الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بهديه.
تسارع الأحداث
أما بعد: فإننا نعيش في هذه الأيام لحظات تتسارع فيها الأحداث تسارعًا عجيبًا، وتتغير فيها أحوال العالم تغيرًا كبيرًا، فبتنا ننام على أحداث ونصحو على أحوال، وتطلع الشمس كل يوم بأخبار جديدة، والمسلم العاقل يستفيد من جميع المواقف والأحداث التي تمر به ويستلهم منها العبر والعظات.
وأما المعاند والمنافق فإنه لكثرة الران الذي صار على قلبه لا يكاد يعتبر ولا يستفيد من أي حدث في زمانه، والله -تعالى- قال في كتابه في تبلد حس هؤلاء: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام: 111].
وينبغي للعبد أن يكون له تفقه في أحداث زمانه واعتبار بما يحصل أمامه من المواقف.
إن استثمار المواقف والأحداث في ترسيخ المبادئ وتوضيح مهمات الدين، إنه أمر عظيم من أمور النبوة والتعليم.
وهذه المعاني الإيمانية والمبادئ المنهجية والقيم النبيلة تستقر أكثر فأكثر إذا ما استثمرت المشاهد والأحداث لترسيخها.
استغلال المشاهد والأحداث لإيصال الرسائل التربوية منهج قرآني
فاستغلال المشاهد والأحداث لإيصال الرسائل التربوية منهج قرآني، وقد سار عليه حكماء المربين.
وكما أن ثمة تربية بالقصة وتربية بالقدوة، وأخرى بالموعظة، وكذلك بالحوار، وتربية بالترغيب والترهيب، فهنالك أيضًا تربية باستثمار الأحداث واستغلال المشاهد.
وهذا المسلك أكثر رسوخًا في الذهن؛ لأن النفس البشرية تميل إلى القصص والمواقف والمشاهد، فيكون لهذا أثر بالغ في نفوس المخاطبين؛ لأن الصورة تنبني والفكرة تتضح وتبقى محفورة في الذهن تلك الصورة معها تلك الفكرة، بخلاف طريقة التلقين وحده فإنه ليس لها مثل ذلك الأثر مع أهميتهما.
والأم عندما تكون مع أبنائها في اجتماع أسري مثلًا حول النار في أيام الشتاء، فتقول لهم: يا أولادي هل رأيتم هذا الحطب وكثرته كيف جعلته النار رمادًا وحطامًا في مدة يسيرة؟ إن مثل ذلك مثل رجل يعمل الصالحات، ثم يرائي بها ويعجب بعمله، ولا يحفظها بالإخلاص فتذهب حسناته كما يذهب هذا الحطب فتصير رمادًا، وهكذا مثل من يجمع جبالًا من الحسنات ثم يهديها لمن اغتابهم وسبهم وشتمهم.
فسيكون لهذا أثر بالغ في نفوس الأولاد؛ لأن هذه الحقيقة الإيمانية قد عبر عنها بصورة من الواقع.
ولا شك أن حصول الموقف أمام الإنسان يجعل تفاعله معه أكثر من مجرد أن يحكى له ويلقنه تلقينًا، وقد قال تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137-138]، وقال : أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا [الفرقان: 40].
وقال سبحانه: وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ [إبراهيم: 45].
أهمية التربية بالمشاهد والأحداث
ومما يبين أهمية التربية بالمشاهد والأحداث: أن فيها تعويد للمتربي على إعمال الذهن، وكذلك فيها درجة أعلى من الإقناع فيكون التقبل لها بصدر رحب، وقلب واع، ونفس راضية.
وكذلك فإن التفاعل مع المواقف المتنوعة وتوظيف عبادات وأذكار معينة ليتربى المؤمن على المعاني الإيمانية.
إن هذا التفاعل النفسي قد أمر الله به، تفاعل النفس مع حدث أو موقف يثمر عبادة؛ مثال: صلاة الاستخارة، مثال آخر: صلاة الكسوف والخسوف.
وكذلك الأذكار المرتبطة بأحداث ووقائع كمثل أذكار نزول المطر ورؤية أهل البلاء ورؤية الهلال، ونحو ذلك، هذا يغرس في قلب المؤمن أمورًا كثيرة من المعاني الإيمانية غرسًا عميقًا.
ونحن نجد من طريقة القرآن توظيف القصص والأمثال والمواقف والأحداث لأخذ العبر والعظات، لا لمجرد سرد المثل أو سرد القصة أو سرد الحدث.
قصص قرآنية في التربية باستثمار الحدث
ويتكرر في القرآن كثيرًا الحدث والتحفيز على إعمال النظر والاعتبار بما حدث للسابقين واللاحقين من القصص والمواقف، وكثيرًا ما يختم الله -تعالى- الآيات التي فيها مشاهد وأحداث بقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً [الحجر: 77] في نحو من عشرين موضعًا.
وكذلك قوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران: 13]، وقوله: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر: 2]، وقوله: قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ [آل عمران: 137].
استثمار قصة أصحاب الفيل
انظر على سبيل المثال كيف جرى استثمار قصة أصحاب الفيل لتذكير قريش بنعم الله عليهم: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيْل * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ [الفيل: 1-5].
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ [قريش: 1] أي أنه أهلك أصحاب الفيل لتأتلف قريش وتجتمع: إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ [قريش: 2-4].
والمقصود من هذا أن الله -تعالى- قد حفظ بيته ليكون مثابة للناس وأمنًا، فأراد أن يذكر قريشًا بنعمته عليهم من خلال حادثة أصحاب الفيل.
استثمار حادثة انتصار الروم على الفرس
وكذلك ما في حادثة انتصار الروم على الفرس تذكيرًا للعباد بأن النصر بيد الله يؤيد به من يشاء: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ [الروم: 1-2] هذا حدث تاريخي، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: 3-4].
وهذا حدث تاريخي آخر: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الروم: 4-5].
الآيات التي فيها إهلاك قرى يراها الناس في طريق السفر على مشهد ومرأى منهم يربط بها سنة ربانية كونية إلهية في حتمية انهيار واندثار الأمم والحضارات التي تخالف شرع الله، وإن طال الزمن، أو مكن لها في الأرض فإن الله -تعالى- من سننه أنه يهلكها.
ونحن اليوم بعد ما رأينا انهيار الشيوعية، وتحطم الإمبراطورية السوفيتية الشيوعية الاشتراكية؛ سنرى بمشيئة الله -تعالى- قريبًا انهيار الرأسمالية، وتحطم العالم الغربي، وسيكون السقوط مدويًا.
