الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين.
أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أصول شرعية في العمل المؤسسي الخيري
"العمل المؤسسي الخيري" هذا ولا شك شأن عظيم، فتُحيا به فرائض شرعية، تسد به احتياجات، توظّف فيه طاقات.
مجال عظيم جداً لاكتساب الأجر من الله ,
وهو شكل من أشكال التعاون على البر والتقوى، وممارسة هذا المفهوم الشرعي الإسلامي الأصيل نصا ًوروحاً وتحقيقاً له، وقد حث الله عليه، وندب إليه.
و"العمل المؤسسي الخيري" ترجمة عملية لمجموعة مما ورد في الشرع الحنيف من الأصول والقواعد والتوجيهات والإرشادات؛ فمن ذلك أنه: تحقيق لمبدأ التعاون على البر والتقوى الذي أمر الله به، فقال: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2].
فإذا كان "العمل المؤسسي الخيري" منضبطاً بالأصول الشرعية ويحقق المقاصد الشرعية، فهو تنفيذ لهذه الآية: وَتَعَاوَنُواْ .
وقد قال ابن كثير -رحمه الله- في التفسير: "يأمر الله عبده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر، وترك المنكرات وهو التقوى" [تفسير القرآن العظيم: 3/10].
والتعاون على البر والتقوى؛ كما قال العز بن عبد السلام في هذه الآية: أمر بالتسبب إلى تحصيل المصالح، ونهي عن التسبب إلى المفاسد في قوله: وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2].
ثانياً: الحقيقة أن فيه اجتماعاً للمؤمنين، وهذا يحقق قول الله: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران: 103] ففيه تجمع واعتصام.
فإذا كان العمل المؤسسي قائماً على المنهج الصحيح الموافق للكتاب والسنة، فإنه في الحقيقة تجمع واعتصام على الحق.
ثالثاً: إنه تناصر؛ كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ [الصف: 14].
والمناصرة في الله، ولله، هذا يتحقق في العمل المؤسسي، قال القاسمي -رحمه الله- معلقاً على الآية: "فيه بشارة للمؤمنين بالتأييد الرباني لهم ما داموا متناصرين على الحق مجتمعين عليه" [محاسن التأويل: 9/225].
فالتعاون الخيري إذا كان عبر عمل مؤسسي بين المسلم وإخوانه فإنه:
–رابعاً-: يشد بعضهم أزر بعض اقتباساً من قوله تعالى: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [القصص: 35].
خامساً: فيه التحقيق لمفهوم الأمة الواحدة ومفهوم الجسد الواحد، وقد قال عليه الصلاة والسلام: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد [رواه البخاري: 6011، ومسلم: 2586] فالعمل المؤسسي مثل الجسد.
وفيه: تلاطف وتراحم وتعاضد كما قال العلماء في شرح الحديث.
سابعاً: العمل المؤسسي الخيري فيه تحقيق لقوله تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ [آل عمران: 133]، فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ [المائدة: 48]، أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [المؤمنون: 61].
ثامناً: "العمل المؤسسي الخيري" فيه بركة، وقد قال ﷺ: البركة في ثلاث: الجماعة، والثريد، والسحور .
"الجماعة" موجود ة في العمل المؤسسي؛ لأنه تجتمع من أجله جماعة من الناس.
هذه البركة أو الخير الحاصل بالاجتماع في العمل المؤسسي، يقول ابن القيم -رحمه الله- عن قضية الاجتماع على الخير عموماً: "فإن المؤمنين ينتفع بعضهم بعمل بعض في الأعمال التي يشتركون فيها.
لو أخذنا العبادات مثلاً، يقول: كالصلاة في جماعة، فإن كل واحد منهم تضاعف صلاته إلى سبع وعشرين ضعفاً لمشاركة غيره له في الصلاة.
هذه كلمة مفتاحية، عبارة مفتاحية "لمشاركة غيره له في الصلاة" أو في العبادة عموماً.
قال: "وكذلك اشتراكهم في الجهاد والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وقد قال النبي ﷺ: المؤمن للمؤمن كالبنيان .
العمل المؤسسي الخيري هو في الحقيقة بنيان يشد بعضه بعضاً .
هذه أصول شرعية نعتمد عليها في انطلاقتنا في "العمل المؤسسي الخيري الديني الشرعي الإسلامي".
وهذه الأشياء تأصيلية، هذه النقاط السابقة، ومُنطلق للبدء والحماس والشرعية لهذا العمل.
الأعمال المؤسسية الخيرية لخدمة الدين
هل كان في تاريخنا الإسلامي أعمال مؤسسية خيرية؟ أعمال مؤسسية مثلاً لخدمة الدين؟
لا شك أن اجتماع المسلمين وقيامهم بتنسيق أعمال معينة، وانتهاج خطة، وتنفيذ الخطة، لا شك أنه شكل من أشكال العمل المؤسسي حتى لو ما سمّي كذلك.
اجتماع المسلمين في دار الأرقم مثلاً، كل الجهود الدعوية الجماعية التي كانت في مكة، ما كان يحدث بين المسلمين في ترتيب أمور مثلاً دعوة بين القبائل، أو أنهم يبحثون على الحجاج في موسم الحج، إلخ....
أو قضية نشر الدعوة بين الذين يقدمون من القبائل، ثم متابعة هذه الأعمال بعد ذلك.
وكانت الدولة الإسلامية في المدينة، هذا عمل مؤسسي كبير جداً ، هذا أضخم عمل مؤسسي في التاريخ الإسلامي، الدولة الأموية في المدينة، وهذه لها خطوات، وهذه التأمل فيها مهم جداً خصوصاً في ظل التغيرات الحالية، وما يطلق عليه تجارب الإسلاميين في الحكم، هذه قضية مهمة جداً، وهي: مراعاة كيف بنى النبي ﷺ مجتمع المدينة.
قضية المسجد، وقضية الكفاية الاقتصادية للمهاجرين الفقراء والمؤاخاة، قضية عقد التحالفات أو إقامة العهود، عقد العهود مع الأطراف المختلفة في المدينة، ثم بعد ذلك بناء الجيش الإسلامي، وبداية في حماية المدينة من أطرافها ثم الانطلاق خارجها.
على أية حال: فيه خطوات كثيرة جداً ليس هذا موضع الحديث عنها، لكن فقط لفت النظر إلى أن الدولة الإسلامية في المدينة، الدولة النبوية في المدينة، كان عملاً جماعياً بلا شك ولا ريب.
