الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فالسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيَّاكم الله جميعًا.
الدَّورات المعاصرة في ميزان الشَّريعة
أيها الإخوة والأخوات: في هذه السِّلسلة التي سبق أن ابتدأناها معكم، ومضت في مجموعات بعنوان: حماية منهج السَّلف الصَّالح، وقد تعرَّفنا على معنى منهج السَّلف الصَّالح، ما هو؟ وكذلك عرفنا فضله ومزاياه، وأيضاً عرفنا أدلَّة أصوله من الكتاب والسُّنَّة، وكذلك عرفنا بعض ما يخالف هذا المنهج، ونكمل الكلام عن حماية هذا المنهج: حمايته من كل الأمور الدَّخيلة، من كل الأمور المنافية له، وخصوصًا هذه الأمور العصرية التي نشهدها، سيكون محور الحديث في هذه المجموعة الخامسة بمشيئة الله تعالى عن: الدَّورات المعاصرة في ميزان الشريعة، وبيان ما في بعضها من المخالفات لمنهج السَّلف الصَّالح، ونحن نعلم أنَّ الحكمة ضالة المؤمن، وأنَّ المؤمن يحرص على ما ينفعه، كما قال ﷺ: احرص على ما ينفعك [رواه مسلم: 2664].
وأنَّ المسلم لو سمع من كافرٍ شيئًا مفيدًا فإنَّه يأخذ به، بل إنَّ الشَّيطان لما حدَّث أبا هريرة حديثًا حقًا فيما يعصم الإنسان من الشَّيطان عند المنام بتلاوة آية الكرسي، وأنَّه لا يزال معه من الله حافظٌ وعونٌ، إذا أخذ بذلك لا يقربنه شيطانه حتى يصبح فإنَّ النَّبي ﷺ قد أقرَّ الكلام؛ لأنَّه حقٌّ مع أنَّه قد خرج من الشَّيطان، لكن لأنَّه حقٌّ يقبل، والله تعالى أمرنا بالتَّواصي بالحقِّ والصَّبر لنكون من المفلحين، واستثنى نوعًا من النَّاس من عموم الخاسرين، فقال: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 1-3].
من الدوراتٌ العصريةٌ المفيدةٌ، الموافقة للكتاب والسُّنَّة
ومعلومٌ أنَّ من وسائل نشر الأفكار في هذا الزَّمن المتأخر: الدَّورات، سواءً كانت حقًا أو باطلاً، فهناك على سبيل المثال دوراتٌ علميةٌ شرعيةٌ، تعتمد على الكتاب والسُّنَّة، سواءً كانت في أمور العقيدة أو الفقه أو الفنون الشَّرعية المتنوعة، دوراتٌ في التَّجويد، دوراتٌ في الأصول، دوراتٌ في المصطلح إلى آخره، وهذه من أبواب الأجر لمن حضرها؛ لأنَّه ما من مسلمٍ يلتمس إلى العلم سبيلاً، إلَّا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة، وهناك دوراتٌ أخرى من الأمور المباحة، مثل: بعض الجوانب الإدارية، كالدَّورات التي فيها إدارة الوقت، مهارة اتخاذ القرار، مهارات التَّفاوض، دورات العمل بطريق الفريق الموَّحد ونحو ذلك من دورات الاستراتيجيات، فهذه مفيدةٌ في بابها، إذا كان ليس فيها ما يصادم الكتاب والسُّنَّة من الأمور المباحة، وكذلك هناك دوراتٌ تتعلَّق بالأمور الاجتماعية، مثل: دوراتٌ في تربية الأولاد، فنون العلاقات الأسرية، كيفية التَّعامل مع النَّاس، كيفية اكتساب الصَّداقات، المحافظة على العلاقات، إدارة المنزل، إدارة المشكلات الزوجية ونحو ذلك، وهناك دوراتٌ في المهارات والخبرات، دورات في فنون الحوار، مهارات الاتصال، التَّعامل مع الجمهور ونحو ذلك، هناك دوراتٌ تتعلَّق بأمور نفسية من الإيجابية والشجاعة الأدبية، دوراتٌ في الخطابة، دوراتٌ في حل المشكلات والتَّغلُّب على الصُّعوبات ونحو ذلك، فكل ما لا يتعارض مع الكتاب والسُّنَّة، وكُلُّ ما شهد له العقل الصَّحيح والتَّجربة الصَّحيحة بالفائدة، ولا يمس عقيدة المسلم فإنَّ حضوره مفيدٌ، والاستفادة والأخذ منه مباحٌ ومن الحكمة.
أنواع الدَّورات
دوراتٌ عصريةٌ مخالفة للكتاب والسُّنَّة:
وهناك دوراتٌ في المقابل، انتشرت في الزَّمن المتأخِّر، مخالفةٌ للدِّين وأصول الشَّريعة، وتتفاوت في مصادمتها ومخالفتها بنُسبٍ: بعضها دوراتٌ في عين الشِّرك الأكبر، وبعضها تتعلَّق بأمور أقل من ذلك تمسُّ التَّوحيد من جهة اشتمالها على أمور من الشِّرك الأصغر، هناك دوراتٌ كفريَّةُ الاعتقاد بما فيها يخرج عن الملة قطعًا، وهناك دوراتٌ تبيع الدَّجل والشَّعوذة، وهناك دوراتٌ تُسوِّق الوهم، هناك دوراتٌ نصب واحتيال تأخذ مالاً بلا فائدة حقيقية؛ لأنَّ سوق الدَّورات هو سوق استرزاق، يأخذ فيه المدرِّب مالاً الذي يدفعها المشتركون، سوق الدَّورات يُعتَبر من أنواع الكسب في هذا الزَّمان بلا ريب.
