الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تحية عطرة، تلك التحية التي حيت بها الملائكة آدم أبانا ، وهي تحية أهل الجنة فيما بينهم، وهي التحية التي هي من أسباب المحبة فيما بيننا، فإذا أراد عباد الله أن يتحابوا فيما بينهم فليفشوا السلام.
أيها الإخوة: نفوسنا ملك لله -تعالى-، خلقها الله : وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس: 7 - 10].
نفسك التي بين جنبيك خلقها الله ، وهداها ودلها، وأرشدها إلى الخير والشر: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10].
هذه النفس التي إذا زكيتها بطاعة الله أفلحت ونجحت، وإذا دسيتها بمعصية الله خابت وخسرت.
هذه النفس يمكن أن تكون أعدى الأعداء: إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: 10].
ويمكن أن تكون نفساً عزيزة كريمة، نفساً مطمئنة: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي [الفجر: 27 - 29].
وإذا كانت تلومك على ما فعلت من الشر فهي نفس طيبة لوامة أقسم الله بها: وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة: 2].
هذه النفس تحتاج إلى ترويض لكي تزكو فتفلح أنت يا صاحبها وتنجح، قال ابن الجوزي رحمه الله: والنفس كالزوجة العاصية في المداراة والسياسة، فهي تدارى عند نشوزها بالوعظ، فإن لم تصلح فبالهجر، فإن لم تصلح فبالضرب، وليس في سياط التأديب أنفع من العزم والمجاهدة والمنع.
فلنأت إذاً على ذكر سبل ترويض النفس، كيف نروض أنفسنا؟ ما هي الوسائل التي يمكن أن نستعملها لنزكي هذه النفس حتى نكون من الناجين المفلحين؟
ترويض النفس بالوعظ والتذكير
الوعظ -أول هذه الوسائل-: أن نعظ أنفسنا، نقوم لله -تعالى-، نعظ أنفسنا ونذكر هذه النفس بالله ، نحتاج إلى الوعظ جداً، النبي ﷺ كان يعظ أصحابه: "وعظنا رسول الله ﷺ موعظة بليغة، وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا؟" [رواه الترمذي: 2676، وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الترغيب والترهيب: 37].
وكل واحد من المؤمنين يعظ نفسه ويحاسبها.
فنحن نحتاج إلى كتب وعظ نقرأها لنعظ أنفسنا، وأن نذهب إلى من نسمع منه كلاماً يرقق قلوبنا.
والموعظة الطيبة قصيرة خفيفة مؤثرة بعيدة عن التعقيد.
والواعظ إذا فرغ يقوم كما أن موسى نبي الله ذكر الناس يوماً حتى إذا رقت القلوب، وفاضت العيون ولى، فتبقى الموعظة في النفوس.
لكن هنا مسألة: لماذا إذا سمعنا الموعظة صار عندنا تأثر، فإذا غاب الواعظ وانقطعت الموعظة، أو خرجنا من خطبة الجمعة زال التأثر؟
أكثر العامة إذا وعظوا تأثروا وتراهم يبكون في رمضان في دعاء القنوت إذا كان مؤثراً.
المواعظ عندهم كالسياط، والسياط لا تؤلم بعد انقضائها كما تؤلم وقت وقوعها.
والموعوظ لا يحضر مجلس الوعظ في الغالب وهو جائع أو به حاجة، ولذلك يكون مقبلاً مستجمعاً نفسه، وإذا أتى المسجد يكون قد تخلى بجسمه وفكره عن أسباب الدنيا وحضر قلبه، فإذا غادر وعاد إلى الشواغل عادت إليه الغفلة، فكيف يبقى على ما يكون؟
فإذا استمعنا الموعظة ينبغي أن يكون عندنا عزم بلا تردد ولا التفات، ولو أحسسنا نقصاً عادياً كما شعر حنظلة فلسنا بملومين، لكن أن نغادر فنعصي أو نترك واجبات هذه هي المصيبة.
وبعض الناس لا يتأثرون مطلقاً لا في حال الموعظة ولا بعدها.
وبعضهم يتأثروا وقت الموعظة وينسى بعدها.
وبعض الناس يريد الله بهم خيراً يتأثرون بالموعظة ويستمر التأثر بعد الموعظة.
كيف تعظ نفسك؟
إذا أرادت النفس أن تنشغل بالدنيا ذكرها بقول الله: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا [آل عمران: 178].
إذا هوت نفسك المتاع الزائل عظها بقول الله: وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف: 33 - 35].
وتقول لها: ألم يدخل عمر على رسول الله ﷺ وهو يتقلب على رمال، الحصير قد أثر في جنبه، وبكى عمر وقال: كسرى وقيصر في الديباج والحرير وأنت يا رسول الله في هذا؟ فقال: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟
ﷺ [رواه البخاري: 4913]
تذكرها بقول الله، وتعظها بسنة رسول الله ﷺ.
لو انشغلت نفسك بالدنيا تقول لها: ألم يقل نبي اللهﷺ: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء [رواه الترمذي: 2320، وقال: "صحيح غريب من هذا الوجه"، وقال الألباني: "صحيح لغيره" كما في صحيح الترغيب والترهيب: 3240].
وتقول: لقد ثبت الأجر من الله للمؤمن، وزمن التكليف قصير فاصبري، ولا ينبغي للمستعمل في الطين أن يلبس نظيف الثياب، لو أنت الآن تعمل في الطين، تعمل في البناء، هل تلبس الثياب النظيفة؟ فأنت الآن في الدنيا وفي العمل فلا تنشغل بالدنيا، وليس المقصود أن لا تلبس الملابس النظيفة.
بل ينبغي على العبد أن يصابر ساعات العمل، فإذا فرغ من العمل تنظف ولبس أجود ثيابه، ومن ترفه وقت العمل ندم وقت توزيع الأجرة، وعوقب على التواني.
وتعظ نفسك فتقول:
كيف تنام العين وهي قريرة، ولم تدر من أي المحلين تنزل في الجنة أم في النار ؟
ينبغي لمن رأى نفسه تنجر إلى الرذائل أن يعظها ويذكرها، تذكر نفسك كيف تروض النفس؟
تذكرها إذا دنت إلى الرذائل ومالت إليها ونزل المستوى، تذكرها بكرامتها عند الله، وكيف أن الله خلق آدم بيده، وأسجد له الملائكة وارتضاه للخلافة في الأرض، وراسله بالكتب والرسل.
