أشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
مقدمة
فلما كان لا بد للمسلم أن يجتمع بإخوانه ليذكر الله وإياهم خصوصاً في أوقات الشدة التي يحتاج فيها الناس كثيراً للتبصرة والتذكرة.
التبصير بما يجب عليهم أن يعملوه، والتذكير بما ينبغي عليهم أن يتذكروه.
إن تصرفاتنا وحركاتنا وسكناتنا ينبغي أن تكون لله رب العالمين.
إن تحركات المسلم ليست تحركات طائشة، وإن تصرفات المسلم ليست تصرفات هوجاء؛ لأنها يجب أن تكون منضبطة بنور هذه الشريعة، وينبغي أن يكون نور الوحيين هو الذي يعمل عمله وفعله في قلوب الناس في أوقات الشدائد.
وإذا كان للجوارح أعمال كالصلاة والحج والجهاد فإن للقلوب أعمالاً أعظم من ذلك بكثير؛ لأن عمل القلب ينبني عليه صلاح عمل الجوارح أو فسادها.
ولذلك فينبغي للمسلم أن يهتم بقلبه جداً في أوقات المحن.
ونحن نمر ولا شك بمحنة، وإن الحوادث من حولنا توجب علينا أن نكون أكثر بصيرة من ذي قبل، وينبغي أن تكون قلوب المسلمين حية؛ لأن القلب الميت لا خير في صاحبه.
أيها الإخوة: إن الله نزل هذا الكتاب ليحيي به القلوب كما تحيا الأرض بماء المطر، وإنه عز وجل أنزله غيثاً وهدى وشفاء ورحمة للمؤمنين: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23].
إلى ذكر الله تتجه القلوب.
ولذلك فإن الخراب إذا حصل والفرار إذا نزل يكون مرجع ذلك كله إلى هذه القلوب إذا كانت خاوية.
فما هي الأعمال التي ينبغي أن يعملها القلب في أوقات الشدة؟ وماذا ينبغي أن تكون حالنا عندما يبتلينا الله بمحنة؟ ما هي تصرفاتنا التي ينبغي أن تكون عليه عندما يختبرنا الله بامتحان؟ يبلوكم بالشر والخير فتنة، فينظر كيف تعملون؟
وهذه التحركات والتصرفات محسوبة علينا، وسنبعث ونرجع جميعاً إلى الله : إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأنعام: 60].
ما لبثنا في هذه الدنيا؟ وما طول مقامنا فيها؟
لا شيء بالنسبة لما سيأتي بعد الموت، وبالنسبة للحياة الدائمة الخالدة المستقرة في الدار الآخرة.
ولذلك لا بد أن نري الله من أنفسنا خيراً، ولا بد أن نأخذ للأمر أهبته، وللميدان عدته، حتى تتحد هذه القلوب في مواجهة الشر والكفر، وليكون المسلمون يداً واحدة أمام عدوهم.
أيها الإخوة: إن القلوب في أوقات الشدة هي التي تعمل.
الإنابة إلى الله -عز وجل-
ومن أعمال القلوب المهمة إذا حصلت الشدائد: الإنابة إلى الله ؛ كما قال تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر: 54].
ولما مدح الله -تعالى- داود، قال: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ[ص: 24] وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق: 31] من هم؟ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ [ق: 32 – 33].
فإذا أنابت القلوب إلى الله في وقت الشدة حصل الخير، وثبت الناس، الإنابة إلى الله، هي الرجوع إلى الله، الرجوع إلى الحق، الأوبة إليه والتوبة : وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ [غافر: 13].
ولذلك فإن مما يمتد من أثر الإنابة: التذكر، التذكر عمل آخر من أعمال القلب؛ كما قال : وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ [البقرة: 269]، وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ [الحاقة: 48].
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37]، فمن كان له قلب يتذكر، ومن ليس له قلب لا يتذكر.
ولذلك فإن القلوب على ثلاثة أنواع:
رجل قلبه ميت لا خير فيه، ولا يرجى منه شيء أبداً.
ورجل قلبه حي لكنه لم يستمع للآيات، إما لأنها لم تصل إليه، وإما لأنه انشغل عنها.
وقلب ثالث: حي مستعد، تليت عليه الآيات، فأصغى بسمعه وأحضر قلبه، فهو شاهد القلب، ملق للسمع، فهذا هو الذي ينتفع.
فصاحب القلب الأول مثله كمثل الأعمى لا يرى شيئاً.
وصاحب القلب الثاني بمنزلة البصير الطامح ببصره إلى غير الجهة التي تنفعه.
وصاحب القلب الثالث هو: البصير المحدق إلى جهة المنظور، فهو يرى وينتفع.
ولذلك كان لا بد من الربط بين الآيات وبين الواقع.
إذا كنا نريد أن نكون أناساً عندنا قلوب فعلاً ونتذكر، ينبغي أن نربط بين الآيات وبين الواقع؛ لأن هذه الآيات -أيها الإخوة- نزلت لعلاج الواقع، هذه الآيات من رب العالمين تتكلم عن الواقع؛ لأن الله يعلم ماذا سيحدث في هذا الزمان، والله نزل القرآن لكي يستفيد منه المسلمون في كل زمان، ولذلك ينبغي أن تكون نقطة الانطلاق من هذا القرآن.
إن الذين لا يرجعون إلى القرآن في النظر إلى الأحوال الموجودة الآن يخيبون كثيراً، لا تسدد لهم رمية، ولا يكون لهم رأي مصيب أبداً، ولذلك فإن قراءة القرآن وتطبيقه على الواقع والنظر ما المقصود من الآية بهذا الواقع؟ كيف نربط القرآن بالواقع؟ كيف نقرأ ونفكر في الواقع ونحن نقرأ نتدبر ونربط بالواقع؟ ونقول: نعم، هذا ما أخبرنا به ربنا.
ونقول في آية أخرى: نعم، هذا ما حذرنا عنه الله .
ونقول عند آية ثالثة: نعم، هذه سنة الله في الكون تعمل لحظة بلحظة وساعة بساعة ويوماً بيوم.
ونقول في آية رابعة: نعم، هذه شروط النصر لو تكاملت لتحقق النصر.
ونقول في آية خامسة: نعم، إن هذا جزاء ما وعد الله به الفسقة المجرمين، وهكذا.. هذا جزاء ما توعدهم به ربنا يحصل الآن في الواقع.
نعم، هذا الظلم بعينه، نعم هذا عاقبة الظلم، نعم: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا [آل عمران: 178].
ونحن يمكن أن نعرف من القرآن النتائج سلفاً، يمكن أن نعرف من القرآن نتائج الأحداث سلفاً، صحيح أننا قد لا نعلمها بالتفصيل لأن علم الغيب بالتفصيل مما اختص به رب العالمين، لكن الله أخبرنا عن أشياء وقال: إذا حصل كذا فسيحدث كذا.
ولذلك عندما ننظر في الواقع سنرى فعلاً الآيات تنطبق فعلاً وتتحقق.
وإذا كنا نعلم مثلاً أن الله لا بد أن يجعل لكل ظالم نهاية فإذا حدث ظلم في الأرض فنحن نعلم حقيقة ماذا ستكون النتيجة.
وإذا أخبر الله بسقوط مجتمعات بأكملها إذا فشت فيها أدواء معينة فإننا سنعلم أن هذه المجتمعات ستسقط ولا شك سلفاً، نعلم هذا، ما من قرية فشا فيها الربا والزنا إلا استحقت عذاب الله، نعلم أنه لابد أن يقع.
فإذاً، الآيات من الممكن أن تنبئنا ماذا سيحدث؟
وإذا كان الله أخبر بأن من يعتصم به ينجو، ومن يعتصم بغيره يهلك، فإننا سنعلم النتيجة سلفاً من خلال هذه الآيات، لذلك ليس كل الناس مع الأسف ينظرون إلى الواقع بعين فقه القرآن، وإنما قد ينظرون بعين مجردة عن أثر القرآن، فلذلك تخيب الأشياء، وتصبح مجرد احتمالات بشرية، ولكن المؤمن لا يخيب نظره.
الاعتصام بالله -سبحانه وتعالى-
ولذلك كان من أعمال القلب: الاعتصام بالله :وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحـج: 78].
