدخين أمامك أنت تتضرر من التدخين من هذا الدخان الذي تستنشقه.
إذاً هذا منكر ضرره متعدي، لكن لو أنه قد علق صورة أبيه في الحائط، ونعرف أن تعليق الصور التي فيها أرواح لا يجوز، هل أنت تتضرر مباشرة من هذه الصورة المعلقة؟
لا.
فالآن إذا جئت إليهم فجلست عندهم فحصل منكر ضرره متعدٍ إليك، جالس يدخن أمامك أو فتح الأغاني وأنت كلمته بلطف أن يطفئ هذه السيجارة أو أن يغلق مصدر الغناء فرفض، فهل يجوز أن تجلس؟ هل يجوز أن تجلس؟
لا، لا يجوز أن تجلس، منكر ورفض أن يغيره لا يجوز أن تجلس، وأنت تتضرر من هذا المنكر.
لكن لو أنه يدخل فيدخن في الداخل أو أن الغناء في الداخل أنت لا تسمعه لكن هو شغال في الداخل، أو أن زوجته متبرجة لكنها ما تطلع أمامك وهي في البيت، هل هذا يمنعك من زيارته؟
لا، تزوره وتصل الرحم وتنصحه وتكلمه عن هذه المنكرات.
وإذا حضرت المجلس الذي فيه صور أو تماثيل فتنكر عليه، تقول: يا أخي هذا حرام، الرسول ﷺ قال: لعن الله المصورين، وهذه يوم القيامة يؤتى بها ويقال لك: أحيي هذه الأشياء التي صورتها وأحيي هذه التماثيل ولن تستطيع أن تفعل وسيكون موقفك أمام الله موقف مخزٍ وأنت تضع في بيتك هذه المنكرات، فيجب عليك أن تنكر، كذلك نتجنب المنكر قدر الإمكان إذا كان فيه مصلحة من زيارة هذا القريب وإذا ما زرته يترتب على ذ مفاسد كبيرة على مستوى العائلة، طيب لو أن هذا الرجل يدخن وما يمتنع عن التدخين، ممكن أزوره في نهار رمضان مثلاً، لو أن في بيته منكرات، لا يمكن أني أدخل يا أخي الصور عارية على الحائط والعياذ بالله، ماذا أفعل؟ أزوره في المكتب مثلاً، أدعوه هو لزيارتي، أكلمه هاتفياً مثلاً، إذا هناك وسائل أخرى، لو الآن البيت لا يمكن دخوله لوجود هذه المنكرات فيه التي هو ما غيرها، فإذاً يمكن أن أصله بوسائل أخرى، القضية أنك إذا فكرت جدياً تصل إلى وسائل طيبة في صلة الرحم، يبقى له مع ذلك الحق، ثم أيضاً يراعى درجة القرابة، يعني لو واحد صاحب منكرات وغير مستعد لكنه بعيد وواحد يعيش في بيت الأب فيه أو الأم ترتكب منكرات وليس له غير هذا البيت، هذا قد يكون مبرراً له أن يدخل غرفته ويغلق عليه الباب ما دام ما عندهم استعداد ينتصحون، لكن ما في داعي أني أدخل بيت فيه منكرات لا أستطيع تغييرها لقريب بعيد، هذه الآن حاجة، أين يعيش؟ في الشارع؟ لا يمكن، واحد يعيش تحت سلطة أبيه.
