الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن من السنن الإلهية العظيمة التي ينبغي للمسلم أن يقف عندها مليًّا، وأن يتفكر فيها ويعتبر: سنة الاستدراج والإملاء والإمهال.
تعريف الاستدراج والإملاء والإمهال لغة
الاستدراج، قال ابن منظور -رحمه الله-: "استدرجه، أدناه منه على التدريج فتدرج هو".
وقال في "الكشاف": "استدرجه إلى كذا إذا استنزله إليه درجة فدرجة حتى يورطه فيه" [الكشاف: 4/595].
وكذلك قال القرطبي: "الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة".
وكذلك ذكر أبو عبيدة -رحمه الله-: أن تأتيه من حيث لا يعلم بتلطف على حين غرة، حتى يأخذه على حين غرة.
وذكر البغوي -رحمه الله- أن الاستدراج أن يتدرج إلى شيء في خفية قليلًا قليلًا، فلا يباغت ولا يجاهر، ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه في المشي، ومنه درج الكتاب إذا طواه شيئًا بعد شيء.
والمقصود بالاستدراج: ترك معاجلة العبد الفرد أو الأمة بالعقوبة، بل الإمهال إلى حين، سنستدرجهم: يعني سنأخذهم قليلًا قليلًا ولا نباغتهم.
والاستدراج من المعاني أو من الألفاظ القريبة منه أو الداخلة فيه والمشتركة معه في المعنى: المكر، قال تعالى: فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 99].
فما هو مكره؟
استدراجه إياهم بما أنعم عليهم في دنياهم؛ من صحة الأبدان، ورخاء العيش، ونحو ذلك.
وأيضًا من معانيه: الكيد، قال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [الطارق: 15-17].
وكيد الله استدراجه لهم من حيث لا يعلمون، وسمي الاستدراج كيدًا؛ لأنه في الظاهر إحسان، وفي الحقيقة خذلان.
ويحصل الاستدراج بتجديد الله للنعمة تلو النعمة على المستدرج، على عاصين لا استحقاق لهم في هذه النعمة، فلا يزالون يستزيدون منها ينهلون ويعبون، لاهين عن الأخذ وعن الموت حتى يفاجئوا به، ويلاقوا يومهم الذي يوعدون.
فإذن، الاستدراج فيه عناصر معاني:
أولًا: أنه بالتدريج حتى يحدث فجأة.
ثانيًا: الغفلة والأمن؛ فالله -تعالى- يستدرج المكذبين، ويستدرج الظالمين بالنعم والمتاع شيئًا فشيئًا، فيظنوا أن هذا إكرام فيأمنوا، ويزدادوا بطشًا وطغيانًا وكفرًا وعصيانًا، ثم يأخذهم من حيث لا يشعرون.
هؤلاء الظلمة الكبار لا يأخذهم في البداية، لا يأخذهم في بداية أمرهم، ولا في أول طغيانهم، ولا في منشأ عصيانهم؛ بل يمهل، يؤخر يفسح لهم في المدة، لماذا يمهلهم؟
ليزدادوا إثمًا؛ لأن أخذه لهم يكون إذا بلغوا مرحلة معينة أو مبلغًا معينًا من الطغيان والظلم فعند ذلك يأتي الأخذ المفاجئ، والله يمدهم بالنعم وينسيهم شكرها، فإذا سكنوا وحجبوا عن المنعم أخذوا فجأة، فيصبغ عليهم النعم، ويحول بينهم وبين شكرها.
وسئل ثابت البناني عن الاستدراج، فقال: "ذلك مكر الله بالعباد المضيعين" [شرح السنة للبغوي: 14/ 354].
من الألفاظ القريبة: الإملاء، وهذا لفظ قرآني أيضًا.
الإملاء هو الإمهال، أملى الله له، يعني أمهله، وطول له.
انطباق سنة الاستدراج والإملاء على الأفراد والمجتمعات
فالاستدراج والإملاء سنة من سنن الله، ثابتة مع المكذبين والظالمين والعصاة المصرين، فلا يزال يُمهل لهم، ويمدهم، ولا يعاجلهم بالعقوبة، بل يزين لهم أعمالهم حتى يروها حسنة.
هذه السنة الإلهية تنطبق على الأفراد وعلى المجتمعات، يعامل الله بها أفرادًا ومجتمعات وأممًا، فكما استدرج فرعون وهامان وقارون، استدرج أيضًا الأمم التي كذبت وجحدت كعاد وثمود.
سنة الاستدراج غالبًا ما تكون بعد الابتلاء
وسنة الاستدراج غالبًا ما تكون بعد الابتلاء، فالله -تعالى- يبتلي الظالمين بالسراء والضراء ليرى يعني ليظهر علمه في الواقع، وإلا هو يعلم من قبل، ليظهر علمه في الواقع وتحصل المطابقة بين المكتوب في اللوح المحفوظ والواقع الموجود المشاهد، هذه المطابقة مهمة في إقامة الحجة، حتى ما يقول: عاقبتني على علمك السابق، وبطشت بي على غيبك الذي لا أعلمه، لم أعمل فلم أخذتني؟، فيمهلهم ليرى وينظر كيف يعملون.