ذلك العالم المبني على الربا ومخالفة شرع الله في الشرك والكفر، وتحدي الله، والخروج على دينه، وقد فشا فيهم الزنا والربا فاستحقوا غضب الله.
استثمار قصة حنين
لقد استثمرت في القرآن قصة حنين وتلك المعركة في بيان أن النصر لا يكون إلا من عند الله، لا بالكثرة ولا بالقوة العددية والمادية، فقال تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 25 - 27].
فلما أعجبت المسلمين كثرتهم وعددهم، وكان فيهم حدثاء عهد، أراد الله -تعالى- أن يلقنهم درسًا عظيمًا يعلمهم فيه حقيقة النصر ووجوب الاعتماد عليه، والتوكل عليه، لا على الكثرة ولا على العدة، وحثهم على توثيق الصلة به، وطلب النصر منه، والتوبة إليه، وأن العدد قد يخذل.
استثمار حادثة الإفك
وكذلك جرى في القرآن استثمار حادثة الإفك في بيان خطر النفاق وأهمية ردع الأفاكين، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ [النــور: 11- 12] جرى التعليق في هذه الحادثة على مصير الذين يشيعون الفاحشة في المؤمنين ووعيدهم بالعذاب الأليم، وأهمية تطهير المجتمع من الفسق والفجور، وليس بيان حرمة الزنا فقط، لقد كانت هناك أحكام وآداب كثيرة.
قصص نبوية في التربية بالمواقف والأحداث
وأما بالنسبة للسنة النبوية فقد حفلت باستثمار المواقف والأحداث في بيان كثير من الحقائق والقواعد والمبادئ الشرعية والربانية.
استثمار الحدث في تأصيل رحمة الله بعباده
فاستثمر النبي ﷺ المواقف لتوضيح هذه وغرسها في نفوس أصحابه، فعن عمر بن الخطاب قال: "قدم على النبي ﷺ سبي"، الأسرى من النساء والأطفال بعد المعارك في الجهاد "فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها" ما معنى: "تحلب ثديها؟ يعني قسا من تجمع الحليب فيه وهذا مؤلم للمرأة وهي تسعى تعدو في طلب ولدها، إذا وجدت صبيًا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فهذه المرأة سبيت أخذت في السبي وذهب عنها ولدها، فكانت تبحث عن الولد، ومن شدة ألمها ورحمتها بالصبيان كانت ترضع أي ولد تجده في طريقها وهي تبحث عن ولدها.
قال ابن حجر: وعرف من سياقه أنها كانت فقدت صبيها وتضررت باجتماع اللبن في ثديها، فكانت إذا وجدت صبيًا أرضعته ليخف عنها، فلما وجدت صبيها بعينه أخذته فالتزمته، قال الراوي: فقال لنا النبي ﷺ: أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ هذا مشهد حدث تم استثماره مباشرة، وكان على مرأى من الذين حضروا هذا المشهد أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ ، قلنا: لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال: الله أرحم بعباده من هذه بولدها [رواه البخاري: 5999، ومسلم: 2754].
إذن، تم استثمار الحدث، هذا المشهد لتأصيل شدة رحمة الله بعباده في النفوس، فرحمة الأمة أو الأم بولدها وخاصة الرضيع لا يعرف له مثيل بين الناس.
ولما حصل هذا المشهد أمام الصحابة، المشهد الذي يتأثر له كل صاحب قلب عطوف، انتهز النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه المناسبة ليعرفهم ويذكرهم برحمة رب العالمين بعباده، وأنها أشد من هذه الرحمة التي يرونها أمامهم، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: فالله أرحم بعباده من أرحم الوالدات بولدها، فإن من جعلها رحيمة أرحم منها، كان سفيان الثوري -رحمه الله- يقول: ما أحب أن حسابي، يعني في الآخرة، جعل إلى والدي، ربي خير لي من والدي.
قال الحافظ -رحمه الله-: وفيه ضرب المثل بما يدرك بالحواس لما لا يدرك بها لتحصيل معرفة الشيء على وجهه، وإن كان الذي ضرب به المثل لا يحاط بحقيقته؛ لأن رحمة الله يعرف معناها، لكن لا يحاط بها، فقرب النبيﷺ هذا للسامعين بحال المرأة المذكورة تقريبًا وإلا فرحمة الله أعظم، ولا يمكن الإحاطة بها.
وعن أنس قال: "مر النبي ﷺ في نفر من أصحابه وصبي في الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ، فأقبلت تسعى وتقول: ابني، ابني، وسعت فأخذته، فقال القوم: يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار، فخفضهم النبي ﷺ سكنهم، فقال: ولاء الله -عز وجل- لا يلقي حبيبه في النار [رواه أحمد: 12018، قال ابن كثير: "إسناده على شرط الصحيحين"].
وقال بعض الزهاد لبعض الفقهاء: أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم [المائدة: 18] لو كنتم أحباؤه حقيقة لم يعذبكم إذن؟
قال ابن كثير: وهذا الذي قاله حسن وله شاهد في المسند للإمام أحمد، حدث أمام النبي ﷺ من سعد بن عبادة كلام شديد يدل على غيرته القوية، فقال: يا رسول الله لو وجدت مع أهلي رجلًا لم أمسه حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال رسول الله ﷺ: ((نعم)) قال: كلا والذي بعثك بالحق إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك، فقال ﷺ: أتعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين المنذرين، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة [رواه البخاري: 7416، ومسلم: 1499].
استثمار الخضر -عليه السلام- مع موسى -عليه السلام-
الخضر استثمر مشهدًا في تبيين حقيقة عن الله -تعالى- لموسى ، فجاء في حديث ابن عباس عن الخضر وموسى: فلما ركبا في السفينة جاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، فقال الخضر لموسى: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر" [رواه البخاري: 122، ومسلم: 2380].
وفي لفظ قال: "ما علمك وعلمي وعلم الخلائق في علم الله إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره" [رواه البخاري: 4727].
هذا الموقف قد يمر عليك أنت وولدك على شاطئ البحر مثلًا، فهل فكرت في استثمار مثل هذا الموقف في بيان مثل هذا المفهوم والمعتقد؟
النبي ﷺ فعل أيضًا شيئًا مشابهًا مع أبي ذر فيما رواه لنا من القصة التالية أن رسول الله ﷺ رأى شاتين تنتطحان، فقال: يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان؟ قال: لا، قال: لكن الله يدري وسيقضي بينهما [رواه أحمد: 21438، وصححه الألباني].
