الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
أهمية عقد الزواج
فإن الزواج رباط وثيق، وميثاق غليظ، والحياة الزوجية إنما شرعت لتستمر، ولهذا مدح الله المؤمنين، فقال: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ سورة الفرقان:74، وكيف ستكون المرأة قرة عين إذا لم تستمر معه.
قال العلماء: أي تقر بهم أعيننا في الدنيا والآخرة، ولا يجر علينا الجرائر.
وقال عن النساء: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَسورة الروم:21، فلا تجد بين أحد في الغالب مثلما بين الزوجين من المودة والرحمة، وهذا من رحمة الله تعالى؛ أن جعل بين الأزواج هذه المودة والمحبة، وهذه الرحمة والرأفة، فإن الرجل يمسك المرأة ويبقيها عنده إما لمحبته لها، أو لرحمته بها؛ بأن يكون له منها ولد، أو احتاجت إليه في الإنفاق، أو للألفة ونحو ذلك.
واستمرار الحياة الزوجية إنما يكون بصلاح الزوجين، واستقامتهما على طاعة الله تعالى، وليست تخلو هذه الحياة من منغصات، وأكدار، ومن ظن أن الحياة الزوجية تخلو من المشكلات فهو حالم.
ومكلف الأيام ضد طباعها | متطلب في الماء جذوة نار |
فكما أنه لا يمكن تطلب جذوة النار في الماء؛ فكذلك لا تتطلب حياة زوجية بلا منغص ولا مشكلة، ولا يكاد يخلو بيتٌ من ذلك، ولكن يكثر في هذا، ويقل في هذا، ويواجه في هذا بالحكمة، وفي الآخر بالتهور، وفي هذا يتحمل الطرفان أو أحدهما، وفي الآخر لا يتحمل أي منهما الآخر، وهكذا.
طريقة القرآن في حل المشكلات الزوجية
ولما كانت الحياة الزوجية لا تخلو من المشكلات؛ شرع الله لنا أسباب الحل، ومعالجة الأوضاع، فكان من ذلك:
التدخل في الخصومات للإصلاح، فعدم وجود الناصحين، والمصلحين الحكماء في كثير من الحالات يكون من أسباب حصول الفراق والطلاق، وقد ذكرت دراسة محلية، أن 50% من حالات الطلاق في إحدى المدن تقع قبل دخول منزل الزوجية، وفي بعض المحافظات وصلت نسبة الطلاق إلى 62%، وربما حصل هذا لأسباب تافهة، ومن ذلك: أحضرت زوجة لزوجها علبة عصير، فأمرها بفتحها فرفضت فأصر هو، وركبت رأسها هي، وانتهى الصراخ إلى الطلاق، وتشاجرت أخرى مع زوجها فلم تطبخ له طعاماً انتقاماً منه، فلما عاد ولم يجد غداءه جاهزاً طلقها.
عباد الله: لقد سمى الله النكاح ميثاقاً غليظاً، فكم هي القصص التي انقطع فيها هذا الميثاق، بسبب تافه، أو لافتقاد الحكمة من الطرفين أو أحدهما، أو للجهل بشرع الله تعالى، أو لعدم القيام بالحقوق بين الزوجين، أو لعدم التدخل من قبل المصلحين والناصحين في النهاية.
وقد قال : وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَاسورة النساء:35، فجعل نية الحكمين الصالحة لها الأثر الكبير في حصول النتيجة، فقال:إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًاأي: الحكمان، يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا أي: بين الزوجين، فانظر لتأثير النية الحسنة على العلاقة.
إن الإصلاح بين الزوجين، وبين المختلفين عموماً من أعظم القربات إلى الله تعالى.
إن الفضائل كلها لو حصلت | رجعت بجملتها إلى شيئين |
تعظيم ذات الله جل جلاله | والسعي في إصلاح ذات البين |
وقد نفى الله الخيرية في النجوى إلا على من قام بها في طاعة الله والإصلاح، فقال: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًاسورة النساء:114.