دوراتٌ تقوم على المبالغات والتَّهويل:
هناك دوراتٌ تسوَّق أحيانًا للمبالغات تقوم على التَّهويل، قد لا تكون مخالِفةً لأصل العقيدة؛ لكن فيها تهويل، مثلاً: كيف تحفظ القرآن في ثلاثة أيام، القراءة التَّصويرية، تمرُّ على الكتاب وتُقَلِّب أوراقه بسرعةٍ، ويقولون افعل هذه الأشياء تنطبع هذه المقروءات في العقل الباطن، ثُمَّ يتمُّ استدعاؤها من العقل الباطن بوسائل معينة، تكتشف مثلاً أنَّ المسألة فيها كثيرٌ من التَّهويل والتَّضخيم وغير حقيقية.
دوراتٌ تقوم على التَّحليل والتَّشخيص:
على أيَّة حال الدَّورات أنواع: هناك دورات قائمة على التَّحليل: تحليل الخط، تحليل التَّوقيعات، بعضها قد تكون في درجة معينة مقبولةً لا تتعارض مع الشَّرع، وبعضها قد تكون كلامًا قابلاً للصَّواب والخطأ، وقد يكون فيه شيءٌ من الصِّحة وشيءٌ من المبالغة، وبعضها قد تبدأ في البداية فيما يظهر بشيءٍ من الفائدة ومن الصِّحة ثُمَّ إذا توغلت فيها تبدأ تكتشف مخالفات عقدية.
دوراتٌ عصريَّةٌ مفيدةٌ:
إذًا الدَّورات هذا سوق كبير، وعالم هائل، خصوصًا في هذا الزَّمان لما صارت قضية تطوير وتنمية الذَّات، وتنمية المهارات مقصدًا للشَّركات والمؤسسات والأفراد، ولما صارت الدَّورات لها شهاداتٌ، والشَّهادات لها قيمةٌ في سوق العمل، ورُبَّما يرتفع بها درجاتٍ في السُّلم الوظيفي، أو يزيد بها راتبه، أو يحصل بها على وظيفة، ولذلك الدَّورات في الحقيقة منها: ما هو مفيدٌ جداً، مثلاً: رخصة قيادة الحاسب الآلي، دوراتٌ في البرمجة والتَّصميم الإلكتروني، دوراتٌ في الحماية أو الوقاية، حماية المعلومات وأمن المعلومات، وهناك دوراتٌ مهمَّة جداً، لكن نحن الآن لن نتكلَّم عن الدَّورات المفيدة، وهذا له سوقه وله من يُعرِّف به، يعني: ليس بحاجة إلى دعاية أكثر من الموجود، هو يسوِّق نفسه بنفسه.
المخالفات الشَّرعية في الدَّورات العصريَّة
نريد أن نتكلَّم: ما هي المخالفات الشَّرعية الموجودة في سوق الدَّورات؟ على طريقة الشَّرع، حيث أنَّ الأصل الإباحة، وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ[الأنعام: 119].
فما الذي يُحصر ويُذكر؟ المخالفات المحرمات الممنوعات، والباقي على الأصل وهو الإباحة، فعلمٌ يُستفاد منه لا بأس، فالحكمة ضالةُ المؤمن، والتَّنبيهات في هذا المجال مطلوبةٌ جداً، أولاً: لأنَّ سوق الدَّورات: سوقٌ كبيرٌ جداً الآن، وله روَّاده، والنَّصيحة في الدِّين تقتضي التَّحذير والتَّنبيه على المخالفات، وكذلك الأمانة أيضاً حتى في المحافظة على أموال النَّاس، حتى لا يشتري الإنسان وهمًا، أو ينساق وراء بعض الأشياء التي فيها دفعُ مالٍ لشراء وهمٍ، أو لشراءِ ما له فائدة قليلة جدًا لا توازي المبلغ المدفوع، مثلاً: أحيانًا تنحيف الجسم بالأفكار، كيف تخسس وزنك بالأفكار؟ علاج جميع الأمراض حتى السَّرطانات بذبذبات الأفكار، لكن قد ترتقي المسألة أكثر إلى درجة مثلاً: أحجارٌ تجلب السَّعادة والثَّراء، ودورات في أحجار مجسمات لجلب شريك العُمر وتوأم الرُّوح المناسب، وأقراص معدنية تجلب الغنى، والروز كوارز حَجرُ الحبِّ، اشترِ بخاخَ النَّجاح والثَّروة، احجزي جلسةَ ريكي مع الوجه المشرق، وقانون الجذب وهذا متعلِّقٌ بمخالفةٍ ومصادمةٍ واضحةٍ جداً للقضاء على عقيدة القضاء والقدر، الذي هو ركن من أركان الإيمان، ودورات للتَّواصل مع الأموات، ورُبَّما يقولون لك: تذهب للمستقبل أو ترجع إلى الماضي، العلاج بالطَّاقة وتدفُّقها، وتسليك مساراتها كي اتشي برانا، كيف تستمدُّ الطَّاقة من الكون؟ وكيف تصل بها إلى علاج الأمراض المستعصية؟.
من الجوانب التي تدخل منها بعض هذه الدَّورات الخطيرة: أنَّ بعض النَّاس مرضى حقيقةً ويلتمسون الشِّفاء وإذا ما وجده عند الأطبَّاء في المستشفيات في الأدوية المعروفة، مثلاً يبدأ بالبحث هنا وهنا لعلَّ وعسى، فعندما يفتح هؤلاء المجال: كيف تُعالج الأمراض المستعصية بالطَّاقة؟ وتكتشف مثلاً في النَّهاية بعض سبر أغوار الدَّورات هذه أنَّه في الحقيقية يؤمنون بوجودٍ اسمه الطَّاقة، يستمدُّ منه العون والشِّفاء إلى آخره، وهناك دورات فيها معتقداتٌ وثنيةٌ قائمةٌ على رياضات شرقيةٍ أحيانًا، اليوجا التي لها علاقة بالكواكب وبالشَّمس، وأنَّ هناك أشياء تُستَمدُّ من الكواكب، وبعض الدَّورات قد تُؤدِّي إلى نوع من عبادة الكواكب التي كانت في قوم إبراهيم مثلاً، فهناك أشياءٌ خطيرةٌ قد لا ينتبه لها الإنسان في البداية، فإذا تعمَّق ومشى فيها بدأ يكتشف من وثنيات الشَّرق، وإلحاديات الغرب.