والاعتصام به يعني التمسك بدينه والتمسك بعهده وكتابه وحبله ، وهذا القرآن حبل الله طرفه عند الله وطرفه بأيدينا، فإذا تمسكنا به لن نضل أبداً.
والاعتصام بكتاب الله وعهد الله يعصم الإنسان من الضلالة، ويوجب له الهداية، ويكسبه القوة، ويبعد عنه الهزيمة، ولذلك كان لا بد أن ندور مع القرآن حيثما دار، لا بد أن نتمسك في وقت الشدة -أيها الإخوة- بهذا النور، لا نحيد عنه.
تصرفات العامة في الأزمات غير منضبطة بالقرآن في كثير من الأحيان، لكن يمكن أن تجد من بين الناس رجلاً حضرت لديه أنوار هذا التنزيل، فصار يتصرف من خلالها، فهو لا يخطو خطوة لا يتقدم ولا يتأخر إلا على نور من ربه، ولذلك فإن الناس في مواقفهم وآرائهم قد يخيبون كثيراً: إلا إذا اعتصموا بالله وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ [النساء: 146] فإنك تجد آراءهم سديدة ومواقفهم لا تتغير مع الزمن، وتجد الموقف في أول الحدث هو الموقف عند نهاية الحدث، لم يتغير بسبب أنه كان منطلقاً من الكتاب والسنة، ليس منطلقاً من الآراء، وليس منطلقاً من كلام البشر، وليس منطلقاً من الحسابات الدنيوية.
الخوف من الله والتسليم له
ثم أن من أعمال القلب: الخوف من الله لا من غيره، وإذا نزلت الشدائد وادلهمت الخطوب فإن كثيراً من الناس يخافون، قد يخافون من قعقعة السلاح، وقد يخافون من خطر وشيك يوشك أن يحدق هم، وقد يخافون من عدو أو مرض أو سيل، ونحو ذلك من أنواع المصائب الحادثة، ولكن القلوب تختلف، فمن الناس قلوبهم موصولة بالله، فإذا نزلت المصيبة وجاءت الأحداث لا تزلزل كياناتهم، ولا تضطرب مواقفهم وتتزعزع ويجرون في جميع الاتجاهات، لا يدرون إلى أين يذهبون، وترى الواحد منهم إذا نزل الخوف يفر فراراً لا يلوي على شيء، حتى إذا ابتعد بمسافة طويلة توقف وقال: إلى أين أذهب الآن؟ وماذا أفعل؟ خطوات غير محسوبة؛ لأن الخوف كان مهيمناً على هذه القلوب أو على قلبه فنتج هذا الاضطراب، ولكن المسلم الذي يسلم أمره لله ويعلم قول الله عز وجل: فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران: 175].
الذي يخشى الله فقط ولا يخشى أحداً إلا الله فإن الله يثبته، لأن الشرور لا تنتهي، أنت من الممكن الآن أن يحصل بك شر وتعتصم بأحد البشر وينقذك، لكن غداً يحصل لك شر آخر فلا ينجيك أحد، ولن تجد دائماً أحدا يقف بجانبك طيلة حدوث الأحداث المتكررة إلا الله إذا خفت منه وهربت إليه ، فإن الله يكون معك في جميع الأحداث.
ولذلك فإن الله يداول الأيام بين الناس.
والذي يحسم مادة الخوف ويقضي على الخوف والذعر هو: التسليم لله، فإن من سلم لله واستسلم له، وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له لم يبق لخوف المخلوقين في قلبه موضع أبداً.
فإن النفس التي يخاف عليها قد سلمها إلى وليها وبارئها وخالقها .
وعلم أنه لا يصيبها إلا ما قدر الله لها، وأن ما كتب لها لا بد أن يصيبها، وأن ما لم يكتب فلا يمكن أن يصيبها.
هذا الذي يحسم مادة الخوف نهائياً، وهذا الذي يجعل الإنسان مطمئناً.
مشكلتنا -أيها الإخوة- أننا نذعر ونخاف بسرعة، وننسى بسرعة تصرفاتنا غير موزونة، غير مضبوطة بموازين الشريعة، ولذلك فإذا كان الخوف من الله لا من غيره فإن الطمأنينة تتنزل تلقائياً في القلب.
الطمأنينة
والطمأنينة عمل آخر من أعمال القلوب: أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] ذكر الله هو القرآن.
ولذلك الذي يعرض عن القرآن يتزلزل قلبه، ويضطرب عيشه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي كلامي القرآن فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا [طـه: 124 - 126] هذه التي من المفروض أن تتذكرها لتنجو وتثبت، وتكون لك حياة سعيدة، وعيشة رغيدة، فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طـه: 126- 127].
وكان من دعاء بعض السلف: اللهم هب لي نفساً مطمئنة إليك.
وإذا طال الخوف على الإنسان واشتد به وأراد الله أن يريحه ويحمل عنه أنزل عليه السكينة فاستراح قلبه إلى الرجاء، واطمأن به، وسكن لهيب خوفه.
ولذلك كان للعلماء المذكرين بالله أدوار مهمة في تثبيت الناس، فلما كان ابن القيم -رحمه الله- يتكلم عن نفسه وعن صحبه عندما تنزل بهم الخطوب، وكان لهم أعداء كثر، بسبب تمسكهم بالسنة، فإنهم عند تزلزل الأمور كانوا يذهبون إلى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فيجلسون إليه: "فما هو إلا أن نسمع كلامه حتى ترتاح القلوب وتهدأ النفوس وتطمئن.
ولذلك الطمأنينة بذكر الله وبمجالسة أولياء الله من الأسباب التي تحدث الثبات في القلب والطمأنينة، من أنواع الطمأنينة الطمأنينة إلى حكم الله، وما يقع من المصائب والأحداث، وإذا علمت أن ما شاء الله كان وأن ما لم يشأ لم يكن، فلا معنى للجزع والقلق، فإن الشيء المحذور إذا قدر فلا سبيل إلى صرفه، تنجو من أين؟
لقد هرب أناس كثيرون خوفاً من هذه المنطقة فلما ركبوا الطريق ساروا في سياراتهم حصل على بعضهم من الحوادث ما قضى به نحبه، وقد كان خائفاً من شيء فإذا منيته تكون بأمر آخر، وإذا ما هرب الشيء الذي هرب منه قد ساقه إلى أمر آخر كان فيه هلاكه وحتفه.
مَا قَدْ قُضَى يَا نَفْسُ فَاصْطَبِرِي لَهُ | وَلَكِ الْأَمَانُ مِنَ الَّذِي لَمْ يُقْــدَرِ |
وَتَحَقَّقِي أَنَّ الْمُقَـــدَّرَ كَائِـنٌ | يَجْرِي عَلَيْكِ حَذَرْتِ أَمْ لَمْ تَحْـذَرِي |
عدم الأمن من مكر الله -عز وجل-
والخوف من الله يستوجب أمراً آخر من مهمات القلوب وهو: عدم الأمن من مكر الله ، لذلك يقول الله : أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ [النحل: 45 -47] هذه الآيات عين الواقع بالضبط، هؤلاء الذين مكروا السيئات فعملوها ودعوا الناس إليها وحرضوهم عليها وشجعوهم لفعلها، هؤلاء الذين يمكرون بالناس في دعائهم إياهم للمعاصي، هؤلاء أأمنوا أن يخسف الله بهم الأرض؟ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ [النحل: 45 - 46].
وتقلبهم هو تنقلهم في الأسفار وغيرها وتغيرهم في أحوالهم، ولذلك قال الله في آية أخرى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 97 - 99].
فإذاً، الناس عندما يؤخذون بالعذاب على أنواع:
فمنهم من يأخذه الله وهو مطمئن نائم.
ومنهم من يأخذه الله وهو يلعب ويلهو مشغول بالدنيا فيأتيه العذاب فجأة.
ومنهم من يأخذه الله وهو يخاف من وقوع العذاب عليه.
ولذلك إذا أخذ الله غيرنا بعذاب وهم نائمون مطمئنون فنحن الآن في مرحلة نخشى أن يأخذنا الله بعذاب ونحن على تخوف.
لا بد -أيها الإخوة- أن نفقه الآيات، ولذلك سنعيد قراءتها: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ [النحل: 45] لا يتوقعون، لم يدر في بالهم أصلاً أن الله سيفعل بهم ما فعل أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ [النحل: 46] وهم في أسفارهم وذهابهم ومجيئهم أخذهم الله، فأصيبوا، فما هم بمعجزين، يصل إليهم الأثر وهم في أقصى الدنيا.