لكن نحن نتكلم في إطار معين وهي الأعمال المؤسسية الخيرية، أو الأعمال المؤسسية التي تخدم الدين: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ [آل عمران: 110]، وهذا ولا شك يحقق معروفاً.
نماذج رائعة في العمل الخيري المؤسسي
نضرب أمثلة الآن على أعمال مؤسسية خيرية عبر التاريخ الإسلامي، لكن واضح جداً لمن يريد أن يدرس هذا الموضوع أنه كان له قوام مهم للغاية، وما يكاد يوجد عمل مؤسسي خيري عبر التاريخ الإسلامي خلا من هذا الموضوع.
إذا كان عملاً مستمراً مؤسسيا ًحقيقياً، ألا وهو: الأوقاف.
الدولة الإسلامية في عصورها المختلفة وأطوارها وأحوالها وتنوعها كانت تنشئ أعمالاً مؤسسية، وتوقف عليها أوقافاً.
فلم تكن الأعمال المؤسسية الخيرية عبر التاريخ الإسلامية مدعومة من الدولة بقضية "رواتب" فقط، كان ينشأ العمل وينشأ له وقف، الدولة تنشئه.
وهناك أعمال نشأت بأوقاف أفراد من أمراء، وتجار وأغنياء، ذكور وإناث، قوّاد كان لهم مؤسسات خيرية.
ومنذ ظهور الوقف في القرن الأول الإسلامي لأن الحديث واضح، ما من أحد من أصحاب النبي ﷺ كان له مقدرة إلا وقف.
فإذاً، ما كان في واحد عنده قدرة إلا ويدخل سلك الوقف، من أول الإسلام، ما في واحد صحابي عنده قدرة إلا وقف.
الوقف هذا كان شيئاً أساسياً جداً، والمؤسسات الخيرية التي قامت بعد ذلك؛ كالمدارس، والمستشفيات، والمكتبات، ومؤسسات إغاثة الفقراء، ومؤسسات رعاية الحجاج، وغيرها...؛ كانت تعتمد على الوقف اعتماداً أساسياً.
هذه ملاحظة واضحة لمن أراد أن يدرس أو درس المؤسسات الخيرية التي قامت في تاريخ المسلمين.
الأعمال الخيرية المؤسسية في مجال الطب
لو أخذنا مثلاً: المستشفيات.
فكرة إقامة المستشفى كان عملاً مؤسسيا ًحقيقياً.
وكانت المستشفيات منها المتنقلة والثابتة.
ولعل بدايتها في التاريخ الإسلامي كانت متنقلة، خيمة رفيدة.
خيمة رفيدة نواة أول مشروع إسلامي خيري في تقديم الرعاية الطبية.
رفيدة الأنصارية أو الأسلمية المحتسبة التي كانت تجيد التمريض والمداواة والتطبيب، ويساعدها بعض الصحابيات.
أقيمت هذه النواة "خيمة رفيدة" في المسجد بأمر النبي ﷺ.
وقيل عن سعد بن معاذ، النبي ﷺ قال: اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب والحديث صححه ابن حجر في الإصابة والألباني في الأدب المفرد.
تحولت الخيمة هذه إلى عيادة صغيرة متنقلة يدخل فيها الجرحى للتضميد والإسعاف، فهي أول عيادة حربية متنقلة في التاريخ الإسلامي.
توسع الخلفاء والملوك بعد ذلك حتى أصبح المستشفى المتنقل مجهزاً بجميع ما يحتاج المرضى من علاج وأطعمة وأشربة وملابس وأطباء وصيادلة، وكان ينقل إلى القرى التي ليس بها مستشفيات محمولاً على مجموعة كبيرة من الجمال، وصلت في بعض الأحيان إلى أربعين بعيراً، كما صار في عهد السلطان محمود السلجوقي -رحمه الله تعالى- الذي حكم سنة 511 هجرية إلى 525 للهجرة.
أما بالنسبة للمستشفيات الثابتة باعتبارها مؤسسة خيرية -المستشفى نفسه- فكان ينشأ المستشفى بكامل ما فيه وعليه الأوقاف.
وأول من عرف أنه أنشأ مستشفى: الوليد بن عبد الملك في عام 88 للهجرة، وظف فيه أطباء وأجرى لهم أرزاقاً ورواتب.
ثم تتابع بعد ذلك عمل المسلمين في إنشاء "البيماراستانات"، والبيماراستان لفظة فارسية مركبة من "بيمار" مريض أو مصاب، و "استان" دار.
وبهذا يكون معناها: "دار المرضى".
ثم اختصرت إلى "ماراستان" وهذه كلمة مشهورة في كتب التاريخ.
كانت تقسم إلى قسمين منفصلين، للذكور قسم، وللإناث قسم، كل قسم فيه قاعات متعددة، كل واحدة لنوع من الأمراض، منها أمراض داخلية كالعيون، الجراحة، الكسور، التجبير، الأمراض العقلية، وكذلك كان هناك غرف لبعضها مستقلة مثل الحميات وغرف الإسهال.
كان كل جناح بأقسامه مجهزاً بما يحتاجه من آلات ومعدات وخدم وفراشين، خدم من النساء والرجال، وقوام ومشرفون.
كانت "البيمارستانات" تقام في أحسن الأماكن على الربوات أو جوار الأنهار إذا وجدت، ويوظف فيها الأطباء، وينتخبون بعد امتحان بجدارة وكفاءة، وكان لا يسمح للطبيب بالانفراد بالمعالجة حتى يؤدي امتحاناً عاماً أمام كبير الأطباء في الإجازة.
وهذا كان يقوم بدراسات أو تآليف ويُمتحن فيها، وإذا أحسن الإجابة وأجازه كبير الأطباء سمح له بمزاولة المعالجة.
اتفق في عام 319 للهجرة في أيام الخليفة المقتدر أن بعض الأطباء أخطأ في علاج رجل فمات، فأمر الخليفة أن يمتحن جميع الأطباء في بغداد، وامتحنهم كبير الأطباء فبلغ عددهم في بغداد ثمانمائة طبيب ونيف وستين طبيباً.
هذا عدا عمن لم يمتحنوا من مشاهير الأطباء، وعدا أطباء الخلفاء والوزراء والأمراء.
