الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
غاية الإنسان وهدفه في الحياة
فإن ربنا لم يخلق السموات والأرض باطلاً، إنما خلقهما بالحق: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا [المؤمنون: 115] تأكلون وتشربون وتمرحون سدى، تتمتعون بلذات الدنيا، ثم نترككم ولا نأمركم ولا ننهاكم، ولا نثيبكم ولا نعاقبكم، ولا نكلفكم وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115] فتعالى الله عن هذا الظن الباطل.
قد هيّؤوكَ لأمر لو فطنت له | فأربا بنفسك أن ترعى مع الهمل |
المسلم في الدنيا له هدف وغاية، يسعى لتحقيق ما أمره الله به، حياته لله، وهي عبادة لا تقتصر على الشعائر فقط كالصلاة والصوم والزكاة، والحج، بل تشمل كل قول وعمل صالح ونافع، وسواء كان هذا العمل من أمور الآخرة، أو من أمور الدنيا، فإن المسلم لا يتوقف عن القيام به، إذا كان نافعاً؛ لأن نبيه ﷺ علمه فقال: احرص على ما ينفعك [رواه مسلم: 2664].
كان السلف الصالح -رحمهم الله- يذمون الرجل أن يمضي حياته سبهللاً بلا هدف ولا غاية ولا عمل، وقد روى الطبراني في المعجم الكبير عن ابن مسعود قال: "إني لأمقت أن أرى الرجل فارغاً، لا في عمل دنيا ولا آخرة" [رواه الطبراني في الكبير: 8539].
وقد ورد هذا الأثر مشهوراً عن عمر بلفظ: "إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللاً لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة" لكن قال الزيلعي: "لم أجده إلا من قول ابن مسعود" [تخريج أحاديث الكشاف: 2/353].
ومعنى: "سبهللاً" يعني غير مكترث بذهابه، لا في عمل دنيا ولا آخرة.
قال في القاموس: "ويمشي سبهللا، إذا جاء وذهب في غير شيء" [القاموس المحيط، ص: 1013].
يروح ويجي بلا طائل ولا نتيجة، لا هدف ولا غاية.
"الرجل السبهلل" الذي لا يتقن شيئاً، ولا يعمل شيئاً، وهكذا.. يدع أموره هملاً، وتذهب أوقاته سدى، يضيع العمر والفرص.
ولذلك كان لكل مسلم لا بد أن يكون له مشروع، لا بد أن يكون هنالك لكل مسلم عمل، يقوم به في حياته، بل أعمال كثيرة.
والإنسان مسؤول عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، والأفراد يقاسون بالمنجزات لا بالإعمار، قال الله -تعالى-: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يــس: 12] ما قدموا من الأعمال التي عملوها، وباشروها في حياتهم، من خير أو شر، وَآثَارَهُمْ آثار الخير وآثار الشر، خطوات هؤلاء، في عمل الخير وفي عمل الشر، هذه الأعمال التي نشأت بأعمالهم وأقوالهم وأحوالهم تكتب.
نسب ابن آدم فعله | فانظر لنفسك في النسب |
ماذا أضفت لهذه الدنيا؟ ماذا فعلت فيها؟ ماذا قدمت؟ ماذا تنوي أن تفعل؟
لا بد أن تترك أثراً.
عمر الإنسان لا يقاس بالسنين فقط بل بالإعمال، بعض الناس عاشوا قليلاً وتركوا كثيراً.
كم عاش الإمام الشافعي -رحمه الله-؟ وماذا ترك؟
كما عاش النووي؟ وماذا ترك؟
كم عاش شيخ الإسلام؟ وماذا ترك؟
كم عاش الشيخ حافظ حكمي؟ وماذا ترك؟
لا بد أن يكون لكل شاب لكل فتاة لكل إنسان صغير أو كبير، لا بد أن يكون له أعمال، ومنجزات، وأهداف، غايات، خطط.
السير بلا هدف إهدار للحياة، وإذا لم تكن تعرف إلى إين تتجه فلن تصل.
والذي لا يوجد عنده أهداف يسعى إليها يعيش عيشة عشوائية ويتخبط، وقيمة كل امرئ ما يحسنه، وقيمة كل امرئ ما يطلبه، وأصدق الأسماء؛ كما قال ﷺ: حارث وهمام [رواه أبو داود: 4950، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 1977].
((همام)) من الهم، و ((الحارث) يعمل يحرث يكدح يشتغل.
ما هو الشيء الذي تود أن تحققه؟
قال أبو الزناد -رحمه الله-: اجتمع في الحجر في الكعبة، عبد الله ومصعب وعروة، بنو الزبير بن العوام، وابن عمر، أربعة، فقال بعضهم لبعض: تمنوا، فقال ابن الزبير: أتمنى الخلافة، وقال عروة: أتمنى أن يؤخذ عني العلم، وقال مصعب: أتمنى إمرة العراق، والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين، أن أتزوجهما، قال بن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة، قال أبو الزناد: فنالوا ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر له، [سير أعلام النبلاء: 4/141].
وإذا النفوس كن كباراً | تعبت في مرادها الأجسام |
النفس تواقة للمعالي
لا بد أن يكون لك -يا أخي المسلم- نفس تواقة للمعالي، قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "إن نفسي تواقة، وإنها لم تعط من الدنيا شيئاً إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه، فلما أعطيت ما لا أفضل منه في الدنيا" يعني الخلافة، "تاقت إلى ما هو أفضل منه" يعني الجنة [تهديب الكمال: 21/445].
وقال: "يا رجاء إن لي نفس تواقة، تاقت إلى فاطمة بنت عبد الملك فتزوجتها، وتاقت إلى الإمارة فوليتها، وتاقت إلى الخلافة فأدركتها، وقد تاقت إلى الجنة فإني أرجو أن أدركها إن شاء الله" [وفيات الأعيان: 3/301].
هذه النفوس الطامحة، قال ﷺ: إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفاسفها [رواه الطبراني في الكبير: 2894، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1378].
التقى أحد شيوخ الصوفية، وهو شقيق بن إبراهيم البلخي مع إبراهيم بن أدهم في مكة، فقال له إبراهيم بن أدهم: ما بدء أمرك الذي بلغك إلى هذا؟ ما هو الحدث؟ ما هي القصة التي جعلتك تمتنع عن التكسب، بلغ بك الأمر أنك أنت الآن، ما عندك أي عمل، ومعرض على الدنيا، وتارك الدنيا، وتارك كل الأعمال؟ لماذا؟ ما الذي جرى؟ قال: رأيت في بعض الفلوات طيراً مكسور الجناحين، أتاه طائر صحيح الجناح بجرادة في منقاره فأطعمه إياها، فمنذ ذلك الوقت تركت التكسب، كأنه يقول: خلاص رزقي سيأتيني، كما أتى هذا الطائر رزقه، فأنا لا أريد أن أعمل شيئاً إلا العبادة، يعني الشعائر، فقال له إبراهيم: ولما لا تكون أنت الطائر الصحيح الذي أطعم العليل، حتى تكون أفضل منه، أما سمعت النبي ﷺ يقول: اليد العليا خير من اليد السفلى [رواه البخاري: 1427، ومسلم: 1034].
ومن علامة المؤمن: أن يطلب أعلى الدرجتين في أموره كلها، حتى يبلغ منازل الأبرار، فأخذ شقيق يد إبراهيم فقبلها، وقال: أنت أستاذنا يا أبا إسحاق [الوافي بالوفيات: 16/101].
المسلم لا يقنع، حتى يبلغ من أعماله غايتها وأعلاها، فإن كان طالباً، لم يقنع إلا بالتفوق، وإن كان أباً لم يقصر في تربية أبنائه وبناته، أن يكونوا قدوات في الخير: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74] شوفوا الطموح، فإذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة [رواه البخاري: 2790].
المسلم لو كان صانعاً لا يرضى بمنزلة دون الإتقان، ولا قيمة بمن اتكل على غيره ونظر إلى الأسفل على الدوام، لا يستشرف علواً، ولا يتطلع إلى ما يسمو ويرتفع، الذي لا يرجو رقياً سيزل.
شباب ضيعوا أعمارهم، فكانوا وبالاً.
شباب خُنَّع لا خير فيهم | وبورك في الشباب الطامحين |
انظر أين أنت ومن أي نوع؟
الناس خمسة فأين تكون منهم؟
الناس خمسة إذا حسبتهم | ففارسٌ يوم الوغى ذو درقه |
يجول في ميدانها مبارزاً | إذا رأى صف القتال خرقه |
ومحسن ينفق جوداً ماله | جميعه ذهبه وورقه |
وعالم يدرس في كتابه | يسرد ورقة فورقة |
يفيد ما استفاده من غيره | مراعياً وجه الذي قد خلقه |
وحاكم أقام فينا عدله | في قلبه للعالمين شفقة |
وعابد يقوم في جنح الدجى | يشكو الجوى من النوى وحرقه |
فهؤلاء خيرهم وغيرهم | لا همو لحم ولا هم مرقه |
بل همج من همج إذا مشوا | يضيقوا على التقي طرقه |
[ديوان عبد القادر القصاب]
الدرق: الترس.
والجوى: شدة الوجد.