كثيرٌ من الدَّورات العصرية مستوردةٌ من الخارج:
كثير من هذه الدَّورات قادمة من الخارج، أليس كذلك؟ دورات أجنبية عن المسلمين، فلماذا لا تكون متأثِّرةٌ بمعتقدات القوم؟ هل هناك ما يمنع من ذلك؟ هل هذه الدَّورات معصومةٌ؟ أليست هذه الدَّورات من وضع البشر؟ ثم أليس هؤلاء البشر بعضهم من كفرة المشرق أو كفرة الغرب؟ هل كُلُّها بمعزلٍ عن أديانهم وعقائدهم؟
هل كُلُّ الدَّورات وليدة المختبرات والتَّجارب العلمية البحتة؟ هل ما فيها مثبتٌ حتى عند أهل العلم التَّجريبي: هيئاتٌ معتمدةٌ أممية؟ أو جامعات؟ فقد تجد أنَّ بعض هذه المعلومات الطَّرح الموجود فيها ليس معتمدًا من أي جهة مصنَّفة رسمية، أو معروفة تُصدر شهاداتٍ على طريقة علمية ثابتة، كما أنَّ قضية دغدغة العلاج بالألوان أو العلاج بالأحجار الكريمة، واجعل خطاً تحت كريمة! ومن الذي سمَّاها كريمةً؟ وما هو الكريم الذي فيها؟
وكذلك الهالات الجاذبة التي تدخل في عملية التَّسويق، ثُمَّ لا بُدَّ أن نناقش أنفسنا إذا قال: غمِّض عينيك، واسترخي وخذ نفسًا عميقًا، ثمَّ تخيَّل المشكلة: كبرها، لونها، كثَّف الإضافة، صغِّرها، افتح عينيك، انتهت المشكلة، هل هذا علميًا مثبتٌ حتى عند الكفرة وليس عند المسلمين؟ هل هو مثبتٌ علمياً عند علماء النَّفس؟
مثلاً: هيئاتٌ عالميةٌ معتمدةٌ عندها أم هو وهمٌ؟ يعني: ممكن تتخيَّل أنَّها انحلَّت ثُمَّ بعد ذلك فرجعوا إلى أنفسهم وما انحلَّت، انحلَّت وهمًا ثُمَّ بعد مدةٍ ترجع الأمور إلى ما كانت عليه، هناك أشياء مثلاً تتكلَّم عن تغيير المستقبل ومعرفته، والمعرفة: علم الغيب، وأنَّ هذا المثال استطلاع للعالم الغيبي، يعني: المستقبل الذي يكون أحيانًا في جلسات استرخاء، يسمُّونها ألفا أو فيتا أو غير ذلك، ما حكمها شرعًا؟
الآن هناك مراهقون وشباب وفتيات أناسٌ تخرج إلى الدُّنيا بخلفيات أو قواعد أحيانًا هشَّةٌ، لا يكون هناك علمٌ شرعيٌ كافٍ لاكتشاف صحة هذه الأشياء، وأيضاً لا بُدّ أن ننظر إلى الموضوع من جهة الافتتان رُبَّما يكون بعضه صحيحًا، مثلاً: غير الأشياء هذه واضحة البطلان بعضها صحيحٌ، لكن يوجد افتتان بها ومبالغةٌ، يعني: شيءٌ جديدٌ وله بريق، ورُبَّما يكون بعض النَّاس يريد أن يدخل في مجال الاسترزاق منه، فإذا تكلَّم عنه تكلَّم بنوع من المبالغة والتَّضخيم حتى يجذب زبائناً، هذا شيءٌ طبيعيٌ في عالم التَّسويق، لكن المسلم صادقٌ لا يُضلِّل النَّاس، أو يسحب أموالهم بناءً على تضخيمات غير صحيحة؛ لأنَّ التَّهويل، والتضخيم نوع من الكذب، المسألة ليست بهذا الحجم، المسألة أصغر من ذلك، وقد تكون صحيحة ولكن جانب الفائدة فيها جانب محدود معين، ليس بالتَّضخيم الذي يقولونه في عالم التَّسويق لهذه الدَّورات، فإذًا حتى من النَّاحية الأخلاقية مثلاً: الكذب، أكل أموال النَّاس بالباطل، والقضية أيضاً شرعية من هذه النَّاحية، ثُمَّ أيضاً لا بُدَّ من النَّظر في قضية تسويق أهل الباطل لباطلهم، يعني: ما في شكٌّ أنَّ البوذيين والهندوس والملاحدة يريدون أن يسوقون باطلهم، وهناك جهاتٌ عديدةٌ تتبع أديانَ تروِّج سوق الدَّورات، من الأسواق الواعدة التي فيها مجال لهذا التَّرويج.