الإدارة كانت جزءاً من العمل المؤسسي، كان لكل "بيمارستان" رئيس الأطباء يسمى "ساعور المارستان" ولكل قسم من أقسام "البيمارستان" رئيس، فهناك رئيس أمراض الباطنية، ورئيس الجراحين، ورئيس الكحّالين.
وكان النظر على "البيمارستان" معدوداً من الوظائف الديوانية العظيمة.
أما بالنسبة لتنظيم العمل، فكان هناك نوبات يشتغل فيها الأطباء، كل طبيب له وقت معين يلازم فيه قاعته.
المعاهد الصحية كانت موجودة، كل مستشفى فيه إيوان كبير للمحاضرات يجلس فيه كبير الأطباء مع الطلاب وبجانبهم الآلات والكتب، ويقعد التلميذ بين يدي معلمه بعد أن يتفقدوا المرضى وينتهوا من علاجهم، ثم تجرى المباحثات الطبية والمناقشات بين الأستاذ وتلاميذه والقراءة في الكتب الطبية.
وكثيراً ما كان الأستاذ يصطحب معه تلاميذه إلى المستشفى في الداخل ليقوم بإجراء الدراسات العلمية على المرضى كما يقع اليوم طبعاً.
وقال ابن أبي أُصيبعة ممن درس الطب في "البيمارستان" النوري: كنت بعدما يفرغ الحكيم مهذب الدين والحكيم عمران من معالجة المرضى المقيمين بالمارستان وأنا معهم أجلس مع الشيخ رضي الدين الرحبي فأعاين كيفية استدلالي على الأمراض وجملة ما يصفه المرضى وما أكتب لهم، وأبحث عنهم في كثير من الأمراض ومداواتها.
من الأقسام التي كانت موجودة -حتى نثبت أن هذا عمل مؤسسي وأن هناك فيه أقسام وفيه إدارات- الأمانات، فإذا جيء بالمريض لتنزع عنه ثيابه ونفقته تحفظ عند أمين المارستان ويُلبس ثياباً ويُفرش له ويغدى عليه ويراح بالأدوية غير الغداء، يغدى عليه يعني في الصباح ويراح في المساء بالأدوية والأغذية والأطباء حتى يبرأ فإذا أكل فروجا ًورغيفاً أمر بالانصراف.
ما معناها؟
علامَة على شفائه.
وأعطي ماله وثيابه.
تمويل المستشفيات كانت عائدة للأوقاف أساساً، طعام، لباس، أدوية، رواتب الأطباء، الممرضين، بقية العاملين.
نظام الدخول للمستشفيات كان مجاناً للجميع، لا فرق بين غني وفقير ونابغ وخامل وبعيد وقريب، يفحص في القاعة الخارجية، والذي له مرض خفيف يكتب له علاج ويصرف من صيدلية المستشفى.
كان فيها أشياء ومركبات وأعشاب وغيرها.
من كانت حالته المرضية تستوجب دخول المستشفى يقيد اسمه ويُدخل إلى الحمام، وتخلع ثيابه فتوضع في مخزن ويعطى سريراً مفروشاً، ودواء يعينه الطبيب، وغذاء موافقاً لصحته بالمقدار المفروض، فإذا أصبح في قسم النقاهة بعد ذلك ينقل إليها إلى أن يشفيه الله عز وجل فيعطى بدلة من الثياب الجديدة ومبلغا ًمن المال.
لماذا؟
حتى يكفيه حتى يصبح قادراً على العمل.
يعني لازم وهو طالع يعطوه مالاً لأنه لن يعمل في أول خروجه من المستشفى، أول كم يوم هذه نقاهة.
من أقسام "البيمارستان": خزانة الشراب، وهي الأدوية التي تعطى، والمكتبة، والمصلى، والمكتبات كانت ملحقة بكل مستشفى، مكتبة عامرة حتى قالوا: كان في مستشفى ابن طولون بالقاهرة خزانة كتب تزيد على مائة ألف مجلد.
والمصلى والغرف والقاعات.
وهناك مفتشون على النظافة ومراقبون للقيود المالية، يرفعون تقارير إلى الخليفة في بعض الأحيان.
ومن الأمثلة على هذه المستشفيات: المستشفى العضدي، أنشأه عضد الدولة في الجانب الغربي من بغداد، ورتب له أطباء ووكلاء وخزان وكل ما يحتاج إليه كما قال الذهبي في تاريخ الإسلام، وأنفق عليه مالاً عظيماً، وجمع من الأطباء 24 طبيباً وكان فيه مكتبة علمية وصيدلية ومطابخ ومخازن.
المستشفى النوري الكبير بدمشق أنشأه السلطان نور الدين محمود زنكي رحمه الله، وكان من أحسن ما بُني حتى قال الرحالة ابن جبير: مفخر عظيم من مفاخر الإسلام، كما في رحلة ابن جبير.
شرط نور الدين فيه أنه على الفقراء والمساكين، وإذا اضطر الأغنياء إلى الأدوية يُسمح لهم بها.
كان الشراب والدواء مباحاً للمريض، استمر هذا المستشفى حتى عام 1317 للهجرة، يعني قريب.
هذا عمل مؤسسي خيري استمر كم؟ مئات السنين.
لما أنشئ مستشفى الغرباء أقفل المستشفى النوري، وتحول إلى مدرسة أهلية.
المستشفى المنصوري الكبير في مصر الذي أنشأه قلاوون عام 683 أوقف عليه ما غلته مائة ألف درهم سنوياً فكم الأصل؟
وفيه مكتب أيتام، ومدرسة، وفيه عقاقير، وأطباء، ومكان لطبخ الطعام، والأدوية، والأشربة، وتركيب المعاجين والأكحال، ويجلس فيه رئيس الأطباء لإلقاء الدروس... إلخ..، وكل من يخرج يعطى كسوة، لباس، دراهم للإنفاق.
وكان مشروط في الوقفية التابع لهذه المستشفى، أنه يُقدم الطعام لكل مريض بزبدية خاصة به لم تستعمل من مريض آخر -هذا مشروط في الوقف- وأنها تكون مغطاة، وأنها توصل إليه بهذا الشكل.
فيه أشياء إدارية في هذا العمل المؤسسي، أمين، مباشرون للإدارة يضبطون ما يشترى من أصناف وما يحضر منها إلى "المارستان" ومباشرون لاستخراج مال الوقف، ومباشرون في المطبخ، ومباشرون في عمارة الأوقاف الموقوفة على المستشفى.