وهو تعالى لا يكتسب علمًا جديدًا، فهو يعلم من قبل، لكن ليظهر علمه في الواقع، وليطابق الواقع علم الله، ولتقام الحجة على هؤلاء الممهلين المستدرجين: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ما حصل وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 42-44].
صور الاستدراج وأنواعه
والاستدراج أنواع وأجناس؛ لأن بعض العباد لذته من هذه الجهة، وبعضهم شهوته من هذه الجهة، وبعضهم ما حصل له من نعمة من جهة معينة، فيأتي الاستدراج من قبلها.
وهذه أمثلة: من الناس من يستدرج بالرئاسة، والسلطان، والملك، وخضوع الناس له، وتبعيتهم له.
ومنهم: من يستدرج بالدنو من الرؤساء والكبراء والسلاطين، والحظوة عندهم.
ومنهم: من يستدرج بالتوسع في التجارة، والأرباح، وكسب الأموال.
ومنهم: من يستدرج بالأهل، والولد، والحاشية، والتبع، والخدم، والعبيد، والإماء، ووطء الأعقاب؛ يعني من يمشي خلفه، كثرة من يمشي خلفه.
ومنهم: من يستدرج بسبب علمه؛ بأن يكرم، ويحمد، ويعظم، ويسمع له بسبب علمه، فهو مستدرج بنيل حظه من علمه، فيقال له: أخذت حظك في الدنيا، الناس بجّلوك، وعظموك، ومشوا خلفك، وخدموك، هذا حظك، استدرج من هنا، فإذا لم يخلص في العلم، أو يُعلّم لله، أو يعلم حتى لو آذاه الناس، لأن بعض الناس يعلم إذا عُظّم، وإذا ابتلي وأوذي لا يعلم، غير مستعد لمواجهة الإيذاء، يريد تبجيلًا تعظيمًا، ولا يريد أن يرد عليه أحد، ولا أن يظهر خطأه أحد، ولا أن ينبهه على زلة أحد، فهذا مستدرج من قبل علمه، واغتراره بعلمه؛ فإذا تأكل بهم قال: لا أعلم إلا بكذا، ولا أدعو إلا بكذا، وأعطوني المعلوم، وأقسموا لي، وأفرضوا لي، وهاتوا، فماذا يبقى له في الآخرة؟
ومنهم: من لا يقضي إلا بمال، ولا يؤم إلا بمال، ولا يفتي إلا بمال، ولذلك أصحاب المنافع المتعدية يعطون من بيت المال ليكفوا، ثم المخلص منهم من يبذل علمه نفسه سواء أُعطي أو لم يعط.
ومن الناس من يستدرج بسبب عبادته؛ من طريق العجب بها، والاغترار، والقوة على ذلك، فيرى لنفسه عند الله مكانًا عليًّا، وأن عمله مقبول، ويقطع لنفسه بذلك، ويدل على الله، وأن فلانًا لا يدخل النار وفلانًا يدخل النار، وقد يصل به الأمر إلى منازل من الضلال عظيمة.
ومنهم: من يستدرج بذكائه ونحو ذلك، وكل هؤلاء لا يخلون من الرياء والعجب، وكل مزين له ما هو فيه لا يرى إلا أنه على طريق مقبول منه، وقد عمي عن فتنة ما هو فيه من الاستدراج، ما يرى أن الله يستدرجه لا يرى.
ومنهم: من يمهل فيهمل إلى حضور أجله، وقد قال الله لنبيه ﷺ: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 131].
المستدرج مفتون
والمستدرج مفتون؛ فلا يعلم بفتنته، مزين له؛ فلا يحس بذلك، بل يستحسن ما هو فيه، ويطلب الزيادة، وهذا الكلام السابق مستفاد ومأخوذ أكثره من ابن الحاج -رحمه الله- في كتابه: "المدخل"، مداخل الاستدراج، وأنواع المستدرجين، مجالات للاستدراج، وعلى هذا فقس.
عدم فهم كثير من المسلمين لسنة الاستدراج والإمهال
وهذه السنة الإلهية سنة الاستدراج تعمل عملها في هذه الأوقات، فكثير من الناس الآن فتح الله عليهم من نعمه، وهم مقيمون على معاصٍ ظاهرة، بل على كفر وطغيان وجبروت وظلم، ويزدادون بطشًا وكبرًا وعتوًا وطغيانًا، وقد نجد لهم تمكينًا وقوة؛ ولسان حالهم يقول: من أشد منا قوة؟ فيحيك في قلوب بعض الناس شيء.