ولذلك لما أنزل الله بعاد عذاباً كان منهم قوم مسافرون بعيد عن مكان الحدث، فذهب إليهم العذاب فأخذهم في سفرهم، المكان الذي سافروا إليه أخذهم العذاب فيه.
أو يأخذهم في الحالة الثالثة أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ [النحل: 47] يعني هم يترقبون أن يحدث شيء يخافون حدوث شيء، يخشون حدوث شيء فيأخذهم الله في حال الخشية وفي حال الخوف يأخذهم، أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ وهم خائفون وجلون مضطربون يخشون حدوث شيء فيأخذهم الله .
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ [النحل: 47] كيف يكون رؤوفا رحيما؟
إذا لم يعاجلهم بالعقوبة، فأمهلهم.
الله ممكن يأخذ مباشرة، ممكن يأخذ بعد حين فيمهل، ممكن أن يأخذهم على تخوف ويكون من أشد أنواع الأخذ؛ لأنه اجتمع عليهم الخوف والعذاب.
ولذلك لا بد من العودة إلى الله، لا بد -أيها الإخوة- نحن الآن في مرحلة مصيرية، نحن الآن في حقبة لها ما بعدها، نحن الآن في لحظات عصيبة، ولذلك بعض الناس الذين ناموا انتبهوا شيئاً ثم ناموا ورجعوا للغفلة عليهم أن ينتبهوا ويحذروا ألا يأخذهم الله على تخوف، فإن رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102].
فلا تبقي ولا تذر إذا جاءت غاشية من عذاب الله.
وتأمل قوله : أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ [الأعراف: 97] النوم هذا يأتي من الطمأنينة، ناس مطمئنين لا يدرون، ما يحسبون حساب أي شيء، ينام الإنسان فيأتيه العذاب وهو نائم؛ كما فعل الله بأقوام كثر أتاهم العذاب وهم نائمون، أو يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف: 98].
متى يلعب الناس؟
إذا توفر لهم الرزق، وتوفرت لهم رغد المعيشة، إذا كان عندهم سعة فإنهم لا يحتاجون لطلب الرزق، فلذلك يلهون ويلعبون ويلتهون، وينشغلون بكل الأشياء من الملهيات.
لو كانوا في ضنك كانوا ذهبوا يطلبون الرزق، كانوا يكدحون، لكن متى يلعب الناس؟
عندما يوسع الله عليهم، فيأمنوا مكر الله، ويغتروا بالنعمة ولا يشكروها، فيلعبون في سائر الأوقات.
لعب بالمعاصي وبالمنكرات، يلعبون فيأتيهم العذاب ضحى وهم يلعبون، فيكون مفاجئاً عليهم.
وهذا دليل أمنهم من مكر الله لو كانوا يخشون الله لما ناموا ولعبوا، وإنما صلوا وقاموا وعبدوا الله، وفعلوا كما كان يفعل رسول الله ﷺ فلم يكن نومه ﷺ غفلة وإنما كان عبادة.
التوكل على الله
ولذلك فإنه لابد للعباد أن يفيئوا إلى الله في وقت الشدة، وأن يعملوا عملاً آخر من أعمال القلوب مهم ألا وهو: التوكل على الله: وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة: 23]، وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3]، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران: 173]، لكن صحابة مؤمنين فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ [آل عمران: 174] هذا كانت عاقبة الذين يتوكلون على الله كفاهم الله الشر، وكفاهم العذاب، وكفاهم بأس عدوهم، وأرجعهم غانمين، وأرجعهم سالمين، وأرجعهم يعبدون الله في رضوان الله.
ولذلك كان ﷺ يقول في دعائه وذكره لربه: اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت [رواه البخاري: 1120، ومسلم: 769].
وكان يفوض أمره إلى ربه حتى عند النوم يقول: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك [رواه البخاري: 247، ومسلم: 2710].
واعتماده على الله .
التوكل يمكن أن نعرفه بأن نقول هو: تفويض الأمر إلى الله، والتعلق بالله في كل حال، وقطع علائق القلب بغير الله، كل علاقة بغير الله نقطعها علاقة إذا قلبك تعلق بشيء غير الله اقطعه وصل حبلك بالله، والاعتماد على الله في حصول المطلوب وزوال المكروب، مع الأخذ بالأسباب.
هذا تعريف التوكل: الاعتماد على الله في حصول المطلوب، وزوال المكروب مع الأخذ بالأسباب.
وموسى لما أرسله الله لبني إسرائيل وكانوا في اضطهاد وظلم قال: تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [يونس : 87] اجعلوها عامرة بذكر الله؛ لأن هذا الذي ينجي في الأخطار، وهذا الذي يصبر الناس، فماذا قال موسى لقومه؟ وقال موسى لقومه لما آمن به طائفة من الناس فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ [يونس: 83].
هذه الذرية، هذا الجزء من القوم، قال موسى لقومه وَقَالَ مُوسَى ماذا قال؟ يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ * فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا [يونس: 84 - 85].
ولذلك لا بد أن يواطئ اللسان القلب، فالقلب متوكل، واللسان يقول: توكلنا على الله، واللسان يقول: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الممتحنة: 4].
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64] يعني يكفيك ويكفي المؤمنين الذين اتبعوك، حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين.
ولذلك -أيها الإخوة- ثبت الآن من خلال الأحداث ثبت بالدليل القاطع: أن جمع الأموال وتخزين الأطعمة لا يفيد شيئاً أبداً إذا نزل عذاب الله، ثبت الآن بالدليل القاطع نحن نسمع ونرى ونقرأ جمع الأموال وتخزين الأطعمة ما أغنى ولا شيء أبداً، إذا نزل العذاب وسلطه الله على قوم لا يفيدهم تخزين أطعمة، ولا جمع أموال، تذهب الأموال كلها، والعدو يستولي عليك وعلى طعامك.
فما الذي ندخره إذاً للحظات الشدة؟
التوكل على الله وعبادته، من سره أن يكون الله معه في وقت الشدة فليكن مع الله في وقت الرخاء.
ولذلك الآن نحن يمكن أن نجني ثمرات ما زرعناه في الماضي في وقت الرخاء عندما نكون الآن في وقت الشدة إذا كنا زرعنا شيئاً وإذا لم نكن زرعنا شيئاً على الأقل نستغل الفرصة الآن، الآن يمكن أن نعبد الله، الآن يمكن أن نتجه للمساجد، الآن يمكن أن نصلي ونحن مطمئنون، الآن يمكن أن نتصدق ونخرج من أموالنا.
إن أناساً حرموا من الصدقات، قد يريد الصدقة لكن ما في مجال أن يتصدق، صاروا يتصدق عليهم، ناس كانوا يقولون: هل رأيتم الفقر هذا دفناه؟ ناس قالوها في الماضي في السنوات الماضية قالوا: "الفقر هذا دفناه" الآن صاروا يقبلون ما يعطى لأولادهم من الثياب المستخدمة.
"الفقر دفناه" واحد عنده خمسون مليون دينار، لكنه يقتسم الآن هو وخادمه رغيفاً من الخبز!
والله الذي لا إله إلا هو إذا لم تهزنا الأحداث، وتجعلنا نفيء إلى الله جميعاً نحن المسلمين، نفيء إلى الله فإن الله إذا أخذنا فإنه سيأخذنا أخذ عزيز مقتدر.
ولذلك الحق نفسك.
عبادة أكثر منها، صدقات أكثر منها، توكل على الله توكل، اجمع قلبك على الله، لا تشتت نفسك بالتوكل على غير الله، فإن من توكل على غير الله ذل.
والعوام كثير منهم هوام لا يعتقدون بالعقيدة الصحيحة في التوكل، ولذلك تجدهم مساكين في ألفاظهم ومعتقداتهم، نسوا قضية التوكل على الله، الناس الآن يتعلقون بأي قشة، نسوا التوكل على الله عز وجل، ومن هم البشر؟ من هم البشر؟ بشر: وما أنتم بمعجزين فأين تذهبون؟ وإلى أين تهربون؟ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ [الطور: 7 - 8].