عباد الله: لا خير في كثير مما يسره القوم ويتناجون به في الخفاء، إلا إذا تناجوا في صدقة يعطونها سراً، أو أمر بطاعة الله، أو إصلاح بين المتخاصمين في الأموال، أو الأعراض، أو الدماء، ونحو ذلك مما يقع فيه التداعي بين الناس، وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا سورة النساء:114، إنه أجر عظيم بينه محمد ﷺ بقوله: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى. قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين[رواه الترمذي (2509) وأبو داود (4919)]رواه الترمذي، وأبو داود، وهو حديث صحيح.
وندب لكل غيور، وعاقل السعي في الإصلاح، وخصوصاً من أقارب الزوجين، ومحارمهما.
بصلاح ذات البين طول بقائكم | إن مد في عمري وإن لم يمددِ |
وقال تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌسورة النساء:128؛ لأن الوفاق أحب إلى الله من الفراق، والصلح فيه فض للنزاع، وحل للخلاف، وإدخال السرور، ورجوع المياه إلى مجاريها، والتصالح سبب لمغفرة الذنوب، والساعي في الصلح أجره عظيم، وما ولد ولدٌ من بينهما فكان صالحاً إلا كان المصلحون سبباً في وجوده، فلعله أن يمسهم شيء من أجر عمله، والإصلاح خصلة من خصال الأمر بالمعروف، وهو من التواصي بالحق.
نماذج من تعامله ﷺ في حل المشكلات الزوجية
والنبي ﷺ قدوتنا، وقد سعى في ذلك، فجاء ﷺ مرة إلى بيت فاطمة، فلم يجد علياً فأحس بشيء فلم يقل لفاطمة أين زوجك؟ وإنما قال: أين ابن عمك؟ فسأل عن المنزلة والقرابة، قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج ولم يقل عندي، أي: القيلولة لم تكن عندي، فماذا فعل النبي ﷺ بعدما أشار إليها من طرف خفي إلى حفظ العلاقة؛ لأنه من الأقارب والأرحام، سأل عن علي أين هو؟ فأخبره إنسان أن علياً في المسجد راقد، فجاء رسول الله ﷺ، وعلي مضطجع، قد سقط رداؤه عن شقه، وأصابه ترابٌ، فجعل رسول الله ﷺ يمسحه عنه ويقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب[رواه البخاري (441) ومسلم (2409)]متفق عليه، فكانت أحب الكنى إلى علي ، فقد استعطف فاطمة بقوله: أين ابن عمكبذكر القرابة، وكرم خلق النبي ﷺ لأنه توجه إلى علي ليسترضيه، ولم يقل نادوه، ومسح التراب بيده عن ظهره، ملاطفة له، ومؤانسة، وداعبه بتلك الكنية الحبيبة إلى نفسه، ولم يعاتبه على مغاضبته لابنته مع رفيع منزلتها عنده، ومعلوم منزلة فاطمة بنت محمد ﷺ عند أبيها، وهذا فيه الرفق بالأصهار، وتسكين غضب الأصهار، وترك معاتبة الأصهار؛ إبقاء لمودتهم؛ لأن العتاب إنما يخشى منه إذا اشتد الحقد، وفي هذا أن أهل الفضل قد يقع بينهم وبين أزواجهم ما طبع عليه البشر من الغضب، وقد يدعو ذلك إلى الخروج من البيت، وربما خشي علي أن يؤذي فاطمة بشيء فآثر الخروج والابتعاد مؤقتاً حتى تسكن فورة الغضب.
وكان النبي ﷺ يتدخل شافعاً لإعادة العلاقات بين الأزواج، فقد كانت بريرة زوجة لمغيث، وكانا في الرق، فعتقت بريرة، وصار الحكم أنه يجوز لها فراقه إذا أرادت عدم الاستمرار مع زوجها الذي لا زال في الرق، وكان متعلقاً بها جداً، وكانت لا تطيقه، فجعل يطوف خلفها يبكي، ودموعه تسيل على لحيته، وفي رواية: يتبعها في سكك المدينة يبكي عليها [رواه البخاري (5281)]، فشفع النبي ﷺ عندها أن ترجع إليه وقال لها: لو راجعته [رواه البخاري (5283)] يعرض عليها، وفي رواية: لو راجعتيه فإنه أبو ولدكقالت: يا رسول الله أتأمرني؟ قال: إنما أنا شفيعفليس أمراً وإلا لوجبت الإجابة والطاعة، قالت: فلا حاجة لي فيه، لو أعطاني كذا وكذا ما كنت عنده.[رواه النسائي (5417)] نعم قد لا تفلح كل المحاولات، ولا تنجح كل الشفاعات، لكن النبي ﷺ كان يحاول، بل إن النبي ﷺ أجاز الكذب للذي ينمي خيراً ويقول خيراً، قال ابن شهاب: ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذبٌ إلا في ثلاث الحرب، و الإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها.[رواه مسلم (2605)]رواه مسلم .