والنوى: البُعد.
والورق: الفضة.
قال ﷺ: تجدون الناس كإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة [راه البخاري: 6498، ومسلم: 2547].
الراحلة في الإبل هي النجيبة، المختارة، الصالحة للركوب، والحمل، كاملة الأوصاف، ليست بمعيبة، تتحمل، وتسير.
فالمرضي الأحوال من الناس كامل الأوصاف قليل، كما أن الراحلة في الإبل قليلة.
لولا المشقة ساد الناس كلهم | الجود يفقر والإقدام قتال |
يعني لولا المشاق كان كل الناس سادة، لكن من أراد أن يسلك سبيل الجود والإكرام سيذهب ماله في الإكرام، ومن أراد أن يقتحم الوغى والمعارك ويكون مقداماً ربما يقتل.
......................... | الجود يفقر والإقدام قتال |
لكن بهذه المآثر ساد هؤلاء، ولولا المشقة كان كل الناس سادة.
مما ينشط النفس أن تكون ذات أعمال ولها مشروع ومشاريع: النظر في أحوال كبار السن الذين انتهت حياتهم دون أن يكون لهم تأثير يذكر، وربما لم يعملوا في الدنيا إلا بقية أبناء أو بنات تركوهم قبل أن يرحلوا.
الشاب الذي يتأمل بنظر حكيم لهذا يعلم أنه لا بد أن يجد له مشروعاً طموحاً في الدنيا يقوده إلى خيرها، وكذلك ينفعه في الآخرة.
ولا جدوى من البقاء بلا عمل.
إذا كنت لا ترجى لدفع ملمة | ولا كان للمعروف عندك مطمع |
ولا كنت ذا جاه يعيش بجاهه | ولا أنت يوم الحشر فيمن يشفع |
فعيشك في الدنيا وموتك واحد | وعود خلال عن وصالك أنفع |
عود الخلال له فائدة.
المشاريع التي يمكن أن يقوم بها الشباب والكبار والصغار كثيرة.
تفاوت الناس في المواهب والقدرات
والله –تعالى- قسم المواهب والقدرات بين الخلق كما قسم الأموال.
قسم ربنا بين الناس الطبائع والأحوال، والأموال، والأخلاق، وفاوت بين عقولهم وأفهامهم كما فاوت بين ألسنتهم وألوانهم: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [الروم: 22]، نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [الزخرف: 32].
هذا الاختلاف يؤدي إلى وجود الطبقات عند الله المراتب في الجنة والآخرة.
وكذلك وجود التفاوت في الدنيا في الثروات التي للناس، وفي الحالة الاقتصادية، والاجتماعية، والأخلاقية.
من الناس من هو من أهل الصلاة، ومنهم من هو من أهل الجهاد، ومنهم من هو من أهل الصدقة، ومنهم من هو من أهل العلم، ومنهم من هو من أهل القرآن، من أهل أعمال متعددة؛ كما هو أبو بكر الصديق، ضرب في كل باب بسهم وافر.
منهم من يفتح لهم في مساعدة المحتاجين، وإغاثة الملهوفين.
ومنهم من يتواصل عمله في تفريج الكربات، وتقديم الشفاعات، وسد الديون، وإعانة الضعفاء، وإغاثة الملهوفين، وكفالة الأيتام، ومواساة الأرامل، وتعليم الجاهل، وإطعام الجائع، وكسوة العاري: فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد: 13 - 16] هكذا تُقتحم العقبة، في الآخرة عقبة شديدة كؤود، فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ البلد: 11 - 12].
ومنهم من يفك أسيراً، ويحقن دماً، يدفع مكروهاً، يحق حقاً، ينصر مظلوماً، يمنع باطلاً، ينكر منكراً، ويقيم معروفاً.
وهكذا نجد حتى في الأمور الدنيوية الناس من فتح له في باب الطب، ومنهم فتح له في باب الهندسة، منهم من فتح له في باب التقنية، منهم من فتح له في باب التجارة والتسويق، ومنهم من فتح له في باب الإدارة، ومنهم من فتح له في المهن والحرف والصنائع.
وقد جعل الله هذا الاختلاف بين الناس رحمه: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف: 32]، ولولا هذا التفاوت ما استخدم أحد أحداً، ما وجدت من تستخدمه.
وإذا وجدنا الناس يتفاوتون في المهن الدنيوية: عالم، تاجر، حارس، جندي، بيطري، مدير، مدرب، رياضي، طبيب، وزير، هذا عنده مشروع زواج، وهذه عنده مشروع شهادة عليا، وهذا عنده مشروع بناء بيت، وهذا مشروع شراء سيارة، هذا عنده مشروع إقامة مؤسسة، أو شركة.
كذلك من الناس من عنده مشروع خيري، موقع دعوي، تعلم لغة.
أنواع المشاريع وأقسامها
هنالك مشاريع كثيرة، قد تكون يومية قراءة جزء من القرآن، أسبوعية: صيام اثنين وخميس، شهرية: أيام البيض، سنوية حج، عمرية: إرضاء الله -تعالى-.
المشروعات منها ما هو طويل، لا يتحقق إلا في سنوات، دراسات عليا، تكوين أسرة وأولاد، عمل مؤسسي دعوي، هذا يأخذ سنوات.
وهنالك مشروعات قصيرة، قد يحفظ القرآن في سنة أو سنتين، تعلم لغة كذلك، يشارك في أعمال تطوعية، أنشطة دعوية، قد يستغرق منه أحياناً دقيقة يعلق إعلاناً لمحاضرة، يوزع كتباً، أو مسموعات.
قد تكون تحتاج إلى أيام أسابيع: يقيم ملتقيات، يساعد الجمعيات الخيرية، يقوم بمشاريع تفطير الصائمين، توزيع الطعام على المحتاجين، والأسر الفقيرة.
هنالك من المشاريع ما هو رئيس، يحتاج إلى تركيز وقت، ومنها ما هو فرعي.
هنالك مشاريع مستغرقة، تأخذ وقته كاملاً، وهنالك مشروعات يمكن الجمع بينها.
هنالك مشاريع فردية، يمكن أن يقوم بها شخص واحد، وأخرى جماعية لا يمكن إلا أن تحصل بمجموعة بأشخاص.
المشاريع متنوعة، دعوية علمية اجتماعية، تجارية، إعلامية، دنيوية، وأخروية، هذا أقام موقعاً للأسرة، العائلة عموماً بفروعها، فهو يتابع أخبارهم، ويتواصل معهم، ويتواصلون معه، صلة رحم عبر الشبكة. وآخر عنده مشروع توعية، في مستشفيات، مراكز صحية، مصانع، سكن عمال، شركات.
هذا يهتم بلوحة الفتاوى في المساجد، توجيهات إرشادية، في المدارس، المواقع التي فيها تجمعات.
هذا يهتم برسائل البريد الإلكتروني، ورسائل الجوال الدعوية.
هذا يهتم بالنشر عبر الشبكة، ووضع الموضوعات النافعة في المنتديات.
وهذا يقوم بأعمال ترجمة للمقالات، سواء ما كان منها من مقالات العلم الشرعي، أو ما يتعلق بالأمور النافعة، في قضايا إدارية طبية، نفسية اجتماعية، اقتصادية.
الأشياء التعبدية على رأس المشاريع؛ لأنها تحيي القلب، علاقة بين الإنسان وربه، كان بعض السلف في الثلاث كل القرآن.
عروة بن الزبير كان يقرأ كل يوم ربعاً، يعني ربع القرآن، يقرأه من المصحف نهاراً، ويقوم به ليلاً، فما تركه إلا ليلة قطعت رجله.
أحمد بن حنبل كان يقرأ كل يوم سبعاً، فيختم في كل سبع ليال، وهذا المشهور عن الصحابة، تقسيم القرآن إلى سبعة أجزاء، وليس إلى ثلاثين.
هنالك مشاريع اجتماعية، زواج أو إعانة عليه، أو دلالة، كفالة أسر فقيرة، ومساعدة المرضى وزيارتهم.
هنالك مشاريع دنيوية تجارية، هذا رجل افتتح متجراً صغيراً لقطع غيار السيارات والزينة، وأصبح فيما بعد المشروع سلة تضم واحداً وثلاثين شركة في أقل من عشرين عاماً، حجمها المالي مئات الملايين من الدولارات.
كثير من الأعمال الضخمة والشركات الكبيرة كانت يوماً ما مشروعاً صغيراً، ماذا كان جوجل قبل أن يكبر؟
محل صرافة يتحول إلى مصرف، بنك.
فوال يتحول إلى سلسلة مطاعم.
أنت قد تقوم بالمشروع، وتضع خطته، أو تدل غيرك عليه، أو تهيئ له.
هنالك مشاريع تطويرية، فيها تعلم مهنة، حرفة، صنعة.
هنالك أشياء تكون فيها صيانة وإصلاح، لكن المشاريع الإعلامية إذا وجهت توجيهاً جيداً، وانضبطت بالشرع، وهذا من أصعب الأشياء الالتزام بالإسلام في وسائل الإعلام، وقليلاً ما يحدث، قليلاً ما يتم الالتزام بالإسلام في وسائل الإعلام، نادراً ما تجد قناة منضبطة شرعاً، وكذلك الصحف والإذاعات، ونحو ذلك.