فإذاً، تقول: يا نفس هذا الرب كرمك: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيل [الإسراء: 70].
وهذه البهائم تمشي على أربع ورأسها إلى الأسفل، وأنت تمشين على رجلين ورأسك إلى الأعلى، كرمك خلقة، وكرمك بإنزال الكتب، وإرسال الرسل من أجلك، واقترض منك: مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة: 245].
واشترى منك: إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم [التوبة: 111].
فإذا رأيتها تتكبر، فروضها بموعظتها، بتذكيرها بحقارة أصلها، وأنها خلقت من ماء مهين، وتقول لها: هل أنت إلا قطرة من ماء مهين تقتلك شرقة، وتؤلمك بقة؟ يعني بعوضة.
وإذا رأيت تقصيراً من نفسك فعرفها بحق سيدها ومولاها وربها سبحانه و-تعالى-.
وإن توانت في العمل في الصلاة وفي غيرها ذكرها بحق سيدها وبقصر الأجل، وجزالة الثواب.
وإن مالت نفسك إلى الهوى خوفها الإثم وعاجل العقوبة كقول الله -تعالى-: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ [الأنعام: 46] هذه العقوبات الحسية.
والعقوبات المعنوية : سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف: 46] هذه عقوبة أن الله لا يمكن بعض الناس من أن يتدبروا في آياته: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ هذه عقوبة سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ .
ولو أن نفسك تاقت لما عليه بعض أهل الدنيا والمعصية من الزخارف والبهجة والنعيم فذكرها بأنه يزول: قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص: 79] ماذا قال الذين أوتوا العلم؟ انظروا أيها الإخوة ماذا يفعل العلم: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ولكن وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص: 80].
ذكرها أن بسط يد العاصي هو قبض في الحقيقة؛ لأن هذا البسط يوجب له عقاباً، ولو رأيت مسكيناً عابداً زاهداً متمسكاً بدينه لكنه ضعيف مستضعف مسكين، فذكر نفسك أن قبض يد الطائع يوجب بسطاً في الحقيقة؛ لأن هذا القبض يوجب أجراً جزيلاً.
وكذلك فإنك إذا دعتك نفسك لارتكاب المحرمات والمعاصي، وانجذبت إليها، فسر لها لماذا تنجذب إلى الممنوعات؟ كل ممنوع مرغوب، لماذا؟
إذا عرفنا السر سهل علينا الصمود، إذا عرفنا الحقيقة هانت المسألة، النفس تحب الممنوع، وتهفو إليه، ويزيد حرصها كلما قوي المنع، تستلذ بالحرام، ولا تستطيب المباح؛ لأنه يشق عليها أن تمنع ويحضر عليها.
تأمل حال أبينا آدم وحال أمنا لما نهيا عن الشجرة حرصا عليها مع كثرة أشجار الجنة -سبحان الله- كل الجنة هذه بأشجارها، كلها الآن صارت متروكة واتجهت الهمة لهذه الشجرة بالذات، لماذا؟ الجنة فيها أشجار كثيرة، فلماذا إذاً هذه الشجرة بالذات، أكلا منها؟
لأنها ممنوعة، انجذبت النفس إليها، لولا المنع يمكن ما أكلا منها، ولا سألا عنها، ولا انجذبا إليها، ولا حرصا لكن لأجل المنع، ولذلك الله -تعالى- يبتلي الناس بالممنوعات، يبتلي بالمحرمات ينظر كيف تعملون؟ هل ستمتنعون أو ترتكبون؟ هل ستتركون وتجتنبون أم ستلجون وترتكسون في أوحال هذه المعاصي؟ ماذا قال الشيطان؟ وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف: 20] أكيد فيها سر، الشجرة هذه فيها سر: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ .
ولذلك قيل: لو أمر الناس بالجوع لصبروا، ولو نهوا عن تفتيت البعر لرغبوا فيه.
وقالوا: ما نهينا عنه إلا لشيء، أكيد في سر، فيرغبون في تفتيت البعر، مع أن البعر ما قيمته؟
وقد قيل: أحب شيء إلى الإنسان ما منع.
فالمؤمن صاحب العلم وصاحب البصيرة إذا منع من شيء فإنه يعلم أن لله في منعه حكمة.
يا أخي: المنع من الزنا، المنع من النظر إلى المرأة الأجنبية؛ لأن النظر سيعقبه عذاب في الدنيا وفي الآخرة، عذاب في الدنيا تتعلق النفس بهذا الشخص أو بهذه المرأة وتنجذب إليها، فإن وصل إليها بالحرام كانت العقوبة شديدة، وإن لم يستطع الوصول إليها؛ لأنها ذات زوج أو غير ذلك صار له عذاب بالعشق، صار معذباً بالعشق، ولذلك لا يوجد محرم حرمته الشريعة إلا وفيه ضرر علينا.
الله من رحمته ما حرم علينا أشياء مفيدة لنا وليس فيها ضرر، أي شيء: خمر، خنزير، ربا، ميتة، زنا، سرقة، رشوة، غصب، كذب، أي شيء محرم علينا، ولله الحمد فيه ضرر علينا، وإذا فسرت لنفسك هذا هانت المحرمات والممنوعات، وعرفت كيف تتعامل معها.
وذكر نفسك بأن الجنة حفت بالمكاره وأن النار حفت بالشهوات، فالنفس تشتهي ما يؤدي إلى النار، وتكره القيود والتكاليف، ولكن من لاح فجر الأجر هانت عليه التكاليف، هان عليه مشقة التكليف، وهان عليه الليل؛ لأن الفجر قريب، فذكر نفسك بذلك يا عبد الله إذا دعتك إلى فعل ممنوع.
ترويض النفس: بآيات الوعد
ومن وسائل ترويض النفس: تسليتها بآيات الوعد وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: "مر بي حمالان تحت جذع ثقيل، يعني يحملونه، وهما يتجاذبان بإنشاد الشعر، فأحدهما يصغي إلى ما يقوله الآخر ثم يعيده أو يجيبه بمثله والآخر مثل ذلك، فرأيت أنهما لو لم يفعلا هذا زادت مشقة الطريق وثقل الأمر، وكلما فعلا هذا هان الأمر، فتأملت السبب في ذلك فإذا به تعليق فكر كل واحد منهما بما يقوله الآخر، وانشغال فكره في الجواب على صاحبه فينقطع الطريق، وينسى ثقل المحمول" [صيد الخواطر، ص: 113].