ضرر الدَّورات على العقيدة وعلى المال:
كذلك من الأسباب التي تدفع للكلام في هذا الموضوع: أنَّه يوجد عددٌ من النَّاس مثلاً ليس عنده قدرة على استجلاء الحقيقة فقد ينساق مثلاً، فبعض الدَّورات هذه تغزو أسواق الخليج بدرجةٍ كبيرةٍ، لماذا؟ لأنَّها تجد من يدفع، والذي يدفع رُبَّما أحيانًا لا يهمُّه كثيرًا أن يخسر ألفاً أو ألفين أو خمسة آلاف، اشترِ فيلاً أحمراً يجلب الحظَّ فخسر أربعة آلاف، وإذا قلت له: ما علاقة هذا الفيل الأحمر يجلب الحظَّ؟ فيقول: إذا ما استفدنا ما خسرنا، أنا عندي ملايين، إذا ذهبَت أربعة آلاف فهذا في عرضه على القواعد الشَّرعية أنَّه حرامٌ، ولا يجوز إهدار المال لأنَّه سفهٌ، حتى لو قيمة علبة دُخَّان، فماذا يعني عنده ملايين؟ يعني: إذا صرف على علبة دُخَّان عشرة عشرين ريالاً فهذا ضارٌّ، حتى لو عندك قدرة أن تنفق؛ لأنَّ هذا ضارٌّ، فإذا كان هذا ضارٌّ ضررًا على البدن، فأشياء لها ضررٌ على العقيدة، وأشياء لها ضررٌ على القلب، بعض النَّاس يظنُّ أنَّ الشَّرك: مجرد السُّجود للأصنام، والعكوف على القبور والطَّواف بها، والاستغاثة بالأموات، وهذا طبعًا خطأ؛ فالشَّرك له مظاهرٌ كثيرةٌ جداً، ليس فقط السُّجود للأصنام، والاستغاثة بالموتى، وقد يقع الإنسان في أشياء وهو لا يدري، فالقضيةُ خطيرةٌ إنَّها قضية الشِّرك: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48].
قال ﷺ: يا أيها النَّاس اتقوا هذا الشرك فإنَّه أخفى من دبيب النمل [رواه أحمد: 19622، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 36]. رواه أحمد وهو حديث حسن.
فإذاً حذَّر النَّبي ﷺ من كُلِّ أنواع الشِّرك، الأكبر والأصغر الخفي، وأخبر أنَّ بعض أنواع الشِّرك أخفى من دبيب النَّمل، إذًا فهناك شركٌ أخفى من دبيب النَّمل، فأين سيكون؟ ابحث عنه في الواقع، الشِّرك الذي هو أخفى من دبيب النَّمل قد تجده مختبئًا تحت حجر من أحجار هذه الدَّورات، وقد قال النَّبي ﷺ عن ربِّه في الحديث القدسي: إني خلقت عبادي حنفاءَ كلَّهم، وإنَّهم أتتهم الشَّياطين فاجتالَتْهم عن دينهم وحرَّمتْ عليهم ما أحللت لهم، وأمرَتهم أن يشركوا بي ما لم أُنزِّل به سلطانًا [رواه مسلم: 7386]. رواه مسلم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فحيث قَوِيَ الإيمانُ والتَّوحيد ونورُ الفرقان والإيمان، وظهرت آثار النُّبوَّة والرِّسالة، ضعفت هذه الأحوال الشَّيطانيَّة، وحيث ظهر الكفر والفسوق والعصيان قويت هذه الأحوال الشَّيطانية". [مجموع الفتاوى: 1/363]. انتهى.
استهداف عقيدة المسلمين من خلال هذه الدَّورات
ونشأت حركاتٌ ومذاهبٌ ووثنياتٌ وأمور متعلِّقة بمذهب الباطنية أيضاً تطوَّر وأخذ أشكالاً خصوصًا في عالم التَّقنية والإدارة، ستجده الآن موجودًا في بعض المنتجات الحاسوبية، ممكن تجده في تطبيقات الجوال، وفي بعض الألعاب الإلكترونية، وفي بعض الكتب الرَّقمية، ويمكن أن تجده في بعض الدَّورات أيضاً، وإذا عرفنا بأنَّ المسلمين مستهدفون في عقيدتهم وإيمانهم ودينهم، وأنَّ هناك جهود مكثفة جداً تُبذَل من أعداء الإسلام لحرفهم عن عقيدتهم؛ فإنَّنا لا بُدَّ أن نُدقِّقُ بهذه الواردات والوافدات، ونعرضها على الشَّرع، ونعرف من خلال ميزان الشَّريعة وعلى ضوء الشَّريعة، ما هو الحقُّ وما هو الباطل؟ أليس قد علَّمَنا ديننا هذا؟ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ[الأحقاف: 4]. قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 111]. الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ [يونس: 35].اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 6-7]. وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام: 55].
ما هي سبيل المجرمين؟ وما هي طريق المغضوب عليهم وصراط الضَّالين؟ كُلُّ ذلك ينبغي التَّعرف عليه، ولا يصحُّ أن يُترَك المسلمون نهبًا لأنواع الشَّعوذة والدَّجل، وما هي وظيفة العلماء وطلبة العلم والدُّعاة إلى الله؟
إذًا أليس من صميم وظيفتهم ومهماتهم تنبيه عباد الله؟ أليس الدِّين النَّصيحة؟ أليس من وظيفتنا المحافظة على المحجَّة البيضاء ليلها ونهارها سواء؟ كما تركها النَّبي ﷺ: تركتكم على البيضاء ليلها ونهارها سواء [رواه ابن ماجه: 43، وأحمد: 17182، والحاكم: 331، والطبراني: 15023، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 937].
