نختم دروس هذا الفصل بهذه المحاضرة عن بر الوالدين، وهي بعنوان: "قرة العينين في بر الوالدين".
ولا شك أن قرة العينين في بر الوالدين فعلاً، كيف لا وقد جاءت الآيات والأحاديث تبين هذا.
وسنتعرض -إن شاء الله- في هذا الموضوع لعدد من النقاط، منها:
بر الوالدين في القرآن.
بر الوالدين في السنة.
بر الوالدين عند الصحابة والسلف.
فوائد من بر الوالدين.
صور البر وأشكاله قبل الوفاة وبعد الوفاة.
إيذاء الوالدين وعقوبة العقوق.
الموقف من الأب المشرك والأم الكافرة، الوالد الفاجر والوالدة العاصية.
أحكام فقهية، تتضمن:
حكم المال إذا أخذه الأب.
الاستئذان في السفر.
قطع النافلة.
تعارض بر الأب مع بر الأم.
ماذا يفعل الولد إذا أمراه بترك الواجبات أو فعل المحرمات أو الوقوع في المشتبهات؟
وأخيراً: الشباب والدعوة وبر الوالدين.
بر الوالدين في القرآن والسنة
قال الله مبيناً أهمية بر الوالدين لما عطف الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك على بر الوالدين، فقال الله : وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء: 36].
وقال : وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23].
وقرن شكره بشكرهما، فقال الله: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان: 14].
وبين الباعث على البر تهييجاً للنفوس، فقال : وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان: 14].
وامتدح الله عبده يحيى بأنه كان تقياً: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا [مريم: 14].
وكذلك حدث عيسى عن نفسه في المهد بأن الله جعله مباركاً، فقال: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم: 31 - 32].
وقول الله : وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء: 31].
فيه بيان أن بر الأبوين أعظم من بر الأصحاب؛ لأن الله قال في الأصحاب: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215]، وقال في بر الوالدين: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء: 24]، ولا شك أن خفض جناح الذل من الرحمة أبلغ من مجرد خفض الجناح.
ولذلك فإن هذه الآيات في سورة الإسراء: فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ [الإسراء: 23] حتى هذه الكلمة اليسيرة التي تعبر عن الضجر والاستثقال لا تقلها، أو لا تقل أي عبارة تدل على الاستقذار والاحتقار، فأخذ الله علينا أن لا نؤذي الآباء والأمهات بأقل القليل ولا بكلمة: أف.
وَلاَ تَنْهَرْهُمَا فلا نزجرهما بكلام، ولا ننفض اليد في وجوههما بأي طريقة تؤذي.
وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا فلا تسم، لا تقل: يا فلان، ولا تغلظ عليه بالقول فضلاً عن السب والشتم، وإنما تناديه بالقول اللطيف.
قال ابن المسيب -رحمه الله- في قوله تعالى: وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا قال: هو قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ فكيف يكون حاله؟
وأما أحاديث النبي ﷺ فإنها كثيرة في هذا الموضوع دلالة على أهميته أيضاً، وعلى اعتناء الشريعة به، فقد بين النبي ﷺ أن للجنة أبواباً، وأن أوسط أبواب الجنة هو طاعة الوالد، فقال النبي ﷺ: الوالد أوسط أبواب الجنة [رواه الترمذي: 1900، وابن ماجه: 3663، وأحمد: 27511، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2486].
وقال ﷺ: رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما [رواه الطبراني في الكبير: 14368، والبيهقي في شعب الإيمان: 7446، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 516].
وقد دعا ﷺ على من يدرك والديه فلا يبرهما، فقال: رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر، أحدهما أو كليهما، ثم لم يدخل الجنة [رواه مسلم: 2551].
وكذلك أمَّن على دعاء جبريل لما قال: يا محمد من أدرك أحد والديه فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين [رواه الطبراني في الكبير: 2022، وقال الألباني : "صحيح لغيره" كما في صحيح الترغيب والترهيب: 2491].
وبين النبي ﷺ أن الجنة تحت رجل الوالدة، فقال للصحابي: الزم رجلها فثم الجنة [رواه ابن ماجه: 2781، والطبراني في الكبير: 8162، وقال الألباني: "صحيح لغيره" كما في صحيح الترغيب والترهيب: 2484]، وقال: الزمها فإن الجنة عند رجلها [رواه أحمد: 15538، وقال محققو المسند: " إسناده حسن"] يعني الوالدة.
وأخبر النبي ﷺ أن الذي يخرج من بيته يسعى على والديه فإنه في سبيل الله، يؤجر ما يؤجر الخارج في سبيل الله؛ كما في حديث كعب بن عجرة عند الطبراني وهو حديث صحيح، قال ﷺ: إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله [رواه الطبراني في الأوسط: 6835، والكبير: 940، وقال الألباني: "صحيح لغيره" كما في صحيح الترغيب والترهيب: 1692].
بر الوالدين عند الصحابة والسلف
وأما سلفنا فإن الأنبياء قد ضربوا المثل والصحابة والتابعين، هذا إسماعيل نبي الله ابن نبي الله فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات: 102]، فلما أطاق الفعل والمساعدة، فرأى إبراهيم الرؤيا، ورؤيا الأنبياء حق، صبر هو وأبوه، وصبر الولد على رؤيا الأب التي هي الوحي، مع أن العلاقة بينهما كانت حميمة جداً.
ألا ترى أنه قال في صحيح البخاري: لما جاء إبراهيم ليرى إسماعيل بعد فترة طويلة من الغياب، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد [رواه البخاري: 3364].
وكذلك فإنه قد ساعده في بناء الكعبة، وهو من أعظم الأفعال على مر التاريخ.
وهذا إسحاق أيضاً مع إبراهيم، ويعقوب مع إسحاق.
ويوسف مع يعقوب ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ [آل عمران: 34].
وهذا ولد لقمان.
وكذلك الصحابة -رضوان الله عليهم- ضربوا الأمثال، فهذا ابن عمر وعمر، وبره به معروف.
وابن عمرو وعمرو بن العاص، وبره به معروف.
وهذه عائشة وأبوها، وجابر وأبوه، كل واحد من هؤلاء له قصص تدل على بره بأبيه.
وقيس بن سعد بن عبادة وأبوه سعد بن عبادة.
والحسن والحسين وأبوهما علي.
ومحمد بن طلحة بن عبيد الله السجاد لكثرة عبادته هو وأبوه.
والزبير وابنه عبد الله.
وعبد الله بن عباس وأبوه العباس.
وغيرهم من الصحابة آباء وأبناء كانوا بررة رضي الله تعالى عنهم.
وقد كان الصحابة يفدون النبي ﷺ بآبائهم وأمهاتهم، دلالة على أن من أغلى الأشياء عندهم: الآباء والأمهات.
والتابعون الذين ساروا على منوالهم، فهذا أويس القرني الذي حبسه اشتغاله بأمه وبره بها عن السفر إلى النبيﷺ، ففاتته الصحبة، لكنه كان مقيماً على طاعة أمه وبره بها.
وقد احتبس معها في اليمن قائماً عليها، هذا الذي مدحه النبي ﷺ بقوله: خير التابعين رجل يقال له أويس [رواه مسلم: 2542].
يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن، من مراد، ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم الله يذكره به حتى لا ينسى نعمة الله عليه، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل [رواه مسلم: 2542]، فطلب منه عمر أن يستغفر له، وطلب منه الناس، فلما أحس بذلك هرب منهم -رحمه الله تعالى-
وهذا ابن عمر بار بأبيه بعد موته فهو يعطي حماره وعمامته لأعرابي كان أبوه صديقاً لعمر [رواه مسلم: 2552].
والسلف من التابعين أيضاً لهم مواقف، فهذا مسعر بن كدام -رحمه الله- كانت أمه عابدة، فكان يحمل لها لبداً ويمشي معها، شيء مثل البساط تصلي عليه ويمشي معها، حتى يدخلها المسجد، فيبسط لها اللبد، فتقوم فتصلي ويتقدم هو إلى مقدمة المسجد فيصلي، ثم يقعد ويجتمع إليه من يريد فيحدثهم، كان من العلماء، ويجتمع إليه الناس، لكن هذا العالم كان يأتي بأمه معه إلى المسجد، فيفرش لها السجادة تصلي ثم ينصرف هو إلى درسه، فإذا انتهى يحمل لبدها وينصرف معها [ينظر: صفة الصفوة: 2/110].
وكان زين العابدين من سادات التابعين كثير البر بأمه، حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة؟ فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها [البر والصلة، ص: 86].
وعبد الله بن عون نادته أمه من بعيد، فأجابها من بعيد، فعلى صوته صوتها، صار أرفع، فأعتق رقبتين [ وفيات الأعيان: 3/268].
وكان هؤلاء -رحمهم الله- يحتسبون الأجر في برهم بآبائهم وأمهاتهم، قال محمد بن المنكدر: "بت أغمز رجل أمي، وبات عمر يصلي ليلته فما تسرني ليلته بليلتي" [الزهد، لأحمد:/440] ولا أظن أني أستبدل عملي هذا ولو بقيام الليل.
وكان حيوة بن شريح وهو من كبار العلماء يقعد في حلقته يعلم الناس، فتقول له أمه تنادي عليه من الباب من النافذة تقول له أمه: قم يا حيوة فألق الشعير للدجاج، فيقوم فيطعمهم ثم يرجع.
وكان عروة بن الزبير يقول في سجوده: "اللهم اغفر للزبير بن العوام ولأسماء بنت أبي بكر" [مصنف عبد الرزاق: 2/449، وابن أبي شيبة: 2/199، وشعب الإيمان: 10/297].
وكان أبو يوسف الفقيه يقول: اللهم اغفر لأبوي ولأبي حنيفة.
وكان طلق بن حبيب يقبل رأس أمه، وكان لا يمشي فوق ظهر بيت وهي تحته إجلالاً لها [بر الوالدين للحافظ الطرطوشي، ص: 78].