لماذا طيب هؤلاء على كفر وعلى طغيان وعلى ظلم وعلى معاصي لماذا صار لهم العلو في الأرض؟ أليسوا كفارًا؟ أليسوا عباد صليب؟ أليسوا ملاحدة؟ أليسوا ظلمة؟ أليسوا عصاة؟ أليس يرتعون في المنكرات؟ أليسوا أرباب كبائر؟ فلماذا يقدر الله أن يكونوا سادة وقادة ورؤساء وزعماء، ولهم القوة في الأرض ظاهرين، ولهم أساطيل من الطائرات والبوارج والغواصات والقوة، ولهم هيمنة على بنوك العالم وأنظمته الاقتصادية والسياسية والإعلامية؟ لماذا لهم علو، مع أنهم أصحاب فساد؟ لهم علو في الأرض؟
هذا كثير من المسلمين واقعين في مصيدة شيطانية في عدم فهم وإدراك الحكمة الإلهية من وراء هذا، فلو ما نطقوا؛ لسان حالهم يقول: ربنا لم آتيت هؤلاء ما آتيتهم؟ أليس قد كفروا بك؟ أليس قد أشركوا معك؟ أليس قد عصوك؟
فالذي لا يفهم سنة الاستدراج والإمهال هذه الإلهية، والذي لا يعي هذه السنة الربانية الخطيرة يمكن أن يتهم ربه، وأن يسيء به الظن.
ولذلك فهم السنن الإلهية ضروري في تفسير الأحداث المعاصرة، وضروري في فهم هذه الأقدار التي تحصل، وتعليل التعليل الصحيح والشرعي، لماذا يحدث هذا؟ وأنا أظن أن كثيرا من اللبس وسوء الفهم والخطأ هو بسبب عدم إدراك السنن الإلهية، تعليل أفعال الله، يعني مثال: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا [آل عمران: 178] هذا تعليل، علل الفعل، علل القدر، إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا .
والمتتبع للآيات والأحاديث وما فيها من السنن، ويرى كيف أن الله قدره ومشيئته وحكمته أن يمهل ويملي ويستدرج ويأخذ في النهاية، وهذا شيء يمكن أن يجد فيه صاحب البصيرة أجوبة عميقة، وأبعاد كبيرة لأحداث تقع في الأرض، الله يعطيهم: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 44] متى حصل الفتح؟ لما صار النسيان، هذا لا يعني أن الله لا يعطي الشاكرين، يعطي الفريقين، يعطي الشاكرين، ويعطي الذين يعرضون المعرضين.
بالنسبة للشاكرين مفهومة الناس يقولون: إي واضح يعني لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7] شكروا فالله فتح أعطاهم.
لكن إعطاء المعرضين مشكلة عند كثير من الناس، ربما تقودهم إلى زلة عظيمة في قضية اتهام الله، فيشكون لما؟ ما الحكمة؟ ما الحكمة فيها؟ حكمة هذه فيها حكمة كذا، طيب لماذا يعطيهم؟ طيب لماذا يكون لهم القوة في الأرض؟ لماذا يكون لهم تكون لهم زعامة ورئاسة؟ والله -تعالى- في أفعاله حِكم عظيمة ينبغي للعباد أن يتلمسوها، قال الله -تعالى-: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا [الأنعام: 44] خلاص وصلوا إلى القمة في الاغترار بالعطاء: أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44].
الآن مثلًا الغرب، أبحاث الطب في أمريكا، لما أعلن كلنتون عن الخريطة الجينية.
الجينوم البشري أنهم توصلوا إلى الخريطة الكاملة للجينوم البشري، ثم بعد ذلك تراجع بعضهم في التصريحات، قال: لا، باقي بعض الأجزاء ما اكتشفناها.
الآن لما وصلوا إلى هذا قالوا: لم يبق لنا على خلق الحياة والروح إلا شيء يسير، خلاص يعني، اقتربنا من اكتشاف سر الخلق، وسوف نصنع أول خلية حية أو سوف نخلق حيوانًا أو إنسانًا أو كذا قريبًا، قريبًا، بقي لنا بس شوي، خلاص، نحن على وشك، ما هذا؟
حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44].
والانهيارات المالية ممكن تأتي فجأة، يعني يحاولون، ترقيع الوضع، وإنقاذ الحالة، لكن إذا انفجر السد، خلاص أغرق فورًا على الأول والتالي.
الإمهال هذا يعني مثلًا هم يبقون يعني عشرات السنين، يعني في قوة وتقدم وازدهار ورخاء واكتشافات متوالية، وصناعات متطورة، تتطور الواحدة تلو الأخرى، وكشوفات، اكتشافات، هذه وراء بعض، اكتشافات، اختراعات، تفوق صناعي، ووصل القمر، يالله الذي بعده، الكوكب الذي بعده، يالله صعدوا إلى..، ذهبوا المريخ، المشتري، زحل، هذا التوالي في حصول الفتوحات الدنيوية عليهم: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44].