هذا في وقت كانت أوروبا تغط فيه في جهالات عظيمة جداً ولا تعرف شيئاً عن هذا حتى قال المستشرق الألماني "ماكس ماير هوف": إن المستشفيات العربية ونظم الصحة في البلاد الإسلامية الغابرة لتلقي علينا درساً قاسياً مراً لا نقدره حق قدره إلا بعد القيام بمقارنة بسيطة بين مستشفيات أوروبا في ذلك الزمن نفسه.
الأعمال الخيرية المؤسسية في مجال التعليم
مثال آخر: المدارس.
-طبعاً- أغلب التعليم في صدر الإسلام كان في المساجد، لكن المسجد كان تُعمل فيه حلق ويوقف عليها أوقاف بما معنى أنه هو عمل مؤسسي خيري مقره المسجد، لكن له إدارة وله تنظيم وله نفقات.
في القرن الرابع الهجري بدأت فكرة إنشاء المدارس كمؤسسات علمية مستقلة، يعني خارج المساجد، وهو عبارة عن بناء يتبرع به أحد المحتسبين أو يُبنى على نفقته فيعين له قيم أو ناظر، وتوقف عليه الأوقاف للإنفاق على المدرسين وطلبة العلم.
توفير الأجواء العلمية.
من الأسباب التي دعت إلى إنشاء هذه المدارس في الحقيقة ما رأى بعض المحسنين وبعض أهل العلم من انتشار بدع، وبالذات النفوذ الباطني.
كان من أسباب إقامة المدارس العلمية الشرعية كمؤسسات عمل مؤسسي عليه أوقاف إنه أحس المسلمون بالخطر الباطني، بالتغلغل الموجود، خصوصاً لما قامت دول هؤلاء كالعبيديين وبني بويه وغيرهم.
المدارس هذه كان فيها أقسام داخلية للغرباء، والذين لا تساعدهم أحوالهم المادية على الإنفاق، أن آباءهم ينفقون عليهم مثلاً.
وقسم خارجي لمن يريد أن يرجع في المساء إلى بيت أهله وذويه.
كان القسم الداخلي يهيأ للطالب فيه الطعام والنور والمطالعة والعبادة.
وكانت المدرسة تحتوي على مسجد وتحتوي على قاعات للدراسة وغرف لنوم الطلاب ومكتبة، مطبخ، حمام... إلخ...
-طبعاً- الحمام الذي فيه يغتسلون، حمام غير مفهوم الحمام اليوم.
فيه مدارس لتدريس القرآن، التفسير، والتحفيظ، والقراءات، ومدارس للحديث بكل فروعه، والفقه، والمذاهب الأربعة.
ومدارس للأيتام.
من أمثلة هذه المدارس: المدرسة المستنصرية.
المدرسة المستنصرية مشروع مؤسسي عظيم، قال ابن كثير: دخلت سنة إحدى وثلاثين وستمائة وفيها كمُل بناء المدرسة المستنصرية ببغداد، لم يبن قبلها مثلها، ووقفت على المذاهب الأربعة من كل طائفة -يعني من كل مذهب- 62 فقيهاً، و 4 معيدين، ومدرس لكل مذهب، وشيخ حديث، وقارئان، وعشرة مستمعين، وشيخ طب، وعشرة من المسلمين يشتغلون بعلم الطب، ومكتب للأيتام، وقدر للجميع من الخبز واللحم والحلوى والنفقة ما فيه كفاية وافرة لكل واحد [البداية والنهاية: 13/139].
نقل إليها من الكتب على مائة وستين جمل سوى ما نقل فيما بعد كما ذكر الذهبي في تاريخ الإسلام.
كانت ميزانية المدرسة هذه ضخمة جداً.
لما نسمع الآن كلام على هارفرد وأوقاف الجامعات الغربية.
أوقف على المدرسة المستنصرية ما قال عنه الذهبي رحمه الله 900 ألف دينار فيما يخال إليّ.
يعني إذا أردنا نبسط الموضوع تسعمائة ألف، طيب مليون، مليون دينار، الدينار أربعة غرامات وربع من الذهب، يعني أربعة مليون وربع غرام من الذهب، يعني كم؟ يعني أربعة طن وربع من الذهب.
كم قيمة الطن؟
يقول الذهبي: "ولا أعلم وقفاً في الدنيا يقارب وقفها أصلاً سوى أوقاف جامع دمشق، وقد يكون وقفها أوسع، وحدثني الثقة أن ارتفاع وقفها بلغ في بعض السنين وجاء -يعني تحصيلاً- عائد نيفاً وسبعين ألف مثقال ذهب [ينظر: تاريخ الإسلام: 46/7] يعني بلغ العائد سبعين ألفاً.
من المدارس المشهورة -أعمال مؤسسة خيرية-: المدرسة النظامية في بغداد التي أنشأها نظام الملك السلجوقي.
سبب الإنشاء هذه المدرسة الوقوف أمام المد الباطني في بغداد!
إذاً، فيه أعمال مؤسسية خيرية، وبالذات التي فيها تجذير مذهب التوحيد والسنة والترسيخ والتعليم والتخريج.
سبب نشأة العمل المؤسسي في هذا العلم الشرعي الإحساس بالخطر والسعي إلى تجذير مذهب الحق.
فملأ الوزير هذا نظام الملك بلاد العراق وخراسان بالمدارس حتى قيل: له في كل مدينة في العراق وخراسان مدرسة، وكان ينشئ حتى في الأماكن النائية.
وكانت تابعة له، وأبدى اهتماماً كبيراً فيها من ناحية اختيار الموقع الجغرافي مثلاً، فبنى مدرسة ببغداد، ومدرسة ببلخ، ونيسابور، وهرا، وأصبهان، ومدرسة بالبصرة، ومرو، وطبرستان، والموصل.
ويقال: إن له في كل مدينة بالعراق وخرسان مدرسة، كما في طبقات الشافعية.
هذا التوزيع الجغرافي يبين خدمة الفكرة التي من أجلها أنشئ، لأن تجذير المنهج يحتاج إلى امتداد إقليمي وتوزيع جغرافي حسن، وهذه مسألة مهمة جداً.
اختار المدرسين والعلماء المميزين بعناية تامة، ومن تفرس فيه صلاحيته الولاية ولاه، يعني فيه شيخ عالم طالب علم، وفيه إداري.