إذن، تناطح الأكباش ليس عبثيًا، له سبب، لكن نحن ما نفهم لماذا؟ وهي لا تتكلم، لكن الله يدري.
استثمار النبي -عليه الصلاة والسلام- لقصة الحبشة
كذلك النبي ﷺ لما قصوا عليه شيئًا رأوه بأرض الحبشة استثمر ذلك أيضًا في بيان حقائق مهمة بأمور اليوم الآخر، فعن جابر قال: "لما رجعت إلى رسول الله ﷺ مهاجرة البحر، الذين ذهبوا إلى الحبشة، قال: ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة، قال فتية منهم: بلى يا رسول الله، بينا نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائز رهابينهم.
إذن، هذه عجوز متدينة على شريعة عيسى ، تحمل على رأسها قلة من ماء، فمرت بفتى منهم، شاب طايش، فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها فخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت العجوز قامت من سقطتها، التفتت إليه، فقالت: سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدًا؟ فقال رسول الله ﷺ: صدقت، صدقت، كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟ [رواه ابن ماجه: 4010، وحسنه الألباني].
فبعد سماع هذه الحادثة النبيﷺ انتهز الفرصة لتهيؤ النفوس ليقرر المبدأ العظيم أن الأمة التي لا تنتصر للمظلوم من الظالم، ولا تنصر الضعيف على القوي الذي ظلمه، فإن الله لا يقدسها ولا يبارك فيها، فالعدل أساس تقوم عليه الأمم، وبالظلم تزول.
استثمار الحوادث الكونية
الحوادث الكونية كيف يمكن استثمارها؟ لما حصل الكسوف على عهد النبي ﷺ كسفت الشمس يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله ﷺ، لا يمكن يفوت الفرصة ولا أن يؤخر البيان، إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي [رواه البخاري: 1060].
فإذن، كان أهل الجاهلية يعتقدون أن موت عظيم في الأرض يترتب عليه حدوث تغير أو ضرر فيها، فالنبي ﷺ انتهز الفرصة ليبين بطلان هذا الاعتقاد، وأن الشمس والقمر خلقان مسيران مسخران ليس لهما سلطان على غيرهما ولا قدرة للدفع عن أنفسهما، يدوران بنظام دقيق قدره الله: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يــس: 38-39]، فهذه آي الكسوف آية دالة على عظمة الله وقوته، يخوف الله بها عباده فيفزعوا إلى الصلاة، ويكثروا التضرع والذكر والاستغفار، والعتق والصدقة؛ استعدادًا لليوم العظيم الذي يذهب فيه ضوء الشمس ونور القمر.
كان أهل الجاهلية عندهم اعتقاد معين في الشهب التي تسقط فجأة في السماء تلمع، عن ابن عباس قال: "بينما رسول الله ﷺ جالس في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم فاستنار، فقال لهم رسول الله ﷺ: ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية إذا رأيتموه؟ قالوا: كنا نقول: يولد عظيم أو يموت عظيم، فقال رسول الله ﷺ: فإنه لا يرمى به لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا إذا قضى أمرًا سبح له حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح إلى هذه السماء، الأولى، ثم سأل أهل السماء السادسة أهل السماء السابعة، ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ماذا قال، ثم يستخبر أهل كل سماء حتى يبلغ الخبر أهل السماء الدنيا، وتختطف الشياطين السمع، فيقذفون إلى أوليائهم، فيرمون يقذفون بالشهب، فما جاؤوا به على وجهه، ما وصل قبل الاحتراق فهو حق، ولكنهم يحرفونه ويزيدون [والترمذي: 3224، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الترمذي: 3224].
وعند البخاري من حديث أبي هريرة: فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع هكذا واحد فوق الآخر...، فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي به إلى صاحبه فيحرقه، وربما لم يدركه حتى يرمي بها إلى الذي يليه، إلى الذي هو أسفل منه، حتى يلقوها إلى الأرض، فتلقى على فم الساحر، فيكذب معها مائة كذبة، فيصدق فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقًا للكلمة التي سمعت من السماء [رواه البخاري: 4701] فتحفظ الصادقة ويبنى عليها أن كل كلامه الآخر الذي كذبه سيكون حقًا وسيقول الناس قال كذا وصار فعلًا، وكانت تلك صادقة، لكن يكذب معها مائة كذبة، وينتشر الكذب بين الناس ويبنون على المرة الوحيدة من المائة التي صدق فيها.
فلما رأى النبي ﷺ استنارة النجم سألهم عما كانوا يقولون عن هذا في الجاهلية.
هو استثمر حدث سماوي، صار أمام الجميع، لمع نجم فجأة شهاب، والنبي ﷺ يعلم ماذا كانوا يقولون في الجاهلية، لكن أراد أن يجيبوه ليعلق على الجواب، ويبين العقيدة الصحيحة، ويبطل عقيدة الجاهلية، وأن الشهب التي يرمى بها لا تكون لسبب حدث في الأرض، وإنما يكون عن أمر حدث في السماء، وأن الرمي بها لطرد الشياطين المسترقة، وحدث أن النبي ﷺ فعل شيئًا قريبًا من هذا في الحديبية، فعن زيد بن خالد الجهني قال: "صلى بنا رسول الله ﷺ صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل" يعني مطر، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب [رواه البخاري: 1038].
فهذا استثمار لموقف هطول الأمطار، لحدث نزول الأمطار، وكان الناس يعيشون في أجواء ذلك الحدث ليبين لهم عليه الصلاة والسلام العقيدة الصحيحة، وأن الكواكب والنجوم لا تأثير لها في نزول الأمطار، وأن ذلك إلى الله .
ومن الأمثلة أيضًا على استثمار الشيء الطبيعي في توضيح قضية عقدية كبيرة ما فعله النبي ﷺ يومًا إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: أما إنكم سترون ربكم، كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا [رواه البخاري: 554 ومسلم: 633].
كما ترون هذا القمر رؤية محققة عينية حقيقية واضحة بلا مشقة، كل واحد يراه وهو مرتاح، كما أن هذه الرؤية حقيقية عينية سترون ربكم بأعينكم حقيقة يوم القيامة: لا تضامون لا يلحقكم ضيم في الرؤية، والتشبيه هنا للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي، فالنبي ﷺ انتهز فرصة أن البدر أمامهم واضح جدًا في السماء ليبين لهم هذه العقيدة، وهي عقيدة رؤية الله -تعالى- يوم القيامة، وندبهم للصلاة وأن يحافظوا على صلاة العصر والفجر، وما أكثر ما يضيعا على الناس، وخص هذين الوقتين لاجتماع الملائكة فيهما ورفع أعمال العباد إلى الله عند وقتهما، وأن رؤية الله ترجى بالمحافظة على صلاة الفجر وصلاة العصر والصلوات عمومًا، لكن هذه من أشق الصلوات.