أين عاد؟ أين ثمود؟ أين فرعون ذي الأوتاد؟ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ [الفجر: 11 - 12]؟ كان فيه أشد من فرعون ومن معه من جنده؟ فيه أشد من ثمود الذين قطعوا الصخر؟ قوتهم أنهم كانوا يقطعون الصخر، جابوا الصخر، يعني قطعوا الصخر وعملوا هذه البيوت التي بقيت إلى الآن، أبقاها الله لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ الصافات: 137 - 138].
إذاً، مسألة التجميع والاستكثار من الدنيا لا تنفع أبداً وقت الأزمة ما ينفع أبداً إلا الإيمان بالله عندك رصيد من الإيمان نفعك وقت الشدة، ما عندك رصيد من الإيمان يمكن أن تصيبك سكتة أو أي شيء من الأمور المفزعة المضطربة صدمة نفسية وعصبية.
لكن المسلم المعتصم بالله لو أصابته شدة ينقذه الله، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [الأعراف: 165].
لكن الله يمهل فيظن الناس أنه ما أخذ، ولن يأخذ مع أن العذاب قريب: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف: 24 – 25].
تجديد الولاء والبراء الحق
أيها الإخوة: من مستلزمات التوكل مسألة أخرى من أعمال القلب ألا وهي: تجديد الولاء والبراء الحق، الولاء لله، والبراء من أعداء الله، الولاء لله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [المائدة: 55].
من هم أولياؤنا؟ من هم أحبابنا؟ من هم المقربون إلينا؟
إنهم أولياء الله، إنهم المسلمون المطيعون لله في كل مكان، هؤلاء هم أولياؤنا.
من هم أعداؤنا؟
هم أعداء الله: وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ [النساء: 45].
كل عدو لله فهو عدونا، وكل عابد لله فهو صديقنا وأخونا وحبيبنا ومقرب إلينا.
فلا بد أن نتولى الله ورسوله، والذين آمنوا.
ولا بد أن نتبرأ من كل كفر وكافر، وكل شرك ومشرك، وكل بدعة ومبتدع، ولا بد أن نتبرأ من كل معصية وفسق وظلم، ونجدد الولاء لله، وهذه قضية قلبية، أين محل الولاء والبراء؟
في القلب، الولاء المقتضي للمحبة يكون بأي واسطة؟ بالقلب، البراء المقتضي للبغض والعداوة أين يكون؟ في القلب ثم تكون أعمال الجوارح بناء على أعمال القلوب.
فإذاً، عندما تضيع الولاءات وتختلط لا بد من هزيمة قريبة أم بعيدة، وعندما يتحقق الولاء لله فإن الله ناصر أولياءه ولا شك: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر: 51]، كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21].
البصيرة
ومن أعمال القلب أيضا: البصيرة:
البصيرة التي هي النظر في الواقع من خلال النور الذي يقذفه الله في قلوب من يشاء من عباده، فإذا قذف الله نوره في قلب عبد مؤمن فإنه يرى ما أخبرت به الرسل كأنه رأي عين: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف: 108] أدعو على جهل؟ على غفلة؟ أدعو إلى الله على بصيرة، أدعو من منطلقات غيري؟ ومبادئ غيري؟ أستورد؟
أدعو إلى الله على بصيرة، على بصيرة من ربي فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحـج: 46].
فإذا عمي القلب ما في بصيرة، زالت البصيرة.
ولذلك البصيرة بالضبط هي: معرفة الحق في الواقع أين هو؟
أين الحق الآن؟
تمر بالمسلمين مسائل كثيرة خصوصاً في أوقات الشدة والمحنة لا يدرون أين الحق؟ يضطربون، من قائل يقول: هذا هو الحق.
ومن قائل يقول: هذا العالم هو الذي معه الحق.
وآخر يقول هذه الفتوى هي الفتوى الصحيحة.
وثالث يقول: الرأي هذا هو الرأي الصواب.
فيضطرب الناس فعلاً، يموجون يختلطون، لكن أين الحق؟ من الذي يدلك على الحق؟
البصيرة.
البصيرة التي تأتي بالتفقه في الدين، البصيرة التي تأتي بعبادة الله، البصيرة التي تأتي بالإقبال على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، الذي يقوم بهذه الأعمال يقذف الله في قلبه نوراً يعرف به الحق من الباطل.
ولذلك عندما تختلط عليك الأمور راجع قلبك؛ لأن معناه أن البصيرة فيها خلل، إذا أنت غبشت عندك الصورة، وقلت: والله محنة ما أدري أين الحق؟ لا أعلم، أرى ناساً يقولون هذا، وناساً يقولون هذا، وناساً يقولون هذا، وأسمع من هذا ومن مصدر آخر، أين الحق؟ ما هو الحق؟ ما هو الصواب؟
إذا اختلطت الأمور راجع قلبك.
ولذلك كان شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: "يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني".
يلجأ إلى الله بالدعاء حتى يكشف له الحق.
اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك -أنت وليس غيرك- فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم [رواه مسلم: 770].
إذا كان عندك بصيرة أي حدث يحدث سيكون عندك وضوح رؤية حتى في الأحكام الشرعية والفتاوى الفقهية، إذا كان ما عندك ما تبين لك في المسألة الجأ إلى الله قل: "يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني".
وقبل ذلك قل هذا الدعاء الذي كان ﷺ يقوم الليل يدعو به: اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك .
لماذا نحن نتخبط ونلجأ إلى هذا ونلجأ إلى هذا وننسى شيئاً مهماً جداً وهو اللجوء إلى الله؟
ولذلك -أيها الإخوة- البصيرة تقتضي -كما ذكرنا- عبادة، وتقتضي التفقه في الدين.
ولذلك أنا أنصح كل أخ يقول: اختلط علي حكم مسألة من المسائل أقول: ابحث فيها بنفسك، ابحث يا أخي، افترض أنك تريد معرفة حكم شرعي يجوز أو لا يجوز، مسألة فقهية يجوز أو لا يجوز، طيب ارجع إلى كتب العلم، انظر ماذا قال أهل العلم في المسألة، ما هي الأدلة؟ ما هي الآيات والأحاديث؟
أليس عيباً أن كثيراً من الشباب يضطربون في مسائل فقهية من الواقع الحادث، ويقولون: لا ندري هذا الحق وإلا هذا الحق وإلا هذه الفتوى صح وإلا خطأ، وهم بين أيديهم كتب ومراجع يستطيعون الرجوع إليها وبحث المسائل فيها، ممكن وإلا لا؟ ممكن.
لكن نحن تعودنا على الكسل نقول: نريد كل شيء يأتي إلينا جاهز، نحن ما عندنا استعداد للبحث، لكن ممكن والله لو قرأنا وتفقهنا لعرفنا.
قراءة وتفقه، ومناقشة أهل العلم، ودعاء لله، وإخلاص وتضرع؛ نصل إلى الحق.
أخذ العبرة من الواقع
ومن أعمال القلوب: الاعتبار، أخذ العبرة من الواقع.
وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء: 67].
أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً * أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا [الإسراء: 68 - 69].
الآن إذا حدثت شدة وحدثت أزمة المفروض أن نعتبر.
ومعنى: نعتبر، يعني أن تحملنا مصيبة غيرنا مثلاً على سلوك السبيل السوي، أو تحملنا المصيبة التي وقعت بنا نحن على تعديل مسلكنا ومنهجنا.
يا أخي: أنت تعيش في بلد حصلت عليك مصيبة، ما المفروض فيك أنت؟
أن تعتبر فتتوب إلى الله، وتغير طريقتك.
طيب وماذا ينبغي على جيرانك؟ واحد نزلت به مصيبة ماذا ينبغي عليه في الاعتبار؟
أن يعتبر بما نزل به، يتعظ بما نزل به، ويأوي إلى الله، يرجع، يتوب، ينيب، ماذا ينبغي على جيرانه من حوله؟ أن يعتبروا بمصابه هو، فيقولون: نخشى أن يصيبنا ما أصابه، فيتوبوا إلى الله هم أيضاً.