نحن كلفنا أمور صعبة فيها مشقة: صلاة الفجر فيها مشقة، إسباغ الوضوء، إخراج المال زكاة وصدقة، الحج فيه مشقة، الصيام فيه مشقة، الصدق فيه مشقة، التعفف عن الحرام فيه مشقة، غض البصر فيه مشقة، عدم سماع الغناء فيه مشقة، النفس تحب الألحان والطرب.
فالحياة هذه زمن وقت يمضي فلكي تقطع الوقت بتحمل المشاق فلا بد أن يكون لك حاد.
الآن قولوا لي الإبل في طريق السفر إذا كلت وملت فماذا يفعل، ماذا يفعل سائق البعير الراحلة؟ ينشد لها، ماذا يسمي العرب هذا النشيد؟ حداء، والحادي يحدو بالإبل، فإذا حدى بها نشطها فنشطت وأسرعت وذهب عنها الكلل والملل.
نحن الآن نسير إلى الله، والعمر يمضي وفيه مشاق وفيه تكاليف، وفيه صعوبات خصوصاً في هذا الزمان، زمان الفتن، الصور فتن، المجلات فتن، التلفزيون فتن، الشوارع فتن، السوق فتن، ملابس النساء فتن، كل شيء فتن في فتن، وأنت تمشي في هذا الطريق.
وعليك صلوات، وعليك صيام، وعليك التزام بالأخلاق الإسلامية، والصدق، والأمانة، وإلخ...، والنفس تدعو للروغان والمحرمات والوقوع في الممنوعات، والكذب والخيانة، وأخذ المال من أي طريق، وإطلاق البصر، وإطلاق العنان للأذن تسمع ما تشاء، و.. و.. إلخ، لكي يمضي العمر وأنت تتحمل مشاق التكليف ماذا ينبغي عليك أن تفعل لتسوس نفسك وتروضها على قطع الطريق؟
الحداء، حداء مثل الحداء للإبل، لكن أرقى وأشرف وأعظم وأعلى؛ لأنك تحدو بنفسك في مسيرها بآيات الله وذكره، وأحاديث رسوله ﷺ ليست مثل ألحان للإبل، الإبل لا تعقل ولا تفهم الكلام لكن تأنس بالصوت وتسرع لأجل الصوت، مع أنها لا تفقه كلمات، الله ضرب مثل للذين يسمعون ولا يفهمون: كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء [البقرة: 171] يسمع صوتاً بدون فهم كلام، مثل الدابة ومثل الشاة عندما يدعوها الراعي تستجيب لكن بلا فهم للكلام، فنحن نحدو بأنفسنا في سيرها إلى الله بآيات وأحاديث ترفع الهمة وتنشط العزيمة، وتكبت الحرام، وتثبط الرغبة إليه، وهكذا نندفع في الطاعات، نحجم عن المعاصي، ونحن نسير إلى الله -تعالى-.
فمن وسائل ترويض النفس يا إخوان: تسليتها بآيات الوعد، لتكون هذه الآيات والأحاديث في بيان الأجر والثواب مثل الحادي، حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.
ترويض النفس: بفطمها عن المألوفات
ومن وسائل ترويض النفس: فطمها عن المألوفات، مهم أن يكون لدينا انقطاع عن المألوفات أحياناً، ونحن لا نحتاج أن نتكلف ذلك؛ لأن عندنا من العبادات ما يفطم نفوسنا عن مألوفاتها: كالصيام، وقيام الليل، والحج.
إذاً، عندنا والحمد لله في الدين عبادات تساعد على فطم النفس عن المألوفات، فترتقي النفس وتتقي، وهذا يساعد على ترك الحرام؛ لأنك إذا تركت الحلال المتعود عليه كالنوم والطعام لله وهو حلال، فأحرى أن تترك الحرام، هذه من وسائل سياسة النفس وترويضها.
ترويض النفس بمعرفة إقبالها وإدبارها
وكذلك من الوسائل العظيمة: إدراك إقبالها وإدبارها، فتلتمس إقبالها للازدياد من الطاعات، وإدبارها لإلزامها بالواجبات والامتناع عن المحرمات، قال عمر : "إن لهذه القلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل".
هذا كلام عمر فيه حكمة بالغة، يقول: إن لهذه القلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فخذوها بأي شيء؟ بالنوافل، وإذ أدبرت فألزموها بالفرائض، أقل شيء إذا انحدرت وانحدرت وانحدرت أن لا تصل إلى مستوى تترك فيه واجباً أو تفعل فيه محرماً.
إذا صار عندك انحدار إلى مستوى لا تترك فيه واجباً ولا تفعل فيه محرماً، فأنت بخير ونعمة، ولذلك قال ﷺ: لكل عمل شرة نهاية عظمى علوية ولكل شرة وكل نهاية علوية وصعود لابد أن يقابله ويعقبه هبوط، ولكل شرة فترة لو رسمتها بيانياً هكذا طلوع ثم نزول، لكل عمل شرة، لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة النفس ما تستطيع أن تستمر على حالة واحدة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى [رواه أحمد: 6958، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"] من كان في حال فتوره لا يترك واجباً ولا يفعل محرماً فقد اهتدى.
ولذلك كان من سياسة النفس: عدم إملالها، فقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النبي ﷺ بلغ، أي شيء بلغه؟ بلغ النبي ﷺ أن عبد الله بن عمرو بن العاص يقوم الليل ويصوم النهار، فأراد النبي ﷺ أن يبين له اتباع السنة، والتوسط في الأمور، فقال له: ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟ قلت: إني أفعل ذلك، قال: فإنك إن إذا فعلت ذلك هجمت عينك، ونفهت نفسك، وإن لنفسك حقاً، ولأهلك حقا، فصم وأفطر، وقم ونم [رواه البخاري: 1977، 1153]
ما معنى: هجمت عينك أي غارت وضعفت لكثرة السهر.
ما معنى: نفهت نفسك ؟ كلت، ملت، تعبت.
قال: إن لنفسك عليك حقاً أي تعطيها ما تحتاج إليه ضرورة البشرية مما أباح الله للإنسان من الأكل والشراب والراحة، التي يقوم بها بدنه ليكون أعون على عبادة ربه.
هذا كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث.
ترويض النفس بلجمها عن الصغائر
وكذلك فإن من سياسة النفس: لجمها عن الذنوب الصغيرة واحتقار الذنوب: إياكم ومحقرات الذنوب ، قال ﷺ: فإنما مثل محقرات الذنوب كقوم نزلوا في بطن واد، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه حديث صحيح [رواه أحمد: 22808، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح"].