فإذاً، درجة القرابة تأخذ دورها في هذا الجانب، سئل شيخ الإسلام -رحمه الله- عن الجنازة التي فيها منكر، مثل أن يحمل قدامها أو وراءها الخبز والغنم أو غير ذلك من البدع القولية مثل العامة يقول بعضهم في الجنازة: وحدوه، وهذه بدعة من البدع ما أنزل الله بها من سلطان، الجنازة تتبع بسكون ويدعو للميت ويدعو لنفسه، يقول: وحدوه وتصير القضية شعارات ونداءات، هذه يا أخي جنازة، أو الأشياء الفعلية المنكرات الفعلية أو يجعل على النعش ثياباً مزخرفة كالتي تغطي نعش الأغنياء، هكذا كان على عهد شيخ الإسلام ابن تيمية، فسئل هل نحضر هذه الجنازة التي فيها بدع أو لا؟ فهل له أن يمتنع عن تشييعها، فقال شيخ الإسلام -رحمه الله-: على قولين هما روايتان عن أحمد، والصحيح أنه يشيعها، الصحيح أنه يشيعها، لماذا؟ لأنه حق للميت، تشييع الجنازة حق لمن؟ للميت، فلا يسقط بفعل غيره للمنكر، وينكر المنكر بحسبه، بحسب استطاعته ينكر المنكر، الآن من الذي عمل البدع هذه الميت أو أصحابه الذين معه في الجنازة؟
هذا الآن التشييع حق للميت، فما أترك حق الميت لأن غيره فعل المنكر، فالأظهر من القولين إذاً على رأي شيخ الإسلام -رحمه الله- التشييع، إلا إذا كان فيه منكر متعدٍ كأن تصحب بموسيقى يصل إليك، فعند ذلك يكون الأمر أمراً آخر، لكن عليه ثياب مزخرفة وأنت نصحته وما في فائدة، فعند ذلك الحق للميت تشيع جنازته بخلاف إذا كان الوليمة فيها منكر، دعيت إلى وليمة فيها منكر، وليمة عرس أو عزيمة من العزائم هذه العادية الولائم العادية وفيها منكر لا تستطيع تغييره، فعند ذلك هل يجوز لك أن تحضر؟ لا، لأن صاحب الوليمة قد أسقط حقه بفعله للمنكر فلا تحضر، وقد سئل الإمام أحمد -رحمه الله- سأله واحد قال: قلت لأبي عبد الله: لي قرابة يشربون المسكر ويسكرون؟ فقال: دع هؤلاء، ثم قال: أليس يسكرون؟ وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله: ما حكم مقاطعة الأقارب الذين يرتكبون بعض المعاصي؟ فقال: ينصحهم ويرشدهم، إن انتصحوا يعني قبل النصيحة فحسن وإلا فاتركهم، إذا كان تركهم أنفع للدين، وسئل الشيخ عبد العزيز كذلك سؤالاً قد يحدث في الواقع: شخص والده يأمره بعدم وصل خاله، الأب يقول للولد: لا تزور خالك ولا تكلمه، ولو زرت خالك أو كلمته فأنا غضبان عليك، بسبب سوء التفاهم حصل بين الخال وبين الأب، ليس لسبب في الدين، فقال: إذا كان بغير حق يأمرك بترك خالك لغير حق، لا لأن خالك صاحب منكر أو صاحب بدع أو يؤثر عليك، لا، لسوء تفاهم، قال: إذا كان بغير حق فتصل خالك ولو بالسر، يعني إذا لاحظت أن وصل خالك إذا وصل الخبر لأبيك يغضب فصل خالك سراً، وإن كان بحق، يعني أمرك أن تترك خالك؛ لأنه صاحب منكرات، فيجب عليك هجرانه ليتوب، السؤال أيضاً وجه للشيخ عبد العزيز: ما حكم صلة زوجة الأب المطلقة إذا كان يغضب الأم؟ زوجة الأب المطلقة، طبعاً هي محرم عليك، هل تصلها إذا كان يغضب أمك هذا الشيء؟
قال: إذا زرتها فحسن، أما إذا كانت هذه الزيارة تغضب أمك فلا تفعل، ولو وصلتها بطريقة سرية لا تعلمها أمك فلا بأس، طبعاً لاحظ درجة القرابة زوجة الأب المطلقة غير الخال مثلاً القريب منك، طبعاً لما نقول صلة يعني سواء بالزيارة أو بالهاتف أو بالهدية والمال، كل الوسائل التي ذكرناها سابقاً في الدرس، وسمعت أبا عبد الله وسئل عن رجل له أب مرابٍ ويرسله ليتقاضى له، واحد يسلف الناس بالربا ثم يرسل ولده يقول: اذهب وخذ من فلان ومن فلان الدين مع الربا، يتقاضى له، ترى أن يفعل، قال: لا، ولكن يقول لوالده لا أذهب حتى تتوب.