ولذلك الآن هذه الآيات مهمة بالنسبة للناس الذين لا يعتبرون: وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ [الإسراء: 67] يعني أوشكتم على الغرق ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ ما في أحد أبداً إلا الله ، ترى الماء من جميع الجهات، ما في أحد إلا الله ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنتُمْ [الإسراء: 67 - 68] انظر الآن للمناقشة أنت يا أيها الذي نجوت الآن من البحر، يا أيها الناجون الذين أشركوا بعد نجاتهم، وأعرضوا بعد نجاتهم بدلاً من أن يقابلوا نعمة الله بشكر لها من الإقبال على الله وترك المعاصي أعرضوا، أنتم أيها المعرضون بعد النجاة: أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ [الإسراء: 68] طيب لو أنت رجعت إلى البر يعني الله ما يستطيع أن يخسف بك البر ويزلزل بك الأرض؟ يستطيع سبحانه وتعالى وهو على كل شيء قدير: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام: 65] أنتم الذين نجوتم وأشركتم وطلعتم لليابسة وقلتم: الآن وصلنا إلى بر الأمان نعود إلى ما كنا فيه تأمن أن يخسف بك جانب البر؟ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا مطر فيها حجارة ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً * أَمْ أَمِنتُمْ [الإسراء: 68 - 89] لاحظ -سبحان الله العظيم- ربنا عندما يناقش هؤلاء الناس يعني فعلاً مناقشة في الصميم، لكن المشكلة من الذي يعتبر ويفهم: أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى [الإسراء: 69] يعني ما راح تركب البحر أبداً؟ ألم يعرض لك حاجة وتركب البحر مرة ثانية؟ ممكن أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى في البحر فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ لكن هذه المرة فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ إي والله يرجعك مرة ثانية يرجعك البحر ولكن المرة هذه يرسل عليك قاصفاً من الريح فيهدم صواري السفن ويغرق المراكب، ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا يعني ما تجدوا أحداً يأخذ بثأركم بعدكم، من الذي يأخذ أصلاً بثأر من الله؟ ما يمكن.
ولذلك فيه ناس اعتبروا من هذه المواقف، وإليكم مثالاً على ذلك: عكرمة بن أبي جهل صحابي جليل كان كافراً، وعدواً لله، ومن صناديد قريش الصادين عن دين الله، ابن عدو الله، لكن أراد الله به خيراً، كيف؟ لما فتح رسول الله ﷺ مكة هرب عكرمة من مكة فاراً من رسول الله ﷺ، فذهب هارباً، فركب في البحر ليدخل الحبشة، الآن خلاص سقطت مكة يريد أن يهرب للحبشة، فجاءتهم ريح عاصف وهو ومن معه في البحر، فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعو الله وحده -سبحان الله- هؤلاء المشركون يقول بعضهم لبعض: إنه لن يغني عنكم شيئاً إلا أن تدعو الله وحده مثل ما قال الله في القرآن بالضبط، فقال عكرمة في نفسه لما سمع هذا الكلام: والله لئن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره، الآن حصل الاتعاظ، الآن عندنا أناس يغطون في نوم عميق، تأتي لهم بالآيات ما في فائدة، عكرمة بن أبي جهل كم مرة سمع القرآن؟ وكم مرة سمع الرسول ﷺ؟ وكم مرة رأى المسلمين؟ وكم مرة؟ لكن كان غافلاً، نائماً، كافراً، هذه المرة شاء الله أن يهديه، هذه المرة استخدم عقله وفكر، نحن نريد من الناس الآن فعلاً أن يستخدموا عقولهم ويفكروا، لا بد أن يهتز الناس الآن، الأحداث هذه لا بد أن تهز الناس وتوقظهم من غفلتهم، قال عكرمة: والله لئن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع البر غيره، اللهم لك علي عهد لئن أخرجتني منه سليماً، من وسط الغرق هذا، لأذهبن فلأضعن يدي في يديه ﷺ، فلأجدنه رؤوفاً رحيماً، فخرجوا من البحر سالمين، هنا في مرحلة أخرى هل ترى سيرجع للكفر أم أنه سيكمل على الهداية هذه التي حصلت له الآن؟
فخرجوا من البحر فرجع إلى رسول الله ﷺ فأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه.
الاعتبار، لا بد من التفاعل مع الأحداث، نحن لا بد نتفاعل، لا بد يكون لنا مواقف قلبية مما يدور على ضوء الكتاب والسنة.
ولذلك -أيها الإخوة- لما نتأمل في بعض الأقوال التي وردت في ناس عندهم جمل وكلمات تدل على اتعاظ؛ أنهم فعلاً اتعظوا من الواقع، في امرأة تقول يعني باللهجة العامية: الله ما سوى فينا إلا شوي، يعني على الأقل نجونا وإلا كان ممكن الله يخسف بنا خسفاً فيفنينا عن بكرة أبينا، ما راح منا إلا قلة بالنسبة للناجين الكثرة.
فعندما ينظر الإنسان إلى ذنوبه الكثيرة جداً جداً، والمتراكمة، وذنوب المجتمع كله.
ثم إن الله يذكر بشيء هناك ما هو أصعب منه وأغلظ بكثير، فلا بد أن يعتبر، ويقول: المرة هذه الله نجاني، لكن المرة القادمة؟
والقلب من أعماله: اليقظة.
قلب المسلم لا بد يكون متيقظاً ما فيه سهو ولا غفلة، فإذا سهى أو غفل ذكر الله، فإذا ذكر الله إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201] انظروا إلى هذه الآيات: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ في السفن وَجَرَيْنَ بِهِمْ هذه السفن جرت بالناس بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ خلاص على الهلاك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [يونس: 22] فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يونس: 23] هذه الآن مشكلة عندنا، مشكلة الناس الذين نجوا ومع ذلك مصرين على الباطل، مصرين على المعاصي، مصرين على الفواحش، مصرين على الخمور، مصرين على الربا، مصرين على ترك الصلوات، يعني فيه مشكلة، ولذلك الناس فعلاً لا يتعظون من أول ضربة، هذه شبه قاعدة يعني موجودة، الناس ما يتعظون من أول ضربة، لا بد تأتي أولى وثانية وثالثة ورابعة، ومع كل ضربة يستيقظ أناس، ومع كل محنة يستيقظ أناس، ومع كل شدة يستيقظ آخرون، وهكذا..، هذه قاعدة: لا تستيقظ الشعوب من أول محنة، ولذلك تجد الناس يدخلون في المحنة وتقع عليهم شدة ومع ذلك يخرجون، ولا كأنه حصل شيء، ما زالوا منغمسين في المعاصي، ما زالوا في أحوال نقلوا فسادهم من مكان إلى آخر، هذا غاية ما هنالك، لكن لا يخلو الأمر من أناس اتعظوا، ثم بعد ذلك تأتي محنة أخرى وثالثة ورابعة حتى يستيقظ الناس، والله جرت سنته هكذا: فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [يونس: 23].
لذلك قصة سمعتها عن امرأة بواسطة تقول: هي امرأة من بلد أصابها الله بالدمار والحروب إلى الآن لم تزول الحروب فيها قائمة في لبنان، تقول بصراحة: نحن كنا نخرج ونغني ونرقص، هذا في وقت الحرب، الآن نخرج ونغني ونرقص، فإذا جاءت غارة جوية وقصف مثلاً دخلنا في الملجأ، تحت، فإذا انتهى القصف والغارة طلعنا وكملنا الأغنية والرقص، إي والله، هذا شيء مدهش، نرقص ونغني، تأتي الغارة ندخل تنتهي الغارة نطلع ونكمل الرقص والأغنية!
معناها فيه ناس مهما أصابهم لن يتعظوا، خلاص -كما ذكرنا- في البداية قلوب ميتة، يا أخي واحد قلبه ميت، ماذا ترجو من ورائه؟ قلب ميت مهما تهز ما في فائدة، لعل الله يهدي أناساً؛ لأنه لن يخلو الناس من منتصحين، وناس يقبلون الكلام: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55]، ماذا يضيرنا نقوم بواجب التذكير، ثم من اهتدى لنفسه ومن عمي فعليها؟
التضرع إلى الله
ومن أعمال القلب أيضاً: التضرع إلى الله : وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام: 42].
الله رحيم، كان من الممكن أن يقبضهم ويموتوا على الكفر ويدخلوا جهنم، لكن الله يمس المدن والقرى والبلدان بعذاب لعل بعض الناس هؤلاء يهتدون من خلال العذاب والمحنة، فتصلح أحوالهم، فإذا جاءهم الموت يكونوا على هداية.