ودخل أحدهم مع أبيه السجن، فاحتاج الأب لماء مسخن، فمنعه السجان من الحطب، فقام الولد إلى إناء، فأدناه من المصباح، فظل واقفاً حتى الصبح كي يجهز لأبيه ماءً دافئاً.
بعض فوائد بر الوالدين
أما عن فوائد بر الأبوين فإنها كثيرة ولا شك، وعلى رأسها: مرضاة الله ، والدخول من ذلك الباب العظيم من أبواب الجنة وهو باب الوالد.
وكذلك كسب بر الأبناء في المستقبل؛ لأن من بر بأبيه وأمه بر به أبناؤه.
ومن أعظم فوائد بر الوالدين: إجابة الدعاء، كما عنون البخاري -رحمه الله- في صحيحه: "باب إجابة دعاء من بر والديه" [صحيح البخاري: 8/3]، ثم ذكر حديث الثلاثة أصحاب الغار: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران وامرأتي، ولي صبية صغار أرعى عليهم، فإذا أرحت عليهم حلبت، فبدأت بوالدي فسقيتهما قبل بني، وإنه نأى بي ذات يوم الشجر، فلم آت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أسقي الصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمي، يصيحون ويبكون من الجوع، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة نرى منها السماء، ففرج الله منها فرجة فرأوا منها السماء [رواه البخاري: 5974].
وكذلك فإن بر الوالدين كفارة عظيمة للذنوب، عن ابن عمر: أن رجلاً أتى النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله إني أصبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة؟ فقال: هل لك من أم؟ قال: لا، قال: فهل لك من خالة؟ قال: نعم، قال: فبرها أخرجه الترمذي ورجاله ثقات [رواه الترمذي: 1904، وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الترغيب والترهيب: 2504].
وكذلك جاء عند البخاري في الأدب المفرد وإسناده صحيح على شرط الشيخين: أن ابن عباس أتاه رجل، فقال: إني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني، وخطبها غيري فأحبت أن تنكحه، فغرت عليها فقتلتها، فهل لي من توبة؟ قال: أمك حية؟ قال: لا، قال: تب إلى الله ، وتقرب إليه ما استطعت ، فذهب الرجل، فسألت ابن عباس: لم سألته عن حياة أمه؟ فقال: "إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله من بر الوالدة" [رواه البخاري في الأدب المفرد: 4، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد: 4] هذا قاتل!
وكذلك جاء عن عائشة في قصة المرأة التي عملت بالسحر في دومة الجندل، وقدمت المدينة تسأل عن توبتها، تقول عائشة: فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله ﷺ؛ لأنها جاءت على وقت وفاة النبي ﷺ، جاءت تستفتي عملت بالسحر، جاءت تستفتي عن الكفارة، تقول عائشة: لم تجد رسول الله ﷺ فيشفيها، يعني بالجواب، حتى إني لأرحمها تبكي، فروت قصة السحر وهي تقول لعائشة: إني لأخاف أن أكون هلكت، سقط في يدي وندمت، والله يا أم المؤمنين ما فعلت شيئاً قط ولا أفعله أبداً، فسألت أصحاب رسول اللهﷺ حداثة وفاة رسول الله -ﷺ وهم يومئذ متوافرون، فما دروا ماذا يقولون لها، وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلم، إلا أنهم قالوا: لو كان أبواك حيين أو أحدهما لكانا يكفيانك، وجود ابن كثير إسناده عند ابن أبي حاتم [رواه الحاكم في المستدرك: 7262، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"]
صور بر الوالدين قبل الوفاة وبعد الوفاة
وأما صور البر وأشكاله فإننا معشر المسلمين نبر بآبائنا وأمهاتنا دائماً، هكذا يجب علينا.
أما الكفرة فإنهم قد اخترعوا عيداً بدعياً محرماً عندنا وهو: عيد الأم، يقدمون فيه لأمهاتهم علبة من الحلوى أو هدية يوماً في السنة، ثم يهجرونها ويعصونها في سائر الأيام، وليس عندنا ولله الحمد عيداً يسمى: عيد الأم، وإنما نحن نبر بالأم طيلة العام، وكل أيام السنة، ولا نحتاج إلى عيد.
وصور البر وأشكاله كثيرة؛ فمن ذلك: إحسان القول الذي يدل على الرفق والمحبة، وتجنب غليظ القول، وعدم رفع الصوت فضلاً عن ترك السباب والشتائم، والمناداة بأحب الألفاظ إليهما، ولا يناديهما باسمهما، يقول: يا فلان، أو يا فلانة، بل يقول: يا أبي، يا أبت، يا أمي.
وكذلك: تعليمهما ما يحتاجان إليه من أمور دينهما ودنياهما، وطاعتهما فيما يأمرانه به، فإن كان ما أمراه به واجب فإنه يزداد وجوباً، وإن كان مستحباً يصير واجباً، وكذلك إن كان مباحاً في الشريعة لا يحصل عليه به ضرر وجب عليه أن يطيعهما.
ولا يحاذيهما في المشي بل يتأخر عنهما إلا في حالة الظلام وخشية الأذى، فإنه يمشي أمامهما ليستكشف الطريق.
ويستأذن عند الدخول وعند الخروج وعند الجلوس.
وعندما يطعنان في السن ويكبران ينبغي أن يزداد الرفق بهما لحاجتهما إلى المساعدة، وكم من عائلة فيها أب كبير أو أم مشلولة تحتاج إلى تغيير، ويحتاج الأب إلى إزالة نجاسة، ونحو ذلك، فعند ذلك لا يثبت على هذه الخدمة إلا من عصم الله قلبه وثبته؛ لأن كثيراً من الناس يأنفون ويتأففون، وهي كانت تزيل الأذى والنجاسة عنك وأنت صغير فرحة، وأنت لو أزلت النجاسة عنها وهي كبيرة فإنك تزيله وأنت قرفان، فشتان شتان بينها وبينك.
وكذلك لا يحد النظر إليهما، ما بر بأبويه من أحد النظر إليهم، وإنما يكون عندهما خاشعاً ذليلاً.
وكذلك يستأذنهما في السفر، ويقوم لهما لو دخلا عليه، ويقبل اليد والرأس، ويدعو لهما حيين وميتين، كما قال الله : وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 24].
وكما قال نوح : رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح: 28].
وينبغي عليه أن يسعى في إرضائهما، وأن يتحمل المشاق في ذلك، وأن يجاهد نفسه، فقد روى البخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح، عن أبي بردة قال: سمعت أبي يحدث أن ابن عمر شهد رجلاً يمانياً يطوف بالبيت حمل أمه وراء ظهره، يقول:
إني لها بعيرها المذلل | إن أذعرت ركابها لم أذعر |
ثم قال يا ابن عمر: أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة
[رواه البخاري في الأدب المفرد: 11، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد: 9].
وفي رواية: شهد ابن عمر رجلاً يمانياً يطوف بالبيت حمل أمه وراء ظهره، يقول:
إني لها بعيرها المذلل | إن أذعرت ركابها لم أذعر |
الله ربي ذو الجلال الأكبر حملت أكثر مما حملت، فهل ترى جازيتها يا ابن عمر؟
ثم قال: يا ابن عمر: أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة.
وفي رواية: لا، ولا بطلقة واحدة، ولكن أحسنت، والله يثيبك على القليل كثيراً.
فهذه آلام الطلق التي تعرضت لها الأم من يجازيها عليها؟
وكان رجلان من الصالحين في الطواف فإذا أعرابي معه أمه يحملها على ظهره ويرتجز، ويقول:
أنا لا أزال مطيها لا أنفر | وإذا الركائب ذعرت لا أذعر |
وما حملتني ووضعتني أكثر
لبيك اللهم لبيك.
فقال أحدهما: مر بنا ندخل في الطواف لعل الرحمة تنزل فتعمنا.
وقال أبو بكر -رحمه الله- أحد العلماء، في زاد المسافر: من أغضب والديه وأبكاهما يجب عليه أن يرجع فيضحكهما كما أبكاهما، وذلك لحديث عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فبايعه، فقال: جئت لأبايعك على الجهاد وتركت أبوي يبكيان؟ قال: ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما [رواه ابو داود: 2528، والنسائي: 4163، وابن ماجه: 2782، وأحمد: 6490، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 2281].
ولأجل هذا أيضاً في قصة كلاب المشهورة وهو ولد أمية بن أشكر، وهذا رجل أدرك الجاهلية والإسلام، وابنه كلاب من وجهاء وسادات المسلمين، واستعمل عمر كلاباً على الأيلة، فاشتاق الأب إلى كلاب، كلاب خرج مع المسلمين وفي الجيش، وصار أميراً على أيلة لعمر، اشتاق الأب لكلاب يوماً من الأيام لولده اشتاق، فقال:
لمن شيخان قد نشدا كلابا | كتاب الله لو عقل الكتابا |
أناديه فيعرض في إباء | فلا وأبي كلاب ما أصابا |
إذا سجعت حمامة بطن واد | إلى بيضاتها أدعو كلابا |
تركت أباك مرعشة يداه | وأمك ما يسيغ لها شرابا |
فإنك والتماس الأجر بعدي | كباغي الماء يتبع السرابا |
ثم سمع بالقصة عمر فاستنشد الشعر منه، فأنشده له، فرق للأب، وأنفذ خلف كلاب أن يقدم، فقدم ووصف بره بأبيه، وأنه كان يحلب له، الابن يصف لعمر ماذا يفعل بأبيه، ماذا كان يفعل، وكيف كان يحلب له، والأب كان غير موجود، فقال له عمر: احلب لبناً، فحلبه الولد، وحضر أمية الأب، وكان لا يرى الولد، فسقاه عمر من الإناء الذي حلبه ولده في غيبته وهو لا يراه، فقال الأب: إني لأشم رائحة يدي كلاب، فبكى عمر، وقال: هذا كلاب، فضمه إليه، وقال عمر: جاهد في أبويك.