في غمرة ناطحات السحاب الموجودة، وفي غمرة المركبات الحديثة الموجودة، في غمرة المصانع والمزارع، في غمرة هذا التقدم العمراني والصناعي والتقني؛ لا يخطر ببال كثير من الناس قضية إهلاك القرى، مفهوم إهلاك القرى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا [الإسراء: 58] متى يبدأ الناس يفكرون؟
إذا صارت ضربة إلهية في مكان ما، مثلًا جاءت تسونامي في منطقة في اليابان، وصار في غرق مساحات شاسعة، وتعطل مصانع وانهيار محطات نووية، وحرائق، وراحت مطارات وجسور وأنفاق وأرواح وأموال، ثم قالوا: ازدياد نسبة الفقر في اليابان.
هنا الناس ترجع تقول: ها هذه أجل في..؛ لأن فهذه قضية إهلاك القرى سنة قائمة ومستمرة، يعني ما لا تقل نيويورك، لندن، طوكيو، سيدني؛ كلها ما في، ما في وَإِن مَّن قَرْيَةٍ في قرية، يعني إلا الله سيهلكها قبل يوم القيامة، إما إهلاك شامل: أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [الإسراء: 58].
الناس يصعب عليهم أن يفكروا كل ناطحات السحاب هذه في مكان واحد، يعني هذه كلها، فإذا جاء زلزال عظيم، أو مد هائل، قالوا: والله فعلًا، ممكن، قال الله -تعالى-: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا [الكهف: 59].
فإذن، الاستدراج هذه سنة حقيقية قائمة مستمرة في الواقع تأخذ طريقها، لكن لابد أن نتذكر دائمًا، وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا [الكهف: 59].
الإهلاك له موعد، الموعد لا يعلمه إلا الله، الموعد لا يعلمه إلا الله، لكن في موعد قطعًا، في إهلاك وفي موعد، لكن هذا عند الله.
طبيعة الاستدراج وصفاته
ما هي طبيعة الاستدراج؟ وما هي علامات الاستدراج؟ وما هي صفات الاستدراج؟
أولًا: أنه على مراحل.
ثانيًا: أنه خفي؛ من حيث لا يعلمون.
ثالثًا: أن نتيجته تتأخر وهي الأخذ والبطش، وهذا متناسب مع الإهمال والإملاء، لو كان الأخذ فوريًّا ما صار في إمهال وإملاء.
رابعًا: أن العقوبة مفاجأة؛ يعني أخذناهم بغتة بياتًا أو هم قائلون، ضحى ويلعبون، على حين غفلة، على حين غرة.
خامسًا: أن العقوبة لا مهرب فيها، حتى إذا أخذه لم يفلته.
أسباب الاستدراج
ما هي أسباب الاستدراج؟
الله رحيم وحكيم، والله لا يعاجل الناس بالعقوبة، بل يؤخر ويمهل لعلهم يتوبون، لعلهم يذكرون، بل يبتلي بالضراء لعلهم يتضرعون، لكن أكثر الناس ما يتضرعون ولا يتوبون ولا هم يذكرون، الله أرسل رسلًا وأنزل كتبًا: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] لا يزال العبد يمشي على الأرض في رخاء وسعة ولا يدري ما هو واقع به.
ما هي أسباب الاستدراج؟ لماذا يستدرج الله أقوامًا أو أشخاصًا؟
أولًا: لكفرهم بالله: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ} لا، {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران: 178] فإذا استحلوا الحرام، وفعلوا المنكرات، وكفروا بالنعمة، وبطروا، وأشروا، وأعجبوا بما أوتوا؛ أخذهم الله، وعذابهم مهين.
وكذلك فإن من أسباب الاستدراج: التكذيب بآيات الله: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف: 182-183] يعني: محكم، يعني ما يمكن يخرجوا منه، فهو يقودهم ويجرهم ويستدرجهم إلى زوايا معينة، أماكن معينة، بكيفيات معينة، أفعال معينة، أوضاع معينة، أوضاع إذا نزل عليهم العذاب إذا أخذوا لا يمكن أن يفلتوا، لا يمكن أن يفلتوا، وكذبوا بآيات الله الكونية والشرعية، التكذيب بالآيات الشرعية معروف، التكذيب بالآيات الكونية مثلًا ينسبوا الزلازل إلى الطبيعة، يقولون: غضب الطبيعة، فيكذبوا بآيات الله الكونية، يعني أن الله هو الذي يقدرها ويخلقها ويوقعها، ويكذبوا بآيات الله الشرعية، ويدخل في هذا تكذيب الرسل وتكذيب أهل العلم وتكذيب الدعاة، سنستدرجهم من حيث لا يعلمون، نفتح لهم وجوهًا في المعاش وأبوابًا من الرزق حتى يغتروا بما أوتوا، وَأُمْلِي لَهُمْ وأؤخر وأمد وأعطي ليزدادوا كفرًا وطغيانًا وشرًا وإثمًا، لكن قال الله: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ قوي شديد لا يدفع، وقال الله : فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم: 44 - 45] ذرني وإياه، كِله إليّ؛ أنا أكفيكه، سأنتقم منه، خلي بيني وبينه، اتركه علي، أنا أعلم به، وكيف أستدرجه، سأمده في غيّه وأنظره وأؤخره؛ ولكن سآخذه أخذ عزيز مقتدر، سنستدرجهم كلما أحدثوا كفرًا أحدثنا لهم نعمة، وكلما زادوا ظلمًا زدناهم قوة، وكلما عصوا آتيناهم: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 44-45].