نظام الملك من دقته في توزيع المهام، من تفرس في صلاحيته الولاية ولاه، يعني الذي يتفرس فيه إنه يصلح للإدارة ولاه الإدارة، ومن رأى الانتفاع بعلمه أغناه، يعني المدير سيكسب من حرفته في الإدارة، والشيخ؟ يُجعل له أعطيات خاصة تفريغاً له للتعلم والتعليم، ورتب له ما يكفيه حتى ينقطع إلى إفادة العلم ونشره وتدريسه.
وكان يكتشف الأستاذ أولاً.
وهذه نقطة مهمة جداً: لو أردنا أن نعمل شيئاً لخدمة دين الله له وزن كبير.
ما هو هذا الشيء؟
كان نظام الملك يكتشف الأستاذ أولاً، من الطاقات العلمية، فقه، حفظ، فهم، قدرة على الاستنباط أو الاجتهاد، حسن تدريس وتعليم، خبرة، من هم العلماء؟ أو طلبة العلم الكبار؟
كان نظام الملك يكتشف الأستاذ أولاً، فيبني له مدرسة باسمه، حدث هذا مع الشيخ إسحاق الشيرازي المتوفى سنة 476 فبنى له نظامية ببغداد خاصة بالشيخ.
ومع إمام الحرمين بنى له نظامية بنيسابور.
هذه قضية أن صاحب العلم والقدرة والعطاء في العلم الشرعي يُكفى ويُخدم.
آن الأوان أن يرفع لواء هذه الفكرة، وتؤخذ بعين الاعتبار، ويُحضر فيها أبحاث، وتوضع لها خطط، وتدخل حيز التنفيذ، ضروري جداً جداً؛ لأن الله لا ينتزع العلم انتزاعاً من صدور العباد لكن كيف؟ بقبض العلماء.
فإذاً، قياسا ًعلى ما فعله نظام الملك لا بد من استكشاف الطاقات العلمية الموجودة في العالم الإسلامي أو في غيره.
فإذا عرفنا منه صحة المنهج، وما عنده من القدرات العلمية والتعليمية، هذا كان يُبنى له مدرسة يُجرى عليه راتب، يُجعل من الوقف وقف على المدرسة أو جزء من وقف على المدرسة.
الآن لو كان هناك لهؤلاء مدارس أو معاهد ومكتبات وطلاب ومعيدون للدرس، ثم يُخدم الشيخ بموقعه على الشبكة وفي التواصل الاجتماعي وتطبيقات جوال على ما أنتجه هذا الشيخ، ويُعمل له خدمة صوتية لعلمه الذي ألقاه ويُفهرس ويُعنون ويُدقق ويُراجع ويُحسن إخراجه ويُنشر، ويُعمل له ترجمة لإنتاجه، ولطلابه، ويُعمل له مكتب، وتنسيق المواعيد، إلخ...، للي يستاهل.
والله كان تغير المستوى العلمي الشرعي للأمة تغيراً جذرياً، لو صارت الخدمة لأهل العلم على هذا المستوى طبعاً وأكثر أفرع وقس وهات من الأشياء الأخرى المهمة جداً.
لكن قولوا لي: من الذي يقوم بهذا اليوم؟
كان هناك دعم مادي، ميزانيات، نظام الملك لم يبخل بتوفير إمكانيات كبيرة، أوقاف واسعة، بل قال المقريزي: أول مدرسة قرر بها للفقهاء معاليم.
ماذا يعني معاليم؟ ما هو المعلوم؟
الراتب.
وأوقف نظام الملك على مدرسته ببغداد ضيعة، الضيعة هذه يعني مزارع وأملاكاً، وسوقاً بُنيت على بابها،
وفرض لكل مدرس وعامل قسطاً من الوقف، وأجرى للمتفقهة أربعة أرطال خبز يومياً لكل واحد منهم.
أما مدرسة أصفهان فقدرت نفقاتها وقيمة أوقافها بعشرة آلاف دينار، وكانت للمدرسة النظامية في نيسابور أوقاف عظيمة كما ذكر ابن الجوزي في تاريخ الأمم، واهتم بتوفير السكن للطلاب داخل المدارس.
أما توفير المراجع العلمية حرصاً على تهيئة المناخ العلمي فشيء عظيم.
فكان هنالك مكتبات عظيمة جداً، ويوفر القائمون على المكتبات، وكان على سبيل المثال يقعد بين يدي إمام الحرمين كل يوم ثلاثمائة رجل من الأئمة والطلبة في هذه المؤسسات.
وكانت المكتبات العامة والخاصة منارات يُنفق عليها من قبل الأمراء والأثرياء والتجار.
وكان لها مختصون حتى يُشترى للطالب الفقير كتباً.
هذه المكتبات كان يرأسها خازن المكتبة، وعادة يكون من أشهر علماء عصره، وهناك من الموظفين مناولون. مناولون ماذا يعني؟
يناولون الكتب للمطالعين، ويأخذونها ويعيدونها إلى الرفوف.
كان يوجد داخل المكتبات مترجمين، أحياناً مثلاً يُترجم من اللغة العربية للفارسية، والعربية إلى اللغات الهندية، لغات أخرى...
كان هنالك من الموظفين نسّاخون، كل هؤلاء برواتب، وخطوط جميلة، وكان هنالك مجلّدون يجلدون الكتب حفاظا ًعليها من التمزق والضياع.
كان هناك مفهرسون في المكتبة، وهناك تبويب دقيق ودواليب لحفظ الكتب، وكانت الاستعارة الخارجية مسموحاً بها في الغالب مقابل ضمان إلا أهل العلم والفضل الكبار فلا يؤخذ منهم ضمان.
هذه الموارد من أين؟
الأوقاف.
ما هي أشهر المكتبات كأعمال مؤسسية تخدم العلم الشرعي عبر التاريخ الإسلامي؟
"بيت الحكمة" ببغداد من أشهرها، أسسه هارون الرشيد -رحمه الله تعالى-.
فيها لغات مختلفة، دخلت دار الترجمة فيها، وزاد عدد الموظفين، وتألق عدد من أهل العلم فيها.
خرّجت هذه "بيت الحكمة" أعدادا من أهل العلم.
والمكتبة حوت نفائس وكنوز.
كان لها إدارة، كان يطلق على المدير لقب صاحب: "صاحب بيت الحكمة" يعني مدير بيت الحكمة.
