الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
ثناء الله على الجيل الفريد في كتابه
الحمد الله الذي ابتعث محمداً ﷺ؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وجعل له حواريين وأصحاب، قاموا معه بالدين، وساندوه في الشدائد، حتى استحقوا وصف الخيرية وأن يكونوا خير أمة أخرجت للناس.
ولقد مدحهم الله وأثنى عليهم في أكثر من موضع من كتابه فقال سبحانه: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْالحشر: 8-9 وهم الأنصار، تبوؤوا المدينة قبل المهاجرين يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌالحشر:9 هؤلاء المهاجرون والأنصار. وقال: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِالتوبة: من الآية100. وقال: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِالتوبة: من الآية117وقال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباًالفتح:18، هؤلاء هم أصحاب محمد ﷺ كانوا خير الأمة، وأبرها قلوباً.. قال عبد الله بن مسعود : "إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد ﷺ خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد ﷺ، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه"[رواه أحمد في مسنده برقم (3418)، قال الأرنؤوط: إسناده حسن].
سبقهم في فهم التنزيل لأنهم عايشوا نزوله
هؤلاء الذين شاهدوا التنزيل، وعايشوا نزول الوحي، ولذلك كانت كلماتهم درراً، وكانت أفهامهم حججاً، والشواهد تنطق بذلك فمن ذلك: لما غزى جيش من المسلمين القسطنطينية، وفيهم أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه، فحمل رجل من المسلمين على العدو، اقتحم في جيش الكفار وحده فقال الناس: مه، مه، لا إله إلا الله يلقي بيديه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما نصر الله نبيه، وأظهر الإسلام.
قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها بعد الفتح، فأنزل الله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِالبقرة: من الآية195قال أبو أيوب: فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نقيم في أموالنا ونصلحها، وندع الجهاد في سبيل الله. قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية، دفن على أسوارها .[رواه أبو داود برقم (2151)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (2193)]
فكانوا أفهم الناس للتنزيل، ولذلك عندما يحتج الناس بالآية ويحملونها ما لم تحتمل، ويقولون لمن اقتحم في صفوف الكفار: إنه ألقى بيديه إلى التهلكة، يقوم أبو أيوب الذي عايش التنزيل، وعاش أثناء نزول الوحي؛ ليصحح للناس ويقول: ليس هذا من إلقاء النفس إلى التهلكة؟ بل التهلكة الإقامة على الأموال، الإقامة في الدنيا، وترك الجهاد في سبيل الله.
عرفوا الجاهلية فأنفوها واختاروا الإسلام
عباد الله: هذا الجيل العظيم الذي رباه محمد ﷺ على يديه، تعهدهم فأنبتهم نباتاً، هذه النفوس العظيمة، هذا الجيل الفريد.. جيل التأسيس، كان أول جيل في الإسلام، جيلاً يعرف الجاهلية فقد خرجوا منها، كانوا فيها ولذلك يعرفونها جيداً؛ فلما دخلوا في الإسلام؛ دخلوا عن قناعة تامة بفساد تلك الجاهلية وما فيها، دخلوا وهم يعرفون الخير والشر، فلم تكن لتنطلي عليهم الحيل.
أما اليوم فتجد كثيراً من المسلمين إما أنهم واقعون في الشر بعيداً عن الهداية، وإما أنهم في غفلة عما يراد بهم، لا يدرون عن كثير مما يراد بهم من أهل الشر؛ ولذلك لا يقدرون على الرد على أهل الشر، ولا على الصمود في موجات الشر إذا امتدت إليهم، فهي تكتسحهم لما عندهم من الغفلة، وقلة البصيرة في الشر.
عباد الله: وهذا معنى قول عمر : "لا يعرف الإسلام من لم يعرف الجاهلية"[منهاج السنة النبوية لابن تيمية (2/398)]، وليس المقصود من إيراد هذا الأثر أن الإنسان لا بد أن يدخل في الجاهلية أو يدخل في الشر ويعيش فيه ليعرفه، كلا، لكن المقصود: أن المسلم بما آتاه الله من البصيرة بالكتاب والسنة يعرف الشر فيتوقاه، يعرف الثغرات والعورات لهذا الشر فلا تنطلي عليه الحيل، يعرف كيف يرد على أهل الشر، يعرف مخططاتهم ومكرهم وألاعيبهم وماذا وراءها.