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ [القلم: 44] يعني: من حيث يظنون أن هذه كرامة، وهي في الحقيقة باب عذاب قادم.
ثالثًا: من أسباب استدراج الله لبعض الناس: استهزاؤهم برسله: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ [الرعد: 32].
فأملى الله لقوم عاد، وأملى الله لقوم ثمود، وأملى الله لقوم نوح، وأملى الله لقوم شعيب، وأملى الله لقوم لوط، أمهل، أملى لهؤلاء جميعًا، يسخرون يستهزؤون يبطشون يقتلون يذبحون يغتصبون يستحيون، فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الرعد: 32] أنظرتهم وأجلتهم، ثم أخذتهم أخذة رابية، شديدة.
والأخذ أحيانًا يعني سريع مذهل، يعني هذا الطاغية اثنين وأربعين يعيش في رئاسة وملك وذهب وحرير ونساء وتيجان وخدم وأتباع وأذل شعبه، وبجل وعظم وكرم وأطيع واتبع، هذا يعني وقت أخذه كم كان، هذا الرجل حرف القرآن، وحذف كلمة "قل"، واستهزأ ببعض شرائع الإسلام، استهزأ بالحج، استهزأ بالنبي ﷺ قال عنه: ساعي بريد، أنكر أشياء من السنة، أو أنكر السنة كلها، يعني لا تقول لي حديث الرجل متكئ على أريكته يأتيه الأمر من كلام النبي ﷺ، فيقول: لا ندري ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه، يعني في وقت من الأوقات في تصريحات القذافي، لو تقول من هو أكثر واحد ينطبق عليه الحديث أقول لك هو هذا.
طبعًا عطل أحكام من الشريعة وغير وأصدر قوانين فيها حكم بغير ما أنزل الله فيما يسمونه بالأحوال الشخصية وغيرها، منع أشياء أباحها الله، الله أعطاه مليارات وقصور وطائرات وخدم، وإلى آخره، وشهوات وحارسات، ملك ملوك أفريقيا، لكن لما أخذه أخذه بسرعة، يعني ضرب الموكب خرج ليهرب اختبأ في أنبوب الصرف، وأخرج كالجرذ وقتل، يعني لا يظن هو ولا حتى من أمسك به أنه سيمسك ستكون نهايته، يعني أنت ممكن تتخيل نهايات يعني، تتخيل نهايات، تقول: لا هو ممكن يحصل كذا لا قد يهرب، قد يذهب إلى فنزويلا، ويستمتع بالمليارات التي جمعها، لا قد يذهب إلى بلاروسيا، لا قد هو يكون عنده في أفريقيا له موطئ، وسوف، ممكن تتخيل أشياء كثيرة، لكن لا أحد يعرف في تلك الحال كيف ستكون نهايته، لكن لما كانت النهاية نهاية حتمية يعني حتمية مدهشة عجيبة غريبة مفاجئة، ما سيعرف أنه هنا سيضرب، حتى الذين ضربوه ما كانوا يعرفون أنه هكذا ستكون النهاية، ثم يخرج فيهرب فيدخل في هذا المكان للتصريف، فيعثر عليه حتى الذين عثروا عليه ما كانوا يتوقعون أنهم سيعثرون عليه، وهو ما كان يتوقع أنه سيعثر بهذه الطريقة، ثم وبسرعة ويؤخذ ويدفع ويضرب ويدهس بالأقدام، ثم خلاص، نهاية سريعة، أخذناهم بغتة، فقطع دابر القوم الذين ظلموا، أخذ عزيز مقتدر، خلاص جاءت النهاية، هذه هي الخاتمة.
أبو جهل لما جاءت قريش بكبرها وخيلائها وغرورها، قال أبو جهل قبحه الله: "والله لا نرجع حتى نقدم بدرًا، فنقيم بها ثلاثًا، ونسقي الخمور، وننحر الجزور، وتعزف علينا القيان، المغنيات، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدًا".