وقال ابن عبد البر عن هذا الخبر: إنه صحيح.
وبر الوالدين يا إخواني مراتب، وهذا الواجب مراتب.
وقال بعض العلماء يضرب مثلاً: لو أن الولد أحضر في بيته طعاماً مستلذاً يشتهيه وأبوه غائب، فأرسل الولد خلف أبيه يدعوه للطعام كان براً شاكراً، ولو أرسل خلفه دابته لكي يأتي الأب عليها كان في الشكر منه أدخل، ولو ذهب خلفه بنفسه كان في البر أجزل، فإن أمر الغلام بطرح الماء على يديه ليغسل فقد بره وشكره، وإن تناول بنفسه طرح الماء على يديه ليغسل الأب كان أبر وأشكر، وهكذا..
صحيح أن الولد قد لا يأثم بإهمال هذه الأشياء مثلاً، لكن الذي يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب.
وأما بعد الوفاة فإن ما يمكن عمله للأب والأم كثير جداً، فمن أهم ذلك: الاستغفار، والدعاء، أو ولد صالح يدعو له، هكذا قال النبي ﷺ: إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له [رواه مسلم: 1631].
وقال النبي ﷺ: إن الرجل لترفع درجته في الجنة، فيقول: أنى لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك رواه أحمد وغيره وهو حديث صحيح [رواه ابن ماجه: 3660، وأحمد: 10610، وقال محققو المسند: "إسناده حسن"].
فتأمل ربما تكون أنت سبباً في رفع درجة أبيك في الجنة.
وكذلك الصدقة، فعن ابن عباس -رضي الله عنها- أن رجلاً قال للنبي ﷺ: إن أمه توفيت أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: ((نعم))، قال: فإن لي مخرافاً وأشهدك أني قد تصدقت به عنها[رواه البخاري: 2770].
وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رجلا قال للنبي ﷺ: إن أمي افتلتت نفسها وأراها لو تكلمت تصدقت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم تصدق عنها [رواه البخاري: 2760].
وعنون عليه: باب ما يستحب لمن توفي فجأة أن يتصدقوا عنه [صحيح البخاري: 4/8].
وكذلك طبعاً بالإضافة إلى إنفاذ الوصية وإحسان التجهيز، والكفن، والصلاة والدفن، والدعاء، والحج عنه إذا لم يحج، والعمرة عنه إذا لم يعتمر، وحتى لو حج واعتمر، فإنه يشرع أن يحج عنه ويعتمر، لا بأس بذلك.
وبالإضافة إلى ذلك يقضي دينه، وهذا من أعظم ما يقوم به الأبناء نحو آبائهم وأمهاتهم، أن يبادروا إلى قضاء ديونهم.
ومن الأمور كذلك: صلة أصدقاء الأبوين، قال النبي ﷺ: إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي [رواه مسلم: 2552] الأب.
وقال ﷺ: من أحب أن يصل أباه في قبره، فليصل إخوان أبيه بعده [رواه أبو يعلى: 5669، وابن حبان: 432، وحسنه الألباني في التعليقات الحسان: 433].
فإذا أردت صلة لأبيك المتوفى فصل أقرباءه، أو صل أصحابه وأصدقاءه بعد موت الأب، زرهم، تفقدهم، أهدهم هدية.
وعن أبي بردة قال: قدمت المدينة، فأتاني عبد الله بن عمر فقال: أتدري لم أتيتك؟ قال: قلت: لا، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده وإنه كان بين أبي عمر وأبيك إخاء وود، فأحببت أن أصل ذلك، حديث صحيح [رواه أبو يعلى: 5669، وابن حبان: 432، وحسنه الألباني في التعليقات الحسان: 433].
وهذا أمر يكاد يكون مفقوداً؛ لأن الشباب والأولاد يصلون ويزورون أقرانهم، وينسون أصحاب الأب وأقرباءه.
وكذلك الأم يمكن أن يتفقدها بهدية، أو إرسال سلام، ونحوه.
إيذاء الوالدين وعقوبة العقوق
أما عقوق الوالدين فهو شنيع شنيع شنيع، وإيذاء الوالدين من أعظم الكبائر، وقال النبي ﷺ: لعن الله من لعن والديه [رواه مسلم: 1978] ولو بطريق غير مباشر، كأن يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه، فيكون هو المتسبب في إعادة اللعن والسب على أبيه وأمه؛ لأنه لما سب أبوي الآخر، الآخر أخذته العزة بالإثم فسب أبوي الساب، فعاد السب على أبويه بسببه هو.
وبعض الناس لا يكتفي بالعقوق أو معصية الأبوين، وإنما يجاهر بالسوء والفحشاء، فيقهر وينهر أبويه، ويرفع الصوت ويتأفف، ويقول لأحدهما: أراحنا الله منك، وأخذ عمرك، وعجل بزوالك يا شيبة النحس، ويا عجوز الويل.
وحاله وحال أبيه؛ كما قال الشاعر:
أريد حياته ويريد موتي | .............................. |
وربما يصل العقوق إلى درجة أن يتمنى الوالد أنه لم يولد له هذا الولد، وربما لو كان عقيماً كان أحسن.
وقد ينهب بعضهم مال أبيه، وربما طرد أباه من البيت، ويمنع عنه النفقة، وقد يلطمه، وقد يحجر عليه، وقد يقول لأبيه: قد أخذت حقك، واستوفيت أجلك، وسئمتك الحياة، وملك الزمان، يا ليتك تموت ونرتاح منك.
قال الحسن: انتهت القطيعة إلى أن يجابي الرجل أباه عند السلاطين، يخاصمه في المحاكم، وخصوصاً إذا كان بغير حق.
وهذا العقوق لو صادف دعوة من الأب أو من الأم على الولد فإن دعاء الرجل على ولده والأم على ولدها مستجاب، ما بينها إلا مسافة تقطع في لمح البصر، تصعد دعوة المظلوم إذا كان أباً وأماً إلى السماء، فيجيبه الله ، ذكر أن شاباً كان مكباً على اللهو واللعب لا يفيق عنه، وكان له والد صاحب دين، كثيراً ما يعظ هذا الابن، ويقول له: يا بني، احذر هفوات الشباب وعثراته، فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد، وكان إذا ألح عليه زاد الولد في العقوق، وجار على أبيه، ولما كان يوم من الأيام ألح على ابنه في النصح على عادته، فمد الولد يده على أبيه، فحلف الأب بالله مجتهداً ليأتين بيت الله الحرام فيتعلق بأستار الكعبة ويدعو على ولده، فخرج حتى انتهى إلى البيت الحرام، فتعلق بأستار الكعبة وأنشأ يقول:
يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا | عرض المهامه من قرب ومن بعد |
إني أتيتك يا من لا يخيب من | يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد |
هذا منازل لا يرتد من عقق | فخذ بحقي يا رحمان من ولدي |
وشل منه بحول منك جانبه | يا من تقدس لم يولد ولم يلد |
فقيل: إنه ما استتم كلامه حتى يبس شق ولده الأيمن
ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد على ولده
ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد لولده حديثان صحيحان.
فيستجاب دعاء الأب والأم على الولد أو للولد، فكن باراً تنل دعوة مستجابة، ولا تكن عاقاً فتنل دعوة عليك مستجابة.
والذي يعق والديه لا شك أنه لا يقدر ما حصل منهما تجاهه، وليس عنده عرفان ولا شكر جميل، ولا اعتراف بالنعمة، كما قال أحد الآباء معبراً في عتاب ولده:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً | تعل بما أحنو عليك وتنهل |
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت | لسقمك إلا ساهراً أتململ |
كأني أنا المطروق دونك بالذي | طرقت به دوني فعيناي تهمل |
تخاف الردى نفسي عليك وإنني | لأعلم أن الموت وقت مؤجل |
فلما بلغت السن والغاية التي | إليها مدى ما كنت فيك أؤمل |
جعلت جزائي غلظة وفظاظة | كأنك أنت المنعم المتفضل |
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي | فعلت كما الجار المجاور يفعل |
ليتك فعلت مثل الجار.
لو كان يدري الابن أية غصة قد جرعته، هذا لو أن إنساناً فارق أبويه ذهب عنه، بعض الأبناء والأولاد لا يقدرون مشاعر الأبوين إذا سافر الولد، مع أنه يعتلج في نفوسهما كثير من الأذى النفسي؛ لأن الولد له هموم وأصدقاء وعالم آخر، فهو يذهب ويسافر ولا يفكر في استئذان أبويه:
لو كان يدري الابن أية غصة | قد جرعت أبويه بعد فراقه |
أم تهم بوجده حيرانة وأب | يسح الدمع من آماقه |
يتجرعان لبينه غصص الردى | ويبوح ما كتماه من أشواقه |
لرثى لأم سل من أحشائها | وبكى الشيخ هام في آفاقه |
ولبدل الخلق الأبي بعطفه | وجزاهما بالعذب من أخلاقه |
ونحن نرى الآن مع قرب قيام الساعة زيادة في عقوق الأبناء لآبائهم، ويقدم الرجل زوجته على أبيه وأمه، ويبر صديقه ويجفو أباه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولكن اعلموا أن هذه المسألة دين ووفاء، وأن من عق أباه وأمه أرسل الله عليه من أبنائه من يعقه ويعاقبه؛ كما ذكر أن عاقاً كان يجر أباه برجله إلى الباب، فعاقبه الله بأن كان له ولد يجره برجله إلى الشارع، فيقول الأب: حسبك، ما كنت أجر أبي إلا إلى الباب، فيقول الولد: الزائد صدقة مني عليك.