نقاط القوة في الجيل الفريد
عباد الله: إن هذا المجتمع، وهذا الجيل العظيم، وإن كان بينه وبين جيلنا هذا الفرق العظيم، لكن هذا لا يمنعنا من أن نتعرف عليه، وأن نعرف نقاط القوة في ذلك الجيل، وأن نعرف كيف استطاعوا حمل الدين، ولماذا اختارهم الله؟.
لما نزل قول الله في محكم تنزيله:إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌالحجرات: من الآية10عاشوا تلك الأخوة؟ بالرغم من كونهم نزاعاً من القبائل، أماكنهم مختلفة، وأعراقهم وأجناسهم متعددة، ومع ذلك عاشوا في المدينة النبوية متآخين متحابين، آخى النبي ﷺ بينهم، فذهبت الوحشة -وحشة الغربة- بتلك الأخوة، لدرجة أنهم عرض بعضهم على بعض المال والأهل.
قال عبد الرحمن بن عوف: "لما قدمنا المدينة آخى رسول الله ﷺ بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد: إني أكثر الأنصار مالاً، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها، فإذا حلت -يعني: بعد طلاقها وانتهاء عدتها- تزوجتها، فقال له عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟..." الحديث.[رواه البخاري برقم (1907)].
كان الصحابة يتفقد بعضهم بعضاً، يزور بعضهم بعضاً، ويسدد بعضهم بعضاً، وهذا ما فعله سلمان لما زار أبا الدرداء، ووجده على شيء من التقصير في حق أهله مع اجتهاده في العبادة، وهكذا حصل التصحيح.
كانوا أصحاب تضحية في سبيل الله.
يقول أحدهم مرتجزاً:
لئن قعدنا والنبي يعمل | ذاك إذاً للعمل المضلل |
فلم يكونوا يقعدون والنبي ﷺ يريدهم للعمل، ولذلك عندما اختار النبي ﷺ مكاناً لمسجده قالوا: بل نهبه لك يا رسول الله، ولما بنى المسجد، قاموا يبنونه معه، يحملون لبنة لبنة، وعمار يحمل لبنتين لبنتين.[رواه البخاري برقم (3616)].
ولما جاء الأعداء يوم الأحزاب، واقترح سلمان الفارسي عليهم فكرة الخندق، كان قد أصابهم جهد شديد، ومع ذلك قاموا يحفرون، والنبي ﷺ على بطنه حجر من الجوع قد شده عليه، كان طول ذلك الخندق خمسة آلاف ذراع، وعرضه من خمسة إلى ستة أمتار، وعمقه من ثلاثة إلى أربعة أمتار، ولك أن تتصور هذه الكمية الهائلة من التراب بما فيها من الصخور كم استغرقت حفراً من الصحابة، -وليس معهم إلا الوسائل البدائية، ما يعادل اثنين كيلو في ستة في أربعة من العمق-؟ من سبعة إلى عشرة أيام فقط، ومع هذا المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينة، وينقلون التراب على متونهم، ويقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا | على الجهاد ما بقينا أبدا |
جعلوا المسجد دار العبادة، مكاناً لإيواء الضعفاء والفقراء يأتونهم بما عندهم من الطعام، ومكاناً للتعلم والتعليم، يُستقبل فيه الوفود، وتعقد فيه الألوية، وكان ينشد فيه ما يذب عن الإسلام، وينصر الله ورسوله.