انتهاز الأحداث أيضًا الكونية في الموعظة فعله عمر ، عن نافع عن صفية قالت: "زلزلت المدينة على عهد عمر ، فقال: أيها الناس ما هذا؟ ما أسرع ما أحدثتم وغيرتم وبدلتم، لئن عادت لا أساكنكم فيها"[رواه ابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات: 20].
فأراد الفاروق أن يربط ما بين الزلزال وبين المعاصي، وقال: هذا الزلزال حدث بذنوب، معاصي بني آدم تؤثر بدليل قوله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41]، فمصائب، زلازل، أعاصير، وأوبئة، ونحو ذلك، هي نتيجة ذنوب العباد: وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ [النساء: 79].
وللأسف فإن بعض من ينتسب إلى العلم الدنيوي اليوم مغترًا به يقول: لا، ما في علاقة، هذه الطبيعة، ما لها دخل بالمعاصي، هذه ظواهر طبيعية وأشياء فلكية، لماذا أنتم -يا أيها المتدينون المتزمتون- تربطون هذه الأحداث بالمعاصي؟ أيش دخل المعاصي؟
هذه الزلازل نتيجة تحرك صفائح الأرض وكذا وكذا، والأعاصير منخفضات صارت كذا هبت بسببها حصل.
فمن استيلاء الغفلة عليهم يكتفون بالسبب الظاهر، ولا يربطون مع السبب الباطن الذي يعلمه الله وبينه لنا في النصوص الشرعية، ما يربطون به، لماذا؟
لأن هؤلاء الدنيويين العلمانيين المنافقين لا يريدون شيئًا يذكر الناس بالله ولا باليوم الآخر، يريدونها غفلة عن الآخرة، يريدونها دنيوية بحتة، يشمئزون من ربط الدين بهذه الأشياء وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ [الزمر: 45] نفوس هؤلاء وقلوبهم مباشرة، حدث مثل هذا في التاريخ الإسلامي من قبل لكن عند المغفلين وليس عند الغافلين، فروى ابن الجوزي في كتاب: "أخبار الحمقى والمغفلين": أن ريحًا شديدة هبت يومًا، فأقبل الناس يدعون الله ويتوبون إليه، فصاح جحا: يا قوم لا تعجلوا بالتوبة إنما هي زوبعة وتسكن، هذا واحد مغفل، لكن هؤلاء، لا، هؤلاء غافلون عن الآخرة ولا يريدون الربط.
استثمار الحدث في بيان حقيقة الدنيا والزهد فيها
كذلك النبي ﷺ أراد أن يبين حقيقة الدنيا والزهد فيها، وأنها لا تساوي شيئًا عند الله باستثمار مشهد معين مر عليه هو وأصحابه، فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: أن رسول الله ﷺ مر بالسوق داخلًا من بعض العالية والناس كنفته، يعني بجانبه، فمر بجدي أسك صغير الأذنين ميت فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حيًا كان عيبًا فيه أنه أسك، كان عيبًا فيه لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال ﷺ: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم [رواه مسلم: 2957] يعني الدنيا بزروعها وثمارها وجناتها وقصورها ومراكبها وذهبها وفضتها وكنوزها ولباسها ورياشها وأثاثها كلها، كل هذه الدنيا بناطحات سحابها وطائراتها كل هذه الدنيا بأسواقها ومطاعمها لا تساوي عند الله ولا جناح بعوضة، وهي أحقر عند الله من هذا الجدي الميت عليكم، والنبي ﷺ من كمال بيانه وفصاحته ونصحه في الأمة أراد أن يبين لهم حقارة الدنيا منتهزًا وجود هذا الجدي الأسك.
وهذا يرسخ في النفس هذه الحقيقة، الزهد في الدنيا.
وقريب من هذا ما جاء عن الفضل بن الربيع، ولعل ابن السماك الزاهد تأسى بالنبي ﷺ بهذا في مجلس هارون الرشيد فيما رواه عنه الفضل بن الربيع قال: "كنت واقفًا بين يدي الرشيد إذ دخل عليه ابن السماك فاستسقى الرشيد، طلب ماء، فأتي بقلة فيها ماء مبرد، فلما رفعه ليشربه قال له ابن السماك: على رسلك يا أمير المؤمنين بكم كنت مشتريًا هذه الشربة لو منعتها؟ لو ما في إلا بفلوس، أكثر شيء تدفع فيها كم؟ قال: بنصف ملكي، أنا عطشان، لو منعتها مستعد أدفع نصف ملكي، فقال: اشرب هنيئًا، فلما شرب قال أرأيت لو منعت خروجها من بدنك بكم كنت تشتري ذلك؟ قال: بملكي كله، فقال: إن ملكًا قيمته شربة ماء لخليق أن لا يتنافس فيه، فبكى هارون.
استثمار الحدث في التذكير بنعم الله
النبي ﷺ كان يؤتى أحيانًا بأشياء من ملوك الأرض بنفائس فيستثمر حضور بعض هذه في التذكير بنعيم الجنة؛ فعن البراء بن عازب قال: أهديت لرسول الله ﷺ حلة حرير فجعل أصحابه يلمسونها ويعجبون من لينها، فقال أتعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين [رواه البخاري: 3802، ومسلم: 2468].
ففي لحظة إعجابهم بهذا اللباس الناعم المصنوع من الحرير ذكرهم النبي ﷺ بحرير الجنة، وأن أدنى ملابس أهل الجنة خير من هذا الذي خطف الأبصار وتبادرته الأيدي، قال العلماء: هذه إشارة إلى عظيم منزلة سعد في الجنة، وأن أدنى ثيابه فيها خير من هذه؛ لأن المنديل أدنى الثياب، لماذا؟
لأن المنديل معد لتلقي الوسخ والامتهان يمتخط فيه ويبصق فيه، فإذا كان المناديل من هذا، مناديل سعد في الجنة خير من هذا وألين، فكيف بثياب سعد في الجنة، وأراد النبي ﷺ أن لا تتعلق قلوب أصحابه بهذه وأن هذا يخطف الألباب، وأراد أن يذكرهم في هذه اللحظة لحظة الإعجاب لما أعجبوا بشيء من الدنيا، أراد أن يذكرهم بنعيم الآخرة، وهذا موقف تربوي عظيم في الحقيقة من النبي ﷺ.