وبعضهم يتكبر على أبويه خصوصاً إذا كان الابن صاحب شهادة علمية أو جامعية، والأب فلاح أو فقير أو عامي، ونحو ذلك، أو أمي، ولما جاء رجل من الخارج معه شهادة عليا، وجاءه أصحابه يزورونه في البيت في بلده، وكان أبوه مزارعاً فقيراً، وهيئته هيئة فلاح فقير، فلما دخلوا عليه في البيت على الابن أصحابه، خجل أن يقول لهم: هذا القروي هو أبي، فقال: هذا خادم عندنا، لما سألوه قال: هذا خادم عندنا.
هذه قصص واقعية، هذا إنسان أخذ من أمه عشرين ألفاً لم يرجعها، والثاني أخذ اثنا عشر ألف ولم يرجعها، لما طالبت الأول قال: أنت سكنت عندي في البيت ثلاث سنوات تأكلين وتشربين، اعتبري العشرين ألف هذه إيجار، إيجار ثلاث سنوات ونفقة الأكل والشرب.
وهذه بنت تطلب منها أمها نقوداً، تقول: ما أعطيك، ولو سألتني مرة ثانية ما أدخل بيتك، ولذلك يروى في الأمثال ويقال في القصص والأخبار أشياء من الأمور المعبرة، هذا رجل متزوج قالت له زوجته: لا بد أن تذهب بأبيك هذا تخرجه خارج البيت، ما عدنا نتحمل هذا، هذا الطاعن في السن، هذا أخلاقه نزقة، هذا.. هذا، لا بد أن تخرجه، فهم أن يخرج به إلى كهف ومغارة ليضعه هناك، فهذا الزوج أخذ أباه الطاعن في السن، وفي الطريق قال الأب لابنه: لكن أنت تطرحني في الكهف وهناك برد، هلا أتيت لي بلحاف؟ فهذا الابن كان له ابن وهو حفيد الجد المأخوذ هذا إلى الغار، فقال هذا لولده الصغير: اذهب وهات لحافاً لجدك، وكان الولد ذكياً هذا الصغير، فذهب فجاء بنصف لحاف، وأعطاه لأبيه، قال: هذا لجدي الذي طلبت، قال: هذا نصف لحاف، أين النصف الآخر؟ قال: خبأته لك يا أبت.
وهؤلاء المتزوجون لا يحترمون أمهاتهم في كثير من الحالات، ويبتعد عن أمه، مع أنه قد لا يكون له حاجة للذهاب، وإذا سألته: إلى أين تذهب؟ قال: مالك؟ ماذا تريدين؟ ونهرها، لا يأتيها ولا يسألها ولا يقول: ماذا في خاطرك؟ وماذا تريدين؟ ويبدي استعداده لعمل الأشياء.
هؤلاء الذين يخرجون من البيوت ينشغلون بزوجاتهم، ويبتعدون عن آبائهم وأمهاتهم فتحس الأم بفراغ كبير من جهة ولدها، وتحس بأن الزوجة أخذت ولدها عليها بالكلية، وهذا من أسباب الغيرة بين الأم وزوجة الابن.
ومجتمعنا فيه آفات وشرور كثيرة، وبعد الناس عن الدين سبب مآسي، تقول إحدى الأمهات: أصيح عند ربي، وربما يصل الحال بي من عقوق ولدي أن أدعو على نفسي وعلى البطن الذي حمله وعلى الثدي الذي أرضعه، قالوا لي: اشتكي عند الجهات الرسمية يسحبون جوازه، وأنا لا أريد لولدي الفضيحة، لا يسأل عني وراتبه كبير، وبالشحاذة أطلع منه بمائة، ومائتين، وإذا كلمته عن السفر للخارج، قال: أنت رجعية، جلست في المستشفى ثمانية أيام ما سأل عني إلا مرة، ويكذب علي، تقول: أنا يمكن أن أقف أمام الله وأصيح وأطلب ربي وأدعو عليه دعوة لا يردها الله، لكن لا أريد الضرر لولدي ولا الأذية، وعنده زملاء في العمل عندهم عوائل يسافرون إلى الخارج، أمه تقول: انظر إلى أقربائك المستقيمين يقول: لا تقولي انظر إلى فلان وفلان، كل واحد على طبيعته، تقول: تعبت عليه وربيته وهو الآن يصفق الباب ويمشي إذا ما أعجبه الكلام.
وهذه تقول: ولدها لا يصلي، ويسكر، ويرفع يده على أمه، وهي ربته وتعبت عليه، وهو يتيم وأنفقت عليه، ولا يعطيها قرشاً واحداً، ويصرف راتبه على أصحاب السوء وفي المخدرات.
وبعضهم لا يكون عنده لطافة ولا حسن أدب حتى الاتصال بأهله، فيجعل زوجته تذهب إلى بيت أبيه لتزورهم بالنيابة عنه، وتتصل عليه بالهاتف، وتقول له: خذ كلم أباك.
ولا نريد نحن أن نكون مثل الكفار الذين اشتدت عندهم المآسي من هذا النوع، وتقرأ: هذه قتلت أباها، وطعنت أمها عدة طعنات، حتى ظنت أنها ماتت وأخذت النقود وهربت مع عشيقها، أولئك الكفرة وضعوا آباءهم وأمهاتهم في المصحات ودور الرعاية، حتى صار الحال أن يفتخر الأب أمام الآباء الآخرين في دار الرعاية أن ابنه يزوره مرة في الشهر، وأنه إذا ما استطاع أن يزوره مرة في الشهر اتصل به هاتفياً، وذلك الذي رضي بعد التوسل أن يبقي أمه عنده شريطة أن تعمل في كنس البيت والزبالة وجلب الأغراض إلى المنزل، ويعطيها أجرة ويخصمها من السكن.
وأنتم تسمعون عن الجرائم الكثيرة التي تحصل، ومنها: من قتل أمه واستعمل سكيناً، واستعمل قالباً من الإسمنت، وتعاون على قتلها هو وزوجته، وغير ذلك من القصص في الواقع، لأننا نحن نقلد الكفرة ونسير وراءهم حذو القذة بالقذة.
وينبغي أن ينتبه حتى الشباب المتدينين إلى برهم بآبائهم وأمهاتهم، فبعضهم يستخدم الشدة في الكلام والتصرفات، وصفق الأبواب، ورفض الخدمة وجلب الأغراض، فضلاً عن أولاد السوء الذين يعملون أكثر من هذا بكثير كما ذكرنا.
وبعض الأولاد يقاطعون آباءهم لأمور دنيوية، فإذا رفض الأب أن يشتري له سيارة فإنه يقاطعه ولا يكلمه، الابن لا يكلم أباه.
موقف الأبناء من الأبوين الكافرين
وأما بالنسبة للموقف من الأب المشرك، فإن الآيات والنصوص قد جاءت في تبيان هذا، وعلى رأس الأمثلة إبراهيم مع أبيه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم: 41 - 45] بالرغم من صلافة الأب وشدته: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم: 46] بالرغم من هذا كان موقف الابن إبراهيم في غاية اللطافة: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم: 47].
وإبراهيم اهتم بأبيه وتلطف معه في الخطاب وهو كافر، وهو يقول: يا أبت في غاية التأدب، ولم يقل له: أنا أعلم منك، وأنت جاهل وأنا عالم، وإنما قال: قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ [مريم: 47] وهو النبوة.
وكذلك بين له بالحجة والدليل، ولم يقل: افعل ولا تسأل لماذا؟ وإنما بين له بالحجة والدليل: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا [مريم: 42].
وهو يبدي شفقته على أبيه في أثناء الخطاب والدعوة، ويقول: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن [مريم: 45] فتأمل في هذا الخطاب ما أحسنه وما ألطفه مع كون الأب كافراً من أعداء إبراهيم.
وهذه القاعدة في المعاملة قد جاءت بها النصوص الشرعية؛ كما قال الله : وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [لقمان: 15] يعني ليس فقط إذا كان كافراً أو مشركاً، وإنما لو أمرك وحتى لو أمرك بالشرك ماذا تفعل؟ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ؛ لأن طاعة الله مقدمة وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ، مع أنهما يأمران بالشرك ويأمران بالكفر، في صحيح مسلم عن مصعب بن سعد عن أبيه: أنه نزلت فيه آيات من القرآن، قال: حلفت أم سعد ألا تكلمه أبداً حتى يكفر بدينه ولا تأكل ولا تشرب، قالت: زعمت أن الله أوصاك، انظر إلى الحرب النفسية، الأم المشركة تقول لولدها المسلم: زعمت أن الله أوصاك بوالديك وأنا أمك وأنا آمرك بهذا، قال: فمكثت ثلاثاً حتى غشي عليها من الجَهد، فقام ابن لها يقال له: عمارة، فسقاها، فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله في القرآن هذه الآية، وكانت تريد أن يعير بها، فيقال: يا قاتل أمه، بقيت لا تأكل ولا تشرب، لكنه بين لها ثباته على العقيدة، وأنه لن يتزحزح عن دينه.
وكذلك من الأصول الشرعية في معاملة الوالدين إذا كانا على الكفر قول الله : لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة: 8]، ولذلك جاء في صحيح البخاري عن أسماء قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم، إذ عاهدوا النبي ﷺ مع أبيها، فاستفتيت النبي ﷺ، فقلت: إن أمي قدمت وهي راغبة؟ راغبة في صلتي راغبة في زيارتي، راغبة في أن أكرمها وهي مشركة، أفأصلها؟ قال: نعم، صلي أمك [رواه البخاري: 2620، ومسلم: 1003] ما يمنع، الوالدان لهما أحكام خاصة، استثناءات خاصة.
وقال ابن جرير رحمه الله: بر المؤمنين للقرابة لا يَحرم إذا لم يكن فيه تقوية على الحرب بكراع أو سلاح، أو دلالة على عورة أهل الإسلام لحديث أسماء.
فهذا هو الموقف من الأب والأم الكافرين والمشركين.
إذاً وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 15] رفض ما يؤمران به من المعصية، ومع ذلك المصاحبة بالمعروف.