فبعض الناس يتسامحون بنظرة محرمة، وكلمة غيبة في عرض مسلم، ودرهم من شبهة أو حرام، يذهب إلى وليمة لم يدع إليها، لا يرد كتاباً استعاره، يقول: هذه أشياء بسيطة.
ضرب لنا محقرات الذنوب مثل الأعواد التي تجمع فتحرق، وهكذا الذنوب الصغيرة تجتمع فتحرق صاحبها، وقد تحرق الشرارة بلداً، ومعظم النار من مستصغر الشرر، ويتبع هذا في وسائل ترويض النفس لجمها عن التساهل، عدم التحرج من المعاصي، مثل ما يفعله بعض الناس الآن من التوسع في قضية الضرورة، فيجعلون أموالهم في بنوك ربا وهم يقدرون على استعمالها في غير ذلك، المرأة تتوسع في الكشف عند الطبيب، والطبيب يتوسع في الكشف على المريضة، والناس يتوسعون في التصوير، وكذلك ما يحصل من التوسع في الخدم، الخادمة ليست متحجبة كما ينبغي، وتساهل مع السائقين، تساهل في لباس البنات الصغيرات، التساهل له صور كثيرة ولذلك سنخصه إن شاء الله بمحاضرة.
قضية التساهل هذه خطيرة، سنفرد لها كلاماً، لكن من وسائل ترويض النفس: لجمها عن التساهل؛ لأن هذا انزلاق، وبعد تحت وادٍ سحيق، وإذا انزلق في البداية فالجاذبية لن تساعده عن التوقف، وإنما ستجذبه إلى الهاوية ولا شك.
ترويض النفس بإصلاح الخواطر
أيها الإخوة: إن من الوسائل العظيمة في ترويض النفس -وجعلت هذا الجزء الأخير من الكلام وخصصته بتركيز معين، لأهميته هو-: إصلاح الخواطر.
لاحظ معي الكلام هذا فيه شيء من العمق، يحتاج إلى تأمل، خطورة الخواطر.
أولاً: الله -تعالى- يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم السر وأخفى، يعلم الكلام الجهري والكلام السري، والكلام الذي في نفسك، والخواطر التي في عقلك وذهنك وقلبك، والشيء الذي ما بعد خطر، أنه سيخطر كذا وكذا في نفسك، "فهو الحي القيوم الذي لكمال حياته وقيوميته لا تأخذه سنة ولا نوم، ملك السموات والأرض، الذي لكمال ملكه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، العالم بكل شيء الذي لكمال علمه يعلم ما بين أيدي الخلائق وما خلفهم، فلا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا تتحرك ذرة إلا بإذنه، يعلم دبيب الخواطر في القلوب، حيث لا يطلع عليها إلا الله" [ابن القيم، طريق الهجرتين، ص: 127].
وهو الرقيب على الخواطر واللوا | حظ كيف بالأفعال بالأركان |
وهو الحفيظ عليهم وهو الكفيل | بحفظهم من كل أمر عان |
[متن القصيدة النونية، ص: 207].
فالقلب لوح فارغ، والخواطر نقوش تنقش فيه، ولا بد من الخواطر، هل تستطيع أن تمنع نفسك من الخواطر؟ هل تستطيع أن تغلق ذهنك وتبقى بلا خواطر؟ ممكن؟
أبداً، لا يمكن، جرب ذلك، جرب أنك تقفل ذهنك، تقفل عقلك، ولا يخطر ببالك أي شيء وأنت صاحي، ما يمكن، الخواطر تهجم.
"وقد خلق الله –سبحانه- النفس شبيهة بالرحى الدائرة" ما هي الرحى؟
آلة الطحن.
"وَقد خلق الله –سُبْحَانَهُ- النَّفس شَبيهَة بالرحى الدائرة الَّتِي لَا تسكن وَلَا بُد لَهَا من شَيْء تطحنه، فَإِن وضع فِيهَا حب طحنته، وَإِن وضع فِيهَا تُرَاب أَو حصى طحنته، فالأفكار والخواطر الَّتِي تجول فِي النَّفس هِيَ بِمَنْزِلَة الْحبّ الَّذِي يوضع فِي الرحى، وَلَا تبقى تِلْكَ الرحى معطلة قطّ، بل لَا بُد لَهَا من شَيْء يوضع فِيهَا، فَمن النَّاس من تطحن رحاه حباً يخرج دَقِيقًا ينفع بِهِ نَفسه وَغَيره، وَأَكْثَرهم يطحن رملاً وحصى وتبناً، وَنَحْو ذَلِك، فَإِذا جَاءَ وَقت العجن وَالْخبْز تبيّن لَهُ حَقِيقَة طحينه" [ابن القيم، كتاب الفوائد، ص: 174].
ومعلوم أنه لم يعط الإنسان إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها، فإنها تهجم عليه هجوم النفس، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له، وعلى دفع أقبحها وكراهته له ونفرته منه؛ كما قال الصحابة: "يا رسول الله إن أحدنا يجد في نفسه ما لا أن يحترق حتى يصير حممة أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: أو قد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان [رواه مسلم: 132]، وفي لفظ: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة [رواه أحمد: 2097، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"] ابن القيم -رحمه الله-.
ولذلك كان من رحمته تعالى -لما كانت الخواطر لا بد منها- أنه لا يؤاخذنا على ما حدثتنا به أنفسنا ما لم نتكلم أو نعمل، وما حدثنا به أنفسنا، وما كان من الخواطر والأفكار لا نؤاخذ عليه، ولكن لو ما أصلحنا الأمر من بدايته، فإن الخراب هو المصير، فمبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فالخاطرة تتحول إلى فكرة، والفكرة إلى تصور، والتصور إلى إرادة، والإرادة إلى فعل، وكثرة الفعل يصير ماذا؟ عادة.
تأمل كيف إذاً بدأت القضية خاطرة وانتهت عادة، والمبدأ خاطرة، خواطر، قال رحمه الله: واعلم أن الخاطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر، فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر، فيأخذها الذكر فيؤديها إلى الإرادة، فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة" [الفوائد، ص: 174] وهذه هي الخطورة الكبرى أن يصبح الشر عادة.
أما أنواع الخواطر، كلام ابن القيم في الخواطر لا يكاد يوجد له مثيل في كلام العلماء، فقد أبدع في كتبه في ذكرها، فقال رحمه الله: الخواطر والهواجس ثلاثة أنواع: رحمانية، وشيطانية، ونفسانية.