هو ظن كذا، ظن أن هذا الموقف إذا حصل سيزرع لهم هيبة في العرب، وخرجوا وفعلوا، نحرت لهم الجزور، لكن جزروا بعد ذلك، وكان يتوقع أن تعزف لهم القينات لكن ناحت عليهم النساء بعد ذلك، ولا يزال لهم في العرب هيبة، بالعكس سقطت هيبتهم كثيرًا في العرب، ومن الذي قتل أبا جهل؟ فتيان صغيران، قال ابن مسعود: طرقت فإذا ابنا عفراء قد اكتنفاه فضرباه حتى برد، صار في حكم الميت، فوجدته بآخر رمق، فوضعت رجلي على عنقه وقلت: أنت أبو جهل أخزاك الله يا عدو الله، فقال له: لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقًا صعبًا، يعني أبو جهل وهو في الكبر حتى الرمق الأخير، قال: ثم احتززت رأسه فجئت به رسول الله ﷺ، فقلت: هذا رأس عدو الله، أبي جهل.
من أسباب الاستدراج: مشاقة النبي ﷺ، معاداة النبي ﷺ واتباع غير سبيل المؤمنين؛ كما قال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ [النساء: 115].
فمن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بهاﷺ، وصار هو في شق، والشرع في شق آخر عن عمد منه، بعد ما تبين له الحق، واتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى، ونزين له ما فعل، ونحسن ذلك في صدره، ثم نأخذه.
بعض الذين استدرجهم الله في أيامنا هذه حاربوا هدي النبي ﷺ عشرات السنين، حاربوا اللحية والجلباب! وحاربوا السنة! حاربوا ... حاربوا أشياء كثيرة جدًا في الشرع، ثم أخذهم الله عز وجل.
خامسًا: الظلم والطغيان: قال الله -تعالى-: وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [الحـج: 48].
أملى الله لبلدان ومدن قرى وأعطاهم، إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ رسول الله ﷺ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102]" [رواه البخاري: 4686، ومسلم: 2583].
الله أخذ سبأ: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ [سبأ: 15-16]، إغراق؛ الماء الذي كان سبب نعيمهم صار سبب عذابهم.
البرامكة صار لهم شأن وسطوة في عهد هارون الرشيد وهم من الباطنية خبثاء تسللوا، ثم إن الله كشف لهارون أمرهم في ليلة أخذهم وقتل من قتل، وسجن من سجن منهم، في نكبتهم حبس يحيى البرمكي وولده، هذا بلغ الوزير يعني، فقال له بعض ولده: يا أبت بعد الأمر والنهي صرنا إلى هذا الحال؟ فقال: يا بني دعوة مظلوم سرت بليل ونحن عنها غافلون.
هو يعلل هذا الذي حصل لماذا حصل؟ قال: يا بني دعوة مظلوم سرت بليل ونحن عنها غافلون، والله لم يغفل عنها.
صور الاستدراج
طيب ما هي صور الاستدراج؟
أولا: التوسيع في الدنيا: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ في الرزق، حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ بطروا وأشروا وأعجبوا به، أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً [الأنعام: 44]، واستأصلناهم فجأة.
ولذلك يقول الرسول ﷺ: ((إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب -يعطيه ما يحب وهو عاصي- فإنما هو استدراج"، اعرف على طول أن هذا استدراج مباشرة، إذا رأيت نعمًا تتوالى على عاصي استدراج، تفسيره الواحد استدراج، من الدليل وعلى طول من الدليل من القرآن والسنة، "ثم تلا رسول الله ﷺ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44]".
قال قتادة في التفسير: "بغتَ القومَ أمرُ الله، وما أخذ الله قومًا قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعيمهم، فلا تغتروا بالله، إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون" انتهى كلام قتادة.
قال الحسن: "مكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجتهم ثم أخذوا".
الذي يستصعب ويصعب عليه أن يتصور هذا ويقول: لكن عندهم وعندهم وأوروبا وأمريكا والصين وروسيا وعندهم و ... أنا ماني متخيل كيف يعني؟ كيف يعني سيكون عاليها سافلها وكيف؟
نقول: طيب أين قوم عاد؟ سؤال عاد هل نظرت إلى بنيانهم؟ ثمود هل نظرت إلى بيوتهم إلى قوتهم نظرت إلى إمكاناتهم التي كانت عندهم؟
طيب وقوم لوط وقوم شعيب وقوم نوح وقوم...
طيب واليونان والإغريق والرومان والفينيقيين والبابليين والآشوريين والكلدانيين والسومريين والفراعنة، وهؤلاء كانوا أمما، يعني كان لهم في الأرض مثل ما لأمريكا وأوروبا، كان لهم في الأرض قوة مثلما للصين وروسيا.
طيب فإذا فني أولئك سيفنى هؤلاء قطعًا، ما فيها كلام.
كم عمر هؤلاء؟ متى نهضتهم؟ كما مضى عليها؟ مائة سنة، مائتين سنة، قوتهم من كم؟ ماذا يعني مائتين سنة في ميزان الله؟ يعني قوم عاد كم صار كم سنة لهم؟ كما أتى عليهم؟ الفراعنة كم فرعون؟ كم حضارة الفراعنة كم؟ كم سنة؟
طيب يمكن بعض الذين أهلكهم الله من الماضين أطول أعمارًا سواء في أفرادهم وإلا في أممهم من فراعنة العصر أطول أعمارًا.