فإن كانا فاجرين أو فاسقين، وهذا يوجد كثير، قد يوجد للإنسان أب فاسق أو أم فاجرة، ونحو ذلك، ماذا عليه؟
أن يدعوهما إلى الله، يأمرهما بالمعروف وينهاهما عن المنكر، قال الإمام أحمد: يأمر أبويه بالمعروف وينهاهما عن المنكر، إذا رأى أباه على أمر يكرهه يعلمه بغير عنف ولا إساءة، ولا يغلظ له في الكلام، وإلا تركه، وليس الأب كالأجنبي.
وقال: إذا كان أبواه يبيعان الخمر، لم يأكل من طعامهم ويخرج عنهم.
وسأل رجل أبا عبد الله: إن أباه له كروم، يعني بستان عنب يريد أن يعاونه على بيعها؟ قال: إن علمت أنه يبيعها ممن يعصرها خمراً فلا تعاونه.
فإذاً، الأب والأم لو كانا فاجرين فاسقين عاصيين، لا يعينهما الولد في المعصية.
وأحياناً يصل الأمر في بعض الحالات أن يكون هناك في غاية الوقاحة، هذه قصة واقعية: بنت اكتشفت أن أمها -والعياذ بالله- تفعل الفاحشة، فنبهتها ووعظتها، والأم تقول: لا تغضبيني، وتؤلف من عندها كلام تقول: الأم إذا كانت زانية، تغسلها بنتها من جنابة الزنا، يعني إنه يجب عليك أن تبري، هذه مثلها ماذا تفعل؟
تأمرها وتعظها وتذكرها بالله، وتبين لها بالأدلة، وهذا الآن الفساد في المجتمع في حالات كثيرة، فيها فسق الأبوين مع صلاح الأولاد، تداخلت الأمور والأشياء، واختلف الأمر عما كان في الزمان الأول، والهداية إذا شملت كثيراً من الشباب والحمد لله فإنه قد ينتج أن يكون هناك مفارقات في البيت، فينبغي أن يكون الموقف حكيماً والتبيان حاصلاً، ولو استدعى الأمر الاستعانة بأقرباء أو التنبيه؛ لأنه قد يكون واجباً تبليغ زوج هذه المرأة بحالها حتى يقوم عليها، فعند ذلك يبلغ ولا يعتبر من العقوق.
بعض الأحكام والمسائل الفقهية المتعلقة ببر الوالدين
وأما بالنسبة لبعض المسائل الفقهية المتعلقة بالبر:
أولاً: يجوز للأبوين أن يأخذا من مال ولدهما ما شاءا، بشرط أن لا يضرا بالولد وأن لا يعطيا المال لولد آخر، يجوز للأبوين أن يأخذا من مال ولدهما ما شاءا بشرط أن لا يؤذيا الولد ولا يضراه، كأن يأخذا بيته الذي هو سكنه، ويأخذا ثوبه الذي هو يلبسه، ويأخذا مركبه الذي يركبه ويبقى بدون شيء، لا مال ولا بيت ولا سكن ولا دابة، فهذا لا، لا يُمكنا من ذلك.
لكن ما زاد عن حاجة الولد ومصاريف عائلته وأولاده ونفقاته، يجوز للأبوين أن يأخذا منه ما شاءا.
بل إن الشريعة قد جعلت أنت ومالك لأبيك [رواه ابن ماجه: 2291، وأحمد: 6902، وقال محققو المسند: "حسن لغيره"] هو السبب في وجودك، فصار مالك ملكا له.
وقد بين النبي ﷺ أن من أطيب ما أكل الوالد من كسب ولده؛ لأن ولده من كسبه.
فإذاً، يشترط أن لا يضراه وأن لا يأخذا من ولد فيعطيا ولداً آخر.
وتجب النفقة للأبوين المحتاجين شرعاً، والأم إذا كانت متزوجة من رجل آخر فإن زوجها ينفق عليها، لكن لو احتاجت يجب على الولد أن ينفق على أمه إذا لم تجد طريقاً، ولا يحق للولد أن يمنع أمه من الزواج ما دامت ترغب في ذلك وهو متيسر.
ويبلغ العقوق ببعضهم أن يعير أمه بالنكاح إذا تزوجت، أو البنت تقول: تزوجت على أبي وأنت فيك كذا وكذا، تزوجت بعد أبي، هذا حرام عليها، لا يجوز، من حرم ذلك؟
ومن الأحكام: أنه يجب استئذانهما في الهجرة، جاء رجل إلى الرسول ﷺ، فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبواي يبكيان؟ فقال: ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما [رواه أبو داود: 2528، والنسائي: 4163، وابن ماجه: 2782، وأحمد: 6490، وقال محققو المسند: "إسناده حسن"].
ويجب استئذانهما في الجهاد، عند أبي داود: أن رجلاً هاجر إلى رسول الله ﷺ من اليمن، فقال: هل لك أحد باليمن؟ قال: أبواي، قال: أذنا لك؟ قال: لا، قال: فارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما [رواه أبو داود: 2530، وصححه الألباني في صحيح أبي دواد: 2283].
وهذا إذا لم يكن الجهاد متعيناً فرض عين، وكان النفير عاماً، فإن كان النفير عاماً فإنهما لا يطاعان في الجلوس.
وينبغي أن يعلم أن الجهاد قد يكون فرض عين، وطاعة الوالدين فرض عين كذلك، فلا يجب نسيان فروض الأعيان الأخرى والاحتجاج بأن هناك فرض عين، علماً أنه في كثير من الحالات يكون المستند الشرعي في إيجاب الجهاد على شخص بعينه غير وارد لأمور تتعلق بحال المسلمين، فإنه لا يجوز للمسلمين إعلان الجهاد إذا لم يكونوا على استعداد، وليست المسألة إلقاء المسلمين كالشياه لتذبح، وإنما إذا صارت المسألة دفع عن النفس، فإن المسلم يدافع عن نفسه، المسلم إذا دوهم في بيته وعرضه وماله يباح له أن يقاتل ويرفع السلاح ويدافع عن نفسه، ويجب على المسلمين دعمهم وتقديم كل أشكال المساعدة الحربية والمالية والاقتصادية والمعنوية والدعوة والتعليم، ونحو ذلك.
وقال الإمام أحمد في الرجل يغزو وله والدة، قال: إذا أذنت له وكان له من يقوم بأمرها، يجوز له أن يذهب .
وقال في رواية أبي داود: يظهر سرورها، قال: هي تأذن لي، قال: إن أذنت لك من غير أن يكون في قلبها وإلا فلا تغزو، يعني ليس فقط أن تأذن على مضض وعلى كره، قال الإمام أحمد: ينبغي أن تكون راضية قلبياً مطمئنة مقتنعة.
وجاء كلام المفسرين في حالات أصحاب الأعراف منهم أناس غزوا بغير إذن والديهم ولا رضا الوالدين فقتلوا، فمنعهم القتل في سبيل الله من دخول النار، ومنعهم عصيانهم لآبائهم من دخولهم الجنة، فهم على جبل بين الجنة والنار.
وأما السفر لطلب الرزق والمعيشة، وهذا سؤال يرد من الكثيرين، يقول: إنني وجدت عقد عمل في بلد آخر، وأريد أن أسافر لكسب الرزق، فماذا أفعل وأبواي في البلد عندي في القرية، في البلد، وأنا أريد أن أسافر إلى بلد آخر لمصلحة تتعلق بشؤوني مثل طلب الرزق؟
فنقول:
أولاً: إذا كان عندك مجال لطلب الرزق في بلدك بما يكفيك، وبقاؤك عندهما، واجب البر بهما.
وإذا كان لا مجال عندك، الحالة ضيقة أنت محتاج، لا بد أن تذهب إلى بلد آخر، فإنك تترفق وتستأذن، وبالكلام الطيب، حتى تستغني فترجع إليهما.
وكذلك السفر لطلب العلم، فإنه يستأذن والديه، وروي أن الفقيه نصر بن أبي حافظ المقدسي لما رحل من بيت المقدس في طلب العلم إلى الفقيه الكازروني بميافارقين من أرض العراق، قال له الكازروني لما قدم عليه: ألك والدة؟ قال: نعم، قال: فهل استأذنتها؟ قال: لا، قال: فوالله لا أقرأتك كلمة حتى ترجع إليها، فتخرج من سخطها، قال: فرجعت إليها، فأقمت معها إلى أن ماتت، ثم رحلت في طلب العلم.
وأما إن كان لتحصيل علم يحتاج إليه، فإنه لا بأس له بالسفر، مثل: أنه ينوي طلب العلم، ولا يجد مجالاً إلا في الدراسة في كلية شرعية في خارج البلد، لا مجال لطلب العلم في بلده، والعلم الذي يريد طلبه يحتاجه، أو البلد تحتاج، فإنه يخرج ولو بغير إذنهما، مع غاية التلطف وتكرار المزاورة والإقامة عندهما ما أمكن ذلك.
ومن المسائل الفقهية التي تكلم عنها العلماء في بر الوالدين: قطع صلاة النافلة من أجلهما عند النداء إذا خشي الغضب، واستدلوا بحديث جريج: "كان رجل في بني إسرائيل تاجراً، وكان ينقص مرة ويزيد أخرى، فقال: ما في هذه التجارة خير، لألتمسن تجارة هي خير من هذه، فبنى صومعته وترهب فيها، وكان يقال له: جريج" [رواه أحمد: 9603، وقال محققو المسند: "إسناده ضعيف"] كان يصلي، فجاءته أمه فدعته.
وفي رواية: كان جريج يتعبد في صومعته، فأتته أمه ذات يوم، فنادته قالت: أي جريج أشرف علي أكلمك أنا أمك، وكان يصلي، فقال: أي رب، صلاتي وأمي؟ [رواه أحمد: 8994، وقال محققو المسند: " إسناده صحيح على شرط مسلم"].