والمواساة بالمال فعلوا، لما دخل المهاجرون المدينة لم يكن لهم مساكن، تنافس الأنصار عليهم، فاقترع الأنصار في إنزالهم، كل يريد أن يأخذ واحداً في داره؛ ولذلك قال المهاجرون: "يا رسول الله، ما رأينا قوماً أبذل من كثير، ولا أحسن مواساة من قليل، من قوم نزلنا بين أظهرهم، لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنة –أي: كفونا العمل وأشركونا في الثمرة-، حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله. فقال النبي ﷺ: لا، ما دعوتم الله لهم، وأثنيتم عليهم[رواه الترمذي برقم (2411)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (3026)]. وهكذا قالت الأنصار: "أموالنا بيننا قطائع"، لما قال رسول الله ﷺ: إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد في مكة وخرجوا إليكم . قال: "يا رسول الله، أموالنا بيننا قطائع". [تفسير ابن كثير (4/339)]
ولذلك لم يتردد الواحد منهم أن يقول لزوجته وعنده ضيف من ضيوف النبي ﷺ أن يقول لها: "هذا ضيف رسول الله ﷺ لا تدخريه شيئاً، قالت: ما عندي إلا قوت صبياني، قال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك –أي أطفئيه-، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء، ثم قامت كأنها تصلح سراجها بعدما نومت صبيانها فأطفأته، فجعل يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما غدا على رسول الله ﷺنزلت الآية.. وقال النبي ﷺ: ضحك الله الليلة من فعالكما، وأنزل الله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌالحشر: من الآية9.[رواه البخاري برقم (3514)].
وهكذا لما دعا النساء إلى الصدقة جعلن يلقين الحلي في ثوب بلال، تلقي المرأة خرصها وسخابها[رواه البخاري برقم (911)، ومسلم برقم (1476)]، ومعروف مكانة الحلي عند المرأة.
وأيضاً لما كان يعظهم كان الأثر يأخذ منهم كل مأخذ، قال العرباض قال: "وعظنا رسول الله يوماً بعد صلاة الغداة؛ موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب"[رواه الترمذي برقم (2600)، وصححه الألباني في المشكاة برقم(165)]، هكذا كان التأثر حاصلاً.
عباد الله: عندما يمنع النبي ﷺ المسلمين من الكلام مع ثلاثة، كل المجتمع المدني يقاطعهم، لا أحد يجرؤ على الكلام، حتى لما تسور كعب السور على ابن عمه يسلم عليه يقول: والله ما رد علي السلام.[رواه البخاري برقم (4066) ومسلم برقم (4973)].
لما نزلت آية الحجاب، ومجتمع النساء غير متعود على الحجاب تقول عائشة: "لما نزلت هذه الآية: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّالنور: من الآية31 أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي، فاختمرن بها"[رواه البخاري برقم (4387)]، تحول الإزار إلى خمار.
ولما نزلت: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّالأحزاب: من الآية59 تقول أم سلمة: "خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية"[رواه أبو داود برقم (3578)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود برقم (879)]. استجابوا لأمر الله ورسوله.
حتى بعد جراحات أحد ومصابها حين طلبهم الخروج وقال: لا يخرج معنا إلا من شهد القتال[الطبقات الكبرى لابن سعد (2/48)]، فما تأخروا، بل سارعوا في الخروج معه إلى حمراء الأسد على ما بهم من الجراح والتعب؛ ولذلك أثنى الله عليهم فقال: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌآل عمران:172.
وعندما تنزل تحريم الخمر: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَالمائدة: من الآية91يقولون باللسان: انتهينا انتهينا، وبالفعل يقومون إليها كسراً وإراقة وتخلصاً، كان الاستسلام لأمر الله ورسوله هو ديدنهم.
وعندما تنزل: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُالبقرة: من الآية284يستعجبون: كيف يحاسبون على ما تخفيه نفوسهم!!، إنه أمر لا يطيقونه، فيوعظون، تريدون أن تقولوا: سمعنا وعصينا، بل قولوا: سمعنا وأطعنا، فلما قرأها القوم ذلت بها ألسنتهم وأذعنت لها قلوبهم وقالوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُالبقرة: من الآية285فأنزل الله التخفيف.
هؤلاء كانوا أعزة على الكفار، أذلة على المؤمنين، يفرحون بتوبة التائب منهم، كما يقاطعون العاصي المأمورين بقطعه؛ ولذلك لما تاب الله على كعب، هذا يجري ليبشره على فرس، وآخر يصعد الجبل ليقول: "يا كعب، أبشر.. لتهنك توبة الله عليك"[رواه البخاري برقم (4066) ومسلم برقم (4973)].