استثمار حادثة سبق ناقته العضباء
ومن الحوادث التي حدثت في العهد النبوي واستثمرت استثمارًا فائقًا في بيان أنه لا يعلو شيء في الدنيا إلا يضعه الله ، حديث العضباء كانت ناقة النبي ﷺ تسمى: العضباء لا تكاد تسبق، فجاء أعرابي على قعود فسبقها، مرة من المرات أعرابي على قعود سبقها، فاشتد ذلك على المسلمين، وقالوا: سبقت العضباء! فقال ﷺ: حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه [رواه البخاري: 6501].
هذا فيه تزهيد في الدنيا، وأنه لا يعلو شيء في الدنيا إلا وينزل بعد ذلك.
استثمار المؤمنين في قصة قارون
وقد استثمر المؤمنون في قصة قارون الحدث لما صار استثمارًا عظيمًا، لما خرج قارون وما معه ومن معه فذكروا قومهم، ولما صار الخسف فعلًا الناس تذكرت كلام أهل العلم، والله عقب على ذلك بقوله: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83].
هناك مشاهد يومية تحدث يمكن أن يراها الإنسان كل يوم، مثلًا فرن الخباز يستثمر في أشياء: هذه نار جزء من سبعين جزء من نار جهنم [رواه البخاري: 3265، ومسلم: 2843].
عن عبيد الله قال: "مر مالك بن دينار على رجل يغرس فسيلًا، فغبر عنه يسيرًا ثم مر بالفسيل وقد أطعم، فسأل عن الذي غرسه فقالوا: مات.
إذن، هو مر به يغرسه، وبعد مدة وقد أثمر الفسيل جاء عند الفسيل وسأل عنه، أين الذي غرسه؟ قالوا: مات، فأنشأ يقول:
مؤمل دنيًا لتبقى له | فمات المؤمل قبل الأمل |
يربي فسيلًا ويعنى به | فعاش الفسيل ومات الرجل |
وقال آخر:
قد يقطع الثوب غير لابسه | ويلبس الثوب غير من قطعه |
ويجمع المال غير آكله | ويأكل المال غير من جمعه |
ويرفع البيت غير ساكنه | ويسكن البيت غير من رفعه |
استثمار حال تشييع الجنائز
في حال تشييع الجنائز تكون القلوب رقيقة وحاضرة، والتأثير يكون في أوجه، النبي ﷺ كان يستثمر مثل هذا، فيقول البراء بن عازب: "خرجنا مع النبي ﷺ في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله ﷺ وجلسنا حوله، وكأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض فرفع رأسه، فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثة، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه ... الحديث بطوله، وقص علينا فيه عذاب القبر فتنة القبر ونعيم القبر.
وعن علي بن أبي طالب قال: "كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله ﷺ فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكسه فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ما منكم من أحد وما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار وإلا قد كتب شقية أو سعيدة [رواه البخاري: 1362، ومسلم: 2647].
وعن البراء بن عازب قال: "بينما نحن مع رسول الله ﷺ إذ بصر بجماعة فقال: على ما اجتمع عليه هؤلاء؟ قيل: على قبر يحفرونه، ففزع رسول الله ﷺ فبدر بين يدي أصحابه مسرعًا حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه، فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بل الثرى من دموعه، ثم أقبل علينا فقال: أي إخواني لمثل هذا اليوم فأعدوا [رواه أحمد: 18601، وهو حديث حسن].
دخل أبو العتاهية على الرشيد حين بنى قصره وقد زخرف منازله، وأكثر الطعام والشراب واللذات، واجتمع إليه خواصه، فقال له الرشيد: صف لنا ما نحن فيه من العيش والنعيم؟
فأنشأ أبو العتاهية يقول:
عش ما بدا لك سالماً | في ظل شاهقة القصور |
فقال: أحسنت، ثم ماذا؟
فقال:
يسعى عليك بما اشتهيت | لدى الرواح وفي البكور |
فقال: أحسنت، ثم ماذا؟
قال:
فإذا النفوس تقعقعت | في ظل حشرجة الصدور |
فهناك تعلم موقنًا | ما كنت إلا في غرور |
فبكى الرشيد بكاء شديدًا.
فقال الفضل بن يحيى، وهو من البرامكة، من أهل السوء: دعاك أمير المؤمنين لتسره فأحزنته، يعني عجبك العمل هذا الذي فعلته؟ فقال له الرشيد: دعه فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا عمى.
استثمار المواقف في تربية النفس
قد يذكر المرء نفسه ويربيها من خلال مواقف تمر بها، عن مالك بن دينار، قال: "قدمت من سفر لي، فلما صرت بالجسر جاءت السفينة إلى المرفأ وجاءت عند الحجز قام العشار صاحب الضرائب المكوس، فقال: لا يخرجن من السفينة ولا يقوم أحد من مكانه، كل واحد مكانه حتى نأخذ الضرائب، نشوف كل واحد أيش عنده، ماذا جلب معه لنعشره؟ يقول مالك بن دينار: فأخذت ثوبي فوضعته على عنقي ثم وثبت فإذا أنا على الأرض، فقال: ما أخرجك؟ أيش طلعك من مكانك أنا ما أعطيتكم الأوامر؟ قلت: ليس معي شيء، لا يوجد عندي عفش ولا متاع ولا تجارة ولا شيء، قال: اذهب، فقلت في نفسي: هكذا أمر الآخرة، يعني اللي يعيش خفيف الحساب خفيف، واللي يطلع ثقيل الحساب عسير، كلما كان أقل كان أخف، أقصر في الحساب، الدنيا لا تخلو من مصائب لكن المصائب أيضًا يمكن أن تستثمر: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد: 4].
وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام: 42-43].
فإذن، الله يقدر الأحداث والأمراض والأعراض والإصابات والجراحات ونقص في الأموال والأنفس، ويقدر نقصًا في الأموال والأنفس والثمرات، ويقدر ابتلاءات لتلين القلوب لتعود إلى الله لتتوب النفوس لتستغفر.