الخواطر الرحمانية معروفة، خاطرة بالخير بعمل الخير، تأتيك خاطرة أن تذهب إلى عمرة، خاطرة أن تتصدق، خاطرة أن تذهب لجهاد.
وخاطرة شيطانية أن تذهب لحرام، تمشي إلى حرام، تكون جالساً في غرفتك وحدك ما معك أحد، فتأتيك خاطرة شيطانية أن تقوم وتعمل عملاً محرماً.
والخواطر النفسانية كالرؤيا، والإنسان معه شيطانه ونفسه لا يفارقانه إلى الموت، و الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم [رواه البخاري: 2039، 7171].
والخواطر الباطلة منها ما هو خواطر بالحرام والفواحش، كم واحد من الشباب لو قدر لنا أن نرى ما في أذهانهم وهم في حال الوحدة، واحد وحيد، ماذا يدور في باله الآن؟
لربما رأيت كثيراً منهم تدور في أذهانهم خواطر الفاحشة والحرام من كثرة الصور، ومن كثرة ما يرون، ومن كثرة ما رأوا، ومن كثرة ما يسمعون، يخطر في باله ماذا؟ ما هي الأفكار المعشعشة؟ الحرام والفواحش.
أو نوع ثانٍ من الخواطر الباطلة خيالات وهمية لا حقيقة لها، أو أشياء في باطل، أو فيما لا سبيل إلى إدراكه من أنواع ما طوي عنا علمه.
فإذا كان هذا مجال التفكير ومسرح الخواطر فالعاقبة وخيمة، واحد رأى رجلاً عنده مال يذهب للحرام ويسافر في الحرام، قال: لو أن لي مال فلان لعملت، تمنى وتكلم، فهما في الإثم سواء للحديث: فهما في الإثم سواء [رواه الترمذي: 2325، وأحمد: 18031، وقال محققو المسند: "حديث حسن"]، ولذلك فإن تمني الخيانة وإشغال الفكر والقلب بها ربما يكون أضر على القلب من الخيانة نفسها، فإذا جعل الإنسان الخيانة هي همه، وانشغل تفكيره بالخيانة، وكيف يستدرج مثلاً امرأة أو يخرج إلى سوق أو مكان فيظفر بفريسة، كان هذا هو الهم والتفكير، وكيف يخون الأمانة، ويعتدي على ما استؤمن عليه، فإن هذا عقوبته وعاقبته وخيمة.
علاج الخواطر
فإذا علمت هذا -يا عبد الله- فماذا ينبغي أن تفعل من أجل إصلاح الخواطر؟ إذا علمت الآن أن المشكلة تبدأ من الخواطر، فكيف تعالج مسألة الخواطر؟
أن تشغل هذا البال بطاعة الله، أن تشغله بالله.
اشغل بالك بالله، اشغل ذهنك بالله، فرغ قلبك لله بكليته.
الحل هو أن "تفرغه كله لله بكليته وتقيمه بين يدي ربه مقبلاً بكليته عليه، يصلي لله -تعالى- كأنه يراه، قد اجتمع همه كله على الله، وصار ذكره ومراقبته ومحبته والأنس به في محل الخواطر والوساوس" [التبيان في أقسام القرآن، ص: 420].
إذا أردت النجاة فعلاً -يا أخي- والله هذا الكلام الذي قاله ابن القيم -رحمه الله- نفيس جداً جداً، إذا تأملت وطبقت ستجد عواقب حميدة، وأنوار وأبواب من الخير تنفتح عليك.
أن تجعل عقلك وذهنك وقلبك منشغل بالله وذكره، والتفكير في جنته وناره، وعذابه ونعيمه، وعقابه وحسابه، والموت وما بعده.
أشغل نفسك بالله، إذا أشغلت فكرك بالله، ستكون بمنأى عن هذه الترهات والمحرمات، وتستريح نفسياً وذهنياً وقلبياً وجسمياً.
علاج الخواطر؛ إشغالها بالله وحمية عن الحرام، قال رحمه الله: "وهاهنا نكتة ينبغي التفطن لها وهي أن القلوب الممتلئة بالأخلاط الرديئة، فالعبادات والأذكار والتعوذات أدوية لتلك الأخلاط، كما يثير الدواء أخلاط البدن، فإن لم يكن قبل الدواء وبعده حمية لم يزد الدواء على إثارته، وإن أزال منه شيئاً فمدار الأمر على شيئين: الحمية، واستعمال الأدوية[التبيان في أقسام القرآن، ص: 420].
إذاً، إذا تخلصنا من الخواطر الشريرة، وأسكنا الخواطر الخيرة في أذهاننا، فهذا من أعظم الوسائل، إذا ما كان هو أعظم وسائل ترويض النفس، ورد القضية من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها.
ولما ضربنا المثل قلنا: التسلسل، التسلسل أول شيء: خواطر، الخواطر تتحول إلى أفكار، الأفكار تتحول إلى إرادات، الإرادات تتحول إلى عمل، العمل يتحول إلى عادة.
"ومن المعلوم: أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد" [الفوائد، ص: 175] كيف تقطع عادة؟ تنقل جبلاً ولا تستطيع أن تغير عادة، إلا من رحم الله.
وأول ما يطرق القلب: الخطرة، فإن دفعها استراح مما بعدها، وإن لم يدفعها قويت فصارت وسوسة فكان دفعها أصعب، فإن بادر ودفعها وإلا قويت وصارت شهوة، فإن عالجها وإلا صارت إرادة.
استعمل ابن القيم -رحمه الله- هنا اصطلاحات مشابهة للاصطلاحات الأولى ومقابلة لها، "صارت إرادة، فإن عالجها وإلا صارت عزيمة، ومتى وصلت إلى هذه الحال لم يمكن دفعها" لم يمكن دفعها "واقترن بها الفعل ولا بد" وعند ذلك لا بد من علاج أقوى وأدوية، مثل الآن مضاد ثلاثمائة وخمسين ما يكفي، يقول: استعمل خمسمائة، وفي النهاية سبعمائة وخمسين مضاد، يقول: لا بد من علاج أقوى وهو التوبة، الأدوية بالاستفراغ التام، وهي التوبة النصوح، ولا ريب أن دفع مبادئ هذا الداء من أوله أيسر وأهون من استفراغه بعد حصوله، إن ساعد القدر وأعان التوفيق، والدفع أولى وإن تألمت النفس بمفارقة المحبوب [التبيان، ص: 420].