هذا المجتمع كان يعرف المنافقين، ولذلك كان يحذر منهم ومن مسلكهم، هذا المجتمع كان يحرص على التعلم والتعليم، ويجمع بين مصالح الدنيا والآخرة.. حتى يبقى صاحب عمر في المزرعة يوماً، وينزل عمر للتعلم، ويمكث عمر في اليوم التالي في المزرعة؛ لينزل صاحبه للتعلم، وكل منهما يخبر الآخر بما حصل.
كان أغنيائهم ينفقون أطيب أموالهم: فهذا أبو طلحة يتبرع بأحسن بستان عنده، وذلك أبو الدحداح ينفق في سبيل الله مزرعة فيها ستمائة نخلة لله ورسوله.
وفقراءهم يأتون رسول الله ﷺ فيقولون: "يا رسول الله، ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال يحجون بها، ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدقون، كيف نعوض هذا؟ يسألون، قال: ألا أحدثكم بأمر إن أخذتم أدركتم من سبقكم، ولم يدرككم أحد بعدكم، ثم علموهم: التسبيح والتكبير والتحميد بعد الصلاة.[رواه البخاري برقم (798)، ومسلم برقم (936)].
التكاتف والتكافل ديدنهم
عباد الله: كان التنافس في الخيرات ديدنهم، كان التنافس في الخيرات شأنهم ومذهبهم، والرضوخ والتسليم والإعانة على الخير فقد كانت عادتهم: لما جاء ربيعة الفقير إلى النبي ﷺ فقال ﷺ: يا ربيعة، ألا تزوج؟ قلت: والله يا رسول الله ما أريد أن أتزوج، ما عندي ما يقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني عنك شيء، فأعرض عني، فخدمته ما خدمته، ثم قال لي الثانية: يا ربيعة ألا تتزوج؟، فقلت: ما أريد أن أتزوج، ما عندي ما يقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني عنك شيء، في الثالثة قلت: بلى يا رسول الله، مرني بما شئت، قال: انطلق إلى آل فلان -حي من الأنصار- فقل لهم: إن رسول الله ﷺ يأمركم أن تزوجوني فلانة لامرأة منهم، ذهب ربيعة الفقير -الذي لا يملك شيئاً- إلى أولئك القوم، يقول: إن رسول الله ﷺ يأمركم أن تزوجوني فلانة، فقالوا: "مرحباً برسول الله، وبرسول رسول الله ﷺ، والله لا يرجع رسولُ رسولِ الله ﷺ إلا بحاجته"، فزوجوني، وألطفوني، وما سألوني البينة -عقدوا له- قال ربيعة: فرجعت إلى رسول الله ﷺ حزيناً، فقال لي: مالك يا ربيعة؟، فقلت: يا رسول الله، أتيت قوماً كراماً فزوجوني، وأكرموني، وألطفوني، وما سألوني بينة، وليس عندي صداق، فقال رسول الله ﷺ: يا بريدة، اجمعوا له وزن نواة من ذهب، فجمعوا لي وزن نواة من ذهب، فأخذت ما جمعوا لي، فأتيت به النبي ﷺ، فقال: اذهب بهذا إليهم، فقل: هذا صداقها، فأتيتهم فقلت: هذا صداقها، فرضوه، وقبلوه وقالوا: "كثير طيب"، ثم رجعت إلى رسول الله ﷺ حزيناً، فقال: يا ربيعة مالك حزين؟، فقلت: يا رسول الله، ما رأيت أكرم منهم، رضوا بما آتيتهم، وأحسنوا، وقالوا: كثيراً طيباً، وليس عندي ما أولم، قال: يا بريدة، اجمعوا له شاة، فجمعوا لي كبشاً عظيماً سميناً، فقال لي رسول الله ﷺ: اذهب إلى عائشة، فقل لها: فلتبعث بالمكتل الذي فيه الطعام، فأتيتها، فقلت لها ما أمرني به رسول الله ﷺ، فقالت: هذا المكتل فيه تسع آصع من شعير، لا والله إن أصبح لنا طعام غيره -خذه ما عندنا غير هذه التسع أصواع من الشعير-، فأخذته، فأتيت به النبي ﷺ وأخبرته، فقال: اذهب بهذا إليهم فقل: ليصبح هذا عندكم خبزاً، فذهبت إليهم، وذهبت بالكبش ومعي أناس من أسلم فقال: ليصبح هذا عندكم خبزاً، وهذا طبيخاً، فقالوا: "أما الخبز فسنكفيكموه، وأما الكبش فاكفونا أنتم"، فأخذنا الكبش أنا وأناس من أسلم فذبحناه، وسلخناه، وطبخناه، فأصبح عندنا خبز ولحم، فأولمت، ودعوت النبي ﷺ.[رواه أحمد في المسند برقم (15982) وغيره، قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني وفيه ابن المبارك بن فضالة وحديثه حسن، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح، وعلق الأرنؤوط: بأن إسناده ضعيف جداً على نكارة، فيه المبارك بن فضالة يدلس ويسوي –وهو شر أنواع التدليس- وقد عنعن].