أما مكتبة قرطبة في عصر محمد الأول، توفي في عام 273 لما تولى واشتهر بحبه للكتب، يعني الإمبراطور البيزنطي القسطنطيني السابع ما وجد أن يتقرب إلى هذا الرجل إطلاقاً إلا أن يهدي له كتاباً جديداً.
اهتم بإقامة هذه المكتبة، وجعل هدفه نشر العلم عن طريقها، وكان يقرب تجار الكتب.
ووضع سياسة لشراء الكتب من مؤلفيها وناشريها لتصدر في الأندلس قبل أن ترى النور في بغداد أو البصرة أو مصر.
يعني كان هناك موظفون يجوبون -هو في الأندلس- يجوبون بلاد المغرب، ومصر، والحجاز، والعراق، والشام، وإذا كان فيه كتاب نفيس يُشترى، يعني تشترى الطبعة الأولى كما يقال أو النسخ الأولى لكي يرى النور في الأندلس قبل أن يراه في بلد المنشأ.
والمكتبات هذه –طبعاً- كان لها أقسام، وفيها مراكز بحث، تأليف الباحثين، ومركز للنقل والترجمة، ومركز للتدقيق والمراجعة، وإدارة المكتبة فيها وظائف كثيرة من الخزانين وغيرهم...
الأعمال الخيرية المؤسسية في المجال الاجتماعي
هناك أشياء أخرى، مثلاً: مؤسسات خيرية تُنشأ لإيواء النساء اللاتي طُلقن أو مات أزواجهن.
مثلاً: خاتون بنت الظاهر بيبرس، في سنة 684 أنشئت هذه المؤسسة، مؤسسة رعاية، وكانت تقوم عليها الشيخة الصالحة زينة بنت أبي البركات المعروفة ببنت البغدادية.
وكانت هذه المؤسسة فيها أشياء للوعظ والتعليم تودع فيها النساء اللاتي طلقن أو هجرهن أزواجهن أو مات عنهن أزواجهن حتى يتزوجهن أو يرجع إليهن أزواجهن صيانة لهن.
وكان فيها ضبط وغاية الاحتراز والمواظبة على وظائف العبادات، يعني ليست للأكل والشرب فقط، أو أن تُحفظ من الشر والفساد، أو أن تُكفى من العمل والامتهان، فيها تربية، فيها جو عبادة.
مغاسل الأموات كانت أعمال مؤسسية أصغر، فيها تكفين، وما يحتاجه الغسل والغاسل ونفقات، إلخ.. ، وحافر القبر، والأجهزة والأدوات المستعملة، حتى كان في المغسلة يلحق ببعضها مصلى وميضأة، وفي بعضها حوض لسقي دواب المشيعين.
وجد في القاهرة ما يزيد على خمسة عشر من هذه المغاسل في وقت من الأوقات.
أما أعمال أخرى مثلاً بناء الخانات والفنادق للمسافرين أو للطرقات، هذه لها إدارة، الفندق له إدارة، يُنفق على إدارته وعلى الطعام فيه، وعلى الموظفين فيه.
بيوت خاصة للفقراء مثلاً.
مطاعم شعبية للجميع توزع.
بيوت للحجاج مثلاً.
لكن من ضمن الأشياء المهمة كانت دور للمرابطين، تُجعل الثغور، وفيها كل ما يحتاجون إليه.
هذه مؤسسة قائمة فيها الطعام والشراب والذخيرة والسلاح... إلخ..
وكان لها أثر كبير في صد غزوات الروم أيام العباسيين وصد غزواتهم في الحروب الصليبية على بلاد الشام ومصر.
كان في وقف الخيل، وقف السيوف، وقف النبال، وقف أدوات الجهاد، كانت من ضمن ما يوقف.
أما الأشياء التي تخدم مجموعة، اللقطاء، يتامى، مثلاً أوقاف للختان، للمقعدين، للعميان، للعجزة، للمساجين، لتزويج الشباب العزّاب، لتقديم المهور، إمداد الأمهات بالحليب والسكر كما فعله صلاح الدين في وقف له في أحد أبواب القلعة في دمشق.
ووقف لعلاج الحيوانات المريضة وإطعامها ورعايتها كما هو شأن المرج الأخضر في دمشق كان وقفاً للخيول والحيوانات العاجزة، ترعى حتى تلقى حتفها.
هذه أمثلة -يا إخوان- على الأعمال المؤسسية الخيرية عبر التاريخ الإسلامي.
فيها إدارة؟ نعم، فيه تمويل؟ نعم.
فيها خطط عمل ووظائف وأعمال كما نتكلم اليوم عن عمل مؤسسي؟ نعم.
ليس هذا العمل المؤسسي ما عرف إلا من مؤسسة ديل كارنيجي، ولا مؤسسة فلان وعلان، هذه مسألة قديمة عندنا، لما كانت أوروبا تغط في نوم عميق وجهل مطبق.
الآن في هذا الزمن لما صار الصراع، تطور الصرع، وتطورت الآلات والأدوات وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ [الأنفال: 60]، وصرنا نحتاج إلى قوة إدارية وقوة مالية وقوة تقنية.
القوة الإعلامية، القوة العسكرية، هذه طبعاً أشياء، أنواع القوى كثيرة.
لكن الأعمال المؤسسية الآن، وخصوصاً الأعمال المؤسسية الدعوية، الأعمال المؤسسية العلمية، هذه أهم ما ينبغي التركيز عليه، لماذا؟
لأن هذا حفظ الدين، أول ضرورة من الضرورات الخمس: حفظ الدين.
وهناك أعمال مؤسسية كثيرة.
لكن أختم كلامي، وأفتح لكم النقاش بعد ذلك، يعني فيه كلام كثير الآن في قضية العمل المؤسسي الخيري أو العمل المؤسسي الذي يخدم الدين في زمن المسلمين الآن، هذا الزمن المتأخر.
الأعمال المؤسسية العلمية والدعوية لا بد أن تأخذ نصيبها الآن.
ولعل ما ذكرناه في الأعمال المؤسسية العلمية من المدارس وغيرها يكون في تحفيز على هذا.
نقاط مهمة في العمل الخيري المؤسسي من واقع تجربة الشيخ/ محمد صالح المنجد
أذكر من تجربة مررت بها مع بعض إخواني في العمل المؤسسي نقاطاً معينة لنقل خلاصات خبرة، ثم المجال لكم في النقاش.