هذه أمثلة في كتاب الورع للإمام أحمد -رحمه الله-، قلت لأبي عبد الله: رجل له بنات يريد أن يبيع داره ويشتري المغنيات لابنه، هل لابنه أن يمنعه؟ قال: أرى أن يمنعه ويحجر عليه، سفيه يبيع الدار ويشتري هذه المعازف، والآن ترى آباء يبيع اللي عنده لكي يشتري مخدرات -والعياذ بالله-، فالآن في هذه الحالة، هذا لا كرامة له ولا ويحجر عليه ويرفع أمره إلى القاضي، لابد من وقفة جادة، المسألة ليست سهلة، وسمعت أبا عبد الله وسئل عن رجل له والدة يستأذنها أن يرحل لطلب العلم فهي تمنعه من الرحلة، ماذا يكون موقفه؟
فقال: إن كان جاهلاً لا يدري كيف يطلق ولا يصلي فطلب العلم أوجب من طاعة الوالدة، وإن كان قد عرف الأشياء الواجبة عليه أحكام الصلاة والطهارة، فالمقام عليها أحب إليه، أنه يجلس عندها ويرضيها، والآن طبعاً وسائل العلم متوفرة صارت بين الأيدي أشرطة وكتب وأشياء، تتصل بالهاتف يأتيك الجواب، سألت أبا عبد الله عن قريب لي أكره ناحيته، يعني عنده إشكال في دينه، وسألني أن أشتري له ثوباً، فقال: لا تعنه ولا تشتري له إلا أن تأمرك والدتك فإذا أمرتك، يعني خالك فاسق قال: اشتر لي ثوب وأنت تريد أنك ما تستجيب له، فجاءت والدتك قالت: اشتر له ثوباً، إلا أن تأمرك والدتك، فإذا أمرتك فهو أسهل لعلها أن تغضب، يعني لكي لا تغضب، طبعاً أنت تقنعها بموقفك، الآن من المشاكل التي تحصل أو السؤال أحياناً يرد: هل يجوز للزوج أن يمنع زوجته من زيارة أقاربها؟ يقول الشيخ ابن عثيمين في شرحه لكتاب النكاح: لا يجوز له أن يمنعها من صلة رحمها إلا، يعني لابد أن تصل رحمها ما لك حق أنك تمنعها من صلة رحمها.
طبعاً بالكيفية المعقولة بالعدد المعقول من الزيارات من الخروج من البيت بحيث أنه ما يضر ذلك بالمنزل وبالأولاد، ليس كل يوم رايحة عند أهلها وتاركة الأولاد في البيت.
ويجوز لك أن تمنعها من صلة رحمها في حالات؛ منها: إذا لاحظ أنها تتغير عليه بعد زيارتها لأقاربها، زوجته طبيعية في البيت إذا راحت إلى أختها رجعت منقلبة على زوجها، أنت ما تسوي لي أنت ما تعطيني أنت ما تسوي لي كذا وكذا أنت مقصر، تنكد عيشة الرجل وتقلب ، تمتنع عن خدمته.
ولاحظ أنه كلما راحت لأختها صار نفس الموقف، كلما راحت لأختها ...
فهنا في هذه الحالة له أن يمنعها من صلة أختها من الذهاب إلى أختها؛ لأن الصلة ترتب عليها إخلال بحق الزوج، فحق الزوج هنا مقدم، يمنعها من صلة من الذهاب إذا كان يترتب عليه هذه الأشياء.
وقد وجه سؤال لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز: زوجة عمه تتبرج أمامه، وإذا زار عمه جلست هذه الزوجة زوجة عمه جلست معهم في المجلس؟
فقال: إذا كان هناك ضرورة مهمة من الذهاب إلى عمه والجلوس معه كأن سيترتب على عدم الذهاب مفاسد كبيرة وانشقاقات في العائلة يعني إشكالات كبيرة، فهنا يذهب ويغض بصره، وإن لم تكن هناك ضرورة ممكن يصله تلفونياً ممكن يروح له في المكتب ممكن يكلمه في البيت ما في ضرورة ما صارت مشكلة، فعند ذلك يبتعد ولا يدخل ويجلس لأن البصر قد يصيب.