انظر هذه من رحمة الله كيف يكون العذاب من رحمة الله؟ كيف تكون المحنة من رحمة الله؟
هكذا تكون ناس في غفلة فيسلط الله عليهم عذاباً من السماء، من الأرض، بواسطة بشر، بغير واسطة البشر، يسلط الله عليهم، فإذا سلط الله عليهم فيه ناس يرجعون فيهتدون فيموتون على الهداية، وكانوا من الممكن أن يموتوا على الغواية بدون العذاب، فكان العذاب بالنسبة لهم رحمة، صار فيه نتيجة، على الأقل أهل المعاصي والذنوب يعني سيئاتهم تكفر بالمصائب الحالة بهم.
فإذاً، هذه الشدائد وهذه المحن هذه رحمة من الله، كم اهتدى بها أناس، وكم كفّر الله بها سيئات أناس، وكم زاد الله بها أناس قلوبهم ميتة زادهم إثماً على إثمهم ليكون عذابهم في جهنم أشد وأبقى.
سبحان الله! تجد واحداً ظالماً ومنتفشاً وطاغية: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا [آل عمران: 178] واحد يقول: يا أخي هؤلاء أقوياء، هذا قوي جبار، هؤلاء جبابرة، هؤلاء طغاة، عندهم أسلحة.
طيب انتظر إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا قل لي الآن بعد خمسمائة سنة، الأحداث التي نعيشها نحن الآن، فيها ظالم ومظلوم، وفيها كفار ومسلمون، هذه الأحداث بعد خمسمائة سنة ماذا ستكون؟ هذه الأشياء التي أرعبتنا وخوفتنا والتي طغت على حياتنا وعكرت أمزجتنا وأقلقتنا وأيقظت مضاجعنا؟ بعد سنين طويلة، بعد خمسمائة سنة مثلاً ماذا تكون هذه الأحداث؟
يمكن تكون سطرين في كتاب تاريخ، إي والله مثل من يقول: وفي سنة 1411 كان وقعة كذا وكذا، حصل فيها كذا وكذا، سطرين راحت.
ولكن عند الله كل شيء مكتوب، صحف الأعمال مكتوبة عند الله هذا الظالم وهذا المظلوم، وهذا القاهر وهذا المقهور، وهذا الجبار الباطش، وهذا المسكين الضعيف، وهذا المسلم الذي اهتدى، وهذا المسلم الذي ظل على فسقه، وهذا الذي كفر بنعمة الله، وهذا الذي زادته المصيبة إيمانا، وهذا الذي زادته المصيبة نفاقا وكفرا، كله مكتوب عند الله: فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى [طـه: 52].
وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 42 - 45].
قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً لاحظ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام: 63 - 64]، قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [الأنعام: 65].
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون: 76].
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى في الدنيا الآن دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ [السجدة: 21] في الآخرة هؤلاء الذين قست قلوبهم ولم يتضرعوا ولم يلجأوا إلى الله.
ثلاثة أحداث عاصفة مرت بأمة الإسلام
أريد أن أقول -أيها الإخوة- في خاتمة هذا الحديث أو في الربع الأخير منه، أريد أن أستعرض معكم بعض الأحداث التي مرت بالأمة الإسلامية، ونرى فيها ماذا حدث في واقع المسلمين؟ هل كانت هناك أحداث ضخام؟ وما مدى ضخامتها؟ وكيف تصرف المسلمون تجاهها؟ لأنني على يقين تام بأن دراسة التاريخ الإسلامي مسألة في غاية الأهمية بالنسبة لنا نحن الآن ونحن نعيش في هذا القرن الخامس عشر الهجري.
لماذا؟ لأن كثيراً من الأحداث تتشابه، صح قد لا تتشابه بالأرقام والمواقع وأسماء الناس، لكن تتشابه في الظروف والأحوال والمواقف التي عبر بها الناس تجاه الفتنة والمحنة، وهكذا.. لنصل من خلال الأحداث هذه.
طبعاً وما في وقت أن نقف بالتفصيل، ولكن نريد أن نعرف من خلال الأحداث هذه أولاً، نحن الآن نعيش في أحداث ضخمة لا شك هل مرت بالمسلمين أحداث ضخمة، وربما تكون أضخم مما تمر بنا الآن.
ثانياً: ما هو موقف المسلمين تجاه هذه الأحداث في السابق، ويمكن أن نعلم منها ما هي الأخطاء التي وقعوا فيها والتي يجب علينا أن نتجنبها الآن؟
عندما نقول: نتضرع إلى الله كيف كانت إذا نزلت المصيبة بالمسلمين ماذا كانوا يعملون؟
فيه فترة من تاريخ المسلمين يعني ممكن أن نقول تقريباً من سنة 616 للهجرة إلى سنة 665 وما بعدها بقليل، هذه الفترة من التاريخ الإسلامي حفلت بأحداث رهيبة وعاصفة، كان فيها ثلاث أحداث مهمة: اكتساح التتر لبلاد المسلمين في الجهة الشرقية والوسطى من بلاد المسلمين، واكتساح النصارى لمصر وشمال بلاد الشام وفلسطين، وحدوث النار العظيمة التي خرجت بجانب المدينة المنورة، هذه حدثت في وقت واحد، يعني في فترة متقاربة جداً، ولذلك كان وضع العالم الإسلامي في ذلك الوقت في محنة عصيبة جداً من عدوان خارجي، ومن مصائب داخلية، من هذه المحنة العظيمة التي خرجت، ومن أنواع الغلاء والتفرق والتمزق والطوفانات التي حصلت، والخراب الذي صار في بلدان المسلمين، كانت فعلاً فترة عصيبة جداً، نحن نريد أن نلقي الضوء على هذه الفترة من خلال ما سنقرأه من بعض أحداث التاريخ التي حدثت في تلك الآونة.
المجازر الوحشية التي ارتكبها التتار في حق المسلمين
قال ابن كثير -رحمه الله- في "البداية والنهاية": "ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَفِيهَا عَبَرَتِ التَّتَارُ نَهْرَ جَيْحُونَ صُحْبَةَ مَلِكِهِمْ جِنْكِيزْ خَانَ مِنْ بِلَادِهِمْ" -طبعاً أنا أختصر لكم الكلام اختصاراً- "فَقَصَدَتِ التَّتَارُ بُخَارَى، وَبِهَا عِشْرُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، فَحَاصَرَهَا جِنْكِيزْ خَانُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَطَلَبَ مِنْهُ أَهْلُهَا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، وَدَخَلَهَا فَأَحْسَنَ السِّيرَةَ فِيهِمْ مَكْرًا وَخَدِيعَةً، وَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ الْقَلْعَةُ، فَحَاصَرَهَا، وَاسْتَعْمَلَ أَهْلَ الْبَلَدِ فِي طَمِّ خَنْدَقِهَا، وَكَانَ التَّتَارُ يَأْتُونَ بِالْمَنَابِرِ وَالرَّبَعَاتِ، فَيَطْرَحُونَهَا فِي الْخَنْدَقِ يَطُمُّونَهُ بِهَا، فَفَتَحَهَا قَسْرًا فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَقَتَلَ مَنْ كَانَ بِهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْبَلَدِ، فَاصْطَفَى أَمْوَالَ تُجَّارِهَا، وَأَبَاحَهَا لِجُنْدِهِ، فَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَسَرُوا الذُّرِّيَّةَ وَالنِّسَاءَ، وَفَعَلُوا مَعَهُنَّ الْفَوَاحِشَ بِحَضْرَةِ أَهْلِيهِنَّ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَاتَلَ دُونَ حَرِيمِهِ حَتَّى قُتِلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُسِرَ فَعُذِّبَ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَكَثُرَ الْبُكَاءُ وَالضَّجِيجُ بِالْبَلَدِ، ثُمَّ أَلْقَتِ التَّتَارُ النَّارَ فِي دُورِ بُخَارَى وَمَدَارِسِهَا وَمَسَاجِدِهَا، فَاحْتَرَقَتْ حَتَّى صَارَتْ بِلَاقِعَ خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا، ثُمَّ كَرُّوا رَاجِعِينَ عَنْهَا قَاصِدِينَ سَمَرْقَنْدَ، ثم من الجهة الشرقية دخل الفرنج واحتلوا مدينة دمياط، وغدروا بأهلها وقتلوا رجالها، وسبوا نساءها، فضج الناس وابتهلوا إلى الله، في فلسطين في المسجد الأقصى، حصل اكتساح أيضاً خاف الناس من الفرنج أن يهجموا عليهم ليلاً أو نهاراً، وتركوا أموالهم وأثاثهم، وتمزقوا في البلاد كل ممزق، حتى قيل: إنه يباع القنطار الزيت بعشرة دراهم، والرطل النحاس بنصف درهم".