لا يخلو المسلم من وجود نقطة تميزه، إبداع، هو متفوق فيه على غيره، لماذا لا تخرج هذه الإبداعات؟ لماذا لا ينتفع المسلمون بك؟ لماذا تبقى صغيراً، وتموت كذلك؟ لماذا لا تعيش لأمتك؟ لماذا لا تعمل لنفسك وللآخرين؟ أين خصال التميز ونقاط القوة؟ لا بد من العمل على تلمسها وصقلها، وتنميتها، وأن تستخرج الموهبة وتنمى، وأن لا تدفن الطاقات والمواهب.
قاد أسامة بن زيد جيشاً فيه كبار الصحابة لم يتجاوز العشرين من عمره.
وابناء عفراء تصديا لقتل فرعون هذه الأمة، أبي جهل وحصل لهما ذلك.
وابن عباس كان مرجعية علمية، وآية للفهم، على صغر سنة.
والشافعي -رحمه الله- قال: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر سنين.
وجدت طفلاً عمره خمس سنين، قد أتم حفظ القرآن، فاختبرته، فإذا هو يعرف مواضع الآيات في المصحف، خمس سنين، فسألت أباه: كيف حفظه؟
هذا الأب وضع في ذهنه هدفاً: تحفيظ الولد القرآن، فلما بلغ الولد السنتين، هيأ له غرفة صغيرة، فيها كل الألعاب التي يمكن أن يلهو بها، ولد في هذا العمر، وجعل فيها مسجلاً يذيع القرآن باستمرار، ثم بعد مدة الولد يلعب ويسمع، كل القرآن، كم مرة أعاده عليه، الولد يلعب ويسمع، فلما تخطى الثلاث بدأ في تحفيظه، ما جاء خمس إلا وهو وقد أنهى القرآن.
لا شك أن الناس قدرات، وأن مثل هذا الطفل عنده ذاكرة قوية أصلاً، ولكن بدون التربية والتخطيط والمتابعة، ووضع الخطة، لن يحفظ، حتى لو كان نابغة في الحفظ.
ولو أن شخصاً إذا دعي إلى الحفظ يقول: أنا ذاكرتي ضعيفة وأنا إمكانيتي العقلية محدودة، وأنا لا أستطيع فإنه لن يستطيع، لا بد من البداية، لا بد من نقطة البداية.
وبعض الناس عندهم أفكار لتأسيس مشاريع، لكن يضع عقبات، أو يتوهم وجود عقبات غير موجودة، وأحياناً تكون صغيرة وهو يضخمها، وأحياناً تكون موجودة لكنه لا يريد أن يتخطاها.
لو كان عندك مشروع انقله إلى غيرك إذا كنت لا تستطيعه، ألم يقل النبيﷺ في الأعمال الفاضلة: تعين صانعاً أو تصنع لأخرق [رواه البخاري: 2518، ومسلم: 84].
تعين صانعاً يستطيع العمل فتساعده.
أو تصنع لأخرق لا يحسن وهو عاجز فتصنع له.
كيفية اكتشاف المواهب وتوجيهها
كيف يتم اكتشاف المواهب وتوجيهها؟
يمكن اكتشاف موهبة الطفل وقدراته من خلال ميولاته في الألعاب، وهنالك ألعاب ميكانيكية، وألعاب رسمية، فيها رسم، ألعاب فيها فك وتركيب، الألعاب فيها توجهات مختلفة، يقول ابن القيم -رحمه الله-: ومما ينبغي أن يعتمد حال الصبي، وما هو مستعد له من الأعمال ومهيأ له منها، فلا يحمله على غيره، فإنه إن حمله على غير ما هو مستعد له لم يفلح فيه، وفاته ما هو مهيأ له، فإذا رآه حسن الفهم، صحيح الإدراك، جيد الحفظ واعياً، فهذه من علامات قبوله وتهيؤه للعلم، فلينقشه في لوح قلبه ما دام خالياً فإنه يتمكن فيه، ويستقر ويزكو معه، وإن رآه بخلاف ذلك، من كل وجه، يعني ما في سرعة في الفهم ولا سرعة بالحفظ، وهو مستعد للفروسية وأسبابها من الركوب والرمي، واللعب بالرمح، وأنه لا نفاذ له في العلم ولم يخلق له، مكنه من أسباب الفروسية والتمرن عليها، فإنه أنفع له وللمسلمين، وإن رآه بخلاف ذلك، وأنه لم يخلق لذلك، ورأى عينه مفتوحة إلى صنعة من الصنائع، مستعداً لها، قابلاً لها، وهي صناعة مباحة، نافعة للناس، فليمكنه منها [تحفة المولود، ص: 234 - 244].
علماء المسلمين كانوا يقومون باكتشاف المواهب والطاقات، والنبيﷺ كان إذا لفت نظره شخص بقدرة معينة وظفها مباشرة، فسمع صوت أبي محذورة، وكان هذا في جاهليته قبل أن يسلم مغنياً، فقال له: اذهب فأذن عند البيت الحرام [رواه النسائي: 633، وصححه الألباني: ].
ونظر سفيان الثوري إلى عيني وكيع بن الجراح، وقال: ترون هذا الرؤاسي، لا يموت حتى يكون له شأن.
تفرس أبو حنيفة في أبي يوسف، ومالك تفرس في الشافعي، قال الشافعي: فلما أن سمع كلامي نظر إلى ساعة، وكان لمالك فراسة، فقال لي: ما اسمك؟ قلت: محمد، قال لي: يا محمد اتق الله، واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك شأن من الشأن [تاريخ دمشق: 51/286].
أسس قيام المشاريع
ما هي الأسس التي يقوم عليها أي مشروع؟
أولاً: تحديد المشروع، اختيار المناسب، وهذه عملية دقيقة، ما هو الأفضل؟ ما هو الممكن؟ ما هو الذي تحتاج إليه الأمة؟
لا بد من سؤال أهل الخبرة، والمربين.
ثانياً: الإعداد والتخطيط للمشروع، هذه المرحلة التي يتم فيها وضع الإطار العام، والخطوات، ملخص المشروع، هدف المشروع، أهمية المشروع، النتائج المتوقعة، خطة العمل، الزمن، الإمكانات اللازمة.
الثالث: تنفيذ المشروع، وعند الانتهاء من التخطيط، ورصد ما يحتاجه المشروع، لا بد من الابتداء، وهذه من أهم المراحل.
رابعاً: تقييمه أثناء التنفيذ؛ لأنه قد يتعرض إلى مؤثرات خارجية، وقد يحصل عليه تطويرات مهمة أثناء التنفيذ، وبعد التنفيذ مقارنة النتائج النهائية بما كان قبل ذلك، حتى نعرف هل نجح أم لا؟
كيف تبدأ المشاريع؟
المشاريع عادة تبدأ بفكرة، والفكرة تأتي عن طريق التأمل أحياناً، أو اقتراح من شخص آخر أحياناً، قال الإمام البخاري -رحمه الله-: "كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال بعض أصحابنا: لو جمعتم كتاباً مختصراً لسنن النبي ﷺ، فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب [سير أعلام النبلاء: 12/401].
الرسالة للشافعي أول كتب أصول الفقه في الإسلام المعروفة، صنفها بناءً على طلب من عبد الرحمن بن مهدي.
نيل الأوطار للشوكاني شرح منتقى الأخبار لابن تيمية، ألفه بسبب مشورة من أحد شيوخه.
أحياناً المشروع يبدأ من كلمة تلتقطها أذن، الذهبي -رحمه الله- يقول عن شيخه علم الدين البرزالي: وهو الذي حبب إلي طلب الحديث، فإنه رأى خطي، فقال: خطك يشبه خط المحدثين، فأثر قوله في" [الدرر، لابن حجر: 3/ 323]، فصار من شيوخه المزي، وسلك سبيل الجماعة، وأخذ عنه تلك البضاعة، حديث رسول الله ﷺ.
محمد بن عوف يقول: كنت ألعب بالكرة وأنا حدث، فوقعت الكرة في المسجد، بالقرب من المعافى بن عمران، المعافى بن عمران من العلماء المحدثين، تجده في رجال الأسانيد، علم وعبادة، فدخلت لآخذ الكرة، فأمسك بي، قال: ابن من أنت؟ قلت: ابن عوف بن سفيان، قال: أما إن أباك كان من إخواننا، وكان يكتب معنا الحديث والعلم، والذي كان يشبهك، يعني حري بك أن تتبع ما كان عليه والدك، فصرت إلى أمي، فأخبرتها، قالت: صدق، هو صديق لأبيك، فألبستني ثوباً وإزاراً، ثم جئت إلى المعافى ومعي محبرة وورق، فقال لي: اكتب، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن عبد ربه بن سليمان، قال: كتب لي أم الدرداء في لوحي: اطلبوا العلم صغاراً تعملوا به كباراً، فإن لكل حاصد ما زرع، فكان أول حديث سمعته [سير أعلام النبلاء: /614 - 615].