هذه من الأمانة أن نحافظ على ديننا وعقيدتنا، لا بُدَّ أن يكون للمسلم غَيرةٌ على دينه، وفي ظلِّ التَّقدم التَّقني المتسارع، فإنَّه لا بُدَّ كذلك من إيجاد تنقية وإيجاد حواجز حتى نُنقِّي ما يأتينا، وبعض أنواع الباطل عليه مسحةٌ من حقٍّ أعلاه حتى يروَّج؛ لأنَّ الباطل الصَّرف في الغالب لا يُروَّج على المسلمين، فحتى يروَّج لا بُدَّ من طِلاءٍ خارجي بشيء من الحقِّ يسوِّغ الدَّخول، وترى مثلاً في سوق الدَّورات بعض الباطل الموجود فيها مسوَّقٌ بعبارة: ثبت علميًا، ثبت بالتَّجربة، أثبتت التَّجارب، فإن قلت ما هو المصدر؟
هات مثلاً مجلةَ علم النَّفس الأمريكية؟ هات مصدرًا من منظمة الصِّحة العالمية، ولا شكَّ أنَّ الحرص على ما ينفع كما قلنا هذا من ما يتطَّلَّع إليه المسلم، لكنه يريده غير مصادم لدينه وعقيدته، هو لا يريد أن يخسر دينه وعقيدته من أجل دورات أو تخصُّصات، يريد شيئًا حلالاً مباحًا يستفيد منه ويطوِّر به نفسه، يريد شهادات يستفيد منها وظيفيًا يُحسِّن بها وضعه، يريد أشياء يخوض بها غمار الحياة، فإذا كان هناك علاج لم لا، أليس قد قال ﷺ: تداووا عباد الله فإذا كان يوجد تداوٍ صحيحاً في هذه الأشياء وفي غيرها، لم لا؟ تداووا عباد الله ولكن هناك جزءٌ مهم جداً ولا تداووا بحرام [رواه الطبراني: 20116، وصححه الألباني في الجامع الصغير: 2643].
وموضوع الصِّحة موضوعٌ مهمٌّ، والنَّاس تبحث عن العافية، لكن أيضاً نريد أن يكون هذا شيئًا ممَّا أباحه الله ، وأن تكون الأشياء التي تؤخذ بالضَّوابط الشَّرعية وموافقة للشَّريعة، وهنا ينبغي التَّنبيه على أنَّ العلم الشَّرعي ضابطٌ مهمٌّ وحارس للغاية، وعلى قدر ما يكون علمك الشَّرعي يكون تنبُّهك بما تنطوي عليه هذه الأشياء من الأباطيل، ويكون كذلك إقرارك لما فيها من الحقيقة أو الصحة.
سنتحدث بمشيئة الله تعالى في هذه المجموعة من دروس حماية منهج السَّلف عن الموضوعات المتعلِّقة بالعلاج والاستشفاء بالطَّاقة الحيوية وتطبيقاتها، واليوجا والجرافولجي، وتحليل الشَّخصية والعلاج بالأحجار التي يقولون كريمة، والعلاج بالألوان، وسنتحدث إن شاء الله عن قانون الجذب والسِّر وحقيقته، وسنتحدث عن التَّأصيل في موضوع الأسباب الشَّرعية والكونية وما يتعلَّق بها، وما الذي يعتبر من الشِّرك الأكبر أو من الشِّرك الأصغر؟ وما هي الضَّوابط في ذلك؟ وما هي المحرَّمات في هذا الباب؟ وما هي الأسباب المباحة التي تُؤخذ بطريق التَّجارب والخبرات؟ وما هو الموقف من الكُتُب الفلسفية المترجمة؟ وماذا أثَّرت؟ وما هي العلاقة بين الكُتُب الفلسفية وهذه الدَّورات؟ وماذا يشتمل عليه عالم التَّنمية البشرية؟ فَسُوق الدَّورات متعلقٌ بما يُسمُّونه التَّنمية البشرية، ما هي الحقيقة أو الأمور الصَّحيحة فيها؟
مثلاً: من الأمور التي تلتبس باسم التَّنمية البشرية، لكن رُبَّما تكون تخريب للبشرية، وبعض الشُّبهات التي تثار والرُّدود عليها، والبدائل الشَّرعية لبعض الانحرافات، إلى غير ذلك من الموضوعات والمسائل المهمَّة التي سنعرض لها من خلال هذه الدُّروس بمشيئة الله تعالى.
منهج السَّلف مرتبط بالتَّوحيد
ونعود إلى موضوع حماية منهج السَّلف كمُنطلقٍ مهمٍّ في كلامنا في هذه الأشياء، لماذا نحرص على منهج السَّلف وعلى نقائه؟ لأنَّه يتعلَّق بالتَّوحيد، فأغلى شيءٍ لدينا: توحيد الله تعالى، التوحيد الذي تنجو به، مَن حققَّ التَّوحيد دخل الجنَّة بغير حساب ولا عذاب، التَّوحيد الذي من ملك أصله على الأقلِّ ينجو من الخلود في النَّار ويدخل الجنَّة في يومٍ من الأيام، التَّوحيد هو أصل الدِّين الذي لا يقبل الله غيره من الأولين والآخرين، به أرسل الله الرُّسل وأنزل الكتب، وهو سرُّ القرآن ولبُّ الإيمان، وسرُّ الخلق والأمر، فما وُجد خلقٌ ولا أمرٌ ولا ثوابٌ ولا عقابٌ إلَّا لأجل التَّوحيد، فهو الغاية التي من أحلها خلق الله الخلق: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات: 56].
وهو الهدف الذي أرسل الله الرُّسل لتحقيقه: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36].
هو الحقُّ الذي أوجبه الله على جميع العبيد، أن يأتوا به خالصًا: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الزمر: 65].
هذا التَّوحيد الذي يثمر الأمن التَّام في الدُّنيا والآخرة، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ[الأنعام: 82].
وهذا سبب دخول الجنَّة إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة: 72]. هذا التَّوحيد الذي يمنع من الخلود في النَّار، كما قال النَّبي ﷺ الموحى إليه من الله : فإنَّ الله قد حرَّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله [رواه البخاري: 415، ومسلم: 33]. رواه البخاري.
وهو شرط قبول العمل: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[الكهف:110]. كُلُّ عملٍ لا يرتبط بالتَّوحيد، ولا يقوم عليه فلا وزن عليه، حتى الأعمال الخيرية للكُفَّار إذا ماتوا قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا[الفرقان: 23].
وقال سبحانه: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ[إبراهيم:18].
هذا التَّوحيد الذي يُكفِّر اللهُ به الخطايا، كما قال في الحديث القدسي: يا ابن آدم ثم قال: من ليقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئًا لقيته بمثلها مغفرة [رواه مسلم: 2687]. رواه مسلم.