كان ﷺ يذكر أحياناً الطرفين بالحقوق، فعن الحصين بن محصن، أن عمة له أتت النبي ﷺ في حاجة، ففرغت من حاجتها، فقال لها النبي ﷺ: أذات زوجٍ أنت؟ قالت: نعم. قال: كيف أنت منه؟ أي: في أي منزلة، هل أنت قريبة من مودته، مشفقة أو متباعدة متمردة، هل أنت محسنة له أم كافرة بعشرته، قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه. أي: لا أقصر في حقه إلا ما لم أقدر عليه، قال: فانظري أين أنت منه، فإنه جنتك ونارك[رواه أحمد (18524)]رواه أحمد وهو حديث صحيح.
نماذج من تعامل السلف في حل المشكلات الزوجية
وقد اقتدى السلف بنبيهم ﷺ، فهؤلاء الصحابة الراشدون، والأئمة المهديون، والتابعون بإحسان لا يزالون يسعون في الإصلاح بين الأزواج والزوجات، سباقين إلى إعادة اللحمة والارتفاق، شهد التاريخ على جهودهم، وكانت الحيلة اللطيفة تستعمل، والموعظة تستعمل، والتأديب يستعمل، وقص القصص وضرب الأمثلة يستعمل، وتقديم النصيحة للطرفين يستعمل.
بعث عمر بن الخطاب معاذ بن جبل ساعياً فقسم السعاية حتى لم يدع شيئاً، ومعلوم أن العاملين عليها لهم نصيبٌ منها، لكن معاذاً لم يترك لنفسه شيئاً، فقالت امرأته: أين ما جئت به مما يأتي به العمال أهليهم؟ قال: كان معي ضاغط، أي: رقيب، واستعمل التورية، والتعريض، وقصده بالرقيب أي: الله ، وإلا فلم يكن معه رقيب من عمر، فقالت: قد كنت أميناً عند رسول الله ﷺ، وأبي بكر، فبعث عمر معك ضاغطاً، فقامت، واشتكت إلى عمر، فقالت: معاذ ما أبقى لنا شيئاً، ولم يأتنا بشيء، فبلغ ذلك عمر، فدعا معاذاً فقال: أنا بعثت معك ضاغطاً؟ فقال: لم أجد شيئاً أعتذر به إليها إلا ذلك، فضحك عمر، وأعطاه شيئاً، وقال: أرضها به.
وهذا التعريض لاستدامة الصحبة، وفعل عمر لسد الحاجة.
فقالت القرشية: جزاه الله خيراً، وقالت الجعفية: متاع قليل، من حبيب مفارق. فأعجبه قولها فراجعها، فكانت الرغبة في البقاء لإظهار أسفها على الفراق.
وكان للسلف نصيحة وتذكير، فلما آخى النبي ﷺ بين سلمان وأبي الدرداء، زار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، وكان ذلك قبل نزول آية الحجاب، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدينا، أي: لا يهتم لي إطلاقاً، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً فقال: كل، قال: فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء، فقال سلمان: نم، فنام ثم يذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال: سلمان قم الآن، فصليا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حقٍ حقه، فأتى النبي ﷺ فذكر ذلك له فقال النبي ﷺ: صدق سلمان[رواه البخاري (1968)]رواه البخاري.
فهذا يكون التدخل لإصلاح حال من ترهبن، وانقطع عن زوجته، وتبتل.