ما هي نتيجة هذا المشروع؟
المعافى توجيه إلى طفل، قام بتوجيه إلى طفل، نتيجة العملية هذه أن هذا الرجل الذي كان طفلاً وكبر، وأخذ عن المعافى بن عمران، يقول عنه الذهبي: الإمام الحافظ المجود محدث حمص أبو جعفر الطائي الحمصي، في [سير أعلام النبلاء: 12/613].
يقول عنه أحمد بن حنبل: "ما كان بالشام منذ أربعين سنة مثل محمد بن عوف" [تهذيب التهذيب: 9/384].
ربما تأتي الفكرة ممن هو أقل منك شأناً، فلا تحقرن ذلك.
سليمان استفاد من خبر الهدهد في مشروع دعوي كبير نتج عنه إسلام ملكة سبأ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [النمل: 44].
وأخضع سليمان أمة في اليمن.
الكسائي من أئمة علم النحو المشهورين، ذكر في كتابه: أنه بدأ في علم النحو فصعب عليه، فهمَّ بتركه، فاضطجع يوماً فرأى نملة تتسلق على حائط، ومعها طعام تحمله، كلما صعدت سقطت، فتصعد وتسقط، وتصعد وتسقط، حتى بلغت مرادها، قال: فأخذت من ذلك درساً، فكابدت، واستمر حتى صار إماماً في النحو.
أحياناً مشروع عالم يبدأ من طريق مواقف محيرة تدفع إلى طلب العلم، شهد ابن حزم جنازة يوماً، وهو شاب، ما عنده طلب علم، عمره ستة وثلاثون سنة ، ليس صغيراً، دخل المسجد فجلس ولم يركع، فقال له رجل: قم فصل تحية المسجد، قال: فقمت وركعت، فلما رجعنا من الصلاة على الجنازة، دخلت المسجد، طبعاً هذا بعد العصر، فأردت أن أصلي تحية المسجد، فقال لي شخص: اجلس ليس ذا بوقت صلاة، قال: فانصرفت حزيناً، وذهبت للأستاذ الذي رباني، فقلت: دلني على دار الفقيه أبي عبد الله بن دحون؟ قال: فقصدته، فأعلمته بما جرى، فدلني على موطأ مالك، فبدأت به عليه، وتتابعت قراءتي عليه، وعلى غيره، نحواً من ثلاثة أعوام، وبدأت في المناظرة [سير أعلام النبلاء: 18/199].
سيبويه إمام النحو، كان في أول أمره، يستملي على حماد بن سلمه، فلحن يوماً في المجلس، فرد عليه قوله، فقلت: لأطلبن علماً لا تلحنني فيه أبداً، فطلب النحو، ولزم الخليل بن أحمد حتى برع في النحو [أخبار النحويين البصريين، ص: 35]، وصار من أكبر أئمة النحو في العالم سيبويه، قيل: إنه مات وعمره اثنين وثلاثون سنة.
إكمال مشاريع الآخرين والمشاركة فيها
ما هو المشروع؟
قد يكون إكمالاً لمشروع الغير، ربما لا تكون أنت بدأته من الصفر، لكنك أكملت مشروع غيرك، وهذا جيد وجميل، وفيه إحسان إلى الغير، أبو بكر جمع القرآن في ألواح وجلود وسعف، فجاء عثمان وجعلها في مصحف واحد، وكتب الخط العثماني.
كتاب المجموع للنووي -رحمه الله- بدأ في تأليفه في شرح المهذب، وسكب فيه علمه، حتى قال ابن كثير: لو قدر الله له إتمامه لكان كتاب في الأحكام لم يؤلف مثله.
لكن النووي -رحمه الله- توفي في الأربعينات، يعني كل الكتب هذه في الأربعينات، لما توفي ما أكمل كتاب المجموع، وصل إلى باب الربا، فجاء تقي الدين السبكي وأكمل كتاب المجموع للنووي من باب الربا إلى باب التفليس، ومات ولم يتمه، فجاء محمد نجيب المطيعي فأكمل الكتاب إلى آخره.
"تفسير الجلالين" لماذا سمي ب "تفسير الجلالين"؟
لأن جلال الدين المحلي -رحمه الله- بدأ في تفسيره من سورة الكهف إلى آخر القرآن، ثم ابتدأ بتفسير سورة الفاتحة، فمات، بعدما أتمها، فجاء جلال الدين السيوطي فابتدأ بتفسير سورة البقرة على نهج المحلي، وانتهى عند آخر سورة الإسراء، فتم التفسير، وسمي ب "تفسير الجلالين".
"أضواء البيان للعلامة محمد الأمين الشنقيطي" بدأه وانتهى إلى آخر سورة المجادلة، فأتمه أحد تلاميذه.
لم تكن القضية قاصرة على الكتب، أبو جعفر المنصور كان له اهتمام ببناء الحصون على الثغور، قال ابن العديم: اهتم بعد بني أمية بأمر الثغور أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور، فعمرها وحصنها، وقواها بالجند وشحنها، وتمم المهدي ما شرع فيه أبو جعفر، وفعل مثله هارون الرشيد وأكثر [بغية الطلب في تاريخ حلب: 1/589].
كان الملك نور الدين زنكي -رحمه الله- يرجو أن يستنقذ بيت المقدس من أيد النصارى الصليبين، وأعد منبراً عظيماً للمسجد الأقصى تمهيداً لإدخاله إليه إذا استولى المسلمون على القدس، وبدأ رحلة الجهاد متفائلاً بوضع هذا المنبر في ذلك المكان، مع بعد المسافة، والجهد الكبير الذي يتطلبه هذا المشروع، حتى نضع هذا المنبر في ذلك المسجد، ولكن مات نور الدين -رحمه الله- الشهيد قبل تمام هذه الغاية، فكتب الله استعادة القدس على يدي رجل من أتباعه وهو القائد صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله-، وأوتي بمنبر نور الدين من حلب إلى القدس، ووضع في بيت المقدس بالمسجد الأقصى.
الأمير سودي بن عبد الله الناصري شرع في وصول نهر الساجور إلى حلب، واجتهد في ذلك، وحفر غدرانه، وفتح له أخدوداً طوله أربعون ذراعاً، وصرف عليه نحو ثلاثمائة ألف درهم من ماله الخاص أكثرها، فأدركته المنية، ومات قبل فراغه في سنة: 714 للهجرة، فجاء بعده الأمير أرغون الكاملي وأتمه، وجرى الماء في ذلك المجرى.
قد يشترك أكثر من شخص في عمل واحد، فتاوى ابن تيمية هذا المجموع الذي بين أيدينا الآن عمل عليه الشيخ عبد الرحمن بن قاسم، وابنه محمد، حتى تم مجموع فتاوى شيخ الإسلام.
وسافر الشيخ عبد الرحمن إلى بلدان، يعني من نجد إلى مكة والعراق، وسوريا ولبنان ومصر وباريس لجمع مخطوطات شيخ الإسلام ابن تيمية حتى أخرج لنا هذا السفر العظيم.
كيفية اختيار المشروع
كيف يختار الإنسان المشروع المناسب؟
أولا: قف مع نفسك، خذ بعض الوقت للتفكير، لا بد من مراجعة وتركيز.
ثانيا: في إحصاء الخبرات والقدرات والمواهب اللازمة، ماذا لديك منها؟ لغة ثانية، علاقات عامة، خبرة في مواقع.
ثالثا: أسأل نفسك: لو أعطيت المال الذي تحتاج بحيث لم يعد عائقاً، وكذلك الوقت، فماذا ستفعل؟
رابعاً: ما هو النشاط أو العمل الذي تجد سعادة فائقة وأنت تؤديه، ولو أعطيت الفرصة ليصبح مشروعك ستعمل دون ملل؟
خامساً: حاول أن تتميز بشيء يفيد نفسك والآخرين، ثم ابحث واقرأ واسأل ولا تعتمد على حماسك فقط، ثم ابدأ مع صاحب مشروع قائم وخبرة وإمكانات جاهزة، لتعلم أسرار المهنة.
واربط نشاطك وأهدافك بالدين، واصدر عنه.
ولا تتحرج من طلب مساعدة الآخرين، وتذكر دائماً: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى [رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907]، وكل إنسان يتميز بأشياء فتحسس ماذا يمكن أن تتميز فيه، وقارن ووازن بين الفرص والخيارات الممكنة وفي كل مشكلة فرصة، بل قالوا: الأزمات تصنع الثروات.
ابحث عن الحلول والبدائل في أي عقبة تواجهها ولا تيأس.
وانظر إلى الحياة على أنها سلسلة من الفرص واستثمرها.
هناك أمور ثلاثة في غاية الأهمية: الوضوح، والتركيز، والانضباط.
وهذا معناه الاستمرار في العمل.
ضوابط اختيار المشاريع
إذا أردنا أن نتعرف على بعض الضوابط والتنبيهات المهمة في اختيار المشاريع:
عدم إغفال الجانب التعبدي عند القيام بالمشاريع
أولاً: يجب عدم إغفال الجانب التعبدي، هذا هو المحمس للمسلم إنه يستشعر طيلة عمله في تنفيذ المشروع أن هذه عبادة، ويتوكل على الله في ذلك، ويرجو منه الأجر، وهذا المحمس الأكبر.