-سبحان الله- التاريخ -أيها الإخوة- فعلاً تشابه، الآن مرت في الأحداث أن رجلاً باع سيارته من هؤلاء الهاربين من الجحيم والعذاب والظلم باع سيارته بدنانير زهيدة، وتأمل الآن "وبيع الرطل من النحاس بنصف درهم، وضج الناس وابتهلوا إلى الله في المسجد الأقصى، في نفس السنة اكتساح التتار والفرنج، النصارى والتتار من الشرق والغرب والشمال. ثم دخل سنة سبع عشرة وستمائة وفي هذه السنة عم البلاء وعظم العزاء بجنكيز خان ووصل إلى بلاد العراق وما حولها حتى انتهى إلى إربل وأعمالها فملكوها في سنة واحدة، وقتلوا في هذه السنة من طوائف المسلمين ما لا يحد ولا يوصف، وبالجملة فلم يدخلوا بلداً إلا قتلوا جميع من فيه من المقاتلة والرجال وكثيراً من النساء والأطفال، وأتلفوا ما فيه بالنهب إن احتاجوا إليه، وبالحريق إن لم يحتاجوا إليه، شيء يحتاجوه أخذوه، وإلا ما يحتاجوه أحرقوه، ما يمكن يتركوا شيئاً سليماً، حتى أنهم كانوا يجمعون الحرير الكثير الذي يعجزون عن حمله فيطلقون فيه النار وهم ينظرون إليه، ويخربون المنازل وما عجزوا عن تخريبه يحرقوه، وأكثر ما يحرقون المساجد والجوامع، وكانوا يأخذون الأسارى من المسلمين فيقاتلون بهم ويحاصرون بهم، وإن لم ينصحوا في القتال، إذا المسلم ما دل على الطريق قتلوه.
وذكر ابن الأثير -رحمه الله- عن هذه الحادثة قال: فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله آدم وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا يدانيها، ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعل بختنصر ببني إسرائيل من القتل والتخريب في بيت المقدس، لكن هذا كان في مكان معين، أما التتار اجتاحوا أماكن عديدة، في سنة واحدة ملكوا من الأملاك ما لم يملكه أحد مثلهم في نفس المدة مطلقاً.
وتأمل كيف يُسلط الله الكفار على المسلمين؟
بنو إسرائيل كانوا مسلمين يعني أهل كتاب مع موسى، فلما ابتعدوا عن الدين وحرفوا سلط الله عليهم من؟ كفار بختنصر كافر، فقتلهم وشردهم.
والمسلمون الآن في هذا القرن الذي نتكلم عنه كانوا مسلمين لكن انحرفوا وفشت فيهم من أنواع المنكرات والفواحش أشياء كثيرة موجودة في الكتب عن أنواع الفواحش والمنكرات، فسلط الله عليهم التتار مع أن التتار كفار، لكن الله إذا ابتعد عنه من يعرفه سلط عليه من لا يعرفه.
إذا في ناس يعرفون الله وانحرفوا فإن الله يسلط عليهم من لا يعرف الله، قال ابن الأثير: ولعل الخلائق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح؛ فإن قوماً خرجوا من أطراف الصين، هؤلاء الصين، فقصدوا بلاد تركستان ثم ما وراء النهر مثل سمرقند وبخارى فيملكون ويفعلون بأهلهم ما نذكره، ثم تعبر طائفة منهم -ليس كلهم- إلى خراسان فيفرغون منها ملكاً وتخريباً وقتلاً ونهباً ثم يجاوزونها إلى الري وهمذان وبلاد الجبل وما فيها من حد العراق، ثم يقصدون بلاد أذربيجان ويخربونها ويقتلون أكثر أهلها، ولم ينج منهم إلا الشريد النادر، هذا كله في أقل من سنة، ثم قصدوا قزوين فنهبوها وقتلوا من أهلها نحواً من أربعين ألفاً، ثم ذهبوا إلى موقان فقاتلهم الكرج في عشرة آلاف فلم يقفوا بين أيديهم طرفة عين، فانهزم الكرج، وتالله لا أشك أن من يجيء بعدنا-هذا ابن الأثير- إذا بعد العهد ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها، وتترسوا بالأسارى من المسلمين على بلد وعلى المسلمين امرأة، مع الأسف كانت تحكمهم امرأة، فيقول ابن الأثير بين قوسين (ولن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) حديث صحيح، ففتحوا البلد بعد أيام وقتلوا أهله، ثم أنهم كانوا يقتلون في المسلمين لدرجة أن أحدهم يدخل إلى درب من البلد، وبه مائة رجل من المسلمين فلا يستطيع واحد منهم أن يتقدم إليه، وما زال يقتلهم واحداً بعد واحد حتى قتل الجميع، ولم يرفع منهم أحد يده إليه، ونهب ذلك الدرب وحده، ودخلت امرأة منهم من التتار في زي رجل متنكرة، فقتلت كل من في ذلك البيت وحدها، ثم استشعر أسير معها أنها امرأة فقتلها، في النهاية شعر أنها امرأة فقتلها، ثم ذهبوا إلى أذربيجان ففتحوا أردبيل ثم تبريز، فقتلوا من أهلها خلقاً كثيراً وحرقوها، وكانوا يفجرون بالنساء ثم يقتلونهن ويشقون بطونهن عن الأجنة، ثم فتحوا بلداناً كثيرة يقتلون ويسبون ويأسرون، ويجعلون الأسرى ترساً يتقون به الرمي، السهام، ثم يرجعون إلى ملكهم جنكيز خان، وكذلك فإن هؤلاء قد تكامل شرهم حتى وصلوا إلى بغداد في سنة 665 للهجرة، وفي بغداد لعب ابن العلقمي الخائن ونصير الدين الطوسي الدور الخياني في الاستيلاء على بغداد، ودخل التتار بغداد وقتلوا جميع من قدروا عليه، هذا بعد أن قتل خليفة المسلمين، فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش والوسخ، وكمنوا أياماً لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتار إما بالكسر أو النار، ثم يدخلون عليهم فيهربون إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وعادت بغداد بعدما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس وهم في خوف وجوع.
وقد اختلف الناس في كمية من قتل في بغداد من المسلمين في هذه الوقعة فقيل ثمانمائة ألف.
وقيل: ألف ألف وثمانمائة، ألف يعني مليون وثمانمائة ألف شخص.
وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف يعني مليونين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وأعمل السيف في أهل بغداد أربعين يوماً حتى قتل من هؤلاء، وكان الرجل يستدعى من دار الخلافة من بني العباس، الخلفاء فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى المقبرة فيذبح كما تذبح الشاة، ويأسرون من يختارون من بناته وجواريه، ولما انقضت الأربعون يوماً بقيت بغداد خاوية على عروشها والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد وتغير الهواء فحصل بسبب الوباء الشديد حتى تعدى وسار في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير في بلاد الشام من تغير الجو وفساد الريح، واجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، ولما نودي ببغداد الأمان وأنهى جيش التتار مهمته خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنا والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا، وقد أنكر بعضهم بعضاً فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذ الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.