وقد يتدخل الأب أيضاً للإصلاح، وتحذير ابنته من مغبة إغضاب زوجها، قال عمر : صحت على امرأتي فراجعتني، فليس من عادة نساء قريش أن تصبح كلمة الزوج كلمتين، وإذا بزوجة عمر تراجع، وترد عليه، فأنكرتُ أن تراجعني، فقالت: ولم تنكر أن أراجعك، والله إن أزواج النبي ﷺ ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل، فأفزعه ذلك أول ما تذكر ابنته حفصة زوجة النبي ﷺ، فذهب إليها فقال: أي حفصة أتغاضب إحداكن رسول الله ﷺ اليوم حتى الليل؟ فقالت: نعم فقلت: خابت وخسرت، أفتأمن أن يغضب الله لغضب رسوله ﷺفتهلكين، لا تستكثري على رسول الله ﷺ، ولا تراجعيه في شيء، ولا تهجريه، واسأليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك يعني عائشة هي أوضأ منك، وأحب إلى رسول الله ﷺ.[رواه البخاري (2468)]رواه البخاري.
وكما أن للمرأة عيوب، وللرجل عيوب، فمن مكارم الأخلاق، وجميل المعاشرة؛ أن لا يفرك مؤمن مؤمنةأي: لا يبغضها، ولا يقليها، ولا يجفوها؛ إن كره منها خلقاً رضي منها آخر،[رواه مسلم (1469)] فقد تكون شرسة الخلق لكن ديّنة، وقد تكون مستطيلة بلسانها لكن أتت له بأولاد، وقد تقصر في الخدمة لكنها عفيفة، وإذا كان عندك عفيفة فأمسكها اليوم، فقد دخل الفساد واستطال.
وقد يكون الصبر، والتحمل هو الشيء الوحيد، دخل طالب على شيخه فوجد عنده ولده يخدمه، ويبره، فعجب من بره به، فلما خرج الولد قال العالم: أتعجب من بره بي؟ قال: نعم، قال له: لقد عاشرت أمه أكثر من عشرين سنة، والله ما تبسمت في وجهي يوماً قط، فصبرت فعوضني الله ما ترى، أي: بولدها مني صار في هذا البر.
قال عبد الله بن مسعود : شكا إبراهيم الخليل من حدة في خلق سارة فأوحى الله إليه إنما هي من ضلع فخذ الضلع فأقمه، فإن استقام، وإلا فالبسها على ما فيها.
هي الضلع العوجاء لست تقيمها | ألا إن تقويم الضلوع انكسارها |
فيا ليت هذا يأخذ ضلعاً ويجعله في مكان يراه دائماً، في المكتب وغيره، فيأخذ ضلع ذبيحة، فكلما حصل شيء من امرأته نظر في الضلع فرآه معوجاً، فيحاول أن يقوم الضلع فلا يستقيم، يقوم الاعوجاج فيرجع، ولو زاد لانكسر، فإذا تأمل الضلع؛ تذكر زوجته، وحواء خلقت من ضلع آدم، فالضلع هذا سر عجيب، وإنّ أعوج ما في الضلع أعلاه، في التفكير، في العقل.
وقد يكون الرجوع إلى العالم من وسائل الحل، قال عبد الله بن عمرو- وكان من العباد، الزهاد، الكبار في الصحابة-: زوجني أبي امرأة من قريش فلما دخلت عليّ جعلت لا أنحاش لها مما بي من القوة على العبادة، من الصوم، والصلاة، فجاء عمرو بن العاص إلى كنته حتى دخل عليها، فقال لها: كيف وجدت بعلك، قالت: خير الرجال، أو كخير البعولة من رجل، لم يفتش لنا كنفاً، ولم يعرف لنا فراشاً، فأقبل علي فعذمني، وعضني بلسانه،-أي تكلم عليّ- فقال: أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب، فعضلتها، وفعلت، وفعلت، ثم انطلق إلى النبي ﷺ فشكاني. [رواه أحمد (6441)] وهكذا يستمع طالب العلم من العالم أكثر مما يستمع من أبيه.
وهمّ رجل بطلاق امرأته، فلقيه عمر فقال: لم تطلقها؟ قال: لا أحبها، قال: أوكل البيوت بنيت على الحب، أي: أتظن أن كل بيوت المسلمين هذه كل الأزواج يحبون زوجاتهم، قال: وأين الرعاية، والتذمم. أي: لك رعاية وذمة.
اللهم إنا نسألك أن تصلح أحوالنا، وأن تتوب علينا، وأن تصلح ذات بيننا، وأن تصلح شؤوننا، إنك أنت السميع العليم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، وسبحان الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والبشير والنذير، صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين.