وفي رواية: "فصادفته يصلي، فوضعت يدها على حاجبها"، لأنه في الصومعة "فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فاختار صلاته" ثلاث مرات، هي ترجع ثم تأتي بعد ذلك تصادفه يصلي، لأنه كان كثير العبادة والصلاة فتناديه، حصل ذلك ثلاث مرات، فغضبت، من شدة الغضب، قالت: "اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات" [رواه أحمد: 9602، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"].
وفي رواية: فغضبت فقالت: أبيت أن نطلع إلى وجهك، لا أماتك الله حتى تنظر في وجهك زواني المدينة، فحصلت بعد ذلك القصة المعروفة من هذه المرأة التي زنت بالراعي، واتهمت جريجاً، وجاء بنو إسرائيل فكسروا الصومعة وضربوه، وبعد ذلك جاء بهذا الصبي الذي ولد من الزنا، فقال: يا غلام من أبوك؟ لأنه توضأ وصلى ركعتين، ثم دعا الله وجاء للغلام فقال: من أبوك؟ قال: الراعي، فعند ذلك عرفوا شأنه، وسبح الناس وعجبوا، وأرادوا أن يعيدوا بناء الصومعة من الذهب، قال: أعيدوها طيناً كما كانت [رواه مسلم: 2550].
فالمهم: أنه إذا ناداك أحد الأبوين وأنت تصلي صلاة النافلة، فإن كنت تعلم أنك لو ما أجبت الآن يغضبان عليك تخشى من الغضب والزعل تقطع صلاة النافلة وتجيب.
وإن كانت فريضة تخفف الصلاة.
وأما بالنسبة لمسألة إذا تعارض بر الأب مع بر الأم.
نحن نعلم أن طاعة الزوج مقدمة على طاعة الأبوين، بالنسبة للمرأة إذا تزوجت فطاعة زوجها مقدمة على طاعة أبويها.
لكن بالنسبة للأحوال الأخرى إذا تعارض طاعة الأب مع طاعة الأم، إذا تعارض طاعة الزوج مع طاعة الوالدين تقدم طاعة الزوج بالنسبة للزوجة.
في الأحوال الأخرى إذا تعارض طاعة الأب مع طاعة الأم، نظرنا إن كان أحدهما يأمر بطاعة والآخر يأمر بمعصية، قدمنا صاحب الطاعة، وإن تعارض أمرهما، وكلاهما يأمر بالمعصية، عصيناهما كليهما، مثل أن يقول الأب: لا تكلم أمك، وتقول الأم: لا تكلم أباك، كل منهما يأمر بمعصية، وكل منهما يأمر بأمر فيه خلاف لأمر الآخر، فما هو الحل؟
معصية، ما في، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وكذلك لو قال لك أبوك مثلاً: لا تكلم خالك، لا تكلم عمك، أو قالت لك أمك: لا تكلم خالتك، ماذا تفعل؟
تكلم خالتك سراً، وتكلم عمك سراً، فتصل الرحم ولا تعصيها في ظاهر الأمر، يعني بالنسبة لها لكي لا تغضبها.
وإذا تعارضا تعارضاً ليس فيه معصية، لكن ما استطعت أن تصلهما جميعاً مثل الإنفاق، ما عندك إلا مال قليل لا يكفي إلا لواحد منهما، فمن تقدم؟
الأم مقدمة على الأب في البر؛ لأن النبي ﷺ أوصى بها ثلاثاً.
فإذا لم يقدر على نفقة إلا أحد الأبوين، فعند ذلك يقدم الأم، ويحاول التوفيق ما أمكنه.
كذلك إذا كان كل واحد منهما أمره بأمر في نفس الوقت، فإنه يحاول التوفيق ما أمكنه ذلك بكل طريقة يفرغ وسعه وجهده في هذا الأمر، كما قال رجل لمالك: والدي في السودان كتب لي أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من الذهاب، تقول: ابق عندي، فقال الإمام مالك: أطع أباك ولا تعص أمك.
وهذه صعبة، أطع أباك ولا تعص أمك، معناه يجتهد في الإقناع، إقناع واحد من الطرفين أو ماذا يفعل؟ يأخذ أمه ويذهب إلى أبيه.
ومعنى كلام مالك -رحمه الله-: المبالغة في إرضاء الطرفين، والأم لها ثلثا البر.
وكذلك من المسائل التي تكلم فيها العلماء: لو أن الأم أرادت الولد شاهد، أو يترافع عنها في المحكمة ضد الأب؛ لأن الأب مثلاً مقصر في النفقة، ونحو ذلك، فقال بعض العلماء: لا يترافع الابن، وإنما يبقى خارج الموضوع لا يترافع.
وبعضهم قال: إذا كانت مظلومة يترافع لها ضد أبيه مع الإحسان للأب، وإنما مسألة المعاملة من باب أنها تمشي الأوراق.
وبالنسبة لطاعة الوالدين في ترك الواجبات وفعل المحرمات والوقوع في المشتبهات.
فأما بالنسبة لطاعة الوالدين في ترك الواجبات، فإن العلماء قالوا: إنه لا يطاع الوالدين في ترك الواجبات مطلقاً، مثل: لو أمراه بترك فريضة، أو قالا له: أخر الحج أنت صغير الآن، عمرك خمس عشرة سنة، سبع عشرة سنة، أخر الحج، والحج فريضة، فهل يطيعه وإلا لا؟ إذا ملك الزاد والراحلة والقدرة لا يطيع؛ لأن الحج واجب على الفور، فإذا استطاع الحج ما يطيعهما مع لينه لهما.
كذلك سئل الأوزاعي عن الرجل تمنعه أمه عن الخروج إلى الجماعة والجمعة، قال: ليطع ربه، وليعص أمه في ذلك.
وروى البخاري عن الحسن قال: إن منعته أمه عن العشاء في الجماعة شفقة عليه فلا يطعها.
لو قالت: يا ولدي برد، يا ولدي المسجد بعيد، وصلاة الجماعة واجبة، والولد في قدرته أن يذهب وليس هناك خوف عليه، لا من اختطاف، ولا من قتل، ولا من حرب، ولا من سباع، فإنه يذهب إلى الجماعة.
وأما بالنسبة إذا أمراه في فعل المحرمات فإنه لا يطيعهما كذلك؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، سمعت هارون بن عبد الله يقول: جاءني فتى، فقال: إن أبي حلف علي بالطلاق أن أشرب دواء مع مسكر؟ قال: فذهبت به إلى أبي عبد الله، يعني الإمام أحمد، فأخبرته أن هذا الأب يأمر ولده بأن يشرب الدواء مع مسكر، فقال الإمام أحمد: قال النبي ﷺ: كل مسكر حرام ، ولم يرخص له.
وقال الإمام أحمد في رواية الحارث في رجل تسأله أمه أن يشتري لها ملحفة للخروج، تقول: يا ولدي اشتر لي ملابساً للخروج؟ قال: إن كان خروجها في باب من أبواب البر كعيادة مريض أو جارة أو قرابة لأمر واجب لا بأس، وإن كان غير ذلك فلا يعينها على الخروج.
فلو قالت: وديني على حفلة زفاف وأنت تعلم أن فيها منكرات، فإنه لا يجوز لك أن تذهب بها مع التلطف، ولو دعت عليك.
وفي رواية عن الإمام أحمد ، سئل عن رجل يكون له والد يكون جالساً في بيت مفروش بالديباج، يعني حرير، معروف أن افتراش الحرير حرام، الأب يقول للولد: ادخل علي، والأب جالس على أريكة وأمامه بساط من الحرير، قال الإمام أحمد: لا يدخل عليه، قلت: يا أبا عبد الله يأبى عليه والده، قال: يلف البساط من تحت رجليه ويدخل، إنما لا يطأ فراش الحرير.
ومن الدقائق التي ذكرها أهل العلم كذلك ما ذكره الملا علي قاري في شرح الفقه الأكبر قال: لو كان لمسلم أم أو أب ذمي، فليس له أن يقودهما إلى بيعة، لأن ذهابهما إلى البيعة معصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
فالبيع معابد اليهود والنصارى، لو كان أبوه نصرانياً أو يهودياً أو أمه كذلك، فقال له: اذهب بنا يوم الأحد إلى الكنيسة، فماذا يفعل؟
لا يجوز له أن يقودهما، لأن ذهابهما معصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
لكن لو قالا له: ما تريد تأخذنا، نحن نذهب في سيارة الأجرة، لكن ممكن ترجع لنا عند موعد الخروج من الكنسية، هل يذهب ويأتي بهما أم لا؟
الجواب: أما إيابهما منها إلى منزلهما فأمر مباح، فيجوز له أن يساعدهما، ولعله آخر رجوعهما عن البيعة إلى المنزل بتوفيق الله بالتوبة وحسن الخاتمة.
فإذاً، الرجعة ممكن، والذهاب لا.
أما بالنسبة للمشتبهات، فكلام أكثر العلماء: أن طاعة الوالدين واجبة في الشبهات وإن لم تجب في الحرام المحض، ما يجوز أن يطيع في الحرام المحض، لكن لو أنهما أمراك بأن تأكل معهما، وإذا ما أكلت معهما يغضبان عليك، والطعام الذي يأكلان منه فيه شبهة ما هو حرام، فيه شبهة، فماذا تفعل؟
بناءً على قول الأكثرين: فإنك تأكل معهما؛ لأن ترك الشبهة مستحب، وطاعة الوالدين واجبة، فيقدم الواجب على المستحب.