هكذا كانت تسير الأمور، تعاون حقيقي ينبع من القلب، تكافل، رعاية، إيثار، اجتماع على الخير، هكذا كان هؤلاء ولهذا انتصروا، فماذا نحن بجانبهم، ولماذا نحن فيما نحن فيه؟.
اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً، اللهم اجمعنا على الخير يا رب العالمين، اللهم اجعلنا بالإسلام مستمسكين، اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، واغفر لنا ذنوبنا أجمعين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، وسبحان الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، نبي الله ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
إجلالهم للرسول عليه الصلاة والسلام وغيرتهم عليه
عباد الله: هؤلاء الذين شهد لهم المشركون، حتى رجع رسول المشركين يقول لأصحابه: "ما رأيت قوماً يعظمون صاحبهم ما رأيت تعظيم أصحاب محمد محمداً، إذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، يقول: أي قومي، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد ﷺ محمداً". [رواه البخاري برقم (2529)].
لما عظموا رسول الله عظموا سنته وحديثه، عظموا أمره ونهيه، لما قال لهم: قال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي مرتين، فما أذوي بعدها. [رواه البخاري برقم (3388)] وما تجرأ أحد على الصديق .
ولم يكن الحياء يمنع نساء الأنصار من السؤال مع شدة حيائهن.
كان المجتمع يعلم الأطفال على العبادة، حتى جعلوا اللعبة من العهن للطفل إذا صوّموه في عاشوراء. يقف شابان من شباب الأنصار عن يمين عبد الرحمن بن عوف وعن شماله، ينتظران الفرصة متى ينقضان على عدو الله أبي جهل، فإنهما قد سمعا ما كان يصنع في مكة برسول الله ﷺ، وبالمؤمنين.
كان المجتمع يعلم الأطفال على العبادة، حتى جعلوا اللعبة من العهن للطفل إذا صوّموه في عاشوراء.
يقف شابان من شباب الأنصار عن يمين عبد الرحمن بن عوف وعن شماله، ينتظران الفرصة متى ينقضان على عدو الله أبي جهل، فإنهما قد سمعا ما كان يصنع في مكة برسول الله ﷺ، وبالمؤمنين. [رواه البخاري برقم (2908)، ومسلم برقم (3296)].
وهذه أذن زيد بن أرقم الوفية الصادقة التقية ترصد أخبار المنافقين وكلامهم؛ لتنقله إلى النبي ﷺ، بالرغم من صغر سنه كان يميز خطورة ما قالوه ولذلك سارع بنقل ما قاله عبد الله بن أبي: لئن رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل.[رواه البخاري برقم (4520)، ومسلم برقم (4976)].
تنزعهم بشريتهم فيخطئون وسرعان ما يؤوبون
عباد الله: لقد كانوا بشراً، ويقع منهم ما يقع من البشر، لكن كانوا توابين، كانوا رجاعين، كانوا إلى الحق يفيئون بسرعة، لم يكونوا يجادلون بالباطل، يأتي أحدهم إلى المصطفى ﷺ فيقول: إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها، فأنا هذا فاقض فيما شئت، فقال له عمر: لقد سترك الله لو سترت نفسك، فلم يرد النبي ﷺ شيئاً، فقام الرجل فانطلق، فأتبعه النبي ﷺ رجلاً دعاه، وتلا عليه هذه الآية: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَهود:114. [رواه البخاري برقم (4964)].