عباد الله: إن لكل صاحب منزلة في حل المشكلات الزوجية دور عظيم، جاءت امرأة إلى عمر فقالت: يا أمير المؤمنين إن زوجي يصوم النهار، ويقوم الليل، وأنا أكره أن أشكوه، وهو يعمل بطاعة الله، فقال لها عمر: نعم الزوج زوجك، فجعلت تكرر عليه، وهو يكرر عليها الجواب، فقال له كعب بن ثور الأزدي: يا أمير المؤمنين هذه امرأة تشكو زوجها في تركه لها، أي: هناك نقص في المعاشرة في حق الفراش، فقال له عمر: كما فهمت من كلامها فاقض بينهما، فقال كعب: عليّ بزوجها، فأتي به فقال له: أحل الله لك أربعاً، فاجعل لها في كل أربع ليال ليلة، وفي كل أربعة أيام يوماً تتفرغ به للزوجة، فقال عمر لكعب: ما أدري من أي أمريك أعجب أمن فهمك أمرهما، أم من حكمك بينهما، اذهب فقد وليتك قضاء البصرة.
وجاءت امرأة إلى عمر فقالت:يا أمير المؤمنين إني زوجي قد كثر شره، وقل خيره، فقال لها عمر: ما نعلم من زوجك إلا خيراً، فأرسل إليه فجاء، فقال له عمر: هذه امرأتك تزعم أنه كثر شرك، وقل خيرك، قال: بئس ما قالت يا أمير المؤمنين، والله إنها لأكثر نسائها كسوة، وأكثرهن رفاهية بيت، ولكن بعلها ضعف عن الجماع فقال: ما تقولين؟ قالت: صدق فأخذ الدرة فقام إليها فتناولها، وهو يقول: يا عدوة نفسها أفنيت شبابه، وأكلت ماله، ثم أنشأت تشنين عليه ما ليس فيه، فقالت: يا أمير المؤمنين أقلني في هذه المرة، والله لا تراني في هذا المقعد أبداً، فدعا بأثواب ثلاثة فقال: لها اتقي الله، وأحسني صحبت هذا الشيخ، قال الراوي: فكأني أنظر إليها أخذت الأثواب منطلقة، ثم أقبل عليه فقال: لا يمنعك ما رأيتني صنعت بها أن تحسن صحبتها، قال: افعل يا أمير المؤمنين.
إذا شاب رأس المرأ أو قل ماله | فليس له في ودهن نصيب |
فهذه ادعت على زوجها البخل، وقلة النفقة، وهي في الحقيقة تشتكي فوات شبابه، والمرأة إذا خشيت على نفسها الحرام لها أن تطلب الخلع.
ولا تشكر امرأة لزوجها وهي لا تستغني عنه إذا شكته، رأت زوجة المعتمد الناس يوماً يمشون في الطين فاشتهت المشي في الطين، فأمر المعتمد، فسحقت أشياء من الطيب، وذرت في ساحة القصر، ثم نصبت الغرابيل، وصب فيها ماء الورد على الطيب، وعجنت بالأيدي حتى عادت كالطين، فمشت عليها مع جواريها، فغاضبها يوماً فقالت: اقسم بالله أني لم أر منك خيراً قط، فقال لها: ولا يوم الطين، فاستحت واعتذرت.
تنسى المرأة فتحتاج إلى تذكير، ويجب استصحاب العشرة، واستدامتها، والزوج الرفيق الحكيم من يذكر بشيء من ذلك عند الحاجة دون منِّ ولا أذى؛ لأن المن يبطل العمل.