فإن كان الأب مكسبه من حرام، أو الأم كسبها حرام، فإذا علمت أن هذا حرام معين، لا تأخذ منه، ولا تأكل منه، وإذا اختلط الحرام بالحلال، وما في تمييز، فإنك تأكل إذا أمراك بذلك، فإن كان حراماً خالصاً، فإنه لا يأكل، وإن كان مختلطاً فإنه يأكل، وسئل الإمام أحمد -رحمه الله-: عن رجل مات أبوه وعليه دين، وله مال فيه شبهة، الأب عنده أموال فيها شبهة، ليس بحرام، فيها شبهة، الولد يقول: هل يجوز لي أن آخذ مال الأب أستوفيه لأقضي الدين؟ قال: تدع ذمة أبيك مرتهنة، يعني اقض الدين، لأن قضاء دين أبيك واجب، وتحصيل الأموال التي فيها شبهة ليس بحرام، فتسدد دين أبيك.
أما بالنسبة لترك النوافل -وهو الأمر الرابع- فماذا يفعل؟
أما بالنسبة لحج النافلة وعمرة النافلة، قال ابن قدامة -رحمه الله- في حج التطوع: للوالد منع الولد من الخروج إليه؛ لأن له منعه من الغزو، وهو من فروض الكفايات، والتطوع أولى.
فرض كفاية أعلى أم المستحب؟
فرض الكفاية أعلى.
وقال في مسألة: لا يجاهد من أبواه مسلمان إلا بإذنهما، يعني تطوعاً؛ لأنه إذا كانا كافرين فلا يؤخذ أذنهما في الجهاد.
وقال: لا يجاهد من أبواه مسلمان إلا بإذنهما، يعني جهاد التطوع، إن ذلك يروى عن عمر وعثمان، وإنه قول مالك والشافعي وسائر أهل العلم، واحتجوا بالأحاديث؛ ولأن بر الوالدين فرض عين، والجهاد فرض كفاية، وفرض العين مقدم، فإن تعين عليه الجهاد سقط إذنهما، وكذلك ما وجب كالحج، وصلاة الجماعة، والجمع، والسفر للعلم الواجب لأنه فرض عين، هذا عرفنا سابقاً أنهما لا يطاعان في تركه، لكن بالنسبة للنوافل فإذا أمراه بترك النافلة مطلقاً لا يطاعان، لو قالا له: لا تصل صلوات نافلة أبداً، ما نسمح لك تصلي إلا الفريضة، فماذا يفعل؟
لا يجيب.
إن قالا له: لا تصوم صيام تطوع نهائياً منعناك، وليس عليه ضرر في الصيام، فإنه لا يمتثل لا يجب عليه الامتثال، فليس لهما منعه من الأشياء النافلة مطلقاً.
والسنن الراتبة إذا دعياه لحاجتهما المرة بعد المرة فليطعهما، يعني لو قال: لا تصل السنة، تعال أريدك في مشوار، يذهب معه، هذه مرة، صلاة الليل تعال أريدك في قضية، لا بأس، لكن دائماً يقول له: لا تصل ولا نافلة ولا سنة راتبة ولا قيام ليل، لا يطاعان في هذا، ليس من حقهما، يعني إذا كان النهي عن النوافل، هذه قاعدة: إذا كان النهي عن النوافل على سبيل الدوام واللزوم فلا طاعة لهما؛ لأن فيه إماتة شعائر الإسلام.
وذكر بعض أهل العلم: أن الوالد لا يجوز له منع ولده من السنن الراتبة، وكذلك الزوج ما يمنع زوجته من السنن الراتبة، والسيد لا يمنع عبده من السنن الراتبة، وصاحب الشركة لا يجوز له منع الموظفين من السنن الراتبة بالكلية، فكل ما تأكد شرعاً لا يجوز منع الولد منه.
وكذلك النفل المؤكد كطلب العلم إذا كان لا يضرهما، قال بعض العلماء: إنه لا يطاعان في ذلك، إذا كان ما عليهم ضرر لو اشتغل بطلب العلم النافع.
وكذلك تطليق الزوجة بالرأي المجرد: طلق زوجتك، ليش؟ كذا تطلق، لماذا؟ ما في سبب، طلق، هذا لا يطاعان فيه، لا ضرر ولا ضرار.
فإذا أمراه بطاعة الزوجة لمجرد هوى، هذا يحصل عليه ضرر فإنه لا يطيع، لا يلزمه الطاعة.
وسئل الإمام أحمد -رحمه الله-: عن رجل يصوم التطوع، فسألاه أبواه أو أحدهما أن يفطر؟ قالا له: أفطر هذا اليوم، قال: يروى عن الحسن أنه قال: يفطر وله أجر البر وأجر الصوم إذا أفطر، وقال: إذا أمراه أبواه ألا يصلي إلا المكتوبة يداريهما ويصلي.
قال الشيخ تقي الدين -رحمه الله-: ففي الصوم كره الابتداء فيه إذا نهاه واستحب الخروج منه، وأما الصلاة، فقال: يداريهما ويصلي.
وقد نص أحمد على خروجه من صلاة النفل إذا سأله أحد والديه.
فإذاً، إذا كان النهي عن النافلة مطلقاً لا يطاعان، إذا كان مرة بعد مرة، سألاه شيئاً: اترك، تعال، نريدك، يطيعهما.
إن نهاه عن طاعة لهوى وتحكم وما في أي مصلحة لهما، مثل لو قال له: لا تحلق رأسك في الحج والعمرة، ليه؟
قال: لأنك تصير أصلع وشكلك يصبح قبيحا، ما نسمح لك تحلق رأسك في الحج والعمرة، فهذا تحكم ولا طاعة لهما في هذا مع التلطف والمداراة.
وأما بالنسبة للزواج قال الإمام أحمد رحمه الله: إن كان له أبوان يأمرانه بالتزويج أمرته أن يتزوج، أو كان شاباً يخاف على نفسه العنت أمرته أن يتزوج، صار الزواج أوجب الآن من طاعة الوالدين.
لو العكس، لو قالا له: لا تتزوج، قال أحمد في رواية المروذي: إن كان الرجل يخاف على نفسه ووالداه يمنعانه من التزوج فليس لهما ذلك، ولا يطيعهما.
إن قالا له: تزوج لكن فلانة، نريدك أن تتزوج فلانة، ولا نرضى لك غيرها، قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد، وأنه إذا امتنع لا يكون عاقاً، وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر منه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه كان النكاح أولى كذلك وأولى، فإن أكل المكروه مرارة ساعة، وعشرة المكروه من الزوجين على طول تؤذي صاحبه ولا يمكنه فراقه، وبناءً على ذلك لو قالا له: لا تتزوج إلا فلانة وهو لا يريدها، فإنه لا يجب عليه الطاعة في هذا؛ لأن هذه عشرة عمر، والضرر فيها واضح جداً.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: عن رجل متزوج وله أولاد، ووالدته تكره الزوجة وتشير عليه بطلاقها، هل يجوز له طلاقها؟
فأجاب: لا يحل له أن يطلقها لقول أمه، بل عليه أن يبر أمه، وليس تطليق امرأته من برها، والله أعلم.
وسئل رحمه الله: عن امرأة وزوجها متفقين، وأمها تريد الفرقة، فلم تطاوعها البنت، فهل عليها إثم في دعاء أمها عليها؟
فأجاب: الحمد لله، إذا تزوجت لم يجب عليها أن تطيع أباها ولا أمها في فراق زوجها ولا في زيارتهم، ولا يجوز في نحو ذلك، بل طاعة زوجها عليها إذا لم يأمرها بمعصية الله أحق من طاعة أبويها، وأيما امرأة ماتت وزوجها عليها راض دخلت الجنة.
وإذا كانت الأم تريد التفريق بينها وبين زوجها فهي من جنس هاروت وماروت لا طاعة لها في ذلك ولو دعت عليها، اللهم إلا أن يكونا مجتمعين على معصية، أو يكون أمره للبنت بمعصية الله، والأم تأمرها بطاعة الله ورسوله الواجبة على كل مسلم.
فإذا كان الزوج يسوسها بطاعة الله، ما لأحد حق أن يتدخل.
ووردت هناك أحاديث في طلاق الزوجة إذا أمره الأب، مثل الحديث الصحيح عند ابن حبان: أن رجلاً أتى أبا الدرداء، فقال: إن أبي لم يزل بي حتى زوجني، وإنه الآن يأمرني بطلاقها، قال: ما أنا بالذي آمرك أن تعق والديك، ولا بالذي آمرك أن تطلق امرأتك، غير أنك إن شئت حدثتك بما سمعت من رسول الله ﷺ، سمعته يقول: الوالد أوسط أبواب الجنة، فحافظ على ذلك الباب إن شئت أو دع، كيف يطبق هذا، وعمر أمر ولده بطلاق المرأة، فطلقها؟
الجواب: إذا كان تطليقه للزوجة فيه مصلحة للولد، الزوجة عاصية، الزوجة فاجرة، الزوجة مقصرة، الزوجة فيها سوء في الدين والخلق، يجب على الولد أن يطيع أباه وأمه في تطليق الزوجة إذا ما انصلحت.
أمره أبوه بطلاق امرأته لم يجب عليه، سأل رجل الإمام أحمد، فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق امرأتي، قال: لا تطلقها، قال: أليس عمر أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته؟ قال: حتى يكون أبوك مثل عمر، عنده حكمة عمر، ونظر عمر.
ونص أحمد أيضاً أنه لا يطلق لأمر أمه، فإن أمره الأب بالطلاق ينظر إذا كانت الزوجة مقصرة عاصية طلق، وإذا كانت الزوجة مطيعة لا يجب عليه الطلاق ويهدم بيته.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: يبر في جميع المباحات، لو أمراه بأمر مباح، يجب عليه، فما أمراه ائتمر، وما نهياه انتهى، وهذا فيما كان منفعة لهما ولا ضرر عليه.
فإذاً، فيه تقييد لقضية الطاعة، إذا كان عليه ضرر وما لهم فيه مصلحة، فهل يجب الطاعة؟ عليه ضرر، وليس لهما مصلحة، وأمراه بشيء أو نهياه عن شيء، فيه ضرر عليه، وليس فيه مصلحة لهما، يجب عليه الطاعة؟ لا، لا يجب عليه.