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
عباد الله: إن هذا الأمر الذي كان بينهم جعلهم حقاً خير أمة أخرجت للناس. عباد الله.. إن هذا البون الشاسع بيننا وبينهم لا بد أن يدفعنا للتشبه بهم، والحقيقة أن استحضار الصورة العظيمة لذلك المجتمع في أذهاننا باستمرار ينبغي أن تدفعنا للقيام بنصرة هذا الدين.
يا عبد الله: جادل بالحق أهل الباطل، يا عبد الله اكتب بقلمك رداً على أهل الباطل، يا عبد الله: هذه مقالاتهم ومنتدياتهم فأينك للدفاع عن الله ورسوله؟ يا عبد الله: هؤلاء يريدون أن يشيعوا الفاحشة في الذين آمنوا، فماذا فعلت للتصدي لهم؟ يا عبد الله: لما قيل: هذه طفرة مالية فأين الصدقات؟ يا عبد الله: إذا تضاعفت المكاسب في الأسهم أو في غيرها، فماذا أخرجت لله ورسوله؟
يا عبد الله: لما رحل الصحابي جابر شهراً في حديث واحد، فماذا فعلت أنت في هذا الشهر تحت المكيفات؟ يا عبد الله، يا مسلم: لما كان الالتزام جماعياً بالدين مأموراً به النساء والرجال والصبيان الصغار والكبار، فماذا فعلت مع أولادك وأهلك؟.
أخي أيها المسلم: إذا كان هؤلاء رهباناً بالليل وفرساناً بالنهار، فماذا فعلنا في ليلنا ونهارنا؟
يا إخواني: إن أمر الدين عظيم، والله سائلنا عنه: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَالزخرف:44 وكل منا منشغل بالمستقبل في الدنيا.. ماذا بعد الدراسة وبعد التخرج وبعد الوظيفة وبعد التقاعد وبعد الزواج وبعد وبعد...
همنا في الدنيا، متابعة الأسعار والمواد والأبنية والملابس والجوالات، نعم فالجوالات هذه الأيام أشغلت الشباب، برامج على الجوالات، وصور على الجوالات، ومقاطع أفلام على الجوالات، ورسائل mms، و sms، وأنواع من الأشياء في ماذا تستغل؟ في التعرف، على من؟ على فتاة، لماذا؟ لأجل قضاء الشهوات والنزوات، هذا هم الشباب اليوم رسائل وتعرف، وبرمجيات جوالات بالمحرمات، ونسى شباب المهاجرين والأنصار أن أجدادهم كان الواحد منهم يحمل روحه؛ ليقدمها ثمناً لنشر الدين، يتسابقون في حمل العلم، يتسابقون في نصرة الله ورسوله: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَالمطففين: من الآية26.
فلا بد لأصحاب المواهب أن يقدمون مواهبهم، ولأهل الشعر أن ينصرون به الله ورسوله، وإلا فماذا فعلنا نحن يا أيها الإخوة؟.
إنها دعوة، ومصارحة، ومكاشفة، ونصيحة، وتواصي بالحق والصبر على هذا الدين.
اللهم إنا نسألك أن تردنا إلى الحق رداً جميلاً. اللهم نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، اللهم إنا نسألك عيشة نقية، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يخشونك بالغيب والشهادة، اللهم اجعلنا ممن يخافونك بالغيب والشهادة يا رب العالمين، اللهم اجعلنا ممن يقولون الحق في الغضب والرضا يا أرحم الراحمين، اللهم اجعلنا من المقتصدين في الغنى والفقر يا كريم، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وعافنا واعف عنا، اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين، وانشر رحمتك في ربوع البلاد يا أرحم الراحمين. اللهم أغثنا برحمتك، وأغثنا بغيثك ومطرك. اللهم اجعلنا في عافية في أبداننا بعد أن تجعلنا في عافية في أدياننا، أتمم نعمتك علينا يا ربنا، نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.