إنشاء مؤسسات دعوية علمية إعلامية مهم جداً جداً الآن.
وهذه المؤسسات ينبغي أن تحتوي على إدارة، تمويل، التطوير والتدريب، واختيار العناصر البشرية، الاهتمام بالإعلام؛ لأنه قوة عظيمة فعالة بل مؤثر في زماننا للغاية.
إن قلت مواقع إنترنت بجميع أشكالها لأنها تتطور، يعني كانت المنتديات الإلكترونية عليها إقبال، انتقلت قوة المنتديات إلى التويتر الآن في آخر تطوراته، ولا ندري ما هو القادم.
سواء كان الاهتمام بموضوع البرمجة، يعني البرمجة هذا عصب العمل.
البرمجة يمكن أن تخزن المحتوى في وسائل وصور كثيرة جداً.
فإذا قلت مثلاً: أريد أن أنشئ موقع إنترنت له برمجة معينة.
وإذا قلت: أريد أن أعمل تطبيق جوال له برمجة أخرى، وهكذا...
البرمجة قوة مهمة: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ [الأنفال: 60] ينبغي أن نهتم بها.
الاحتراف الإعلامي، يعني في قضية كيف تصل الرسالة إلى الناس، كيف تدخل عقولهم بسهولة، كيف تكون مقنعة لهم، كييف تكون جذابة، كيف تكون مؤثرة، كيف تكون عملية.
أنت ما تغزوهم فقط لأجل حشو معلومات، أنت تريد أن يعمل بهذه المعلومات.
ما هي الأشياء؟ الإعلام التفاعلي، لتشرك به أكبر عدد من الناس.
هذا الإعلام التفاعلي تشرك فيه أكبر عدد من الناس داخل في قضية: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة: 2]، فكيف ننشئ مؤسسة علمية منهجها صحيح على الكتاب والسنة وهذه مهمة جداً. دعوية يعني تبلغ دين الله للبشر، وهذه وظيفة الرسل: بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ [المائدة: 67]، الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ [الأحزاب: 39].
هذا التبليغ يحتاج إلى قوالب، يحتاج إلى ترجمات لغات، يحتاج إلى أن يُجعل فيه صيغ وأُطر، يحتاج إلى تسويق لنشره.
اختيار الموظفين المناسبين ولا بد أن تكون هذه المؤسسة فيها طلبة علم؛ لأن هذا هو المطبخ العلمي، هو عماد المؤسسة، ما يُنتج فيها المطبخ العلمي هذا من قبل الباحث الذي سيقولب أو يجزئ أو يعلم أو يفهرس أو يقطع أو يعلب أو يزين أو يوضع في قوالب، هذا عمل آخر.
يا إخوان: أقولها لكم عن تجربة خبرة:
1- صناعة المحتوى.
2- هندسة المحتوى.
وهذه لا بد أن تكون بخطط واستراتيجيات، يعني أنت لازم تعرف ماذا، يعني ما هو الشيء المؤثر فيها؟ مثلاً: حطها لهذا المراهق في إم بي ثري، وإلا إم بي فور، وإلا في تويتر وإلا في الفيس بوك، وإلا تجعل في تطبيقات الجوال، وإلا تجعل...، وما هي توجهات السوق، وما هي توجهات شركات الجوالات، ما هي توجهات القنوات، ما هو توجه مثلاً القنوات العالمية، يعني مثلاً: "كيبل سستم" كيف تدخل كيبل سستم؟
فيديو أونديمانت، مثلاً الناس تنزل، تحمل عمر شركات الاتصالات بالفايبر مثلاً أو بالألياف الضوئية هذه، تصير عندك تدخل الآن الدمج بين التلفزيون والجوال والإنترنت.
إيجاد بيئة تنزل، تحمل منها.
الذي وجدناها بالتجربة في قضية التحميل من متجر أبل نتائج هائلة، تجعل الواحد مثلاً يعني من باب الأمانة في إنفاق أموال وقف أو أموال خيرية أن يصرف في هذا المكان، وما يصرف في هذا المكان أو يحدد ميزانية هذا المكان، ويوسع ميزانية هذا المكان.
لا بد من إقامة لجنة شرعية للضوابط في هذه المؤسسة، وإلا سيجتهد الإعلاميون في المؤسسة، والمبرمجون في المؤسسة، والمصممون الإلكترونيون "تو دي"، "ثري دي"... إلخ، وصناع الأنيميشن، برامج الأنميشن، سيجتهدون وقد يكون فيهم خير وفيهم دين ومتحمسين، لكن إذا ما عنده ضوابط شرعية ممكن ينتج لك إنتاج عليه ملاحظات كثيرة.
لماذا وجدت أفلام كرتون (إسلامية) فيها مشاكل؟ لماذا وجدت ألعاب على أنها مباحة وفيها مشاكل؟ لماذا وجدت أناشيد وما أكثرها... فيها مشاكل، لماذا وجدت...؟
لأن لجنة الضبط الشرعي غير موجودة أو متساهلة أو المسؤول عن الضبط الشرعي مشغول أو جعل اسمه عنواناً للتسويق، ولكنه في الحقيقة غير موجود لا مؤقتاً ولا دائماً.
لجنة شرعية لضبط الأمور.
التخطيط الاستراتيجي، والتخطيط الاستراتيجي في بعض المؤسسات أحياناً يكون واضحاً في أذهان اللجنة، يعني مثلاً افترض أنهم ثلاثة أربعة من المديرين أو من الإداريين، تصير الاستراتيجيات واضحة عندهم لكن ما هي واضحة عند الموظفين.
ولذلك ممكن أحياناً يصير موظف ينتج أشياء ليست هي حسب الخطة؛ لأنهم لم يفهموا الخطة.
فبعد وضع الخطة لا بد تنقل إلى الأسفل، لازم تنزل تحت في السلم الإداري، لا بد أن تعمم، تشرح، يصير فيها دورات.
كذلك لا بد يعبر بالرؤية والرسالة، ماشي، لن نقف يعني في قضية الاسم الحرفي، لكن هذه مما ينبغي أن يراجع؛ لأنه هذه بعضهم يضعون الرؤية والرسالة كأنه صارت موضة، موضة الرؤية والرسالة، أنت عندك رؤية ورسالة حقيقية أو فقط موضة، أو لأنه سيأتي زائر، أو تفتيش، أو أي شيء، فيقال: أين الرؤية والرسالة؟
ويقال: هذه الرؤية والرسالة.