إذاً نحن الآن لماذا ننتظر حتى نوشك أن نقع في الحرام، أو نقع في الحرام؟ لماذا لا نستدرك القضية ونصلح من البداية؟
إن مسايسة النفس وترويض النفس تقتضي أن تتدارك المسألة من أولها، أول شيء ما هو؟ أليست خاطرة؟ إذاً اطرد الخواطر السيئة، لا تسمح لها بالاستقرار، واجعل ذهنك مفتوحاً للخواطر الطيبة طارداً للخواطر السيئة، فإذا دفعت الخاطر الوارد عليك، اندفع عنك ما بعده، وإن قبلته صار فكراً جوالاً، فاستخدم الإرادة فتساعدت هي والفكر على استخدام الجوارح، فإن تعذر استخدامها رجع إلى القلب بالمنى والشهوة وتوجه إلى جهة المراد.
ولأهمية هذا الموضوع فقد كان الصالحون يعتنون بالخواطر، ذكر ابن كثير -رحمه الله- في ترجمة أبي صالح، قال: "كنت أطوف وأطلب العباد، فمررت برجل وهو جالس على صخرة مطرق رأسه، فقلت له: ما تصنع هاهنا؟" فقال: انظر، وأرعى "فقلت له: لا أرى بين يديك شيئاً تنظر إليه ولا ترعاه إلا هذه العصاة والحجارة، فقال: بل انظر خواطر قلبي، وأرعى أوامر ربي، وبالذي أطلعك علي إلا صرفت بصرك عني؟ فقلت له: نعم، ولكن عظني بشيء أنتفع به حتى أمضي عنك؟ فقال: من لزم الباب أثبت في الخدم" إذا لزمت طاعة الله -تعالى- أثبتك الله في أوليائه "ومن أكثر ذكر الموت أكثر الندم، ومن استغنى بالله أمن العدم، ثم تركني ومضى [البداية: 11/231- 232].
والخواطر السيئة هي بذور يبذرها الشيطان في نفسك يا عبد الله فانتبه، بذر الشيطان في أرض القلب فإن تمكن بذرها تعاهدها الشيطان بسقيه مرة بعد مرة حتى تصير إرادات.
لاحظ معي الكلام العميق والدقيق، يقول: الخواطر السيئة إذا ما دفعتها من البداية فهي بذور تصبح في أرض قلبك مزروعة، من الذي يتعاهدها بالسقيا؟ الشيطان.
"فيتعاهدها بالسقيا ويغذيها مرة بعد مرة حتى تصير إرادات، ثم يسقيها" يحفزك ويعدك ويمنيك ويدفعك ويحثك حتى تكون عزائم "ثم لا يزال بها حتى تثمر الأعمال، ولا ريب أن دفع الخواطر أيسر من دفع الإرادات والعزائم، فيجد العبد نفسه عاجزاً أو كالعاجز عن دفعها بعد أن صارت إرادة جازمة، وهو المفرط إذ لم يدفعها وهي خاطر ضعيف، كمن تهاون بشرارة من نار وقعت في حطب يابس، فلما تمكنت منه عجز عن إطفائها" [طريق الهجرتين: 1/175].
لو قلت لي: إن الخواطر السيئة لذيذة، واحد يتخيل حراماً، أو يتخيل فاحشة، يعني فيها لذة، فتريدني أن أترك هذه اللذة، وهذا الشيء المحبوب إلى النفس؟ يعني يا سلام أتخيل أن أجيب خواطر، وأتخيل خيالات إني أسافر في الإجازة إلى أماكن معصية، وأفعل وأسكر وأخمر، وأفعل الفواحش، وأفعل..، وأطلق لعناني، خليني هذا الأفكار لذيذة، هذه الخواطر لذيذة، وأشياء محبوبة إلى النفس، كيف تريديني أن أترك هذه الأشياء المحبوبة ولا أفكر فيها؟ كيف؟ سؤال جيد، هنا قاعدة، "ما يُترك محبوب إلا لمحبوب أعلى منه وأقوى" ولذلك إذا صارت محبة الله فوق كل شيء هانت كل المحبوبات الأخرى.
إذا صارت محبة الله أقوى من كل شيء راحت محبة الزنا والخمر والشهوات المحرمة، ومحبة صور النساء والمرد، وراح كل شيء ؛ لأن محبة الله صارت فوق كل هذه.
ثم هناك موازنات، طبعاً الكلام هذا لأصحاب العقول، الذين يفكرون، العناصر المفكرة العاقلة، التي تعقل، الذي عنده عقل، العقل سمي عقلاً؛ لأنه يعقل يمنع ويحجز عن كل شيء ضار، هناك موازنات.
أنت قلت الآن: كيف أترك هذه المحبوبات؟
نقول: إذا وازنت اقتنعت، وإذا اقتنعت تركت، فخذ هذه الموازنات، "فليوازن بين فوات المحبوب الأخس المنقطع النكد المشوب بالآلام والهموم، وبين فوات المحبوب الأعظم الدائم الذي لا نسبة لهذا المحبوب الخسيس إليه ألبتة، لا في قدره ولا في بقائه" يعني وازن، المحبوب هذا، المحبوب المعصية هذه إذا قارنتها لو عملتها قارنتها بما سيفوتك، يعني قارن الزنا بما يفوتك من الحور العين، وقارن شرب الخمر في الدنيا إذا فعلته بما سيفوتك من شراب لذة: بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ [الصافات: 46]، لَا فِيهَا غَوْلٌ ولا يذهب عقلك، ولا يصاب رأسك بالصداع، ولا بطنك بالمغص، وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ [الصافات: 47]، قارن إذا شربت الخمر بين هذه الخمرة النجسة الخسيسة التي يعقبها زوال العقل، والتي تسبب في النهاية النكد، وربما طلاق الزوجة واحتقار الناس، ترى السكران حتى عند الكفار يعتبر صورة مزرية، وحادث السيارة، وما ترتب على السكر والمخدرات من الأشياء.
هو ممكن يكون في أوله لذة لكن آخره حسرة وألم، إذا استعملته قارن بينه وبين ما سيفوتك عند استعماله، ماذا سيفوتك في الآخرة؟ قارن ووازن واخرج بالنتيجة.