هذا التَّوحيد الذي تُنال به شفاعةَ الرَّسول ﷺ الذي قال لنا: أسعد النَّاس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه أو نفسه[رواه البخاري 99]. رواه البخاري.
هذا التَّوحيد الذي دعا الخليل إبراهيم قومَه إليه، وهذا الذي دعا ربَّه أن يجنبه ضدَّه وهو الشِّرك هو وذريته، فقال: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ[إبراهيم: 35].
هذا التَّوحيد منهجُ حياةٍ شامل، استسلامٌ مطلقٌ، وعبوديةٌ كاملةٌ لله : صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ[البقرة: 138].
يقول ابن القيم رحمه الله: "صبغة الله: هي الحنيفيَّة التي صبغت القلوب بمعرفته، ومحبته، والإخلاص له، وعبادته وحده لا شريك له". [تحفة المولود: 187].
من خلال التَّوحيد يَبصر المسلم طريقَه، ويتعرَّف على الأشياء من حوله في الحياة من جهة الصِّحة ومن جهة البطلان، ويزن الأقوال والأفعال بناءً على التَّوحيد، ومِنظارُ التَّوحيد أهمُّ مِنظارٍ في حياتك يا عبد الله.
من خلال التَّوحيد تعرف التُّوجَّهات وصحة النَّظريات في أحكام مثل هذه الدَّورات، وقد قال ﷺ: من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان [رواه أبو داود: 4683، والطبراني: 9083، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود: 4681]. رواه أبو داود وهو حديث صحيح.
وأمَّا الكُفَّار والمشركون فهم في ضلالهم يعمهون، وهؤلاء المنافقون ينادون بفصل التَّوحيد والدِّين والعقيدة عن الحياة، وبعضهم ملاحدةٌ زنادقةٌ، وبعضهم يقولون: الله خَلَقَ الخلقَ وتركهم، ولم ينزِّل شرعًا يجب اتباعه، فكُلُّ النَّاس يعملون ما يشاءون فالله خلقهم وتركهم، والعياذ بالله مع أنَّ الله له الأمر، وله الشَّرع له الحكم وإليه ترجعون، لو أنَّ الله ما أنزل أحكام في المواريث وأوكل ذلك للبشرية أن يُقسمُّوها، فماذا سيعطون الأب والابن والبنت الأم؟ وماذا يعطون الأخ الأخت والأخ لأم؟ تتخيل أن يصلوا في النَّهاية بعد الاقتتالات الطَّويلة جداً، وإراقة الدِّماء إلى برلمان تشريعي يتَّفق أغلبيتهم فيه على شيءٍ يصدر به قانوناً يحميه الشُّرطة ليُطبَّق بالقُّوة، سواءً كان حقًا أو باطلاً: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ[المائدة: 50].
والذين يقولون ما للدِّين والاقتصاد؟ ما للدِّين والاجتماع؟ ما للدِّين وعلم النَّفس؟ ما للدِّين وهذه الدورات؟ ما للدِّين وطرق الاستشفاء؟ معروفٌ هذا التَّوجُّه الآن في الواقع، حيث يريدون حصر الدِّين في المنبر وفي شهر رمضان وموسم الحج وأوقات الصَّلاة فقط، وقد قال الله: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 162].
انظر ما للشَّرع في أحكام الموت؟ وليس فقط في أحكام الحياة في التَّغسيل والتَّكفين وصلاة الجنازة، وأحكام الدَّفن وأحكام المواريث، وما يصل للإنسان بعد موته، وأحكام الوصايا لله، أحكام في الموت وليس فقط في الحياة، وهؤلاء يريدون أن يعزلوا الدِّين عن نواحي كثيرة من الحياة، يتبعون أهواءهم ولا يريدون شرعًا مُنزَّلاً يحكمهم، لا يريدون دينًا قويمًا فيه أمرٌ ونهيٌ، يريدون اتِّباع الأهواء: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص: 50].
بذلُ الجهد في حماية التَّوحيد
من الواجبات التي يجب أن نلقى الله بها: بذلُ الجهد في حماية التَّوحيد، وسدُّ كُلِّ الطُّرق المؤدية إلى الشِّرك؛ لأنَّ التَّوحيد لما كان منهج حياة للمسلم: كان واجبًا عليه أن يعتقده، وأن يمتثله، وأن يدافع عنه، وأن يمنع كُلَّ طريقٍ يخدشه ويؤدي إلى الإضرار به أو إضعافه أو مصادمته، وقد بيَّن تعالى بطلان كُلَّ سببٍ أو وسيلة يزعم أصحابها أنَّ بها نفعٌ وضرٌ، وقطع كُلَّ الأسباب التي يتعلَّق بها المشركون، فقال : قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ[سبأ:22-23].
لاحظ: نفى الشِّريك ونفى الظَّهير، يعني: المعاون، ونفع الشَّافع عنده بغير إذنه، أخبر أنه ليس شريكٌ في ملكه ولا ظهير ومعاون ولا أحدٌ يتدخَّل في أموره، أم من يجير ولا يجار عليه، فالمشرك يتَّخذ معبوده لينفعه أو يدفع عنه الضُّرَّ، والنَّفع لا يكون إلا ممن فيه خصلةٌ من هذه الخصال الأربع: إمَّا مالكٌ أو شريكٌ أو معينٌ أو شفيعٌ، فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيًا مرتبًا منتقلاً من أعلى إلى ما دونه، فنفى الملك والشَّراكة والمظاهرة والشَّفاعة التي يظنُّها المشركون، وأثبت شفاعةً لا نَصيبَ فيها لمشركٍ ولا تتمُّ إلا بإذنه، فكفى بهذه الآيات نورًا وبرهانًا ونجاةً وتجريدًا للتَّوحيد، وعمر الله ما يأتي من الباطل ممن نشأ فيه أو تأثَّر به شيء كثير هائل، ولكن لا يروج على من كان عنده علم وإيمان وتوحيد وبرهان من الرَّحيم الرَّحمن، ونحن لما ننكر الشَّعوذات والخرافات والموروثات الوثنية، إنَّما نريد أن نُدافع عن توحيدنا، ونريد النَّصيحة لإخواننا، ونريد استجلاء الأحكام في واقعنا، وأمَّا السُّكوت عن الباطل فحرامٌ، وقد قال أبو إسماعيل الهروي رحمه الله: "عرضت على السَّيف لا يقال لي ارجع عن مذهبك، لكن يقال اسكت عمن خالفك". [سير أعلام النبلاء: 18/509]. نريدك أن تسكت، اعتقد ما تشاء واسكت لا تُنكِر، فأقول: لا أسكت، سير أعلام النبلاء.