فقضية واحد يقول: ماني متخيل كيف يعني ماني متخيل، هذه سنن إلهية، هذا قدر نافذ هذه سنن ماضية، هنا رب يهلك، يأخذ، يبطش، يفني.
والمستدرجون لا يعتبرون أبدًا بغيرهم، هذه من صفات المستدرجين، لا يعتبرون بغيرهم: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [الأعراف: 94-95].
فلذلك لا يتعظون، ولا ينتهون، ولا يرجعون.
وحتى لو قلت لواحد تقول: ألفين وثمانية، ألفين، طيب الأزمة المالية يقول: لا، لا، العالم تعافى، وكل شيء رجع تمام، تمام، خلاص، أبشرك حلوها، والله إذا يقصد حلوها يعني، حلوها لها معنيين يعني، أن حلوها إلى الانحلال، ولو صار عندهم أزمة وعولجت الأزمة، حتى عفوا كثروا كثرت أموالهم كما ذكر الله، يعني وتأتيهم مصيبة فيتعافون منها، ثم تأتيهم الكارثة التي لا تعافي منها.
كذلك من الاستدراج: التوسيع عليهم في المال والولد: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ [المؤمنون: 55-56].
فلا يظن هؤلاء المغرورون إذا قالوا: نحن أكثر أموالًا وأولادًا أن هذا سيحميهم أو يقيهم من العذاب، بل هذا قد يكون بعضه أو منه أو فيه عذاب: فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة: 55].
فيظنونها في البداية إكرامًا وهي سبب التعذيب، سبب التعذيب في الممات وفي الحياة وفي الآخرة.
أما المؤمن لا يطمئن إلى الدنيا: أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء: 205-207]، لا يرضى بالدنيا، إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يونس: 7-8].
رضوا بالحياة الدنيا بدل الآخرة، واطمأنوا إليها ركنوا، وسعوا وأكبوا على الملذات واشتغلوا، ومال بعد مال، ومقاولة بعد مقاولة، ومشروع بعد مشروع، وأرباح بعد أرباح، يالله هات وراء بعض، طيب هذا سيستمر؟ لا يمكن، أصابتهم الغفلة.
سنة الله في إعطاء الدنيا
طيب ما هي سنة الله في إعطاء الدنيا؟
الله يعطيها من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، كما قال النبي ﷺ، مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ [هود: 15].
سيأخذ في الدنيا شهرة ومالًا، منصبًا، سيأخذ إعجاب الناس، سيأخذ يعني هذا المخترع أو العبقري أو مدير الشركة هذا الذي هلك، هذا يعني في الدنيا حصل له، حصل له كثير من متاع الدنيا، والله يعطي يعني لو بعض هؤلاء نفع البشرية كما يقولون، فالله يعطيهم في الدنيا مكافأتهم صحة رزقًا رئاسة أثاثًا لباسًا رياشًا شهرة، لكن يوم القيامة: ليس له في الآخرة من نصيب ولا خلاق.
ثم هذه الدنيا ما تحصل ترى لكل كافر، يعني في كفار يريدون ولا يحصل لهم يبقون فقراء، ولذلك قال الله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء: 18].
وقال الله: كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ [الإسراء: 20] من الفريقين، والله يعطي ناسًا من المؤمنين أيضًا، ويعطي ناسًا لأنهم شكروا، فما هو المذموم من لذات الدنيا؟
الذي لم يشكر وأشغل عن طاعة الله، ويتحول عند ذلك إلى عذاب.
مآرب كانت في الحياة لأهلها | عِذَابًا فصارت في المعاد عَذَابًا. |
نعم المال الصالح للرجل الصالح هذا أبو بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف.
بعض صور الاستدراج
من صور الاستدراج: رؤية المستدرج لعمله السيئ حسنًا: لماذا؟ بالتزيين، الله قال: أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر: 8] كالكفار والفجار، يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف: 104].
الآن لو قلت للناس: ما رأيكم في الديمقراطية؟
لرأيت أن أكثر الناس يمدحها، هي بالنسبة للظلم طبعًا يعني إي أحسن من الظلم بلا شك، لكن بالنسبة لحكم الله مصادمة لحكم الله؛ لأن الأكثرية إذا اتفقوا على شيء يمشي خلاص، فهات صوتوا على الخمر، الأكثرية قالوا: ماشي، خلاص، ما قاله البكباشي فهو ماشي، صوتوا على الزنا، صوتوا على الربا، صوتوا على ... خلاص، ولذلك الديمقراطية المخالفة لشرع الله، لكن إذا تقارنها بالدكتاتورية، طبعًا تطلع الديمقراطية أحسن، أو يعني أقل سوءًا، لكن فالآن عند الناس فتنة يقولون: نريد حرية، الحرية قبل التوحيد.