"ثم قارن بين ألم فوته" يعني لو تركت الشيء الحرام هذا، تتألم وإلا لا؟ ألم في ألم، "قارن بين ألم فوت هذا المحبوب وبين ألم فوت المحبوب الأعظم والأكبر، فأنت تفوت محبوباً عظيماً من أجل محبوب خسيس، وليوازن بين لذة الإنابة والإقبال على الله -تعالى-، والتنعم بحبه وذكره وطاعته" ويقارن بين هذا ولذة الإقبال على الرذائل والإتيان بالقبائح، وليوازن، لو انتصرت على نفسك، وما أقدمت على الحرام، وانتصرت على الشيطان، هذه فيها لذة، الانتصار على الشيطان فيه لذة.
"وليوازن بين لذة الظفر بالذنب ولذة الظفر بالعدو، وبين لذة الذنب ولذة العفة" المشكلة الآن أن العفة والصدق والأمانة فيها لذات، ليس فقط اللذة في الكذب والخيانة والزنا، فيه لذة في المقابل.
لكن المشكلة أن الناس لا يعيشون لذة الطهارة، والأمانة، والصدق، لكن يعيشون لذة الكذب ولذة الخيانة، كثير منهم هذا حالهم، قارن بين لذة الذنب ولذة العفة، ولذة الذنب ولذة القوة وقهر العدو، وبين لذة الذنب ولذة إرغام العدو ورده خاسئاً ذليلاً، يعني كونك انتصرت على نفسك، انتصرت على شيطانك، ما رضخت ولا انزلقت ولا انحرفت، هذه هي لذة، قارن بين هذه اللذة وبين لذة الذنب، قارن بين لذة الطاعة ولذة المعصية، قارن ما سيفوتك من ثناء الله وملائكته وبين لذة هذه المعصية، قال ذلك الكلام النفيس، وهذا معناه واختصار له، قاله ابن القيم -رحمه الله- في "التبيان في أقسام القرآن" [التبيان في أقسام القرآن، ص: 420- 421].
ثم أيضاً بالنسبة لموضوع الخواطر موضوع مهم جداً، أنت الآن مدعو للتدبر في آيات القرآن أليس كذلك؟
مدعو للتدبر في مسائل العلم، مدعو للتدبر في مسائل العلم في معاني الآيات والأحاديث، كيف ترضى أنت أن تجمع في عقلك بين معاني الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 1- 5] وبين خواطر سيئة وخسيسة ودنيئة؟ كيف تجمع بين تدبر خواطر الخير وبين خواطر الشر؟
قال: "فالقلب لوح فارغ، والخواطر نقوش تنقش فيه، فكيف يليق بالعاقل أن يكون نقوش لوحه ما بين كذب وغرور وخدع وأماني باطلة، وسراب لا حقيقة له، فأي حكمة وعلم وهدى ينتقش مع هذه النقوش؟ وإذا أراد أن ينتقش ذلك في لوح قلبه كان بمنزلة كتابة العلم النافع في محل مشغول بكتابة ما لا منفعة فيه" [الجواب الكافي، ص: 157] لو جبت خنزيراً ووضعت في عنق الخنزير قلادة من الجواهر، أيش رأيك بالمنظر هذا؟!
خنزير أحط البهائم، ووضعت في عنق الخنزير قلادة من الجواهر النفيسة، هل ترى هذا راكب على هذا؟!
إذا كان ما ركب معك، فكيف تجعل عقلك مستودعاً للخواطر الشيطانية والخسيسة والدنيئة والذنوب والمعاصي الحقيرة التافهة السيئة، وتجمع معها خواطر في القرآن وفي القيامة وفي الجنة وفي صفات الله -تعالى- تدبراً؟ كيف تجمع هذا وهذا؟
أصلاً أي واحد يطلب العلم، لا بد أن يسأل نفسه هذا السؤال: كيف أنا أطلب العلم وأفكر في مسائل الطهارة والصلاة والزكاة والحج، وقبلها مسائل العقيدة وأسماء الله وصفاته، واليوم الآخر، وإلخ..، والسيرة النبوية والأحاديث، أفكر فيها كل هذه أنا ذهني يجب أن يكون مشغولاً بها، ثم أدخل عليها خواطر في الزنا والعشق، والأشياء المحرمة، والصور العارية، إلخ...، كيف؟ كيف يركب هذا مع هذا؟
"وإذا أراد أن ينتقش ذلك في لوح قلبه كان بمنزلة كتابة العلم النافع في محل مشغول بكتابة ما لا منفعة فيه، فإن لم يفرغ القلب من الخواطر الردية لم يستقر فيه الخواطر تستقر فيه الخواطر النافعة، فإنها لا تستقر إلا في محل فارغ لتتمكن.
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى | فصادف قلباً خالياً فتمكنا |
[الجواب الكافي، ص: 157- 156]
فهذه القضية مهمة جداً أن يكون هناك تفريغ للقلب من الخواطر السيئة.
نعم، لا يمكن أن نمنعها من الورود، لكن إذا وردت لا نجعلها تعشعش، ولا نترك لها مجالاً للاستقرار في القلب.
والإنسان إذا صار قريباً من الله صارت الخواطر التي ترد عليه الخواطر الرحمانية، كما قال ابن القيم -رحمه الله- الخواطر التي مبعثها الملك، الآن أي خاطر طيب مبعثه الملك، إذا صارت الخواطر الطيبة تأتي إلى ذهنك باستمرار تتزاحم حتى العبادات فيها، وهذا ما حصل لعمر بن الخطاب تزاحمت عليه الخواطر في مرضاة الرب فربما استعملها في صلاته، فتزاحم عنده تجهيز الجيش في الجهاد لإعلاء كلمة الله مع قراءة القرآن أو الذكر في الصلاة، تزاحمت عليه الخواطر.
انظر إلى أي درجة وصل، وصلت المسألة عند الفاروق، صارت الخواطر عنده تتدافع، خواطر في الآيات وخواطر في الجهاد، وهو المسؤول الأول في المسلمين والخليفة، وهو المنشغل جداً، أول واحد يهمه الموضوع.
كيفية إصلاح الخواطر
كيفية إصلاح الخواطر "فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليها وإلهها صاعدة إليه، دائرة على مرضاته ومحابه، فإنه سبحانه به كل صلاح، ومن عنده كل هدى، ومن توفيقه كل رشد، ومن توليه لعبده كل حفظ، ومن إعراضه عنه كل ضلال وشقاء، فيظفر العبد بكل خير وهدى ورشد بقدر إثبات عين فكرته في آلاء ربه ونعمه، وتوحيده وطرق معرفته وعبوديته، وهو يستحضر أنه مشاهد له، ناظر إليه، رقيب عليه، مطلع على خواطره وإرادته وهمه، فحينئذ يستحي منه ويجله أن يطلع منه على عورة يكره أن يطلع عليها مخلوق مثله" [الفوائد، ص: 173].