وعندما تعرف بأن هذا المشروع يقربك إلى الله أكثر ستزداد حماسة له، ولذلك لا بد أن تعرف مشروعية المشروع، هل هذا المشروع مشروع شرعاً؟ وكما نضع دراسة جدوى اقتصادية وجدوى فنية، ودراسة جدوى اجتماعية فلا بد أن نعرف ما هي الجدوى الأخروية؟ لا يمكن لعاقل أن يبدأ مشروعاً وهو لا يقربه من الله ولا يفيده في الآخرة، ولو كان مشروعاً دنيوياً إذا حسنت فيه النية استفاد منه في الآخرة.
لو أراد شاب أن يقدم على مشروع نكاح فلا بد أن يعرف المعايير في الاختيار، فقد قال ﷺ: تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك [رواه البخاري: 5090، ومسلم: 1466].
البعد التعبدي في المشاريع في غاية الأهمية، وحتى لوكان المشروع ظاهره دنيوياً كمشروع الزواج لكنه ينطوي على فوائد عديدة شرعية: إعفاف النفس، وإعفاف الزوجة، وابتغاء الولد، وأجر الإنفاق عليه، وعلى أمه، وابتغاء الأجر بعقد الروابط في علاقة الصهر التي ستنشأ بينك وبين الأسرة الأخرى، وما يتفرع عن ذلك من الإفادة، ابتغوا ما كتب الله لكم في الولد، ليكون من بعدك، صالحاً يدعو لك، ثم حتى الشهوة في الوطء، وفي بضع أحدكم صدقة [رواه مسلم: 1006].
الذي يفكر في مشروع اقتصادي كتأسيس مؤسسة، شركة، تدر ربحاً.
الذي عنده مشروع إعلامي، كإنشاء صحيفة، أو قناة، أو موقع، لا بد أن يكون له جانب تعبدي في الموضوع، ماذا سأعمل من خلال هذا في خدمة الدين والشريعة والتقرب إلى الله؟ هل سأنشر علماً؟ أو سأنكر منكراً؟ أو سأقيم معروفاً؟ سأحارب رذيلة؟ أو أتعاون على البر والتقوى مع الآخرين؟ ماذا سأحقق في هذا الموضوع؟
تعريف ناس بالإسلام، تثبيت مسلمين على الإسلام، رد وصد أعداء الدين، هذا الجهاد بالقلم، والجهاد الإعلامي، ماذا سنفعل؟ ما هو البعد الأخروي في المشاريع الاجتماعية؟
كثير يمكن أن يكون هنالك في نشاطات الأسرة، وجمعيات النفع العام المختلفة الاجتماعية، سواء كانت للأيتام، أو صالة أفراح خيرية، ونحو ذلك، يمكن أن يكون فيها أبعاد من الأجر والثواب، ورجاء ما عند الله في الآخرة.
قضية مراعاة الإمكانات المتاحة هو أمر مهم، حتى لا تصبح القضية مجرد أحلام، ماذا يوجد لديك من الوسائل اللازمة لتحقيق الغاية؟
لو كان المشروع تجارياً ما هو رأس المال الذي لديك؟
إذا أردت أن تبحث عن وظيفة ما هي الشهادة والخبرة التي لديك؟ وهكذا.. يمكن أن تصل من خلال معرفة ما بيدك أو ما تستطيع أن تطور فيه نفسك، وترتقي بها لتحصل على موارد لهذا المشروع.
ويجب الحذر من إهدار الموارد وتجميدها؛ لأن بعض الناس سيضع أشياء على الرف، وكان بالإمكان أن يستغل هو أو غيره، ونعرف قصصاً مؤلمة، بعض الناس أراد أن ينشأ قناة إسلامية، وجمع لها أموالاً، ثم توقف المشروع، لا هو أكمله ولا أعطاه لغيره ليكمله، ولا زال المال محبوساً، وربما تغري النفس صاحبها باستثماره في صفقات أسهم لتنتهي بخسارة كبيرة، في الدين والدنيا.
المشروع الملائم هو الذي يستخرج الطاقة، الكامنة من الإنسان، يعني يشغله، والله جعل في الإنسان مواهب أشياء كثيرة تستخرج بهذه الأعمال، وقد قال ﷺ: اكلفوا من الأعمال ما تطيقون [رواه البخاري: 6465]، وهذه قضية مهمة في المشاريع، تحملوا ما تطيقون وعلى الدوام والثبات.
دراسة المشروع على المدى البعيد
ثانياً: ادرس القضية على المدى البعيد بحيث لا تضطر للتوقف، لا تعمل أحياناً، وتترك أحياناً، لا بد أن يكون عملك ديمة.
وإذا اكتشف الإنسان أنه لا يستطيع يمكن أن يتعاون مع غيره، أو يوكل المشروع إلى غيره، يحكى عن الخليل بن أحمد الفراهيدي -رحمه الله- وهو من أهل بحور الشعر، قال: كان يتردد إلي شخص يتعلم العروض، علم العروض أوزان الشعر، وهو بعيد الفهم، فأقام مدة ولم يعلق بخاطره شيء منه، ما تعلم ولا شيء من العلم هذا، ما أمكنه، فقلت له يوماً: قطَّع هذا البيت:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه | وجاوزه إلى ما تستطيع |
فشرع معي في تقطيع البيت على قدر معرفته، ثم نهض ولم يعد يجيء إلي، فعجبت من فطنته، لما قصدته في البيت، مع بعد فهمه، يعني فهم المقصود مع أنه لم يكن ذا فهم عميق.
معرفة المناسب من المشاريع
ثالثاً: اعرف ما يناسبك من المشاريع، المشاريع متنوعة وكثيرة، قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ [البقرة: 60]، وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة: 148] المشروع الملائم للإنسان، الملائم لوضعه، مثلاً هل هو أعزب أو متزوج، هذا يوثر كثيراً في اختيار المشروع، هل أموره المالية متيسرة أم أنها متعسرة؟ طبيعة النظام في المكان الذي يعيش فيه، معرفة الشخص ما يصلح له يساعده كثيراً على إنجاح المهمة، لما علم يوسف من نفسه القدرة على القيام بالولاية طلبها: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ [يوسف: 55].
بينما منع النبي ﷺ أبا ذر من التولي، ولا يتأمر على اثنين، ولا على اثنين ما يتأمر، ولا يتولين مال يتيم [رواه مسلم: 1826] مع أن أبا ذر كان عنده مجهودات وأعمال كثيرة جداً، لكن الولاية هذه لا، لا تقرب الولاية.
سياسة الناس، وقيادة الناس مهارة، قد يكون آية في العبادة، الشخص آية في العبادة، قد يكون آية في العلم، لكن لا يصلح في قيادة الأشخاص.
صحابة النبي ﷺ نجد أنهم يتميزون عن بعضهم البعض، هذا يتميز في العلم، وهذا يتميز في الجهاد، وهذا يتميز في بعض فنون العلم، هذا في القضاء، هذا في المواريث، هذا في قراءة القرآن.
منهم من تميز في العطاء والصدقات، والأعطيات المالية.
ومنهم من تميز بالقدرة على جمع المال وتفريقه.
منهم من تميز بالولاية والإمارة.
منهم من تميز في القضاء.
منهم من تميز حتى في بناء المسجد، طريقة البنيان.
منهم من تميز بصوته في الأذان.
ومنهم من تميز بإقراء القرآن.
ومنهم من تميز في الحفظ.
ومنهم من تميز بأفكار تفيد المسلمين في جهادهم.
منهم من كان حسن الرأي يشير، والصدقة بالآراء من أعظم الصدقات.
رابعاً: يجب أن يكون المشروع الذي تسعى لتحقيقه مناسباً للزمن الذي قدرته لإنجازه؛ لأن من أخطر مقاتل المشاريع الجيدة عدم توفر الوقت الكافي لتحقيقها، كمن يريد الحصول على شهادة جامعية في الطب خلال عام واحد، وهناك من يسرف ويبذر في المقابل، فالجامعة خمس سنوات يأخذها في ثمانية، لماذا؟
تسألني أم الوليد جملاً | يمشي رويداً ويأتي أولا |
إذا ما اجتهد لن يصل بسرعة.
وهناك خسارات عظيمة في الوقت، لا تقدر بقيمة، وهي أعظم من خسائر الدراهم والدنانير.
مشروعية المشروع
خامساً: -مر معنا-: أن المشروع يجب أن يكون مشروعاً شرعاً، ولا تضيق الحياة إلا على العاجزين، لم يعدم يونس عملاً في بطن الحوت، حتى وهو في بطن الحوت، فكان من المسبحين، من قبل ومن المسبحين في بطن الحوت.
من المشاريع ما يجوز أن يتصدى الإنسان لتحقيقه وإنجازه، ومنهم ما لا يجوز له حتى أن يفكر فيه، فهنالك مشاريع سرقات وإجرام، ومخدرات، وعصابات.
والسعي لكسب المال يجب أن يكون من وجوه مشروعة، تجارة زراعة صناعة، يجب البعد عن الغش، والرشوة والاحتيال والربا، بيع الحرام.
وبعض الناس عندهم مشاريع مالية يدخلون فيها، ولكن فيها كثير من المحرمات.
وبعضهم يريد أن يغش في الدراسة ليأخذ الشهادة، ومنهم من عنده شهادة مزورة أصلاً.