بعض ما حصل من الغلاء للمسلمين
أما من جهة ما حصل في بعض بلاد المسلمين من الغلاء، فإليكم نموذجاً مما حصل في عام 643 فإنه قد حصلت فتنة ونزل كرب في دمشق فعدمت الأموال وغلقت الأسعار، حتى بلغ ثمن الغرارة ألف وستمائة، وقنطار الدقيق تسعمائة، والخبز كل أوقتين إلا ربع بدرهم، ورطل اللحم بسبعة، وبيعت الأملاك بالدقيق، لاحظ يعني البيوت انباعت بالأكل، خذ البيت وأعطنا أكلاً، وأكلت القطط والكلاب والميتات والجيفات، وتماوت الناس في الطرقات، وعجزوا عن التغسيل والتكفين والإقبار، فكانوا يلقون موتاهم في الآبار حتى أنتنت المدينة، وضجر الناس، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال ابن السبط أحد المؤرخين: ومع هذا كانت الخمور دائرة، والفسق ظاهراً والمكوس -يعني الضرائب- بحالها، وغلت الأسعار في هذه السنة جداً، وهلك الصعاليك -يعني الفقراء- في الطرقات، وكانوا يسألون لقمة، فقط لقمة، ثم صاروا يسألون لبابة، ثم تنازلوا إلى فلس يشترون به نخالة يبلونها ويأكلونها مثل الدجاج، تعرف ماذا يأكل الدجاج، هكذا يطلبون.
وذكر ابن حجر -رحمه الله- في حوادث سنة 777 للهجرة قال: وقع في الشام غلاء عظيم، واستمرت الشدة حتى أكلوا الميتات، حتى بيع المكوك بثلاثمائة إلى أن بلغ الألف فأكلوا الميتة والقطط والكلاب، وباع كثير من المقلين أولادهم، وافتقر خلق كثير، ويقال: إن بعضهم أكل بعضاً، حتى أكل بعضهم ولده، ثم عقب بعد ذلك الوباء ففني خلق كثير حتى كان يدفن العشرة والعشرون في قبر بغير غسل ولا صلاة، ويقال: إن ذلك دام في بلاد الشام ثلاث سنين.
خروج نار عظيمة جانب المدينة المنورة
أما ما حصل في جانب المدينة المنورة من خروج النار، فإليكم تفاصيل ذلك في عام 654 وقد أرخ أبو شامة -رحمه الله- لهذه الحادثة تاريخاً جيداً، فكان مما قاله: حدث في هذه السنة تصديق لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لا تقوم الساعة حتى تخرج من أرض الحجاز نار تضيء لها أعناق الإبل ببصرى [رواه البخاري: 7118، ومسلم: 2902] فأخبرني من أثق به ممن شاهدها أنه بلغه أنه كتب بتيماء على ضوء النار، -وهي في المدينة- الكتب، قال: وكنا في بيوتنا تلك الليالي كأن في دار كل واحد منا سراج.
ولما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخرة في سنة 654 ظهر في المدينة دوي عظيم، ثم زلزلة عظيمة رجفت منها الأرض والحيطان والسقوف والأخشاب والأبواب، ساعة بعد ساعة إلى يوم الجمعة، الخامس من الشهر المذكور، ثم ظهرت نار عظيمة في الحرة قريباً من قرية قريظة، نبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنها عندنا، وهي نار عظيمة أكثر من ثلاث منارات -الارتفاع- وقد سالت أودية بالنار إلى واد شظى مسيل الماء، والله لقد طلعنا جماعة نبصرها فإذا الجبال تسير نيراناً، وقد سدت الحرة طريق الحاج العراقي، الحجاج اللي جاؤوا من جهة العراق كلهم ما في طريق للذهاب إلى المدينة، ورجعت تسير في الشرق كأنما أنموذجاً عما أخبر الله -تعالى- في كتابه إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ [المرسلات: 32-33] وقد أكلت الأرض.
وقال: كتب هذا الكتاب يوم خامس رجب سنة 654 والنار في زيادة ما تغيرت.
ثم قال: وأما النار فهي جبال نيران حمر والأم الكبيرة التي سالت النيران منها من عند قريظة، وقد زادت وما عاد الناس يدرون أي شيء يتم بعد ذلك، والله يجعل العاقبة إلى خير، فما أقدر أوصف النار.
هذا واحد يكتب رسالة من المدينة وجهها إلى دمشق يصف فيها ما يرون أمامهم، قال: ولما ظهرت هذه النار وقع في شرقي المدينة نار عظيمة انفجرت من الأرض، وسال منها واد من نار حتى حاذى جبل أحد، ثم وقفت وعادت إلى الساعة، ولا ندري ماذا نفعل، ووقت ما ظهرت دخل أهل المدينة إلى المسجد النبوي، مستغفرين تائبين إلى ربهم -تعالى- وهذه دلائل القيامة.
ثم قال أيضاً: والله لقد زلزلت مرة ونحن حول حجرة رسول الله ﷺ اضطرب لها المنبر إلى أن أوجسنا منه، سمعنا صوتاً للحديد الذي فيه، واضطربت قناديل الحرم الشريف، وتمت الزلزلة إلى يوم الجمعة ضحى، ولها دوي مثل دوي الرعد القاصف، ثم طلع يوم الجمعة في طريق الحرة وما بانت لنا إلا ليلة السبت وأشفقنا منها وخفنا خوفاً عظيماً، وطلعت إلى الأمير، هذا واحد كاتب رسالة إلى الشام، يقول: وطلعت إلى الأمير وكلمته وقلت له: قد أحاط بنا العذاب، ارجع إلى الله -تعالى-، فأعتق كل مماليكه، ورد على جماعة أموالهم، ثم هبطنا وهبط معنا وبتنا ليلة السبت والناس جميعهم والنسوان وأولادهم ما بقي أحد لا في النخيل ولا في المدينة إلا في المسجد النبوي، كلهم مجتمعين، ثم سال منها نهر من نار، من هذه النار، إلى أن قطعت الوادي والله يا أخي إن عيشتنا اليوم مكدرة، والمدينة قد تاب جميع أهلها، ولا يبقي يسمع فيها رباب ولا دف ولا شرب، ما في آلات موسيقية أبداً، ما في موسيقى في البلد مطلقاً، ولا شرب، ما في خمور وتمت النار تسيل إلى أن سدت بعض طرق الحاج، وخفنا أن يجيئنا النار هذه، فاجتمع الناس ودخلوا المسجد، وتابوا ليلة الجمعة.
وأما هذه النار فإن لها حجارة ولها دوي ما يدعنا نرقد ولا نأكل ولا نشرب، ولا أقدر أن أصف لك عظمها، ولا ما فيها من الأهوال، وأبصرها أهل ينبع، وقد حضرها قاض منهم.
وفي نفس اللحظات هذه انعكس على بغداد الأمر فأصاب بغداد غرق عظيم حتى طفح الماء من أعلى أسوار بغداد، وغرق كثير من أهلها، ودخل الناس دار الخلافة وسط البلد، وانهدمت دار الوزير.
وفي المدينة ضج الناس إلى الله وانتبهوا من مراقدهم، وأخلصوا لله وأيقنوا بالهلاك والعذاب، وبات الناس في تلك الليلة بين مصل وتال للقرآن، وراكع وساجد، وداع إلى الله عز وجل، ومتنصل من ذنوبه ومستغفر وتائب، ولزمت النار مكانها، حتى حدث أن رأى الناس في بصرى أعناق الإبل في ضوء هذه النار.
الخاتمة
أيها الإخوة: هذه بعض الأحداث التي حدثت في بلاد المسلمين في هذه الحقبة من الزمن في أحداث جسيمة جداً، نحن الآن نقول: لا ندري ماذا ينتظرنا؟ نسأل الله حسن العاقبة.
نحن يجب أن نرجع إلى الله.
يجب أن نتوب إلى الله.
يجب أن ننخلع من الذنوب.
يجب أن نتضرع إلى ربنا.
لا ندري ماذا ينتظرنا؟ لا ندري هل نجتمع أو لا نجتمع؟
هل نتمكن من الصلاة في المساجد أو لا؟
فاغتنموا الفرصة.
ونسأل الله أن يدفع عنا البلاء كله والوباء والمحن والفتن وأن يسلم بلادنا وبلاد المسلمين، ونحن نرجو الأمن من الله لأننا بالأمن يمكن أن نعبد الله وندعو إلى الله كما أن جميع المسلمين ينبغي أن يهبوا ويعملوا للإسلام الآن في المحنة هذه.
ينبغي أن يضاعف الجهد للعمل للإسلام؛ لأنك لا تدري هل تستطيع أن تدعو في المستقبل أو لا؟ هل تستطيع أن تتعلم أو لا؟ الآن ينبغي أن تضاعف طلب العلم والدعوة إلى الله.
نسأل الله أن يقينا وإياكم هذه الفتن.
ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعل عاقبتنا وعاقبتكم إلى خير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.