الآن لو أنت تريد أن تفكر بحرام أو فاحشة، هل تستحي أن أباك يطلع عليها؟ تستحي أن جدك يطلع عليها؟ تستحي أن أستاذك يطلع عليها؟ إمام المسجد تستحي أن يطلع عليها؟ صح وإلا لا؟ فكيف والله مطلع على خواطرك، فما كنت مستحٍ من مخلوق أن يطلع عليه فاطرده من بالك؛ لأنك تعلم أن الله مطلع عليه "فمتى أنزل العبد ربه هذه المنزلة منه رفعه وقربه وأكرمه واجتباه وتولاه، وبقدر ذلك يبتعد عن الأوساخ والدناءات والخواطر الرديئة والأفكار الدنيئة، كما أنه كلما بعد منه وأعرض عنه قرب من الأوساخ والدناءات والأقذار، ويقطع عن جميع الكمالات، ويتصل بجميع النقائص، فالإنسان خير المخلوقات إذا تقرب من بارئه والتزم أوامره ونواهيه وعمل بمرضاته وآثره على هواه، وشر المخلوقات إذا تباعد منه ولم يتحرك قلبه لقربه وطاعته وابتغاء مرضاته" [الفوائد، ص: 173- 174].
وكذلك فإن الإنسان ينبغي عليه أن يشتغل بمصلحته وما يعنيه، يجعل الخواطر حول ما يصلحه وما يعنيه، فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك، فالفكر فيما لا يعني باب كله شر، ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه، واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه، فالفكر والخواطر والإرادة والهمة أحق شيء بإصلاحه من نفسك، فإن هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرب من إلهك ومعبودك الذي لا سعادة لك إلا في قربه ورضاه عنك، وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك، ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئاً خسيساً لم يكن في سائر أمره إلا كذلك.
إذا الخواطر خسيسة ودنيئة فتجد الإنسان دنيئاً وخسيساً.
فإن قلت: وبماذا أشغل عقلي أيضاً؟
أشغله في باب العلوم بمعرفة ما يلزمك من التوحيد، وحقوق الله -تعالى-، وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة والنار، وفي آفات الأعمال والتحرز منها، وكيف تنفذ العبادات على الوجه المطلوب.
وفكر في مصالح دنياك، كيف تتزوج؟ وما هي الطريقة للزواج؟ في معاشك وكسب مالك، فكر في هذا، لا بأس به على الإطلاق.
فإذا صار ما يشغلك الله والعلم به والشريعة، ومسائل العلم المفيد.
والتفكير فيما يعنيك، لا فيما لا يعنيك، والتفكير في عيوب نفسك، وكيف تتخلص منها؟
التفكير في هموم المسلمين وما يصلح حالهم.
التفكير في معاشك وفيما يصلحك في الدنيا.
إذا صار فكرك بهذا وفي هذا فإنك على حال طيب، وتصبح في حصن حصين، وفي بيت السلطان عليك الحراس، قال إبليس: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 82].
وقال تعالى له: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر: 42].
وقال: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل: 99- 100].
وقال في حق الصديق: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: 24]. "فما أعظم سعادة من دخل هذا الحصن الحصين، لقد آوى إلى حصن لا خوف على من تحصن به، ولا ضيعة على من آوى إليه، ولا مطمع للعدو في الدنو إليه منه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم" [ابن القيم، بدائع الفوائد: 2/241- 242].
فإذا صارت معاني القرآن مكان الخواطر من القلب، وصارت على كرسي عرش القلب، وصار له التصرف، وصار هو الأمير المطاع، يستقيم أمره، وسيره ويتضح له الطريق وتراه ساكناً ولكنه يباري الريح: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل: 24].
ملخص لعلاج الخواطر
فإذاً، نلخص موضوع الخواطر، وهو الموضوع الأساسي والكبير في سياسة النفس وترويضها:
أولا: أن تعلم أن الله مطلع على خواطرك.
ثانيا: أن تستحي منه.
ثالثا: أن تجله أن يرى ويعلم منك هذه الخواطر أنها ما زالت عندك وموجودة.
رابعاً: أن تخاف أن يطردك من جنابه.
خامسا: أن تؤثر أن تساكن محبته قلبك لا محبة غيره.
سادساً: أن تخشى من شرر الخواطر.
سابعاً: أن تعلم أن تلك الخواطر بمنزلة الحب الذي يلقى للطائر ليصاد به، فاعلم أن كل خاطر منها حبة في فخ منصوب لصيدك وأنت لا تشعر.
الخاطرة حبة ألقاها الشيطان لصيدك.
ثامناً: أن تعلم أن تلك الخواطر الرديئة لا تجتمع هي وخواطر الإيمان ودواعي المحبة بل إنها تضادها من كل وجه.
تاسعاً: أن تعلم أن الخواطر بحر من بحور الخيال لا ساحل له، فإذا دخل القلب في غمراته غرق فيه وتاه في ظلماته، فإذا أشغلت نفسك بالخواطر الطيبة كانت ساحل نجاة.
وعاشراً: أن الخواطر السيئة وادي الحمقى وأماني الجاهلين لا تثمر إلا الندامة والخزي.
والحادي عشر: أن تجعل موضع الخواطر السيئة خواطر الإيمان والمحبة والإنابة والتوكل والخشية، وأن تفرغ قلبك لها، وإذا أتاك الخاطر السيئ نفيته، لا تؤويه ولا تسكنه؛ لأنها أماني وهي رؤوس المفلسين، ومتى ساكن الخواطر صار مفلساً، وإياك إياك يا أخي أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك، فإنه يفسده عليك، ويلقي بالوساوس الضارة.
وأخيراً: فإن موضوع سياسة النفس، معالجة النفس، مداراة النفس، ترويض النفس، إصلاح النفس، والبداية من الخواطر التي جعلناها الجزء الثاني من الموضوع، القضية هذه جديرة بالاهتمام والعناية.
نسأل الله أن يجعلنا ممن زكوا أنفسهم وممن طهروها وعمروها بذكر الله وعبادته.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد.
-
ابو عبد الله
بارك الله فيك يا شيخ ونفع بعلمك وجعله في ميزان حسناتك