من طرق حل المشكلات بيان الأحكام الشرعية
وبيان الأحكام الشرعية أمر مهم في إصلاح كثير من الأحوال، وفض النزاعات، كان أبو الأسود جليساً لمعاوية، فدخلت امرأة الأسود على معاوية تشكو زوجها، فقال: من بعلك؟ قالت: أبو الأسود، فالتفت معاوية إليه فقال: أحق ما تقول المرأة عن أمر طلاق جاءها من بعل غادر؟ قال: أما ما ذكرت من أمر طلاقها فهو حق، ولكني لم أطلقها لريبة، وإنما كرهت شمائلها، فقطعت حبائلها، فهي كثيرة الصخب يا أمير المؤمنين، مهينة للأهل، مؤذية للبعل، إن ذكر خير دفنته، وإن ذكر شر أذاعته، ولا يزال زوجها معه في تعب، فقالت: يا أمير المؤمنين هو والله جهول، ملحاح، شحيح حين يضاف، ضيفه جائع، وجاره ضائع، لا يحمي ذماراً، ولا يرعى جواراً. فانتهت القضية لطريق مسدود، فتخاصما في الولد فوثب أبو الأسود فانتزعه منها، فقال معاوية: مهلاً يا أبا الأسود، فقال يا أمير المؤمنين: حملته قبل أن تحمله يعني: كان نطفه في ظهري قبل أن تحمله في بطنها، ووضعته قبل أن تضعه يعني البذرة عند الجماع، قالت: صدق حمله خفاً، وحملته ثقلاً، ووضعه شهوة، ووضعته كرهاً، وقد كان حجري حواءه، وبطني وعاءه، وثدي سقاءه، فأمره معاوية أن يدفع الولد إليها، وفصل النزاع بإعطاء كل ذي حقٍ حقه، وهكذا الحضانة للأم؛ لأنها أخبر، وأبصر، وأقدر، فإن كانت ذات فساد لا تؤتمن عليه، فلا يتركه القاضي والحاكم معه.
وقد يكون الإصلاح ببذل الأموال.
وكنت أسعى وأيم الله مجتهداً | أريد إصلاح ذات البين بالذات |
وقفت امرأة على الطريق تشكو زوجها حامد بن العباس، فأمر لها بمائتي دينار، فلما كان بعد أيام شكا له زوجها أنها قد استطالت عليه بمالها، وتريد الطلاق، فضحك الوزير ووقّع له بمائتي دينار وقال: أعطوه إياها، وقال: قد صار لك الآن مالٌ مثل مالها، فلا تطالبك بطلاق فقبضها وانصرف.
والإنسان قد يطغى كما قال الله: كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىسورة العلق:6-7، وإذا تبدلت أحوال بعض الناس تنكر للطرف الآخر، فيتنكر للزوجته، ويتطلع للزواج من الخارج بزواجات مشبوهة، ولو كان زواجاً طيباً لما اعترض أحد، ولكن عروض مشبوهة، مِن مَن ليست بذات دين، وإنما طمع في مال، واستدراجات، وتنكسر هذه المسكينة رأس المال وأم العيال.
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا | من كان يألفهم في المنزل الخشن |
ضجر الحسن بن الحسين من امرأته يوماً فقال لها: أمرك في يدك، أي: إذا أردت أن تطلقي نفسك فطلقي الآن، فقالت: أما والله لقد كان الأمر في يدك عشرين سنة فحفظته أفأضيعه أنا في ساعة صار في يدي، قد رددت إليك حقك فأعجبه قولها، وأحسن صحبتها.
وغاضب رجل امرأته مرة فطلبت الطلاق، وألحت عليه، وقالت: أكتب لي ورقة الآن، فأخذ ورقة وكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فأنا فلان بن فلان بعقلي، وطوعي، وإرادتي، أشهد الله أني متمسك بزوجتي أم أولادي، وأنني أحبها، ولا أرضى لها بديلاً، والسلام. ثم طواها، وأغلق الظرف، وناولها إياه، فخرجت من شدة الغضب إلى أهلها، ولم تقرأ شيئاً، وأخبرتهم أنها قد طلقت، ومكثت أياماً، ولما هدأت الأمور، وزالت فورة الغضب، ورجع أهلها إليه، وقامت تعتذر، وطلبت السماح وردني، وأرجعني إلى عصمتك، قال: اقرئي الورقة ففوجئت بما فيها فحمدت، وشكرت، وهكذا يكون الأسلوب الحكيم.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا بحبلك مستمسكين، وبشريعتك عاملين، ولسنتك نبيك ﷺ متبعين، أصلح أحوالنا، احفظنا في أنفسنا وأهلينا وأموالنا، نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا، وأهلينا وأموالنا، استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، آمنا في بلدنا، اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا وإيماننا يا رب العالمين.
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.