ومنهم من يخطط ليكون فناناً موسيقياً، مطرباً، أو ممثلاً، ويقول أحدهم: لا أريد من الدنيا سوى أن أنال جائزة أفضل موسيقار ثم أرحل، هذا هو الهدف؟
بعض الناس ما فيه هدف، أو فيه هدف محرم.
قد يكون بعض الناس عنده هدف، لكن تافه، زوجته طلبت منه الطلاق في النهاية، لأن تخصصه الدقيق كان في علم الصراصير، وكان مصراً على فتح الموضوع بتفاصيله، في كل زيارة عائلية، يقومان بها، فلم تعد تطيق ذلك.
من طريف ما يروى: أن رجلاً جاء إلى أبي عبيده القاسم بن سلام -رحمه الله- هذا من كبار أئمة الحديث واللغة، وهذ رجل جاء من بعيد، ضرب مشواراً إلى أبي عبيد، يعني قطع النهر، استأجر قارباً، جاء يسأل أبا عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله-: ماذا يسأله؟
قال: جئت أسألك عن الرباب، فقال: أبو عبيد هو الذي يتدلى دون السحاب، يعني الغيم الذي يتعلق بالسحاب من تحته يضرب إلى لون الأسود، هذا يسمى في اللغة العربية: الرباب، وأنشده بيتاً من الشعر شاهداً على هذا المعنى:
كأن الرباب دوين السحاب | نعام تعلق بالأرجل |
فقال الرجل: لم أرد هذا!
فقال أبو عبيد: الرباب اسم امرأة، وفيه من الصحابيات، وأنشده أيضاً شاهداً من الشعر على أن الرباب يستعمل في اللغة كاسم لامرأة، قال الشاعر:
إن الذي قسم الملاحة بيننا | وكسا وجوه الغانيات جمالا |
وهب الملاحة للرباب وزادها | في الوجه من بعد الملاحة خالا |
فقال الرجل: لم أرد هذا!
ففكر أبو عبيد، ماذا يريد هذا الرجل؟
فقال: لعلك أردت قول الشاعر:
رباب ربة البيت | تصب الخل في الزيت |
لها سبع دجاجات | وديك حسن الصوت |
قال: هذا أردت!
هذا الذي أنا أدور عليه! هذا نشيد أطفال!
قال: من أين أنت؟ قال: من البصرة.
من البصرة مشوار يعني إلى بغداد؟!
قال: على أي شيء جئت على الظهر أم على الماء؟
قال: في الماء! سفينة!
قال: كم أعطيت الملاح؟!
قال: أربعة دراهم!
قال: اذهب فاسترجع منه مالك! وقل له: لم تحمل معك شيئاً! فلم تأخذ مني الأجرة؟!
تحديد المشروع ووضوحه
سادساً: يجب أن يكون المشروع محدداً وواضحاً، لا غموض فيه ولا لبس؛ لأن عدم تحديد الهدف أو عدم وضوحه يجعل الإنسان الغير قادر على الوصول إلى ما يريد، يقول أحد الغربيين وهو "ريدر كلينج": عندي ستة من الخدام الأوفياء عنهم أخذت، كل ما أعلم من العلوم وهذه أسماؤهم: ماذا؟ لماذا؟ متى؟ أين؟ من؟ كيف؟
ماذا تريد من هذا العمل؟ لماذا تريده؟ يحدد لك الهدف، ماذا؟ تعريف المشروع، متى؟ المدة وقت البداية، كيف؟ الآليات ووسائل التحقيق، أين؟ مكان المشروع، من؟ الذي ستحتاجهم وتستعين بهم، وهكذا.. تكون هذه الأسئلة: لماذا؟ وماذا؟ ومتى؟ وكيف؟ وأين؟ ومن؟
من الأدوات المهمة جداً في الوصول للنتيجة الذي يريد إيجاد بديل لعمله الوظيفي: يحتاج أن يخطط كثيراً وبإتقان لهذا، وقد تحتاج المسألة إلى قراءة وإلى اطلاع وإلى بحث وإلى استشارة، حتى يصل إلى تحديد واضح لما يريد.
الحاجة إلى المشروع
سابعاً: يجب أن يكون المشروع الذي تسعى إلى تحقيقه محتاجاً إليه وأولى بالعمل من غيره.
وهذه قضية مهمة حتى لا يكون للشيطان مدخل في الخداع بتحويل الإنسان من الفاضل إلى المفضول، ومن الأعلى إلى الأدنى.
وبعض الناس حتى على مستوى البنيان عندهم عجائب، فيمكن أن يسعى في بناء استراحة، وينفق الأموال الطائلة، وهو ما عنده بعد بيت يسكن فيه، فتترك منزلاً تستعمله ستة أيام في الأسبوع لتبني استراحة لتقضي فيها يوماً، أو بعض يوم.
هواية جمع الطوابع، ما هي الفائدة منها؟ محدودة جداً.
والأولويات قضية مهمة، تحديدها مهم جداً، الاختلال فيها يؤدي إلى إخفاقات.
إذا غامرت في شرف مروم | فلا تقنع بما دون النجوم |
الوقت سيذهب العمر، هذا ما يجي إلا مرة واحدة، فرصة واحدة الحياة، ولذلك لا بد أن تسعى لتحقيق ما يمكن تحقيقه في هذه المدة.
كتمان المشروع
الثامن: من عوامل النجاح في تحقيق المشاريع: الكتمان، والمحافظة على إنجاح هذه الحاجة وقضائها بذلك.
ومن عجز عن حفظ سره فلا يلوم غيره إذا أفشاه.
وكم من المشاريع ضاعت، فشلت، سرقت، بسبب عدم الكتمان.
قد تكون الفكرة في الخير فلا يضرك أن يأخذها غيرك.
البدء في المشروع والمبادرة فيه
تاسعاً: المبادرة، إن هممت فبادر، وإن عزمت فثابر، واعلم أنه لا يدرك المفاخر، من رضي بالصف الآخر.
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة | فإن فساد الرأي أن تترددا |
وإن كنت ذا عزم فأنفذه عاجل | فإن فساد العزم أن يتقيدا |
قال ابن القيم -رحمه الله-:
فبادر إذاً ما دام في العمر فسحة | وعدلك مقبول وصرفك قيم |
وجد وسارع واغتنم زمن الصبا | ففي زمن الإمكان تسعى وتغنم |
ربما ذهبت الفرصة.
وضع الخطة للمشروع
عاشراً: وضع الخطة -كما تقدم-، وهذا مفترق طريق بين الجادين والهازلين، أي واحد يأتي إليك يدعي أنه سيفعل كذا، قل له: هات خطة العمل؟
يتبين لك الجاد من المدعي كذباً.
من أراد أن يتوظف في وظيفة، يقال له: اعرض لنا ما هي نظرتك في القيام بعملك في هذه الوظيفة؟
يتبين أهل الجد والعزائم بقضية وضوح الخطة في العمل التي تبين تصورهم الحقيقي للعمل أو التصور لحقيقة العمل.
والتخطيط إذا كان يحتاج إلى وقت في البداية فإنه يوفر وقتاً كثيراً بعد ذلك.
وكل دقيقة تنفق في التخطيط توفر ثلاث أو أربع دقائق في التنفيذ.
ومن أمثلة ذلك: المخططات المعمارية كلما كانت دقيقة وأنفق عليها وقتاً أطول كلما كانت مريحة أكثر وتوفر وقتاً ومالاً أكثر في التنفيذ، ومن جرب عرف.
وإنفاق سبع ساعات في التخطيط الجيد ينجم عنه وضوح الأهداف، وترتيب الأولويات، قد يكون أفضل من إنفاق سبعة أيام في العمل دون تحديد الأهداف، وترتيب الأولويات.
دراسة المشاريع وبعض معالم ذلك
مشكلة التسويف والبطالة هي من الأمراض المستعصية، وكثيراً ما هدمت مشاريع، وما أكثر الذين يقعون تحت طائلتها.
إذا تمنيت بت الليل مغتبطاً | إن المنى رأس أموال المفاليس |
فمن يضع له مشروعاً فلا بد أن يكون جاداً في البداية، لا بد أن يكون جاداً في العمل.
ومن أراد أن يؤلف كتاباً فلا بد أن يحدد الموضوع، ويطلع على المصادر، ويضع المخطط، كما هو معلوم في أي بحث، في المدرسة، في الجامعة.
إذا كان مشروعاً تجارياً فلا بد من وضع الجدوى الاقتصادية، هذا في التخطيط مهم جداً، هذه المعلومات في غاية الأهمية، تحليل المعلومات، ودراسة مخاطر المشروع، أيضاً قضية مهمة للغاية، مدى النجاح، ما هي الأرباح المتوقعة والخسارة؟ ما هي قابلية السوق المحلي لهذا المنتج؟ ونحو ذلك.
مشاريع الدنيا والدين لا بد فيها من الدراسة والتخطيط وتحديد الأهداف والوسائل.