أسباب رواج الباطل
ما هي أسباب رواج الباطل؟ يعني: لما نقول هناك أباطيل في الموضوع لماذا تُروَّج؟ ما هو أسباب انتشارها؟ من الأسباب مثلاً: عدم معرفة التَّوحيد معرفةً صحيحةً، والجهل بالشِّرك وهو ضدُّ التَّوحيد، أو معرفة بعض أنواع الشِّرك وخفاء أنواع أخرى، كما قال عمر بن الخطاب : "إنما تُنقض عرى الإسلام عروةً عروةً" متى يكون هذا النَّقض؟ قال: "إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية". [مجموع الفتاوى: 10/301].
من لا يعرف الباطل يروج عليه وينخدع به وينساق وراءه، ولذلك لا يكفي أن تعرف الحقَّ، لازم تعرف أيضاً الباطل، وبدون هذا يعود المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، والسُّنَّة بدعةً والبدعة سُنَّةً، ويحصل الإنكار على الحقِّ والرِّضا بالباطل، ولما كانت أمة الإسلام أمةً نقيةً، الله يريدها على التَّوحيد كان لا بُدّ أن تكون محصَّنة ضدَّ الخرافات والأباطيل والشِّركيات والبدع، لا يجوز أن نبقى على أي نوع من أنواع الجهل أو الضَّلال، ولا يصحُّ أن تغيب عنَّا الأصول العقدية الشَّرعية، والجهل أساس كُلِّ بليَّة، وخفاء الصِّراط المستقيم مصيبة؛ لأنَّه يسلك بالعبد في أنواع أخرى من السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والجهل والظُّلم هما أصلُّ كُلِّ شرٍّ" كما قال سبحانه: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا[ الأحزاب: 72]. [اقتضاء الصراط المستقيم: 1/148].
وقال تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ[يونس: 39]، فالذي حمل المشركين على التَّكذيب بالقرآن المشتمل على الحقَّ، أنَّهم لم يحيطوا به علمًا لم يعرفوا معانيه، ولو أحاطوا به علمًا وفهموا مراميه لأذعنوا له، فالجهل بالحقِّ من أعظم أسباب الوقوع في الباطل، ومن أعظم أسباب رفض الحقِّ، ومن جهل شيئًا عاداه وعادى أهله، فالجهل بأصول الإيمان وأمور التَّوحيد من أكثر ما يوقع في الشِّرك، والمخالفات والتَّكذيب بالحقِّ والاعتقادات الباطلة، وإذا غابت أصول العقيدة عن الإنسان كالإيمان بالله والقضاء والقدر ونحو ذلك، تجده لا يميِّز الخير من الشَّرِّ، والوقوع في الشَّرِّ ظنًا أنَّه الخير والعكس، وقد أخبر النَّبي ﷺ: من أشراط السَّاعة أن يقل العلم ويظهر الجهل[رواه البخاري: 81، ومسلم: 2671 ]. رواه الشيخان.
فظهور الجهل سببٌ للوقوع في الفتن والضَّلالات والانصراف عن الحقِّ ومنهج السَّلف الصَّالح، قال شيخ الإسلام رحمه الله: إذا انقطع عن النَّاس نور النُّبُوَّة وقعوا في ظلمة الفتن، وحدثت البدع والفجور، ووقع الشَّرُّ منهم"[مجموع الفتاوى17/ 310]. انتهى.
أمور الغيب من اختصاص الله وحده
وقد غاب عن عقول كثيرٍ من المسلمين أنَّه لا يعلم الغيب إلَّا الله، مع أنَّ هذا أصلٌ من أصول الإيمان، قال تعالى: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: 65].
وقال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59]. وقال: فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ [يونس: 20].
وقال النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام: مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلَّا الله: لا يعلم ما في غدٍ إلَّا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلَّا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحدٌ إلَّا الله، ولا تدري نفسٌ بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم السَّاعة إلَّا الله [رواه البخاري: 4420]. رواه البخاري.
يعلم ما في الأرحام: ليس فقط هل هو ذكر أو أنثى؟ يعلم شقيٌ أو سعيدٌ، وما رزقه؟ وما عمله؟ كم أجله؟ هل سينزل تامًا أو خديجًا أو ميتًا أو حيتًا؟ يُقدِّرون أحيانًا ساعة ولادة ثم يفاجأون بأمر آخر، إذا علموا شيئًا ممَّا في الرَّحم بواسطة الموجات فوق الصَّوتية يعلمون شيئًا هو موجود، يعني: ليس عندهم قدرة على الغيب أبدًا، هم إذا علموا سيعلمون شيئًا موجودًا لا قبل خلقه ولا في المستقبل، كذلك الأرصاد الجوية توقعات لكن كم قطرةٍ ستنزل بالضَّبط من السماء؟ وما الذي ينفع الله منها؟ وكيف سيكون الحال؟وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ [الحجر: 22].