يعني بعض المفتونين من بني جلدتنا يقولون: الحرية قبل التوحيد.
طيب أصلًا الحرية ما تجي إلا بالتوحيد، وأي واحد ما عنده توحيد فهو عبد.
إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ [يوسف: 40] الديمقراطية تتعارض مع إن الحكم إلا لله.
وفي الحقيقة: أن المناداة بالديمقراطية وتطبيق الديمقراطية فتح باب الردة والزندقة والاختيار للإلحاد والكفر لمن أراد، فتح باب الشهوات على مصراعيه، الذي يريد المجون الخمر الزنا، إلى آخره، خيار خلاص صوت هات أكثرية، أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر: 8].
من صور الاستدراج: الإضلال: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5]، وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110].
من صور الاستدراج: التخلي عنهم، نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى [النساء: 115]، فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا [مريم: 75] يدعه في طغيانه يطول له في ضلالته.
من صور الاستدراج: التمكين المؤقت: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ لكن النتيجة فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ [الأنعام: 6]، وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ [الأحقاف: 26].
وقال الله: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ [الأحقاف: 27].
من علامات الاستدراج: الاغترار بالصحة بالمال بالأولاد، بالكثرة، بترادف النعم، بإلف الرذيلة، بالاستغراق في المتاع.
وسائل العصمة من الاستدراج
فما الذي يعصم من الاستدراج؟
الإيمان بالله، طاعة الله، التخفف من الدنيا.
ومن الحكم الإلهية في إمهال الكافرين والعصاة: أن الله حليم لا يعاجل بالعقوبة، وأن توفية الحساب الرئيسية الكبرى في الآخرة وفي الدنيا هذا انتقام سريع، هذا انتقام وأخذ في الدنيا أوّلي، لكن البطش الكامل والعذاب الكامل والجزاء الكامل والأخذ في الآخرة، وهذا رهيب: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ [فاطر: 45]، ولذلك الله يعطي فرصة للتوبة، حتى إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ [البروج: 10].
ويأخذهم بالبأساء لماذا؟
لعلهم يضرعون، ويقيم الله الحجة عليهم : أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ [فاطر: 37].
والله يملي في الأعمار، لماذا قال النبي ﷺ في الذي بلغ ستين إن الله قد أعذر في امرئ بلغ الستين لعله يتغير، لعله يتوب، لعله يؤوب.
كان الصالحون يخافون من الاستدراج، عمر كان يقول لما حملت إليه كنوز كسرى: "اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجًا، فإني أسمعك تقول: سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ [الأعراف: 182]".
والسلف يعني عبد الرحمن بن عوف لما نظر في الطعام أمامه خاف، قال: إن مصعب مضى قبلنا ما أخذ شيء من الدنيا، أنا أخشى أن تكون حسناتنا عجلت لنا.
عدم استعجال إهلاك الله للظالمين
وأخيرًا -أيها الإخوة والأخوات-: فإن كثرة النعم مع عدم استقامة الحال استدراج، ونعم الدنيا والتمكين الدنيوي لا يدل على رضا الله بالضرورة.
والمؤمن يجب أن يحذر إذا توالت عليه نعم وهو في عصيان أو عنده تقصير، الله حليم وقوي، لكنه حكيم شديد العقاب، فيجب أن نشكر النعم، وما نغتر بما يقع للكفار من الأشياء الدنيوية، أو ويقع للظلمة، وأيضًا ما نستعجل فنقول: وهؤلاء المجرمون بالشام إلى متى سيبقون هكذا يقتلون؟
نقول: اصبر، أنت لا تتكلم من الشهر والشهرين والسنة والسنتين، لا تضعوا مددًا من عندكم، الله هو الذي يعلم متى سيصل هؤلاء المجرمون إلى الحد الذي سيأخذهم عنده، فهو الآن يملي لهم ليزدادوا إثمًا وطغيانًا وإجرامًا وقتلًا وسفكًا واغتصابًا وقصفًا ونهبًا للمال، و... إلخ..، حتى يصل للدرجة التي يريد الله وشاء الله أن يأخذهم عندها سيأخذهم عندها، سيذهب في هذا الوقت شهداء، نعم، سيحصل للمؤمنين ابتلاء، نعم، سيسقط في الابتلاء من يسقط، ويقول ما شكلهم ما لا مطولين لا ما أظن ما ... نقول: إنما نملي لهم، يمهل.. يمهل..، ولكن لابد أن يأخذ في النهاية، إذا كانت المسألة وصلت حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ [البقرة: 214] فما بالك بمن هو أدنى وأقل إيمانًا؟
فنسأل الله أن يعجل بنصر المسلمين، وأن يعجل بأخذ الطغاة الكافرين، إنه سميع مجيب.
وصلى الله على نبينا محمد.