الناس ينقسمون في هذه القضية إلى طرفين ووسط، في قضية التخطيط، فأهل الغلو والإفراط يغرقون في التنظير والتخطيط حتى تمر الأيام والشهور والسنوات وما زالوا في تخطيطهم، ولذلك بعضهم يقول لك: إذا قلت: ما بنيت بيتاً؟ يقول: المخططات شغال عليها صار لي عشر سنين، هذا يعقل؟ هل هذا عقل؟
في المقابل أهل الإفراط والإضاعة، ما عندهم تخطيط أبداً، أنت تقول: اقتحم! وستتضح لك الأمور، وكيف ستتضح لك الأمور في الوقت المناسب؟ ولذلك يكثر عندهم الفوضى والتخبط.
إذًا:
أولاً: توفير المعلومات اللازمة.
ثانياً: كيفية إدارة المشروع.
ثالثاً: تمويل المشروع.
رابعاً: التقويم والتحسين المستمر.
خامساً: عناصر القوة والضعف ودراسة المخاطر.
سادساً: الحاجة لهذا المشروع.
سابعاً: فرص النجاح والإخفاق في المخاطر.
ثامناً: أحياناً يحتاج إلى اختيار اسم حتى لو كان كتاباً ويحتاج إلى مؤلف، يحتاج المؤلف إلى عنوان.
تاسعاً: ثم عدم الإصرار على المشاريع إذا فشلت، أو تبين بوادر الفشل.
عاشراً: وأن لا يثق الإنسان بنفسه، يثق بالله .
وبعض الناس يريدون أن يكرروا تجارب غيرهم الناجحة فيسيئون إليهم وإلى أنفسهم، جاءني مرة رجل قال: أنا كنت في تجارة وأنعم الله بها علي، ومشت أموري جيدة، في قطع غيار سيارات، ومحل يدر علي شهرياً فوق مصاريفي ومصاريف أهلي وأولادي وعائلتي بمراحل، لما رأى الآخرون نجاح المشروع، كل الجيران والشارع تحول كله إلى محلات قطع غيار سيارات، ففشل المشروع، وتعثر، وخسر، وفقدت حتى رأس مالي، أو أكثر رأس مالي، وصرت الآن في مرحلة الفقر، لماذا؟
طبعاً بعض الناس حسداً! وبعض الناس غباءً! وبعض الناس مجرد مقلدة!
وفي الحقيقة إن جهات الحسبة ينبغي أن تنظم مثل هذه الأمر، ولا تسمح بفتح محلات تضر بأشخاص سبقوا في العمل؛ لأن النبي ﷺ قال: لا ضرر ولا ضرار [رواه ابن ماجه: 2341، وأحمد: 2865، وصححه الألباني في الإرواء: 896، وفي السلسلة الصحيحة: 250].
فأما إذا صارت المحسوبية والواسطة هي التي تقرر، هل يفتح هنا أو لا يفتح، فهذه كارثة.
ليس بالضرورة أن ينجح معك المشروع الذي نجح مع غيرك.
وأحياناً تجد صفاً من الباعة، مطاعم في شارع واحد، واحد عليه زحمة، والثاني ما عنده أحد: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58].
الحادي عشر: لا يد أن يكون هنالك مرونة، وحدود دنيا، وحدود عليا، وإمكانية التراجع.
المشروع يمكن يكون مقسماً إلى مراحل، يمكن المشروع هذا يبنى جزئياً، يبنى مثلاً جزء ويستفاد منه، ثم يبنى جزء ثاني ويستفاد منه، ثم يبنى جزء ثالث ويستفاد منه، وهذه المرونة مهمة، حتى إذا ما استطاع الواحد أن يكمل المرحلة الثانية فهو مستفيد من المرحلة الأولى؛ لأن بعض الإجراءات التي تعمل في المشاريع لا يمكن الاستفادة من المشروع في مرحلته الأولى، إما أن تتم المرحلة الثالثة، وإلا لن يستفاد من الأولى والثانية، فتفضل المشاريع التي يمكن أن يستفاد منها في المرحلة الأولى، ثم الثانية فتزداد الاستفادة، ثم الثالثة فيكتمل المشروع، مثلاً: لا بد أن يكون هنالك إصرار على إكمال المشروع، وهذه قضية تحتاج إلى عزم، إصرار صلابة، استمرار.
وإذا ألح عليك خطب لا تهن | واضرب على الإلحاح بالإلحاح |
العلماء أنفقوا أشياء طائلة، لأجل الوصول إلى مبتغاهم، شعبة بن الحجاج قال: بعت طست أمي بسبعة دنانير ليحقق مشروعه في طلب الحديث.
معين والد يحيى، المحدث الكبير، خلف لابنه ألف ألف درهم! مليون! فأنفقه على الحديث، حتى ما بقي له نعل يلبسه.
محمد بن سلام البيكندي الحافظ، قال: أنفقت في طلب العلم أربعين ألفاً، وأنفقت في نشره أربعين ألفاً، فلا بد من الاستمرار.
وما كل هاو للجميل بفاعل | ولا كل فعال له بمتمم |
ما كل هاو بفاعل، وما كل فعال بمتمم.
لإتمام المشروع فرحة خاصة، الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- ابتدأ في تأليف كتاب، يشرح فيه صحيح البخاري، من عام 817 للهجرة، وانتهى في 842 للهجرة، كم سنة؟
25 سنة.
شف كم رقماً طلع؟
مع أن المسألة لا تحتمل، ما فيها احتمالات.
لما أتم كتاب فتح الباري بعد خمسة وعشرين سنة رحلة مضنية، في جمعه وتنقيحه وتصنيفه، لا شك أنها كانت فرحة خاصة، وعُملت وليمة عظيمة، قال الحافظ السخاوي -رحمه الله-: وكان يوماً مشهوداً، لم يعهد أهل العصر مثله بمحضر من العلماء والقضاة والرؤساء والفضلاء، وأنفقت فيه أموال في وجوه الخير.
أسباب فشل المشاريع
ما هي أسباب فشل المشاريع؟
أولاً: اليأس والاستسلام، النبي ﷺ قال: إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة نخلة صغيرة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل [رواه أحمد: 12981، وهو حديث صحيح].
لا تيأس، لا تنهزم، لا تتوقف.
قيل: إن نابليون سئل: كيف استطعت أن تولد الثقة في نفوس أفراد جيشك؟ فقال: كنت أرد على ثلاث بثلاث، من قال: لا أقدر، أقول له: حاول، ومن قال: لا أعرف، أقول له : تعلم، ومن قال: مستحيل، أقول له: جرب.
ثانياً: التشتت، كثير من الناس يبدأون في مشاريع ويتوقفون ولا يتمون، يفتح مشروعاً ثانياً ولا يتمه، ويفتح مشروعاً ثالثاً.
ومشتت العزمات يقضي عمره | حيران لا ظفر ولا إخفاق |
وبعض المصنفين بدأ في عدة مشاريع ومات رحمه الله قبل أن يكمل أي واحد منها، أو أكثرها.
ثالثاً: العجز والكسل، العجز عدم القدرة أصلاً، الكسل عنده قدرة لكن ما في همة للفعل تبعث على العمل، ولذلك كان ﷺ يستعيذ منهما: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل [رواه البخاري: 2823، ومسلم: 2706].
ولما قال: احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء لا تقل لو [رواه مسلم: 2664].
الذل في دعة النفوس ولا أرى | عز المعيشة دون أن يشقى لها |
لا بد من تعب، من تعطل تبطل.
إياك والكسل فإنك إن كسلت لم تؤد حقاً، وإن ضجرت لم تصبر على الحق.
في زواج حصل معنوي إن التواني، التأجيل والتسويف، أنكح العجز بنته، وساق إليها حين أنكحها مهراً، ما هو؟
التواني أنكح العجز بنته، وساق إليها حين أنكحها مهراً، فراشاً وطيئاً، ثم قال لها: اتكي، فغايتكما لا شك أن تلدا الفقر.
هذا المولود المتوقع، لا بد من بذل أشياء، النفس صحيح تسعى للراحة، لكن لا بد للإنسان أن يكابد.
دببت للمجد والساعون قد بلغوا | جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا |
فكابروا المجد حتى مل أكثرهم | وعانق المجد من أوفى ومن صبرا |
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله | لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا |
رابعاً: التأجيل والتسويف، وهذا أيضاً يؤخر، قال بعض السلف: أنذرتكم سوف، جند إبليس منهم سوف.
إن يوم العاجزين غد.
أحد العلماء سأل طالباً جاءه من السفر قال: متى قدمت البلد؟ فهذا بالخطأ بدل أن يقول: قدمت البارحة، قال: قدمت غداً، قال: أنت لا تزال في الطريق.
واترك منى النفس لا تحسبه يشبعها | إن المنى رأس أموال المفاليس |
فبعض الناس يعيش على أماني، وهو عاجز كسول في رقدة الغفلة.
خامساً: إساءة التعامل مع الأوقات، وهذه نبه إليها النبي ﷺ بقوله: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس [رواه البخاري: 6412]، فلذلك لا يجوز للإنسان الذي يعرف شرف زمانه وقدر وقته أن يضيعه.
سادساً: الفوضوية في العمل، والتخطيط، وهذه تمت الإشارة إليها.
وعاجز الرأي مضياع لفرصته | حتى إذا فات أمر عاتب القدرا |
والارتجالية، لا تأتي بالنتيجة.