والذي ينتفعان به ولا يستضر هو به، هذا يجب عليه أن يطيعهما فيه.
فإذا كان ينتفعان به ولا يضره، فإنه لا يستراب في وجوب طاعتهما فيه، فإن كان يضره طاعتهما فيه لم تجب طاعتهما فيه، لكن إن شق عليه ولم يضره، يعني ممكن يتحمل مع شيء من المشقة، وجب عليه الطاعة لعظم حق الوالدين.
الدعوة إلى الله وبر الوالدين
ونأتي في نهاية المطاف للكلام على موضوع: علاقة الشباب بآبائهم وأمهاتهم في مجال الدعوة إلى الله .
نقول: لا شك أن الدعوة إلى الله فيها متطلبات، وتحتاج إلى تضحيات وتحتاج إلى تقديم أوقات وأموال.
وكذلك الأبوان يحتاجان إلى بر، ويجب أن لا يفصل الشاب بين بر الوالدين والدعوة إلى الله، ويقول: أنا نذرت نفسي للدعوة وطلب العلم، يعني أن الوالدين ليس لهما حق في هذا، هذا خطأ، يجب أن يكون بر الوالدين داخل في ضمن الدين والعبادة، بل هو كذلك هو منه فلماذا يفصل؟
وبعضهم يقدم طاعة إخوانه والشباب من أصحابه على طاعة والديه في جميع الأحوال، وهذا خطأ، ولذلك فإن طاعة الوالدين مقدمة ولا شك.
والأب إذا قال لولده نأتي هنا لمسألة: إذا قال له: لا تطلب العلم، لا تحضر ولا حلقة؟
فلا شك أن هذا لا يطاع فيه؛ لأن هذا تحكم بلا دليل، وفيه ضرر على الولد يمنعه من حضور حلق العلم بالكلية، لكن لو قال: اليوم لا تحضر، تعال أريدك، يذهب مع أبيه، أما أن يمنعه من طلب العلم بالكلية، فهذا لا يطاع فيه.
كذلك لو قال: لا أريدك أن تدعو إلى الله أبداً، هذا أيضاً لا يطاع فيه، لكن لو كان له مشوار مع شخص من المدعوين، وحضر حاجة للأب وأمر للأب، يقدم الأب للحق الشرعي.
كذلك لو قال له: لا تصحب إخوانك في الله هؤلاء، لا أريدك أن تصحبهم مطلقاً أبداً اعتزلهم، فهذا الأمر الكلي بالاعتزال لا يطاع فيه، وفيه ضرر على الولد، وفقد الرفقة الصالحة، وربما حصلت للولد به انتكاسة، ولذلك لا يطاع في هذا.
لكن لو قال: أنت إلى أين ذاهب؟ قال: أذهب مع إخواني في الله، قال: أحتاجك في الذهاب معي إلى السوق، يذهب معه إلى السوق، يقدم الأبوين.
لكن أن يقول: لا تذهب معهم مطلقاً لا يطاع في هذا.
وينبغي على الشباب والدعاة إلى الله أن يرفقوا بآبائهم وأمهاتهم، وأن لا يضغطوا عليهم الضغط الذي يسبب لهم كسر الخاطر، ويسبب لهم الضيق، ولا يفرض عليه الأمر فرضاً، يقول: ترضى بالواقع وإلا أعصيك، إما تعطيني الآن الرضا منك والموافقة، إما تعطيني الموافقة وإلا عصيتك؟
فهذا لا يفعل، لا يصلح أن يفعل مع الأب والأم.
ويجب أن نفرق بين رفض الأب والأم شيئاً ضرورياً للابن شرعاً، كطلب العلم والزواج، وبين أن يرفض له أموراً يمكن للابن أن يستغني عنها دون ضرر عليه في دينه.
أعيد: هناك فرق بين أن يرفض للابن أو يأمر الابن بشيء فيه ضرر على نفسه، على دينه، وبين أن يأمراه أو ينهياه عن شيء فيه مشقة عليه، لكن يمكن أن يتحمل، ولا يتأثر دينه، فهذا يطاعان فيه.
وعند النظر في أمور الدعوة والتربية، فإنك تنظر هل هذا الأمر ضروري بالنسبة لك؟ لو ما فعلته تأثم مثلاً أو تتضرر في دينك أو يحصل لك انتكاسة مثلاً؟ فإذا كان يحصل وليس للأب منفعة أو الأم في أمرهما.
إذاً، لا يطاعان، وتعمل هذه العبادة.
وإذا كان لا يحصل عليك ضرر في دينك، ولا يأمرانك أمراً نهائياً كلياً عاماً، وإنما المرة بعد المرة قد يفوت عليك مناسبة، تفوت عليك حلقة، درس مرة، فهنا يطاع، فهنا تلزم الطاعة.
ويجب أن نفرق كذلك بين مواقف الآباء إذا منعوا أولادهم من مرافقة أهل الخير، نفرق في الأسباب، فإذا منعه عداء للدين وأهله، قال: أنا لا أحب المتدينين أبداً، لا تمش معهم، هذا ما له حق.
قد يخاف على ولده من أمور متوهمة، فهنا الابن يراعي المقصد الحسن للأب، أنه يخاف عليه الخشية، يراعي ذلك ما استطاع.
وأحياناً يفعل ذلك الأب والأم تحكم، يقول: لا تفعل كذا، لا تذهب مع فلان، لا تذهب مع هؤلاء، لا تحضر درساً في كذا، ليه؟ بس افعل نفذ، فهذا ذكرنا فيه أن التحكم هذا في المنع بالكلية لا وجه له شرعاً.
وأحياناً يظن الأب مثلاً أن المصلحة الدراسية للولد أن يدرس طيلة الوقت وألا يخرج مع إخوانه في الله وألا يحضر مجلس علم، ونحو ذلك، قصد الأب ألا يضيع الولد دراسياً، فعلى الولد أن يثبت للأب أنه ليس بمضيع للدراسة، وأنه يقوم بالدارسة حتى يتشجع الأب على السماح لولده.
وختاماً: فإننا نسأل الله أن يرزقنا وإياكم البر بآبائنا وأمهاتنا، وأن يجعلنا من القائمين بحقوقهما العاملين على إرضائهما في طاعته سبحانه.
ترجمة مختصرة للعلامة حمود بن عبد الله التويجري
وأود قبل أن أختم هذا اللقاء أيها الإخوة أن أشير بكلمة إلى وفاة الشيخ العلامة حمود بن عبد الله التويجري في الليلة الماضية فقد توفاه الله بعد مرض عضال طال معه.
وتوفي مغرب الليلة الماضية عن عمر يقارب التاسعة والسبعين وحياة نحسبه أنه قضاها في طاعة الله والرد على المبتدعة وعلى الملاحدة والزنادقة، وله كتب في هذا.
والشيخ عبد العزيز بن باز إذا أتاه مقالات وأشياء من المنحرفين أحالها إلى الشيخ حمود ليرد عليها، وله كتب في الرد على الصوفية المنحرفين ككتاب: الرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن علوي.
وكذلك: الرد القويم على المجرم الأثيم.
وله كتاب نفيس في الرد على من أحل الربا وأدخل شبهات في قضية الأوراق النقدية، كتاب مهم للغاية، وله مجلدان في أشراط الساعة، ورسائل أخرى، وكان يقرأ مؤلفاته بنفسه على الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله تعالى، فلما توفي الشيخ عبد الله بن حميد صار يقرأها على الشيخ عبد العزيز بن باز.
وهو رجل فاضل، وكان قليل الاختلاط بالناس مقبلاً على طاعة الله وعبادته، حتى إنك لتراه في مكة كثير الطواف، دائم الاعتكاف، والذهاب إلى هناك.
وهو طيب المعشر، كان رحمه الله ذو أخلاق حسنة، إذا جالسته رأيت منه البشر والتواضع، وفيه شدة وإغلاظ على أعداء الله، والحق يقال أنه من الذين لا يخافون في الله لومة لائم، كان قوياً في الحق يقول كلمة الحق.
ولم يكن له محاضرات، ولم يكن له دروس كثيرة وأشرطة، لكن الرجل يعرف من عبادته وتقواه وأخلاقه، وكتبه التي ألفها.
وقد أم الناس في الصلاة عليه في هذا اليوم صلاة الظهر في مسجد الراجحي في الربوة في الرياض الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وجمع من العلماء الذين حضروا من مشارق البلد ومغاربه وأنحائه للصلاة عليه.
توفي الليلة الماضية صلاة المغرب وصلوا عليه اليوم في صلاة الظهر.
وذكر الشيخ عبد العزيز في كلمة قال: إن النبي ﷺ قد بشر الذين يثني الناس عليهم خيراً في الدنيا، من أثنيتهم عليه خيراً فقد وجبت، وهذا من العلماء من أهل العلم الذين يثنى عليهم خيراً، معروف بمواقفه، ربما لا يعرفه كثير من الناس، لأنه ليس صاحب دروس ومحاضرات وتنقلات، ولكنه لمن زاره في بيته وجلس معه قرأ بعضاً من كتبه يعرف حقيقة الرجل وسمع مواقفه في الحق، فهو قوي في الحق، والحق يقال.
وقد حضر جمع غفير جداً، مع أن الخبر لم ينتشر بالدرجة الكافية في المسجد فملئوا المسجد على اتساع المسجد وسطح المسجد والشوارع المجاورة، وسدت الطرق، وأغلقت بعض الأنفاق، والطريق الدائري، وبعض الناس صلى في المطر، يعني في الماء، في الوحل.
وتبعه خلق غفير إلى مقبرة النسيم في الرياض.
ودفن هناك اليوم بعد صلاة الظهر رحمه الله رحمة واسعة وغفر له.
اللهم ارفعه في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين.
اللهم أبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، واجعل مثواه في جنات النعيم، واغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وللمسلمين والموحدين يا رب العالمين.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.