استثمار المواقف في التربية على الأخلاق الفاضلة
وأيضًا يمكن أن تستثمر هذه المواقف في تربية الأخلاق الفاضلة، وإنعاش مبادئ الأخلاق الفاضلة في النفوس، يحكى أن أحد الحكماء كان ماشيًا مع ابنه خارج المدينة وقد سلك واديًا عميقًا تحيط به جبال شاهقة، وأثناء سيرهما تعثر الطفل في مشيته فسقط على ركبته وصرخ، فإذا به يسمع صوتًا من أقصى الوادي يجيبه مثل صوته، فتعجب الولد الطفل، طبعًا ما يعرف ظاهرة الصدى، فسأل في دهشة: من أنت؟ فإذا الجواب يرد عليه: من أنت؟ فصاخ غاضبًا: أنت جبان؟ فنفس القوة جاءت: أنت جبان، فجاء هنا دور الأب الحكيم، فطلب من الولد أن يقول كلامًا طيبًا: أنت كريم، فرد عليه: أنت كريم، فذهل الطفل مما يسمع، فقال الحكيم لولده: أي بني هذا الصدى يعلمنا في الدنيا أن الإنسان يعطى بقدر ما يعطي، ويعامل مثل ما يعامل، فإذا أردت أن ترحم فارحم، وإذا أردت أن تستر فاستر على غيرك.
جاء عن أبي قلابة أنه قال: مر على أبي الدرداء برجل يقاد في حد أصابه فنال القوم منه، المقبوض عليه هذا، فقال: لا تسبوا أخاكم واحمدوا الله أن عافاكم، ثم قال: أرأيتم لو رأيتموه في قليب، وقع في بئر أكنتم مستخرجيه؟ قالوا: نعم، قال: فلا تسبوا أخاكم واحمدوا الله الذي عافاكم، فقيل له: أفلا نبغضه؟ قالوا له: أفلا تبغضه؟ فقال: إنما أبغض عمله فإذا تركه فهو أخي.
استثمار الحوار في حياة القلوب
أحيانًا يقع حوار، فيه جملة في الحوار تستحق تعليقًا، وانظروا كيف أن كثيراً من القصص فيها ربط الإنسان بالله ، فيها ربط الإنسان باليوم الآخر، فيها ربط الإنسان بحقائق الإيمان، فيها ربط بأشياء تحيا بها القلوب؟ عن أبي موسى قال: "أتى النبي ﷺ أعرابيًا فأكرمه الأعرابي"، لأن النبي ﷺ يحب أن يعطي مقابل حتى ما يكون لأحد فضل عليه، قال للأعرابي: "ائتنا، فأتاه بعد ذلك الأعرابي" ومن الإسلام رد المعروف، فقال ﷺ للأعرابي: سل حاجتك؟ قال: ناقة نركبها، وأعنز يحلبها أهلي، فقال رسول الله ﷺ: عجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل قالوا: يا رسول الله وما عجوز بني إسرائيل؟ قال: إن موسى لما سار ببني إسرائيل من مصر ضلوا الطريق فقالوا: ما هذا؟ فقال علماؤهم: إن يوسف لما حضره الموت أخذ علينا موثقًا من الله أن لا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا، يوسف لما مات مات بمصر، وقد جمع علماء بني إسرائيل قبل أن يموت، وأخذ عليهم عهدًا أن ينقلوا عظامه من مصر، والمقصود بالعظام الجسد كله؛ لأن أجساد الأنبياء لا تبلى، فكان يوسف يريد أن يدفن جسده في الأرض المقدسة وليس بمصر، فأخذ عليهم العهد، ما نفذوا وصيته، ولذلك لما خرجوا مع موسى بعد موت يوسف بمدة وحصول ما حصل، لما خرجوا من مصر يريدون الأرض المقدسة تاهوا عن الطريق، ولما تساءلوا عن السبب، تكلم أولئك الذين عندهم الخبر الأول، وقالوا: يوسف أخذ علينا العهد كذا، ولأننا لم ننفذ وصيته هذا سبب ضلال الطريق، قال موسى: فمن يعلم موضع قبره؟ قالوا: عجوز من بني إسرائيل هي الباقية من ذلك الزمان تعرف مكان قبر يوسف ، فبعث إليها فأتته، فقال لها: دليني على قبر يوسف، قالت: حتى تعطيني حكمي، ما أدلك حتى تلبي رغبتي، قال: وما حكمك؟ قالت: أن أكون معك في الجنة، فكره أن يعطيها ذلك، فأوحى الله -تعالى- إليه أن أعطها حكمها، هذا من الله، فانطلقت بهم إلى بحيرة، موضع مستنقع ماء، فقالت: أنضبوا هذا الماء فنضبوه، فقالت: احتفروا فاحتفروا، فاستخرجوا عظام يوسف ، يعني جسده، فلما أقلوها إلى الأرض إذ الطريق مثل ضوء النهار [رواه أبو يعلى: 7254، وابن حبان: 723، وصححه الألباني].
إذن، النبي ﷺ استثمر قصة العجوز هذه ليلقن الأعرابي درسًا، ماذا تطلب؟ ماذا تريد؟ قل: أريد مرافقتك في الجنة، قل شيئًا من أمور الآخرة، تقول: أريد أعنز وناقة، هلا سألت الآخرة؟
استغلال الحدث في بيان مقاصد الشريعة
وجاء في كتب السير والأدب: أن عبد الله بن قاسم قال: بعث إلي أحمد بن طولون والي مصر في عام مائتين وأربع وخمسين للهجرة بعد أن مضى من الليل نصفه، فوافيته وأنا منه خائف مذعور، ودخل الحاجب بين يدي، وأنا في أثره حتى أدخلني إلى بيت مظلم، فقال لي: سلم على الأمير فسلمت، فقال لي ابن طولون من داخل البيت وهو في الظلام: لأي شيء يصلح هذا البيت؟ قلت للفكر، تدبر تفكر تأمل اعتبار، قال: ولم؟ قلت: لأنه ليس فيه شيء يشغل الطرف بالنظر فيه، قال: أحسنت، امض إلى ابني العباس فقل له: يقول لك الأمير: اغد علي وامنعه من أن يأكل شيئًا من الطعام إلى أن يجيئني فيأكل معي، فقلت: السمع والطاعة، وكان العباس قليل الصبر على الجوع، ابنه هذا كان ما يطيق أن يجوع، يحب الأكل جدًا، فرام شيئًا يسيرًا قبل ذهابه إلى أبيه؛ لأن هناك مدة حتى يصل، فأراد أن يأكل شيئًا، قال: فمنعته بناء على التعليمات، فركب إليه وجلس بين يديه وأطال أحمد بن طولون عمدًا، حتى علم أن العباس ولده قد اشتد جوعه وأحضرت مائدة ليس عليها إلا بوارد من البقول المطبوخة، فانهمك العباس في أكلها لشدة جوعه، حتى شبع من ذلك الطعام، فجاءه أيضًا بطعام رديء من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، حتى شبع من ذلك الطعام، وأبوه متوقف عن الانبساط في الأكل، أبوه أكل شيئاً يسيراً، فلما علم أنه قد امتلأ من ذلك الطعام أمرهم بنقل المائدة، وأحضر كل لون طيب من الدجاج والبط والجدي والخروف، فانبسط أبوه في جميع ذلك فأكل وأقبل يضع بين يدي ابنه منه فلا يمكنه الأكل لشبعه، فقال له أبوه: إنني أردت تأديبك في يومك هذا بما امتحنتك به، لا تلق بهمتك على صغار الأمور بأن تسهل على نفسك تناول يسيرها، فيمنعك ذلك من كبارها، ولا تشتغل بما يقل قدره، فلا يكون فيك فضل لما يعظم قدره، التعليم بمثل هذا، كيف كان عقلاء الأمراء من زمان يؤدبون أولاده؟
واستغلال الحدث لبيان مقاصد الشريعة أيضًا هو نوع من هذا، فالنبي ﷺ في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد قال: دعوه وأهريقوا على بوله ذنوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين .
كيف استثمر هذا الموقف في بيان مقصد من مقاصد الشريعة وصفة من صفاتها وهو الرفق بالمكلفين والتيسير والرحمة بهم، وعدم التعسير والإعنات؟ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحـج: 78].
ويقول أحد أهل العلم في التعليق على الحديث: وحبس البول يحصل لصاحبه ضررًا فكان فيه زيادة ضرر على تنجيس المسجد بعد وقوعه، بالإضافة إلى قضية انتشار النجاسة.
وربما ابتلي من تجاوز أمره وتأديبه بأشد مما وقع فيه الجاهل؛ كما حكى لي صاحبنا الشيخ الإمام القدوة شمس الدين محمد بن صديق الجناني -رحمه الله- قال: كنت في المسجد الحرام فرأيت رجلًا بال في المسجد فتغيظت عليه وزدت في تعنيفه ثم ألزمته أن حمل ذلك الحصباء الذي تنجس ببوله في ثوبه حتى أخرجه من المسجد، لأنه كان في زحمة الموسم، فخشيت أن يطأه الناس ويتنجسوا به قبل تطهيره، ثم تذكرت قول النبي ﷺ: لا تزرموه ، فندمت على إفحاشي عليه، وربما كان جاهلًا أو سبقه بغير اختياره، يعني خرج منه البول رغمًا عنه، فابتليت في ذلك اليوم بأن سبقني البول في إزاري وردائي وأنا محرم، وكان عنده تحرز في الطهارة، وربما جاوزه إلى الوسوسة، يعني هذا العالم، فخرجت من المسجد وبقيت حائرًا أين أتطهر وأطهر إحرامي مع اجتماع الناس، وكثرتهم على المياه بمكة، كيف أزيل الإزار في الزحمة هذه؟ فذهبت إلى فساقي باب المعلي والزحام عليها فاستقبلني رجل من السقايين الذين في الركب لا أعرفه ولا أذكر أني رأيته قبل ذلك، فقال لي: أهلًا وسهلًا بحبنا الموسوس، كأنك تريد تتطهر؟ فقلت له: نعم، فأعطاني شيئًا استترت به، ثم نزع إزاري وردائي ودعا صبيانه، فأمسك بعضهم الإزار والرداء، وأمر بعضهم فطهرهما، وأفرغ بالدلو من ماء كثير عليهما حتى طابت نفسي بتطهيرهما، ووقف الصبيان بهما في الهواء حتى جفا، وأمرهم فصبوا علي حتى طابت نفسي بحصول الطهارة، ثم ألبسوني إحرامي، وقال لي: آنستنا اليوم، ورحب بي فصرت متعجبًا من وقوع مثل هذا من هذه الطائفة، وعلمت أن ذلك بندمي على إفحاشي على الذي سبقه البول في المسجد الحرام [القصة في طرح التثريب للحافظ العراقي -رحمه الله-].
استثمار يوسف عليه السلام لحادثة الرؤيا في عرض التوحيد
يوسف لما كان في السجن وجاءه الفتيان يسألانه عن الرؤيا، استثمر الموقف مباشرة في عرض قضية التوحيد، وأنه لا يعبد إلا الله، وأن الله له الحكم وليس لفرعون ولا لعظيم مصر الحكم، وأن الحكم لله، وأن الأصنام المعبودات هذه من دون الله مجرد أسماء، وتصحيح العقيدة، وهكذا..
استثمار مواقف الانتصار والهزيمة والعزة والذلة
كذلك ينبغي أن تستثمر مواقف الانتصار والهزيمة والعزة والذلة للتذكير بطاعة الله، فإذا كانت هزيمة يذكر الناس بالعودة إلى الله: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 152].
عن جبير بن نفير قال: "لما فتحت مدائن قبرص وقع الناس يقتسمون السبي ويفرقون بينهم ويبكي بعضهم إلى بعض؛ لأن هذا فرق عن أخيه وهذا عن أخته وهذا عن أبيه وهذا عن ... تفريق السبي على المقاتلين، فتنحى أبو الدرداء ثم احتبى بحمائل سيفه، وجعل يبكي، فأتاه جبير بن نفير، فقال: ما يبكيك يا أبا الدرداء؟ أتبكي في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله، وأذل فيه الكفر وأهله؟ فضرب على منكبيه، ثم قال: ثكلتك أمك يا جبير بن نفير، ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره، بينا هي أمة ظاهرة قاهرة على الناس لهم الملك حتى تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى، موقف انتكاس الظالمين وارتكاس الظالمين ونهاية الظالمين، والذل الذي يذل الله به الظالمين كما رأينا اليوم من نهايات بعض الطغاة، كيف كانوا يعيرون شعوبهم بأنهم جرذان، ثم ساقه الله إلى موضع الجرذان، لا عن تخطيط، لا، كلها مفاجآت في مفاجآت، فلم يجد إلا مكان الجرذان ليختبئ فيه ليؤخذ مقبوحًا منبوحًا مذمومًا مدحورًا مدفوعًا ويقتل، شيء مذهل مذهل.