وسئل الشيخ ابن عثيمين سؤالاً: إذا ذهبت امرأة إلى أهلها والأغاني مرتفعة الصوت عندهم، فماذا تفعل؟ فقال: تدخل وتنصحهم فإن انتصحوا وإلا خرجت أو ذهبت إلى حجرة لا يصلها الصوت، وسئل سؤالاً آخر: كيف يصل الرجل بنت عمه أو بنت خاله أو بنت عمته أو بنت خالته؟ الآن هذه من المحارم كيف يصلها؟ فيقول: طبعاً ما جرت عادة الناس أنهم يتصلون بالهاتف، يجي يتصل على بنت عمه ويجلس يتكلم معها نص ساعة أو بنت خالته يتكلم معها، لا، وإنما إذا راح إليهم سأل أباها مثلاً كيف حالكم؟ كيف حال فلانة وفلانة وفلانة؟ لعلهم بخير، كيف دراستهم؟ كيف كذا؟ يسأل عن أحوالها، فإن وصلها بهدايا أو كتب نافعة فهو شيء طيب، لكن يروح يكلمها ويقول: أنا بأصل رحمي!!!!
وسئل أيضاً الشيخ ابن عثيمين: لي عم يشرب الدخان فإذا زرته شربه في حضرتي فهل أزوره؟ الجواب: تزوره فإذا شرع في شرب الدخان تنصحه فإن انتصح استجاب وإلا تقوم وتتركه.
وأيضاً سئل الشيخ: إذا كان كسب الأب حراماً فهل يجوز للابن الانتفاع به؟
لنفترض أنه مرابٍ أو أن عنده أمواله بالحرام رشاوي إلى آخره، الابن الآن في البيت، من الذي ينفق عليه؟ الأب، ما حكم إنفاق الأب على ابنه؟ واجب.
فإذاً، النفقة تأتي إلى الولد من طريق شرعي؛ لأن الله أوجب على الأب أن ينفق على ابنه، فهنا يجوز للابن أن يأكل من هذا الطعام إذا ما كان عنده بديل طبعاً، ما يستطيع أن يستقل بنفسه ولا أن يفتح له بيتاً، فيجوز أن يجلس مع أبيه ويأكل مع أبيه، من الذي يأثم؟ الأب، أما الابن فهو مضطر، ثم أن الله أوجب له النفقة فهو يأخذها بطريق شرعي، هذا ثمن اللبس وثمن الأكل، مصروفه يأخذه بطريقة شرعية، لأن الله أوجب النفقة على الأب لابنه، فهو يأخذه بطريق شرعي، والإثم على الأب.
وإذا كان هناك لي إخوان كسبهم فيه شبهة، وأنا مستقل عنهم، وصنعت أمي طعاماً فهل آكل معهم؟ يعني الأم صنعت الأكل من مصروف الأولاد، إخوانك أكلهم فيه شبهة، وأمرتك أن تأكل؟
فالجواب: أنك تأكل للشبهة ما وصلت للحرام، ثانياً: لأن الأم التي أمرتك وطاعة الأم عظيمة.
ختاماً قد تأتي أسئلة أخرى لكن نرجو أن نكون قد أجبنا في هذه الأسئلة على كثير من الاستفهامات التي تدور في الأذهان عن المشاكل التي تواجه الإنسان وهو يصل رحمه.
الخاتمة
وختاماً: لا يعني صلة الرحم أو صلة هؤلاء الأقارب من الفجار والفساق هذا تنبيه مهم لا يعني أن يتخلى المسلم عن شخصيته الإسلامية أو عن تميزه أو عن تمسكه بجوانب العقيدة والسلوك والأخلاق الإسلامية، لا يعني إني أصلهم وهم فجار أني أذوب، تذوب شخصيتي الإسلامية فيهم.
أبقى متميزاً عنهم محافظاً على ديني، قائم بحدود الله لا انتهكها ولا أرضى بالمحرمات وأنكر المنكر، هذه كلها أشياء أقيمها، وفي نفس الوقت أصلهم.
وكذلك أحس بأن هذه صلة الرحم عبادة من العبادات مفروضة علي، وأنها لا تتعارض مع تميزي عن الفجور والفسق، هذه حق وواجبة وهذه حق وواجبة، وأنا أحاول أن يكون موقفي صحيحاً في كل منهما.
ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين وأن يرزقنا وإياكم القيام بصلة الأرحام، وأن يباعد بيننا وبين ما لا يرضيه وأن يرزقنا الجنة برحمته.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.