معمول بها حقيقة؟ هل هي رسالة شاملة فعلاً؟ هل لما طبقت الرؤية والرسالة ثبتت صحتها وكفاءتها؟ هل أجريتم تغييرات على الرؤية والرسالة نتيجة تطور أوضاع معينة؟
قضية المشاريع التخصصية، أو المشاريع المتميزة، أو الشيء الذي لم يسبق إليه أحد، أو الشيء الذي يحتاجه البلد، أو الشيء الذي يحتاجه مجتمع معين، أو الذي يحتاجه الإسلام في ناحية معينة من النواحي، لا بد أن يُلتمس ؛ لأن هذا العمل على فروض الكفايات أجره غير أجر العمل الذي كل أحد يجيده ويعمل فيه.
ثم الكفاءات البشرية، ثم الكفاءات البشرية، ثم الكفاءات البشرية، الكوادر البشرية، هذه قضية هي لب الموضوع، الاختيار، الانتقاء، التدريب، تربية الموظفين، هذه طبعاً تربية الموظفين ما الذي يتكلم فيه؟ ما الذي يتكلم في تربية الموظفين؟ وعلى أي شيء يربون لو كان...؟
دكتاتورية المدير هي التي تربيهم؟ أو ماذا؟
قضية الاحتفاظ بالكوادر لأن المؤسسة خسرت عليها، ولأن سوق العمل ينهب، مع الأسف الآن شركات تنهب وفيه إغراءات، ويمكن هو عندك موجود لكن قد تأتيه فرصة أحسن.
هو مع الأسف سينتقل من المحبرة إلى المقبرة، لكن أي مقبرة؟ ما هي المقبرة التي كان يريدها الإمام أحمد؟ مقبرة المال، مقبرة الدنيا، مقبرة الانهماك في الأمور المادية.
قضية سلامة النية، والإخلاص لله -سبحانه وتعالى-، ومراجعة النفس ومحاسبتها، قضايا ضرورية جداً تضيع في الأعمال المؤسسية.
كم من أعمال مؤسسية انهارت؟ تحجمت؟ صارت بالية؟ فيها أحياناً تصل -والعياذ بالله-إلى درجة الخيانة، لماذا؟ لأنه مسألة إعادة المحاسبة التذكير، الوعظ، إصلاح النية.
يمكن شيخ في أعمال القلوب ضروري جداً لعمل مؤسسة، عمل مؤسسي، تقني، إعلامي، عالمي، واحد شيخ في أعمال القلوب أهم من المدرب والمخطط الاستراتيجي والـ...
شيخ في أعمال القلوب! والله -يا إخوان- أنا أتكلم من تجربة.
قضية التخلص من فكر "لا أريكم إلا ما أرى" إنه في هناك طاقات، لأنه ناس تفهم، وفي ناس ممكن تعترض وترفض الاستبداد.
كذلك توفيق الأعمال الإنتاجية والمحاسبة عليها، التقرير الإنتاجي لكل موظف أصل في محاسبة الموظفين وترقيتهم حتى نبتعد عن المحاباة وعن أشياء أخرى.
التخلص من "أنا" واستبدالها بـ "نحن"، والبحث عن الأساليب الإدارية الناجحة في التقييم والمراجعات الدورية.
وقضية المطالعة المستمرة لتغير الأوضاع الخارجية والداخلية.
وقضية التشغيل والتنفيذ وحفظ الأسرار وتوثيق الأعمال، وبناء العلاقات.
وكذلك من الأمور الصعبة جداً جداً: الجمع بين الإخلاص والشهرة الإعلامية، سواء للمؤسسة أو لناس في المؤسسة.
هناك من يقول أحياناً، أقف أمام العبارة، أقف مستسلماً أو إنه في تعارض بين الإسلام وبين الإعلام، التعارض ين الإسلام والإعلام، طبعاً ليس التعارض كلياً وإلا ما أنتج أحد شيء، لكن فيه جوانب في الإعلام تتعارض مع الإسلام، ما لها حل يا جماعة، إما أنه ما يجوز الدخول فيها أصلاً.
وبال على بعض الناس دون بعض، فيه أعمال إعلامية لو دخل فيها بعضهم، إخلاصه يروح، يعني مهلكة، مزالق.
قضية الشهرة وأثرها: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر: 1] حتى فيما تنتجون.
ألهاكم التكاثر في عدد المتابعين في تويتر.
ألهاكم التكاثر...
أحيانا ًتكتشف فعلاً أنه هناك تغير في النيات.
أخيراً: كنقطة في الموضوع كتجربة، خلاصات تجارب قد نجيد الإنتاج، ولكن لا نجيد التسويق، هذه مشكلة، أنا أتكلم من واقع، من الثغرات التي توجد في أعمال أقوم عليها إشرافاً، هناك من يعمل بها. قضية أن المنتج ممتاز، مثلا ًضبط شرعي، جودة، إتقان، قولبة، شكل، مضمون، إلخ..، لكن لا يعرف عنه أكثر الناس!
وأحياناً يقع الصراع النفسي بين القائمين على الأعمال المؤسسية بين الشهرة اللي هي مزلق خطير، وبين قضية تسويق الأعمال، يعني اللي ما يحاسب نفسه سيقع في صراع.
وكيف نحاول ننتج مثلاً باسم المجموعة أو باسم العمل المؤسسي لا بأسماء الأشخاص.
وهذه المسألة فيها مصاعب ليست سهلة، مثلاً الباحث ما يبغى يكتب اسمه؟
جرت عادة القنوات والمؤسسات الإعلامية أن هناك تتر، يعني مكتوب فيه كل الأسماء.
تكتب الأسماء، هل هذا خلاف الإخلاص؟
لا، ليس خلاف الإخلاص.
هناك أشياء تحتاج الحقيقة إلى تمحيص.
وأنا سأؤجل الكلام في موضوع تمويل الأعمال المؤسسية والخطر فيه ممكن ربما يكون مما يطرح.
أكتفي بهذا القدر.
وأسأل الله أن يوفقنا جميعاً لما يحب ويرضى، وأن يرزقنا الإخلاص والبر والتقوى، وأن يجعل عملنا لوجهه وفي طاعته وعلى سنة رسوله محمد ﷺ.
نسأل الله أن ينصر بنا الدين، وأن يعلي بنا كلمته وأن ينصر بنا عباده إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.