استثمار المواقف في بيان الوسطية الحقيقية
وكذلك تستثمر المواقف في بيان وسطية الدين الحقيقية لا وسطية التنازلات والتساهلات، النبي ﷺ لما قال للعباس وهو داخل منى: القط لي، يعني حصى الجمرات، قال: فلقطت له حصيات هن حصى الخذف، هذا من فقه ابن عباس وهو صغير، فلما وضعتهن في يده قال: "بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين [رواه النسائي: 3057، وهو حديث صحيح].
استثمار الأزمة الاقتصادية العالمية في بيان عظمة وصحة دين الإسلام
الأزمة الموجودة اليوم في العالم، الأزمة الاقتصادية وصلت ديون أمريكا إلى خمسة عشر تريليون بحسب العداد الموجود على الصفحة الرسمية للحكومة الأمريكية، وصل عدد الفقراء في أمريكا بحسب الإحصائية الرسمية الأمريكية التي أذيعت أمس إلى تسعة وأربعين مليون أمريكي، وهذا عدد لم تصل إليه نسبة الفقراء من قبل، وأسعار الأشياء لديهم في انهيار، ثم نجد أيضًا الكارثة الكبرى في أوروبا ودول تفلس، اليونان تفلس، إيطاليا تفلس، البرتغال تفلس، إسبانيا على الإفلاس، وهكذا في متواليات، يقول أحد خبرائهم: نحتاج عشر سنين لمعالجة الوضع، اليوم المستشارة الألمانية تقول: وضع أوروبا صعب للغاية، وأوروبا تتوسل الصين، وتستجدي منها أن تدعم صندوق دعم المصارف الأوروبية، يستجدون الصين والصين تقول: ما في ضمانات كافية، نعطيكم على أيش؟ الهند تقول: إن الوضع في أوروبا يقلقنا، ثم يثور الناس في أمريكا وأوروبا على الرأسمالية، الرأسمالية الجشعة، الرأسمالية البغيضة، الرأسمالية الأنانية، الرأسمالية التي فيها مصلحة الفرد على مصلحة الجماعة، رأسمالية الربا والربا والفوائد المركبة، الرأسمالية الوحشية المتوحشة التي تأخذ من الإنسان بيته وسيارته وإذا عنده ورشة أو مطعم أو مؤسسة، عجزت عن تسديد الديون، هات ما عندك، رموه، واحد يصير من غير بيت ولا سيارة ولا عمل، وعلى المعونات، خمسون مليون فقيراً في أمريكا، الله أكبر، ما هذا الإذلال؟ أوروبا تستجدي من الصين والهند تعلق عليها، ما هذا الذل؟
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً [الشعراء: 8]، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ [النــور: 44].
هذه نهاية الربا: يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا [البقرة: 276].
هذا أوان نحن نستثمر اليوم لنبين عظمة دين الإسلام وصحة دين الإسلام، سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53].
ونبين لهم حقيقة مبادئهم وحقيقة الرأسمالية، الديمقراطية، والحرية البهيمية إلى أين تصل؟ وسيأتي من الأخبار من انهيارات أولئك القوم والله أعلم ما سيفغر به بعض الناس أفواههم دهشة سيفغرون له أفواههم دهشة، وعندما يصبح ليس فقط الناس لا يستطيعون سداد القروض لتؤخذ بيوتهم وسياراتهم ومحلاتهم، وإلى آخره، وإنما دول تفلس ويتلاعب بسندات خزينتها، تنزل في الأرض الأسعار، ويتلاعب ببورصات شركاتها، وتخسف الأسعار في الأرض، وتنهار العملات فماذا سيبقى؟ وإذا كان اقتصادهم قائمًا على الربا، ما حد يفتح مصنع إلا بربا قرض ربوي، مشروع قرض ربوي، تمويل قرض ربوي، رواتب عمال قرض ربوي، شراء مواد خام قرض ربوي، استيراد من الخارج قرض ربوي، كل شيء بالربا، لما تشح السيولة وما في مجال للإقراض وترتفع أسعار الفوائد، فيصير في الأخير مهما اقترضت مهما كانت أرباحك لن تستطيع أن تسدد الفوائد، تقترض ليه؟ فعند ذلك تتعطل المزارع والمصانع والمنشآت.
وإذا كانت الحكومات هناك تدير الدولة والمنشآت الحيوية، مطارات، مدارس، مستشفيات، إلى آخره، التأمين الصحي، الضمان الصحي، الرعاية الصحية، بماذا؟ بالضرائب، فإذا انخفضت أرباح الشركات وأفلست كثير من المنشآت، الضرائب ماذا سيحدث لها؟ تنزل، إنفاق الدولة ماذا سيحصل له، ينزل، ولذلك الآن ثار الناس في أمريكا وأوروبا ثاروا، لا رعاية صحية ولا.. ولا.. ولا تعلم طيب، وتؤخذ أموالهم ويصيروا فقراء، وعلى بند البطالة، وعلى بند الإعانة.
أنا أرى الآن من أهم المهمات استثمار ما يحدث الآن في التعليق على الحرام، وماذا يولد الانحراف عن شرع الله؟ وماذا ينتج الأنظمة غير الكتاب والسنة غير نظام الإسلام والشريعة الإسلامية ما هي عاقبتها؟ وإثبات صحة دين الإسلام.
من أوجب الواجبات على الدعاة الآن في الموضوع هذا الذي نتكلم عنه استثمار الحدث الذي يحدث فيه، إثبات صحة دين الإسلام وبيان عاقبة من أسسوا بنيانهم على خلاف شريعة الإسلام، والذين فشا فيهم الربا والزنا وماذا كانت عاقبتهم، طبعًا الآن الذي ظهر رأس جبل الجليد، لكن الذي سيأتي والله أعلم أضخم بكثير، والمسألة ليست قضية لا سيبحثون لها عن حل.
هم حاولوا أن يضعوا حلاً فيما مضى لما ظهرت الأزمة في 2008، لكن الآن خلاص رقعوا ورقعوا وأجلوا ورحلوا وأخروا ومددوا، الآن الشق لا رقعة له، اتسع الخرق على الراقع، والمسألة أعظم من أن تستدرك، فلعله يكون من وراء ذلك خير عظيم للإسلام والمسلمين، ونحن لا ندري، هذا الآن قدر الله يجري، لكن نحن نتفاءل أن يكون من وراء ذلك خير عظيم للإسلام والمسلمين.
فنسأل الله أن يعز دينه، وأن يعلي كلمته، وأن ينصر الإسلام وأهله، وأن يذل الشرك وأهله.
ونسأله أن يرحم المستضعفين، ويقصم الطغاة الجبارين، إنه سميع مجيب قريب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.