سابعاً: ضعف الحافز: والحافز منه داخل ارتجاء الأجر من الله الثواب في الآخرة، ما يكون له عند ربه، وما يكون أيضاً في الدنيا من المنفعة للناس وله هو.
وأحياناً يكون حافزاً مادياً، لكن لأجل شيء أخروي، قال على بن عاصم حافظ العراق: دفع إلي أبي مائة ألف درهم، وقال: اذهب فلا أرى لك وجهاً إلا بمائة ألف حديث.
هذا حافز قوي.
وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا [آل عمران: 145].
ثامناً: عدم احتقار النفس مهم؛ لأن بعض الناس يستهين بالقدرات، ولذلك لما بدأ ابن عباس يطلب العلم، جاء واحد مثبط، قال: واعجباً لك يا ابن عباس أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب النبي ﷺ من ترى؟ فتركه وأقبل على العلم، يتوسد الرداء على باب فلان، تسفي الريح، التراب، حتى يخرج ليسأله، فبقي حتى مات الكبار، فاجتمع الناس عليه، فقال المثبط الأول: كان هذا الفتى أعقل مني.
تاسعاً: من المفشلات للأعمال: الملل والسآمة، وبعض الناس ملول، ولا بد يكون معه من يتابعه، ومن يقويه ويشحذ همته.
العاشر: الاستعجال قبل التمام.
ومن قل فيم يتقيه اصطباره | فقد قل مما يرتجيه نصيبه |
والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت)) قال: ((ولكنكم تستعجلون [رواه البخاري: 3612].
ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.
ومستعجل الشيء قبل الأوان | يصيب الخسارة ويجني النصب |
فلذلك لا بد من صبر.
الحادي عشر: ضعف المراقبة والمتابعة.
ثم ضعف الاستشارة من مفشلات الأعمال.
ثم الإحباط الذي ينتج عن وجود العوائق.
العوائق متوقعة.
ثم الانشغال ببنيات الطريق، دعها.
قد يعرض لك وأنت في طلب العلم شبهات، قد لا تعرف الإجابة عن شبهة معينة، اتركها، تجاوز وامش، أكمل، خلاص أنت تعرف في الجملة أن هذا حق، فلماذا ستقعد بك الشبهات عن الإكمال؟ أصحاب الهمم العالية يعملون إنجازات ضخمة.
استخدام كافة الإمكانات والوسائل في نجاح المشاريع
ذو القرنين -رحمه الله- كان عنده مشروع كبير، استعمل الإمكانات: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا [الكهف: 84]، فماذا فعل؟
فَأَتْبَعَ سَبَبًا [الكهف: 85] عمل بالأسباب، فبذل جهداً عظيماً، وأعد جيشاً، وعتاداً وعدة، ومالاً وقوة.
وسار في الأرض، طاقته، وجهده، لم يقف عند حد، بلغ مغرب الشمس، ثم سار بجنوده حتى بلغ مشرقها، ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ [الكهف: 92 - 93]، ومر على مناطق وبلدان وأراض، وأمم.
قال القاسمي في تفسيره ومن فوائد نبأ ذي القرنين: "تنشيط الهمم، لرفع العوائق، وأنه ما تيسرت الأسباب" [محاسن التأويل: 7/68]، فلا بد من العمل بها، والنشاط، وأن الواحد لا يرتاح إلى بعد بلوغ الغاية.
كم كان للنووي -رحمه الله-؟
اثنا عشرة درساً في اليوم.
رحل جابر في طلب الحديث شهراً.
وأبو أيوب خرج إلى عقبة بن عامر بمصر يسأله عن حديث.
وسعيد بن المسيب قال: كنت أسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد.
وسعيد بن جبير رحل في تفسير آية من الكوفة إلى المدينة.
وابن الديلمي عبد الله بن فيروز قال: بلغني حديث عن عبد الله بن عمر بن العاص فركبت إليه بالطائف أسأل عنه، ابن الديلمي كان في فلسطين.
الطبري كان يرجو أن يؤلف كتاب التاريخ في ثلاثين ألف ورقة، لكن لما رأى ضعف الطلاب في الهمة اختصره في ثلاثة ألف ورقة [سير أعلام النبلاء: 14/274- 275].
هؤلاء الكفرة أحياناً نجد عندهم من المثابرة، أو العمل والجهد والمتابعة، أشياء نقول إذا كان هؤلاء في الدنيا، فأين حماسنا نحن للآخرة؟
أرسلت اليابان ضمن بعثة لألمانيا مهندساً لدراسة المحركات؛ لأنها التي كانت تنقص النهضة الصناعية في اليابان، كان حلم هذا الياباني أن يصنع محركاً، فقرأ حتى عرف نظريات الميكانيكا، ولكنه ظل عاجزاً عن صنع المحرك، فاشترى محركاً إيطالياً براتبه كله، وجعل ينظر إليه كأنه تاج من الجوهر، وقال: هذا سر قوة أوروبا إذا صنعت محركاً مثله، غيرت مجرى الحياة في اليابان، ثم قال لنفسه: لو استطعت أن أفكك قطع هذا المحرك وأعيد تركيبها، ثم شغلته واشتغل، لكانت هذه خطوة عظيمة في صناعة الموديل، فأتيت برسوم المحرك التي عندي، وأخذت ورقاً كثيراً، وأدوات العمل، ومضيت أعمل، فرسمت أجزاء المحرك قطعة قطعة، يفكه ويرسم، يفك ويرسم، وترتيب القطع، كلها، قال: ثم أعدت تركيبه وشغلته فاشتغل، فكاد قلبي أن يقف من الفرح.
ظللت أعمل ثلاثة أيام، آكل في اليوم وجبة واحدة، وأنام قليلاً.
ولما علم رئيس البعثة، هذه عملية التكامل في الموضوع، أتى بمحرك معطل، وقال: فكه واكتشف موضع الخطأ، فشغلته في عشرة أيام، وعرفت مواضع الخلل.
بعد التفكيك كانت ثلاثة من القطع متآكلة، صنعتها بيدي بالمطرقة والمبرد، وركبتها واشتغل.
فطلب رئيس البعثة: أن أركب محركاً، أنا آتي بقطعه، فالتحقت بمصانع صهر الحديد، والنحاس والألمونيوم، بدلاً من إعداد رسالة الدكتوراه التي أرادها مني أساتذتي الألمان، يعني يمكن أن يشغلوه، أصبحت عاملاً أقف صاغراً إلى جانب عامل صهر المعادن، أطيع أوامره كأنه سيد، وأخدمه وقت الأكل، لمدة ثمان سنوات، أعمل من عشر إلى خمسة عشرة ساعة في اليوم، ثم آخذ نوبة حراسة ليلية، وأراجع قواعد الصناعة.
فعلم الميكاد حاكم اليابان بأمري وأرسل لي من ماله الخاص خمسة ألاف جنية إنجليزي ذهب، فاشتريت بها أدوات مصنع محركات، وشحنته بكل مدخراتي إلى اليابان، وبمجرد وصولي إلى ناجازاكي، طلب الميكاد رؤيتي، فقلت: لا أستحقها إلا بعد إنشاء المصنع، وبعد مدة حملت مع مساعدي عشرة محركات صنع في اليابان، إلى قصر الميكادو.
فلما سمع صوت المحركات، قال: هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي، صوت محركات يابانية، خالصة.
هؤلاء ناس يعملون للدنيا، وبهذه الدقة والمثابرة والمواصلة، فأين نحن؟ ماذا فعلنا؟
لا تعجب من عجز بعض أهل الخير لكن تعجب من جلد أهل الفجور والكفر.
في كتاب: "محكمة التاريخ" يقول المؤلف: ترددت كثيراً جداً على مركز من مراكز إعداد المبشرين في مدريد، وفي فناء المبنى الواسع وضعوا لوحة كبيرة، كتبوا عليها: أيها المبشر الشاب نحن لا نعدك بوظيفة أو عمل أو سكن أو فراش وثير، إننا ننذرك بأنك لن تجد في عملك التبشيري إلا التعب والمرض، كل ما سنقدمه لك هو الإنجيل والخبز وفراش خشن في كوخ صغير، وستجد أجرك عند الله إذا أدركك الموت وأنت في طريق المسيح، وستكون من السعداء.
هذه الكلمات، حركت الكثيرين من حملة الشهادات في الطب والجراحة والصيدلة، للذهاب إلى الصحاري والبراري، والأدغال، والخيام والمستنقعات المليئة بالنتن، والميكروبات، وإقامة السنين الطوال دون راتب، ولا منصب، ولو أراد أحدهم العمل بمؤهله لربح مئات الألاف، ولكن ضحى من أجل الباطل، الذي يعتقد صحته.
فيا عجباً من مواصلة ومثابرة هؤلاء على باطلهم! واجتماعهم عليه! وتفرقنا نحن عن الحق!
اللهم إنا نسألك أن ترزقنا العمل لدينك يا رب العالمين.
نسألك صلاح النية، وحسن العمل.
اللهم إنا نسألك أن تهب لنا من لدنك رحمة أنك أنت الوهاب، هيئ لنا من أمرنا رشداً، وأصلح لنا شأننا كله.
اللهم وفقنا للخير ودلنا عليه، وباعد بيننا وبين الشر يا رب العالمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات: 180 - 182].