فهذا أنزله من السَّماء موزوناً، كُلُّ قطرةٍ بميزان وبمقدار عند الله، فالله يخزنه في باطن الأرض: وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ من الذي يخزنه؟ أصبح مع الأسف من السَّهل على كثيرٍ من المسلمين التَّصديق بكلام السَّحرة والعرَّافين والمنجمين، ويأخذون كلامهم أحيانًا بالطُّرق القديمة: الخطُّ بالرَّمل، الضَّرب بالودع، قراءة الكفِّ أو طرق كرة الكريستال، التَّنجيم الإلكتروني: من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ [رواه أحمد: 9532، والبيهقي: 16939، وصححه الألباني في الجامع الصغير: 10883].
فالآن بعض الدَّورات هذه فيها ادِّعاء علم الغيب، يوجد كثيرٌ من تطبيقات الفلسفات الشَّرقية تقوم على التَّنجيم والكهانة، كما هو واقع في بعض تطبيقات الريكي كما ذكرت، مها نمور في كتاب طاقة الكون بين يديك، وكما ذكر عبد التَّواب حسين في مبادئ العلاج بالطَّاقة الحيوية ليوروفيدا في العلاج الكريمة والبلورات، كما ذكر زكريا هميمي في علاج الأمراض بالأحجار الكريمة، وكما ذكر حسَّان جعفر في العلاج والشِّفاء بالأحجار الكريمة، الكهانة جزءٌ ما يتجزأ من الجي جنج أو التغيير، وهو من أقدم كتاب التغيير ومن أقدم الكتب الكلاسيكية، وهو أساس الفلسفة الصِّينية والمنبع الأول للبرجماتية الطَّاوية لي طاو طي جينج وهو أهم كتب الطَّاوية، ومنهم تستمدُّ مبادئها الفلسفية والدِّينية، ومن المراجع المهمة جداً في هذا التَّطبيقات المعاصرة لفلسفة الاستشفاء الشَّرقية للدُّكتورة هيفاء رشيد، كثير من المعالجين يدعون إمكانية التَّنبُّؤ بالمرض قبل وجوده وقبل وجود أي شيء من أعراضه، وهذا الكلام قد نقبل به أحيانًا من نتيجة مثلاً الاختبارات أو الفحوصات، قد يقول مثلاً: هذه جيِّنات وراثية حاملة لمرض كذا، أو يقولون مثلاً: هذا يحمل الجيِّن هو غير مريض، لكن يحمل الجيِّن فممكن أولاده سيعانون من ذلك، فهذا شيءٌ قائمٌ على أبحاث الجيِّنات، وهذه مسائلٌ واحتمالاتٌ، لكن أن يقول من خلال فتح هالاتك الأثيرية، وكُلُّ واحدٍ عنده هالة أثيرية ومن خلالها يعرف أنَّه سيصيبك المرض قبل أن يأتيك، ولو أنَّه ليس عندك عرَضٌ من أعراضه، في أيِّ مختبر موجود هذا، وأن وقع هذا الفحص؟ أعطونا هيئةً عالميةً معتمدةً، أو أبحاثاً عالمية صحيحة من جامعات محترمة في الطب، وهل قالت هذا كلياتُ طبٍّ عالمية؟ وما هي هالاتك الأثيرية؟
وهل هو الجهاز الذي يفحص هالاتك الأثيرية أو من خلال الاستعانة بوسطاء يزعمون أنَّهم يخبرونهم بحقيقة الأمراض والأمور المغيبة؟ ومن هم الوسطاء الذين يقولون: أن أراوح الأموات تعيينا في معرفة واكتشاف هذا المرض؟ إذًا بعض الدَّورات فيها قضية اتصال بأرواح أموات تخبر ماذا عندك، وما الذي تُصاب به مستقبلاً، وتعطي أشياء وقائية، وهناك أناس مستعدةٌ لتُصدِّق هذه الهلوسات والدَّجل، وبعضهم يُصرِّح ويقول: نستعين بأرواح ممكن من الجنِّ والشَّياطين، وقد يكون كذب، يعني: قد يكونون يستعينون فعلاً بالشَّياطين، وقد لا يستعينون، فلا يُصدِّق ولا يلجأ في الحقيقة إلى هذه الأمور إلَّا من انقطع عن نور الوحي، قال الإمام الخطابي رحمه الله: "كانت الكهانة في الجاهلية فاشية خصوصًا في العرب لانقطاع النُّبُوَّة فيهم". [فتح الباري: 10/217].
يعني: بعد إسماعيل فشت فيهم الكهانة، وغياب العقيدة يجعل كثيرًا من النَّاس لا يتبيَّن أنَّ الكثير من هذه التَّطبيقات والبرامج التَّدريبية وأصولها هي امتداد لفلسفاتٍ وثنيةٍ، ومذاهبٍ عقديةٍ قديمةٍ منحرفةٍ كالباطنية والهندوسية، والفلسفة الشَّرقية تعتمد على مصادرها الخاصَّة في الإخبار عن الحوادث والأمور الغيبية من كتبهم المقدسة، هندوسية طاوية بوذية، مثل: الفيدات، والسوترات، والطاو طي جنج فلسفة الاستشفاء الشَّرقية، ليست مجرَّد تجارب أو طِبّ شعبي، لا بل جزء من منظومة فلسفية متكاملة، يُفسَّر من خلالها الكون والوجود مصادرهم استمداد الغيبيات والتَّنبُّؤ من هذا، فأين هذا من منهج السَّلف الصَّالح؟ ما هو موقف القرآن والسُّنَّة من هذا الطَّرح الموجود في بعض الدَّورات؟
سنتعرف بمشيئة الله تعالى على المزيد من هذا في الدُّروس القادمة، وغدًا بمشيئة الله بعد صلاة المغرب درسنا في هذه السِّلسلة لنعود يوم الأحد بعده بمشيئة الله إلى الدَّرس الثَّالث. وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد.