السبت 9 ربيع الآخر 1446 هـ :: 12 أكتوبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

قواعد علاقة الداعية بالمدعو


عناصر المادة
مكانة الدعوة
وجوب الدعوة على الجميع
الدعوة إلى الله  فن وذوق وأخلاق
أبرز نقاط المحاضرة
إخلاص الداعية في دعوته
شفقة الداعية على المدعو وحب الخير له
حرص الداعية على هداية المدعو وتعليمه
تحبيب الخير للمدعو وتبغيض الشر له
تواضع الداعية للمدعو وعدم تكبره أو قسوته عليه
مراعاة الداعية للأولويات عند دعوته للمدعو
رفق الداعية بالمدعو
تدرج الداعية في دعوته للمدعو
حكمة الداعية في دعوته للمدعو
مراعاة الداعية لأحوال المدعو وظروفه
مراعاة الداعية للمصالح والمفاسد في دعوته للمدعو
الاحترام المتبادل بين الداعية والمدعو
مراعاة الداعية للجدية والوقار في دعوته للمدعو
دعوة الداعية لأقارب وأصدقاء المدعو ونفعه لهم
نفع الداعية للمدعو وخدمته له
بُعد الداعية عن العواطف الهوجاء مع المدعو

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن محاضرتنا ستكون في موضوع: الدعوة إلى الله .

مكانة الدعوة

00:00:42

أيها الإخوة: الدعوة إلى الله وظيفة الأنبياء والمرسلين.
الدعوة إلى الله هي أشرف وظيفة: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة يوسف:108].
ويدلك على حسن هذه الوظيفة قول الله : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [سورة فصلت:33].
أمر الله عباده بالدعوة، وأمر رسوله ﷺ بذلك، والأمر للرسول أمر للأمة، فقال : ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة النحل:125].
هذه الوظيفة التي لا خيار لنا فيها ولا بد من القيام بها، إذ القيام بها واجب تكليفي، ولذلك فإن الله أخبر عن وظيفة المؤمنين بقوله: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا [سورة الأحزاب:39].
وقد أخذ الله العهد على الأمم من قبلنا أن يبلغوا وأن يدعوا إلى الله، فقال : وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ [سورة آل عمران:187].
وأمرنا ﷺ بالتبليغ: بلغوا عني ولو آية[1]، وقال: نضر الله امرأ سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه[2].

وعدم القيام بواجب الدعوة يعني السكوت عن نشر العلم وتبليغه للناس، وهذا التفريط يوقعنا في محظور عظيم، يقول ﷺ: من تعلم علماً فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار.
والداعية إلى الله ينطلق من سمو الهدف، وينطلق من عظم الأجر الوارد في حديثه ﷺ: لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم[3] خير لك من الدنيا وما فيها.

أيها الإخوة: إن موضوع الدعوة إلى الله موضوع طويل ومتشعب، فمما ينبغي طرقه: بيان وجوب الدعوة إلى الله، وأجر الدعوة إلى الله، وأهمية الدعوة إلى الله، وثقافة الداعية وعلمه، وأساليب الدعوة، ونحو ذلك، ولكننا سنتكلم هذه الليلة في زاوية معينة من هذا الموضوع الواسع، وهي: قواعد في علاقة الداعية بالمدعو، هذه العلاقة الحساسة التي ينبني عليها نقل الدعوة، نقل المعلومات، نقل الدين، نقل الشريعة، ونقل أوامر الله ونواهيه من الداعية إلى المدعو.

وجوب الدعوة على الجميع

00:04:31

وينبغي أن نكون -أيها الإخوة- جميعاً دعاة إلى الله، الدعوة إلى الله ليست وظيفة أشخاص معينين، إنما هي وظيفتنا كلنا، كلنا ينبغي أن نكون دعاة، كلنا ينبغي أن نبلغ، كلنا ينبغي أن نستشعر المسؤولية، كلنا ينبغي أن نقوم بالواجب، كلنا يبلغ ما يستطيع أن يبلغه من هذا الدين، كلنا دعاة ينبغي أن نكون هكذا، ولكن الناس في غفلة، والناس كثير منهم يحتاجون إلى دعوة لإيقاظهم، فمن هنا انقسم الناس بين داعية ومدعو، وإلا فالواجب على أفراد الأمة أن يكونوا كلهم دعاة، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يطبقون شرع الله ، ويبلغون الدين للناس كافة.
وهذا الدين مهيمن على سائر الأديان، ويجب على أتباعه ويجب على حملته أن يكونوا دعاة إلى هذا المنهج.
وإن ما تجمع لدى كثير من أهل الإسلام من رصيد علمي وعملي قد بلغ بكل تأكيد عند الكثيرين حد النصاب الذي تجب الزكاة فيه، الزكاة للفقراء في العلم، والمساكين في العمل، الذين تنوعت بهم دروب البدع والمعاصي.
إن أفراد هذا المجتمع يحتاجون من المستحقين للزكاة، فهلا قام دعاة الإسلام بواجبهم وأخرجوا زكاة هذا العلم الذي يحملونه؟

الدعوة إلى الله فن وذوق وأخلاق

00:06:32

وكنت أريد أن أقول كلمة مختصرة تجمل هذا الموضوع: علاقة الداعية بالمدعو، فخطر في بالي عبارة نقرأها أحياناً في الشوارع، في اللافتات تقول: السياقة فن وذوق وأخلاق، فوجدت بعد نوع من التأمل أن استعارتها هنا مناسبة، أن الدعوة إلى الله فن وذوق وأخلاق، وأن سياقة البشر أصعب من سياقة السيارات، وأحوج إلى الفن والذوق والأخلاق من تلك.
الدعوة إلى الله علم وتطبيق لا بد من اقترانهما، تعلم واقتداء وخبرة وممارسة.
ونحن إذ نقدم هنا الجانب النظري لنؤكد على أنه سيبقى كلاماً مطوياً ما لم يتحول إلى واقع، وما لم يتبلور إلى أمور محسوسة ومرئية في هذا الواقع الذي نعيش فيه.

أبرز نقاط المحاضرة

00:07:56

وسوف نتطرق خلال حديثنا عن هذه العلاقة بين الداعية والمدعو إلى الأمور التالية:
علاقة الداعية بالمدعو ينبغي أن تكون خالصة لوجه الله.
وهذه العلاقة ينبغي أن يشعر فيها المدعو أنك حريص عليه يا أيها الداعية تحب له الخير.
وهذه العلاقة لا بد أن تكون علاقة هداية وتعليم.
ولا بد أن تكون قائمة على تحبيب الخير إليه وتبغيض الشر.
ولا بد أن تكون هذه العلاقة قائمة على الإشفاق والرحمة، وليس على التكبر والقسوة والاحتقار.
ولا بد أن تكون هذه العلاقة قائمة على مراعاة الأولويات.
ولا بد أن تكون قائمة على الرفق.
ولا بد أن يكون فيها تدرج.
ولا بد أن تكون قائمة على الحكمة.
وهذه أمور بعضها من بعض، ولكن تفرد للدلالة على أهميتها، فيكون ذكر بعضها قبل بعض من باب ذكر الخاص قبل العام لأهميته، ونحو ذلك.
وينبغي أن تكون هذه العلاقة قائمة على مراعاة الأحوال.
وينبغي أن تكون هذه العلاقة كذلك قائمة على الصبر على هذا المدعو.
وهي قائمة أيضاً على مراعاة المصالح والمفاسد.
وتقوم كذلك على الاحترام المتبادل والمحافظة على المشاعر.
وهي كذلك محتفظة بدرجة من الجدية والوقار.
وهذه العلاقة أيضاً ذات نفع متعد لأقرباء المدعو وأصدقائه.
وينبغي أن تكون كذلك قائمة على نفعه وخدمته، وليس على انتظار النفع منه.
وأن تكون هذه العلاقة بعيدة عن العواطف الهوجاء.
وإليكم الآن تفصيل هذه الأمور، نسأل الله  أن ينفعنا بما نسمع، وأن يجعل فيما نسمع حجة لنا لا حجة علينا، وأن يرزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً إنه سميع قريب.

إخلاص الداعية في دعوته

00:10:27

أولاً: ينبغي أن تكون هذه العلاقة خالصة لوجه الله ، ولذلك جاءت الآيات بتحديد هذا وتوضيحه أيما توضيح، فقال الله على لسان أنبيائه إذ أرسلوا لأقوامهم، كل منهم يقول: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [سورة الشعراء:109].
والنبي ﷺ أمر أن يقول لقومه: مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سورة سبأ:47].
وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ [سورة هود:29].

فإذاً، الدعوة من الداعية للمدعو شيء لوجه الله، لا يراد من ورائه في الدنيا جزاء ولا شكوراً.
وكذلك فإن هذه الدعوة لله خالصة، ليست دعوة لحزب ولا لعصبية ولا لطائفة، وإنما دعوة إلى المنهج، دعوة إلى الدين، دعوة إلى الإسلام، دعوة إلى الحق، ودعوة إلى الشريعة، دعوة لهداية الناس، دعوة للبلاغ، دعوة لإقامة الحجة.

ومن الطبيعي أنك إذا دعوت شخصاً فإنك ستقوم بمهمة تعليمه وتثقيفه وتربيته، فسيكون معك أو مع وسط صالح من إخوانك في الله، ولكن هذا شيء، والتعصب والتحزب شيء آخر، ونسيان أن الدعوة للمنهج وللدين، وليست للشخصيات ولا للطوائف، هذا أمر في غاية الأهمية، وهو الذي يدل على إخلاص الداعية من عدمه، ولذلك فإن الداعية يذكر نفسه دائماً أنه لا يدعو لنفسه، وإنما يدعو لله ، ولسان حاله يقول: لو رأيت داعية غيري يفيد هذا المدعو أكثر مني من دعاة أهل السنة لتركته له، فهي بعيدة عن العصبية والحزبية.
ومن الأمور التي تقدح في الإخلاص: أن يشعر بعض الدعاة أو يُشعرون المدعو بأنهم أصحاب فضل عليه، وأنه لا بد أن يشكرهم على ما أسدوا إليه من هذا المعروف العظيم.
أو يحاول بعض الدعاة أن يستغل مدعوا في أموره الدنيوية، من أمواله أو سيارته، ونحو ذلك، وبالتالي يشعر المدعو أنه محل مطمع، أو مطامع فيهرب.

وإذا كانت الدعوة لله والعلاقة بين الداعية والمدعو مبنية على الإخلاص لله، فإن الداعية يتحرك مع هذا المدعو يبتغي الأجر والثواب من الله، وهو يعلم تماماً أنه لا يصلح له أن يتوقف عن الدعوة، ولا يصلح له أن يدعو ساعة وساعتين أو يوماً ويومين ثم يترك الدعوة، فهي ليست على التفرغ وإنما هي مهمة مستمرة، وإحساسه بهذا الأجر والثواب يدفعه للمواصلة وعدم التوقف، وهو يتذكر حديثه عليه الصلاة والسلام في شأن اليهود الذين عملوا من أول النهار إلى الظهر على أجر معلوم، ثم قالوا لصاحب العمل: لا نريد أن نعمل ولا نريد أجراً، فقام النصارى فعملوا من الظهر إلى العصر ثم قالوا لصاحب العمل: مللنا، لا نريد مالا ولا أجراً ولا نريد العمل، ثم قام المسلمون، فعملوا من العصر إلى آخر النهار إلى موعد استيفاء الأجر؛ لأن الأجر سيحل في آخر النهار، إذ الأجرة على من أكمل العمل إلى آخر اليوم، فعملوا العمل فأخذوا الأجر، أجر الفرقاء جميعاً.

وهذا الشعور بأن المسألة فيها حسنات، ورفع درجات، واقتداء بالأنبياء، وأنك ستحصل على مثل حسنات هذا المدعو لو اهتدى، وأن كل عمل سيقوم به هذا المدعو نتيجة دعوتك، فإن لك من الأجر مثلما يعمل، هذا هو الذي يحركك وهو الذي يدفعك يكون اندفاعاً ذاتياً، ولن تقول: تعبت أو يئست، ولن تترك شخصاً إلا لمصلحة شرعية.

وهذا الشعور هو الذي سيدفع الداعية للصبر على الصدمات والانتكاسات، قد يرجع إليه المدعو بعد إجازة وقد غير شيئاً من السنن التي كان قد تمسك بها، أو ترك واجبات أو وقع في محرمات، فيكون الصدر فسيحاً متسعاً للتلقي وهو يعلم هذا الداعية بأن هذا المدعو لم ينضج بعد: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [سورة الحجرات:14].

شفقة الداعية على المدعو وحب الخير له

00:16:21

ثانياً: ينبغي أن يكون من نتائج هذه العلاقة أن يكون شعور المدعو أنك حريص عليه، تحب الخير له، ولذلك تأمل في سير الدعاة القدماء الأولين الأنبياء والصالحين، هذا نبي يقول لقومه: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [سورة الشعراء:135].
وهذا مؤمن آل فرعون يقول لقومه: يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ [سورة غافر:38] أنا حريص عليكم يا قوم، أنا أريد منفعتكم وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [سورة غافر:41] ثم يقول: فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا [سورة غافر:29].
ثم يقول: يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ [سورة غافر:30].
فإذاً، عندما يحس المدعو أنك تريد الخير له فإن هذا مفتاح من مفاتيح استجابته لك، وتأثره بدعوتك إياه، وإيصال الخير إلى الآخرين يقتضي أن يذهب الداعية إلى المدعوين، لا أن ينتظرهم ليأتوا هم، فإنهم قد لا يأتون على الإطلاق، قد لا يأتون أبداً، ولا يقولنَّ داعية أبداً: ما جاءني أحد يسأل عن هذا الدين، وأنا في انتظار.

نقول: اذهب إليهم في أماكنهم، تغشاهم في أعمالهم، في المساجد، في المحافل، في المساكن، في المصانع، في المزارع، في المدارس، في الجامعات، وهكذا..، وأنت تتذكر حديثه ﷺ في سيرته الذي قال الرواة، وأخبروا بأنه كان يذهب إلى أماكن القبائل في المواسم والحج والأسواق يعرض عليهم الدعوة، ويتنقل كما قال الصحابي يصف يقول: "كنت مع أبي في الموسم فرأيت رسول الله ﷺ يذهب إلى القبائل"، إلى أماكن تجمعاتهم، ويعرض عليهم الدعوة، يمر واحدة واحدة يمر عليهم، ويكلمهم، يدعوهم إلى لا إله إلا الله، يا أيها الناس من يمنعني حتى أبلغ رسالة ربي، ووراءه رجل أحول وضيء يقول لهم بعد ما يشرح يقول: لا تصدقوه إنه كذاب، من هو؟ عمه أبو لهب.
وذهب ﷺ إلى الطائف، فماذا يفعل اليوم بعض المتكاسلين الذين يقولون: نحن ننتظر ونقعد فإذا جاءنا أحد دعوناه، وإذا لم يأت أحد، الحمد لله فنحن في سعة وراحة.

حرص الداعية على هداية المدعو وتعليمه

00:19:33

ثالثاً: ينبغي أن تكون هذه العلاقة: علاقة هداية وتعليم:
إن الداعية الحريص على المدعو يقتدي بحرص رسول اللهﷺ الداعية العظيم الذي يقول الله في شأنه: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم حريص عليكم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [سورة التوبة:128].
وهذا إبراهيم ﷺ لما جاءته البشرى وجاءته الملائكة يبشرونه بإسحاق وهم في طريقهم إلى قوم لوط لإهلاكهم، ما نسي إبراهيم قوم لوط: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ [سورة هود:74] يجادل الملائكة في قوم لوط، لو بقي منهم كذا مسلمين تهلكونهم؟ لو فيهم كذا مسلمين تهلكونهم؟ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ [سورة هود:75].
صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم تسليما كثيراً.
وهذا الحرص يقتضي أن الداعية يحس أنه ينبغي أن يحاول في هذا الرجل أو هذه المرأة إذا كانت امرأة تدعو امرأة أخرى مثلاً أن تهتدي إلى الحق، وأن تبصر الحق مثلما أبصره هو هذا الداعية.
ثم تكون هذه العلاقة فيها تعليم؛ لأن الحرص معناه أنك ينبغي أن تثقفه وتزوده وتبصره وتقدم له المفهومات الإسلامية والتصورات الدينية التي يحتاجها هذا المدعو، ولذلك فإننا نذكر هؤلاء الناس الذين قد يشتغلون بالدعوة، لكن إذا تأملت في علاقتهم بالمدعوين وجدت علاقة استئناس وقصص وسوالف، ويظنون أنهم يقومون بالدعوة، ولو سألت هذا المدعو: ماذا استفدت من هذا الشخص الذي جلس معك؟ لما استطاع أن يأتي إلا بأمور يسيرة جداً لا تكاد تذكر، ذلك أن هذا الداعية يخدع نفسه، فيظن أنه يدعو، والحقيقة أنه يقيم علاقات اجتماعية فقط، يتعرف، يقيم علاقات اجتماعية، ويتداخل مع الناس، لكن في النهاية ماذا استفاد الناس؟ لا شيء، ولأجل ذلك ينبغي أن يعد كل داعية في نفسه قبل أن يذهب إلى المدعو، ماذا يريد أن يقول له؟ ما هو المفهوم الذي سيوضحه؟ وما هو التصور الذي سيقدمه؟ وما هي الأحكام التي سيبينها؟ فإذا رجع من عنده حاسب نفسه، فقال في نفسه: يا ترى ماذا أفدته؟ ماذا قدمت له؟ هل قمت بما كنت أفكر القيام به قبل أن أزوره؟ وهكذا..

ثم على الداعية أن يتأمل ما هي هذه التصورات التي من المهم أن ينقلها لهذا المدعو، مثلاً: لا بد أن يكلمه عن الإيمان وأركانه، وأن يشرح له شيئاً عن الإسلام وأركانه، ومعنى الشهادتين والتوحيد وأنواعه، والمفهوم الواسع للعبادة، واليوم الآخر، وتفصيلات اليوم الآخر، والقيامة وما فيها، وتغيير العادات القبيحة، وكيف يغيرها، والطباع السيئة، واتباع السنة، والتمسك بالسنة، وترك البدع، وترك تقليد الآباء والأجداد على الباطل، يذكره بعظمة الله ومراقبته، يذكره بحاجته إلى الهداية، ثم يبين له مفهوم العمل الصالح، ما هي أركان العمل الصالح، وأهمية التفقه في الدين، ويبين له أشياء عن أعمال القلوب، وصنائع المعروف، وشعب الإيمان، وحب الخير وبغض الشر، والورع وترك الشبهات، ويبين له كيد أعداء الإسلام وسعيهم لهدم هذا الدين، وهذا الضياع والتيه الذي تعيش فيه الأمم اليوم من أصحاب الحضارات الكفرية، وكيف يتخبطون، حتى لا يفتن هذا المدعو بها، ويزول إعجابه بهؤلاء الكفرة أو الفسقة المجرمين المخربين، وهكذا يستمر في التفكير ماذا أقدم؟ ماذا أوضح؟ ما هي التصورات اللازمة أن تعطى لهذا المدعو؟

تحبيب الخير للمدعو وتبغيض الشر له

00:25:03

وكذلك رابعاً: لا بد أن تكون هذه العلاقة قائمة على تحبيب الخير وتبغيض الشر إلى المدعو:
فبعض الناس يتصور أن الدعوة هي عبارة عن إعطاء المدعو كتباً وأشرطة ليستمع إليها ويقرأ في تلك الكتب، وهكذا..، من غير مقدمات في التشويق والتحبيب لهذا العلم وهذا الخير، دون ترغيب أو ترهيب، ترغيب في العلم والحرص عليه، وترهيب من الجهل وعاقبة صاحبه.
وبعض الدعاة أيضاً قد يظن بأن أمر المدعو بالعبادات بالأوامر الرسمية والإلزام يظنه من الدعوة، دون تقديم هذا التحبيب، وتقديم هذا التشويق، وهذا الترغيب والترهيب، وهذا ﷺ يعلمنا فيقول: نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل[4]، فكان هذا مثلاً، لم؟ لكيفية عرض الأمر ودعوة رجل إلى قيام الليل كيف تكون؟ نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل.
فإذاً، لا يصلح هذا الجفاء في العرض، ولا يصلح هذا النمط من الجمود في تقديم الأمور وإلا فمتى يتأثر المدعو إذا كانت الدعوة بهذه الطريقة؟

تواضع الداعية للمدعو وعدم تكبره أو قسوته عليه

00:26:54

خامساً: ينبغي أن تكون العلاقة بين الداعية والمدعو قائمة على الإشفاق والرحمة، وليس على التكبر والقسوة والاحتقار، فإن بعض الدعاة إذا نظر إلى حال المدعو وما هو فيه من المعاصي والآثام، وما هو واقع فيه من محادة الله ، وكم أطاع الشيطان في أموره وأشيائه، فقد يبدأ في معاملته باحتقار وقسوة؛ أنه فاسق، منافق، فاجر، لا يستحق ابتسامة، ولا كلمة طيبة، ولا معاملة حسنة، واقعه سيء، لا بد أن أغلظ عليه، وهكذا..، وينسى أن دعاة الرسول ﷺ ما كانوا هكذا يدعون الناس، هل كان مصعب بن عمير عندما بدأ في دعوة سادات الأوس والخزرج عمل بهذه الطريقة؟

الرسول ﷺ وهو يدعو الكفار كيف كان يدعوهم؟ وهم مشركون نجس: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [سورة التوبة:28] كان يجلس معهم، ويعرض عليهم الأمر، ويقرأ عليهم القرآن، ويقول: يا فلان كم إلهاً تعبد؟ فيقول: كذا في الأرض، ستة في الأرض، وواحد في السماء، فيقول: وأيهم الذي تدخره لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء، فعرض الأمر عليه بهدوء وتؤدة، فكان في ذلك استجابة هذا الرجل وإعلانه بالشهادة ونطقه بها ودخوله في دين الإسلام.

وأما إذا كان الداعية ينظر نظرة احتقار واستعلاء على هذا المدعو، وانعكس هذا على التصرف، فليس إلا البغض والنفور من هذا المدعو، وليتذكر الداعية إذا قام في نفسه شيء من ذلك قول الله : كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ [سورة النساء:94] إذا جاء في نفسك كره، بغض لهذا الشخص، احتقار له: إنه إنسان يتعاطى ويشرب، ويعمل.. ويعمل..، وبدأ الأمر يتحول إلى استعلاء وتكبر عليه، وأنك تنظر نفسك فوق وإلى هذا الآخر تحت في أسفل سافلين، وانعكس ذلك إلى معاملة سيئة، فتذكر قول الله: كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ، كثير من الدعاة ماذا كانوا قبل أن يصبحوا دعاة، قبل أن يلتزموا بهذا الدين؟ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ، كانوا عصاة وفجرة، كانوا بعيدين عن شرع الله، حتى من الله عليهم فهداهم.
فالمنة من الله إذًا فلماذا احتقار الناس؟
فتقديم الدعوة بقالب التواضع، وتقديم الأفكار وتقديم المفاهيم والتصورات بقالب حسن الخلق هو الذي يؤثر فعلاً.
أما أن نقول للناس: أنت يا فاسقاً في سلوكك، ويا مبتدعاً في عملك، ويا كافراً في معتقدك، ونصنف ونسب، ونكيل ألوان وأصناف الألفاظ البذيئة للناس، فإننا لا نساهم بشيء في تقدم مستواهم، ولا في تركهم لشركهم أو بدعتهم أو معصيتهم.

مراعاة الداعية للأولويات عند دعوته للمدعو

00:30:45

سادساً: لا بد أن تكون هذه العلاقة قائمة على مراعاة الأولويات، رسول الله ﷺ عندما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: إنك ستأتي قوماً من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله هذا أول شيء التوحيد، أول ما يعرض على الشخص التوحيد، فإن هم أطاعوا لك بذلك وأقروا وأذعنوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب[5].
فإذاً، الأصول قبل الفروع، المبادئ العامة قبل التفصيلات، وهكذا يكون الأمر، وسيأتي مزيد من ذكر هذه الأشياء حينما نتكلم عن التدرج؛ لأن الأولويات والتدرج والرفق أشياء متداخلة في عالم الدعوة إلى الله.

رفق الداعية بالمدعو

00:32:30

سابعاً: أن تكون العلاقة قائمة على الرفق، ولا أحلى من الرفق وسيلة يركبها الداعية للدخول إلى قلب من يدعوه، وقصصه ﷺ مع الناس في الدعوة لتنبئك عن أمر عجيب من الرفق، في قصة الرجل الذي بال في المسجد[6].
وقصة الرجل الذي تكلم في الصلاة[7].
وقصة الرجل الذي قال له: لا أحسنت ولا أجملت.
والرجل الذي جذبه بحاشية ردائه البرد حتى أثر ذلك في صفحة عنقه ﷺ، ماذا كان موقفه؟
وزيد بن سعنة الذي جاء وقال: إنكم يا بني عبد المطلب قوم مطل ظلمة، أنا أعطيتك وأقرضتك وأنت ما سددت ما وفيت، وأغلظ عليه، فما زادته ﷺ شدة الجهل عليه إلا حلماً، حتى لقد كان ذلك اليهودي يترقب أن يظهر منه ﷺ هذا الأمر فظهر على حقيقته، ونهى عمر عن التغليظ على هذا الرجل، وأمر بوفاء الدين، وأمر بأن يعطى عشرون زيادة على ما اقترضه منه مقابل الترويع.
وهذا الحديث الذي أخرجه أبو الشيخ في أخلاق الرسول ﷺ وغيره، وقد ذكر الحافظ -رحمه الله- في الإصابة أن رجاله ثقات، وفي أحدهم اختلاف بين ابن معين وابن أبي حاتم -رحمهما الله تعالى-، ولكن له شاهد آخر.
والشاهد من الكلام كله: أنه ﷺ في دعوته للناس كان رفيقاً حليماً، وقال ﷺ: إن شر الرعاء الحطمة[8].
والحطمة هو العنيف، الرعاء جمع راعي، الراعي، الرعاة، الرعاء: لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء [سورة القصص:23] الذين يرعون الغنم أو الإبل، إن شر الرعاء الحطمة.
من هو الحطمة الذي هو شر الرعاء؟

قال شراح الحديث: هو العنيف برعاية الإبل في السوق والإيراد والإصدار، إذا أوردها الماء وأصدرها عنه وساقها إلى مكانها أو رعاها، ويلقي بعضها على بعض يعسفها، ويشتد عليها، ويقسو عليها، هذا شر الرعاء، ضربه الرسول ﷺ مثلاً لوالي السوء.
هذا الحديث له قصة: دخل عائذ بن عمرو على عبيد الله بن زياد، فقال كان عبيد الله بن زياد والٍ ظالم شديد على الناس، وعائذ بن عمرو صحابي فقال: يا بني، إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن شر الرعاء الحطمة، فإياك أن تكون منهم، هذا الوالي ظالم قليل أدب، قال له: اجلس إنما أنت من نخالة أصحاب محمد ﷺ، قال: أنت من النخالة، لماذا؟ لأن الصحابي هذا تأخر إسلامه، يعني وكان من المتأخرين قال: أنت ما صاحبت، يعني أنت من النخالة، سوء أدب مع الصحابي، فقال عائذ : "وهل كان لهم نخالة؟ إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم"[9]
فالداعية لا يكون حطمة مع المدعوين، لا يعسفهم، ولا يشتد عليهم، وإنما يكون رفيقاً بهم.
ومن أمور الرفق: الرفق في التعرف على المدعو، فإن بعض الناس قد يدخلون في مدعو دخلة شديدة غير لائقة، تثير الاستغراب والدهشة، وربما أثارت النفرة من هذا المدعو في هذا الرجل الذي جاء يتعرف عليه بهذا الأسلوب المستغرب.
فينبغي أن يكون الإنسان رفيقاً وحليماً، وإذا ما نجح من التعرف على المدعو في المرة الأولى، فليرجئ ذلك إلى المرة الثانية والثالثة، حتى يصادف وضعاً مناسباً، وهكذا..
ومن ضمن الأشياء المنافية للرفق أيضاً: أن يكثر ملازمة المدعو جداً بحيث لا يطيق الجلوس معه، ويريد أن يفارقه، الآن صار مثل هذه اللاصقة التي لا تنفك وهو يريد الفكة لأنه قد طفح به الكيل من كثرة هذه الملازمة وكتم الأنفاس.

وكذلك فإن من الأمور التي تنافي الرفق في علاقة الداعية بالمدعو الاشتداد في الإنكار عليه والإغلاظ له إذا عمل معصية، بحيث ينفر هذا المدعو منه، وهذه قصة لطيفة تبين ذلك، قال حماد بن سلمة: أن صلة بن أشيم -رحمه الله- مر عليه رجل قد أسبل إزاره، وهذا صلة بن أشيم كان له تلاميذ وأصحاب، فهم أصحابه أن يأخذوه بشدة، بهذا الرجل المسبل، فقال: دعوني أنا أكفيكم، فقال أشيم للرجل: يا ابن أخي إن لي إليك حاجة، قال: وما حاجتك، قال: وما حاجتك يا عم؟ انظر إلى الشيخ الكبير يقول للرجل: يا ابن أخي لي إليك حاجة، أنا محتاج إليك، أنا أريد منك حاجة خدمة، قال: وما حاجتك يا عم؟ ولاحظ الأسلوب أثر، لأن الرجل قال: يا عم، قال: أحب أن ترفع إزارك، قال: نعم وكرامة، فرفع إزاره، فقال صلة لأصحابه: لو تركتموه أو قرعتموه لقال: لا ولا كرامة وشتمكم.
فالأسلوب الحسن يأتي بالمردود الحسن.

وهذا مثل آخر: خرج محمد بن عبد الله بن عائشة -رحمه الله- ليلة من المسجد يريد منزله، وإذا في طريقة غلام من قريش سكران قد قبض على امرأة فجذبها فاستغاثت فاجتمع الناس عليه يضربوه وهو سكران لا يحس، فقال للناس: تنحوا عنه، ثم أخذه فقال: امض معي، فمضى معه حتى صار إلى منزله، فأدخله، فقال لبعض غلمانه: بيته عندك، فإذا أفاق من سكره فأعلمه بما كان منه، ما فعل في الشارع أمام الناس ولا تتركه ينصرف حتى تأتيني به، فلما أفاق الرجل من سكره ذكر الغلام له ذلك ما جرى، فاستحى استحياء شديداً وهم بالانصراف، فقال الغلام: قد أمر سيدي أن أدخلك عليه، فقال له ابن عائشة لما دخل عليه: أما استحييت لنفسك، أما استحييت لشرفك، أما استحييت من ولدك، فاتق الله وانزع عما أنت فيه، فبكى الغلام منكساً رأسه، ثم رفع رأسه وقال: عاهدت الله عهداً يسألني عنه يوم القيامة، أني لا أعود إلى الشراب ولا لشيء مما كنت فيه، وأنا تائب، فقال: أحسنت يا بني، فكان الغلام بعد ذلك يلزمه، ويكتب عنه الحديث..

ومن الأمور المنافية للرفق كذلك في الدعوة: أن ينسى بعض الدعاة أنه داعية في بعض المواقف، فيخطئ المدعو ويعنفه، فلنفرض مثلاً أنه ذهب معه في نشاط ترويحي، لنفترض أنه مثلاً في لعب كرة، من باب التداخل والتحبيب والترويح، فنسي الداعية نفسه أثناء اللعب، وكلما أخطأ هذا المدعو في نقل الكرات وفي الأشياء نزل عليه بالتعنيف واللوم الشديد، وتغافل أنه ونسي واجبه الدعوي، وصار همه الآن فقط في الكرات ونقلها والتسديدات والإصابات، ونحو ذلك، فهذا من الأخطاء الشائعة.

وكذلك ما يحدث من بعض الدعاة من جدل عقيم في أمر دنيوي ينزل إلى مستوى المدعو، وقد يتجادل معه أي السيارتين أحسن، وأي السلعتين أجود، وهذه ليست من الدين في شيء، وينسى أنه داعية.
وفي الأمور الدنيوية يتصرف مع المدعو كعامة الناس وربما جهل وسفه، ولا يتذكر أنه داعية إلا إذا طرح موضوعاً شرعياً، وقال الله وقال رسول الله، وفتح الأمور، فهذا من الانفصام النكد بين الحالتين، ولا يصلح ذلك في تصرف داعية مع مدعو.

ومما ينافي الرفق أيضاً أن يطبق الداعية مع المدعو: ما حصل معه هو شخصياً في مبدأ أمره، وقد لا يكون ذلك مناسباً للمدعو أبداً، فلنفرض أن داعية وفق برجل انتشله انتشالاً عميقاً، وأحسن إليه إحساناً عظيماً، ونفعه نفعاً كبيراً، وسهل له الأمور في طلب العلم وفي الدعوة، وهكذا.. وفي التخلص من منكرات كثيرة، ونصحه نصائح، فالآن هذا الداعية الجديد يريد أن هذا المدعو يقفز مثلما قفز هو، وقد لا تلائم الظروف، قد تختلف الشخصيات، ويختلف الأشخاص الذين نقلوا، والذين دعوا في الأصل، والفرق بين الداعية الأول والداعية الثاني قد يكون أكبر مما يفعله هذا الداعية الجديد مع المدعو، فلا بد من مراعاة هذه الأمور، وما كان سهلاً بالنسبة لك قد يكون شاقاً بالنسبة له، فلا تحمله ما لا يطيق.

ومن الرفق كذلك: تشجيعه في العمل وتكليفه بالأمر اليسير حتى إذا نجح فيه شعر بحماس، وشعر بأن هذا فعلاً بقيمة العمل، وأنه أنتج وأثمر فتشجع على مزيد من السؤال.

تدرج الداعية في دعوته للمدعو

00:45:28

وكذلك ثامناً: لا بد أن تكون العلاقة قائمة على التدرج، ولهذا أمور كثيرة فمنها: ألا يطالب الداعية المدعو فوراً بطلب العلم، وبالمنهجية فيه،أو بحفظ النصوص، وهو إلى الآن لم يتعود بعد على مثل هذه الأشياء، أو أن يطالبه بالارتقاء إلى مستويات عالية في الأمور الإيمانية، فيطالبه بقيام الليل وبصيام النافلة، وهكذا، والمدعو بعد لم يتعود على القيام بالفرائض، ولم تستقر نفسه وترسخ قدمه في سبيل الإسلام أو فرائض الإسلام الأساسية، فيكون مطالبته بهذه الأمور من النافلة شاقاً عليه منافياً للتدرج، وقد يفعل ذلك فترة ثم يترك الفرض والنفل.
من الأمور كذلك: عدم تكليف المدعو بأن يشتغل مباشرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو أن يحوله إلى داعية بطريقة قسرية، أو يدفعه دفعاً في قفزة محطمة لمثل هذه الأعمال الكبيرة التي تحتاج إلى تهيئة وتدريب ومراس ومران، وهكذا..
ورسول الله ﷺ يقول: بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا[10]، وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن تبدل أحكام الإسلام لتريح الذي يستمع إليك من المدعوين، لكن أن تعلم أن هذا الدين متين، فتراعي حسن المدخل على المدعو، وأن تختار أيسر الأمرين ما لم يكن إثماً.

ومن التدرج مع المدعو: مخاطبته على قدر عقله، فإن على الداعية أن يخاطب المدعو من حيث انتهى علم هذا المدعو لا من حيث انتهى علم الداعية، من حيث انتهى فهم المدعو لا من حيث انتهى فهم الداعية، فإن بعض الدعاة قد يتخيل أو يتصور أن المدعو الآن لا بد أن يفهم مثلما يفهم هو، ويستوعب مثلما يستوعب هو، وأنه يكون سريعاً في الاستنباط، وسريعاً في الوصول إلى الأمر وفهم القضية مثله، وليس الناس بمستويات متشابهة أو متقاربة، ولذلك يقول الصحابي: "حدثوا الناس بما يعرفون" ودعوا ما ينكرون، "أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟"[11] علي كما روى عنه البخاري في صحيحه، ولذلك لا بد من الفوائد التي يرشد إليها كلام علي أيضاً من باب التدرج: تأليف قلب المدعو بما يعرف من الإسلام أولاً، وعدم مخاطبته بغرائب العلم، والأشياء التي لا يطيق فهمها واستيعابها، أو لا يطيق عقله فهمها، قال ابن مسعود: "ما أنت بمحدث قوما حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة"[12].

وقد ضرب سلفنا -رحمهم الله- مثلاً عظيماً في هذا، قال الشافعي: لو أن محمد بن الحسن كان يكلمنا على قدر عقله، محمد بن الحسن عالم عظيم من العلماء وفقيه، عقله جبار، عقله طاقة هائلة، محمد بن الحسن -رحمه الله- من شيوخ الشافعي، قال الشافعي: لو أن محمد بن الحسن كان يكلمنا على قدر عقله ما فهمنا شيئاً، ولكنه كان يكلمنا على قدر عقولنا فنفهمه.
وهذا التبسيط في الأمور وحسن العرض هذا من الحكمة في الدعوة.

وقال النضر بن شميل: "سئل الخليل عن مسألة" الخليل معروف من كبار علماء اللغة والقرآن والسنة أيضاً، "سئل الخليل عن مسألة فأبطأ بالجواب فيها، فقال: فقلت: ما في هذه المسألة كل هذا النظر"، المسألة يعني ما تستاهل التوقف هذا؟ ما في هذه المسالة كل هذا النظر، قال الخليل -رحمه الله-: "فرغت من المسألة وجوابها"، أنا فرغت ذهنياً، فرغت من المسألة وجوابها، "ولكني أريد أن أجيبك جواباً يكون أسرع إلى فهمك"[13] يعني الآن يقول: أنا الآن ما أفكر في الجواب، الجواب انتهى عندي من زمان، لكني أفكر في الطريقة السهلة الميسورة التي إذا عرضتها عليك فهمت الأمر.

حكمة الداعية في دعوته للمدعو

00:51:00

وتاسعاً: أن تكون هذه العلاقة في الدعوة قائمة على الحكمة، والحكمة والتدرج والرفق كما ذكرت شيء واحد تقريباً، ولكن من الحكمة: اجتناب ما يسرع الناس إلى إنكاره، فإن بعض الأشياء في العلم، أو بعض الأمور إذا عرضتها على الشخص الآن، بعض التصورات الكبيرة إذا عرضتها عليه الآن أنكرها وقال: أنت إنسان لا تفهم في الواقع، أو لا تفهم شيئاً، وأنت إنسان عندك شطحات، ولا يقبل منك أمراً، ولكن من الحكمة أن ترجئ ذلك حتى يستوي نضجه وحتى يكبر فهمه فتعطيه من هذه المسائل، فتألف قلوب الناس بما يعرفون، وعدم إتيانهم بغرائب العلم من الحكمة، والتبسيط وعدم التعقيد كذلك، وتشجيع المدعو على السؤال من الأمور المهمة حتى يكون ذلك طريقاً إلى فهمه، وحرصه على العلم.

ومن هذه الحكمة وداخلة في التدرج أيضاً ما بينته عائشة -رضي الله عنها- فقالت: "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا"[14]، وهكذا..، فلا بد من تغيير النفوس شيئاً فشيئاً، وإعدادها لتقبل الأوضاع الجديدة، وقبول الحق، وفطام الطفل يكون على مراحل، وهكذا يكون وضع هذا المدعو، فلا بد أن تكون الأمور إذًا فيها تدرج، ولا بد أن يكون فيها الأولويات التي أشرنا إليها، وأول ما الإنسان يبدأ مع مدعو إنسان عاصي وفاسق لا يبدأ معه بالحلال والحرام، هذا حلال وهذا حرام، وإنما يبدأ معه بعرض حقائق الإيمان، وطاعة الله، وجوب طاعة الله، الحساب، الجزاء، الجنة، النار، ماذا أعد الله لأوليائه، وماذا أعد لأعدائه، ماذا أعد للطائعين، وماذا أعد للعصاة، وماذا يعوض الله الذين يتركون شيئاً في الدنيا من أجل الله، وهذه الأحاديث الترغيبية الترقيقية التي فيها إيراد للآيات والأحاديث الصحيحة، والكلام الجيد المنتقى من أقوال أهل العلم في المواعظ، هذه أمور يجب أن يبدأ فيها قبل عرض الأحكام وأمر الناس بالحلال والحرام مباشرة.
نعم، نحن نراعي الأحوال والمواقف، قد يكون الشخص أمامك دقائق فقط، وبعد ذلك سيغادرك ويتركك، فعند ذلك تقول: اتق الله ولا تفعل كذا، وتكون العبارة مجملة، فيها تذكير بتقوى الله وتبيين الحكم الشرعي؛ لأنه لا وقت عندك للتدرج، تراعي الحال، ولكن تبدأ بهذا الأمر، اتق الله ولا تفعل كذا، راقب الله وهذا حرام، تذكر ربك وتذكر الآخرة مثلاً، ثم تقول: وهذا الذي تفعله يجب أن تنتهي عنه، وهكذا..

ومن الحكمة: ما عنون عليه البخاري -رحمه الله- في صحيحه في عنوان يدل على فقه عظيم: "جواز النهي عن المستحبات إذا كان ذلك يفضي إلى السآمة والملل".
والحديث المأخوذ منه هذا الاستنباط حديث عظيم جداً، حديث تربوي، ينبغي أن يقبل عليه المشتغلون بالتربية، فيفهموا هذا، قصة سلمان مع أبي الدرداء.
أبو الدرداء كان رجل مقبل على العبادة جداً، حتى إنه ما كان يعطي زوجته حقها، حتى اشتكت، فسلمان أراد أن يقوم بدور تربوي مهم مع أبي الدرداء، فزاره فصنع أبو الدرداء له طعاماً، ولما قدم الطعام، قال له سلمان: كل معي، قال: إني صائم، فقال: لا أذوق طعامك حتى تأكل، فأكل معه، ثم جاء وقت النوم فذهب سلمان لينام ذهب أبو الدرداء ليقوم الليل، فقال سلمان: تعال فنم، فنام أبو الدرداء، ثم ذهب يقوم، فقال سلمان: نم، فنام أبو الدرداء، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا، ثم علمه: "إن لربك عليك حقاً، وإن لجسدك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه"[15].
فهذه المعايشة التربوية هي التي تؤدي إلى تصحيح الأوضاع، وأما الكلام النظري من بعيد فقط فإنه لا يساهم تلك المساهمة الكبيرة، ولذلك لو رأى الداعية المدعو قد نشط في أعمال النوافل جداً وخشي عليه أن يكون هذا الحماس الآن غير متزن، أو أنه سينقطع به الحبل بعد قليل، فعليه أن يذكره بالاقتصاد في النوافل الآن حتى يتعود عليها، وحتى يشتد عوده، حتى لا تكون هذه طفرة، ثم بعد ذلك يقع وينهار، وليفعل مثلما فعل سلمان مع أبي الدرداء -رضي الله عنهما-.

ومن الحكمة كذلك: الحكمة في التعرف على المدعو، وقد ذكر لنا ﷺ أموراً تساعدنا في هذا الأمر، فقال: تبسمك في وجه أخيك لك صدقة[16].
الابتسامة عنوان رسالة مظروف يذهب إلى قلب هذا المدعو فيعطي نوعاً من الألفة وتهيئة الجو بهذا التعارف.
وكذلك يقولﷺ: أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم[17]، فإفشاء السلام أيضاً يهيئ الأمور للتعارف.
وكذلك الدعوة إلى الوليمة والطعام، صنع المعروف يهيئ للتعارف، وهكذا..
وأريد أن أذكر لكم قصة طريفة بهذه المناسبة قصة واقعية: أراد شخص أن ينصح شخصاً، فقبل أن ينصحه قال: لا بد أني أتعرف عليه، كيف أدخل عليه هكذا، وأقول لا تفعل وأنت طيب، لا بد أن أتعرف عليه، كيف أتعرف عليه؟ لو قلت له الآن: ما اسمك؟ مستغربة، ماذا أفعل؟ هل أذهب وأدوس على قدمه وأقول: آسف ثم أتعرف عليه؟ طريقة سخيفة، هل أقول له: الجو اليوم حار؟ سؤال يعني مكشوف، هل ألبس حذائه مدعياً أني لبسته بالخطأ ثم أعتذر؟ وأقول: ما اسمك وأين تسكن وما..؟ فيها حرج شرعي، واحتار هذا الداعية، وفي النهاية قرر أن يسلك سبيل الصراحة فذهب إلى ذلك الرجل وقال له: يا أخ يا أخ شوف أنا أريد أن أنصحك نصيحة وأنا أريد أن أتعرف عليك ولكني فشلت ولم أجد سبيلاً للتعرف عليك، وأنا أريد أن أقول لك شيئاً فهلا عرفتني بنفسك؟ فكانت هذه الطريقة نافعة وليس في جميع الحالات، ولكن الإنسان يقدر الأمور، ولا يأتي بالأشياء التي تنافي الحكمة، ثم سارت الأمور سيراً حسناً.
ومن الحكمة كذلك في علاقة الداعية بالمدعو: أن يقدر الداعية رغبة المدعو في الأشياء التي ينجذب إليها، وينفر منها، فإن بعض الدعاة يريدون تحبيب المدعوين إلى أمور من الشريعة عن طريق أشياء من الترفيه، فقد يعمل برنامجاً مثلاً فيه فقرة ترفيهية وفقرة تعليمية شرعية، فبعض المدعوين في البداية يأتي ويحضر الفقرة الترفيهية وإذا انتهت السلام عليكم، ويمشي، ويترك الفقرة التعليمية، وصاحبنا يقع في حيرة من أمره، ويفكر ويضرب أخماساً بأسداس ماذا يفعل الآن، وفي النهاية قد يبلغ به يعني السيل الزبى، ويمسكه ويقول: تعال يا تجلس، أما إنك تلعب وتمشي، ما يمشي هذا الكلام، تلعب وتجلس تسمع الكلام وإلا لا تجي أصلاً؟ فهذه الطريقة التي فيها شدة منافية للحكمة، لا يصلح أن يفعلها هذا الداعية مع المدعو، يؤخذ الناس بالترفق شيئاً فشيئاً، يألف المنظر في البداية، وقد يعني يرى حلقة العلم وينصرف ثم يتأخر قليلاً في ارتداء ملابسه، ويسمع كلمة أو كلمتين، ثم قد يحب أن يشارك إذا ارتاح إلى الناس وأحبهم، فيريد أن يسمع كلامهم فيجلس شيئاً ربع ساعة ويمشي، وهكذا..

وبعض الدعاة يستعجلون النتيجة، يقول: كيف يجلس عشر دقائق ويمشي لا بد أن يجلس كل الوقت، كيف وهو لا يدرك أو يدرك ولكنه قد يتغافل أو يغفل وينسى بأن هذا إنسان قد صاغته الجاهلية، وأن المجتمع قد ألقى إلينا من خلال الأرحام بنماذج مشوهة مليئة بالتحريف، مليئة بالمعاصي بالشهوات، مليئة بالانحرافات، هذه النماذج التي ألقى إليها بها رحم المجتمع المنحرف عن منهج الله تحتاج إلى طول عناية، وطول دعوة، وطول ترفق، حتى تبدأ في التقبل، هذا شخص قد بقي له سنين في الانحراف تريد أنت الآن أن تسمعه الكلام كله في جلسة أو ساعة أو موعظة، وتريده أن يتأثر وأن يطبق فوراً، إذا كانت الجاهلية قد صاغته سنوات يفعل المعاصي، وغارق في الشهوات إلى أذنيه، وفي الأوحال، والآن أنت تريده بسرعة أن يفعل كل ما تريد منه، إن ذلك الأمر هو مناف للطبيعة البشرية، ومناف للواقع، وأي شيء ينافي الواقع لن يصمد ولن يستمر، وسيكون مشروعاً فاشلاً.
وفي الغالب لو أنك نفرته بهذه الطريقة فقد يتركك ويذهب ليلعب مع أناس آخرين من أهل الشر الذين لا يستفيد منهم على الإطلاق، على الأقل إذا قضى معك وقتاً في الترفيه فإنه لا يكون واقعاً في المعاصي، يفعل مباحات لكن بعيد عن المعاصي، لكن لو راح يرفه عن نفسه مع غيرك، فإنه سيقع في منكرات ومعاصي.

مراعاة الداعية لأحوال المدعو وظروفه

01:02:27

وعاشراً: مراعاة الأحوال:
لا بد أن تكون العلاقة قائمة بين هذا المدعو والداعية على مراعاة الأحوال.
والأحوال هذه تختلف اختلافاً كبيراً، فالأمر يختلف إذا كان هذا الداعية طالب والمدعو طالب، ويختلف إذا كان الداعية مدرس والمدعو طالب، أو العكس، ويختلف إذا كان الداعية موظف والمدعو مدير، والعكس، ويختلف إذا كان الداعية طبيب يعني يعمل في الطب والمدعو مريض، أو العكس، ويختلف إذا كان الداعية مثلاً طيار والمدعو مضيف طائرة، أو العكس، ويختلف إذا كان الداعية مثلاً نقيب في السلك العسكري والمدعو رائد، أو العكس، ويختلف إذا كان الداعية نقيب والمدعو عقيد أو عميد أو لواء، ونحو ذلك من الرتب، وكلما تباعدت الرتب صعب الأمر من الأسفل إلى الأعلى، وسهل من الأعلى إلى الأسفل، يعني لو أخذت مثلاً نقيب يدعو رائداً أسهل من نقيب يدعو مقدماً أو يدعو عقيداً أو يدعو عميداً، وبالعكس إذا كان عميد يدعو نقيباً فهو أسهل من دعوته لشخص قريب من رتبته، وهكذا، وكذلك يختلف الوضع إذا كان الداعية قريباً للمدعو أو الداعية غريباً عن المدعو، الواحد ممكن يدخل مع ناس من أقربائه بشيء يعني من التقدم السريع؛ لأنه ما يحتاج نتعرف عليه لأنه يعرفه منذ سنوات وفيه صلة رحم ووشائج قربى.
وعلى العموم فإن الدعوة تكون أسهل إذا كان الداعية في الرتب الدنيوية أعلى من المدعو، وتكون أصعب إذا كان الداعية في الرتب الدنيوية أنزل من المدعو، وهذه المسألة تحتاج إلى مراعاة أحوال.

وفي بعض المهن أو بعض الوظائف الدعوة فيها صاحبها يكون أسهل في المهمة الدعوية، فالطبيب مثلاً يسهل عليه أن يدعو جميع طبقات المجتمع، لأنه إنسان يحتاج إليه الكل، وإذا مرضوا ما عاد يميز بين رتبة وأخرى، هذا طبيب، عنده الناس يستوون، لذلك المنصرون كانوا يشتغلون في قضية يعتمدون على الأطباء في نشر دعوتهم الكفرية الإلحادية أكثر من غيرهم، ولذلك أنت تسمع الآن عن بعض الجمعيات مثلاً: جمعية أطباء بلا حدود، هذه جمعية عالمية مشهورة جداً فرنسية تبشيرية تبشيرية، لها ميزانية ومعتمدات ومخصصات وتبرعات، وأشياء تأتيها من جميع أنحاء العالم، أطباء بلا حدود تسمع عنهم تقوم فرق تروح وإغاثة وتعبر الحدود بلا حدود، أطباء بلا حدود.

وكذلك رجل الأعمال التاجر مثلاً له مكانة مرموقة في المجتمع، تصور لو أن رجلاً مثل هذا هداه الله ، فيعني يؤثر على غيره تأثيراً كبيراً؛ لأن عنده من الموظفين والمستخدمين والعمال تحته ما يستطيع أن يؤثر على طوائف وأمم من الناس.
وبعض الناس من أصحاب المراكز إذا اهتدوا إلى الله وأصبحوا دعاة سمع لهم الناس أكثر، وهكذا..
فمراعاة الأحوال إذاً بين الداعية والمدعو في الرتب الدنيوية هذا من الأشياء المهمة.

ومن مراعاة الأحوال كذلك: العوامل التي تتحكم في لهجة الخطاب ونوع الكلام، نوع المدعو، في أشياء تتحكم في لهجة الخطاب، وهي أنواع المدعوين، ففي فرق إذا كنت تخاطب ملحداً، تدعو ملحداً، وفي فرق إذا كنت تدعو رجلاً من أهل الكتاب، وفرق إذا كان تدعو رجلاً من ديانات أخرى كالبوذية مثلاً والهندوسية، وفرق أن تدعو رجلاً مرتداً عن الإسلام، وفرق أن تدعو رجلاً منافقاً أو علمانياً، أو أن تدعو رجلاً من عصاة المسلمين، أو تدعو رجلاً من عامة المسلمين.

فإذًا، الناس يتفاوتون، وهذا التفاوت ينبغي أن ينعكس على العلاقة بين الداعية والمدعو؛ لأنه لا يمكن أن نخاطب المرتد مثلما نخاطب رجلاً من عامة المسلمين، ما يمكن نخاطب منافقاً علمانياً مثلما نخاطب رجلاً من عصاة المسلمين، وهكذا...
وهذا الأمر إذًا ينعكس على لهجة الخطاب ونوع الكلام.

ومن مراعاة الأحوال: تقدير المستوى العقلي للمدعو، أو الانشغال العائلي، أو العامل النفسي، فقد يكون هذا المدعو رجلاً يحب العزلة، أو امرأة تحب العزلة، فيريد الداعية أن يضعه في وسط اجتماعي بالقوة، وأن يجعله منفتحاً، وأن يجعله منسجماً مع الوسط، وأن يجعله...، وهذا الإنسان ليس متعوداً على مخالطة هذا العدد الكبير من الناس، وفتحه بالقوة بهذه الطريقة سيسبب مشكلات كثيرة.

وبعض الدعاة قد يتعسف في التداخل والدخول مع المدعو يعني لدرجة تشعر المدعو بالنفور، وفي الصباح يلتقي المدعوون في فصولهم الدراسية وفي الفسحة يتجاذبون أطراف الحديث، ويروي كل منهم معاناته من الداعية الملازم له، فقال أحدهم يوماً: ألا تعلمون ما فعل صاحبي معي في الليلة الماضية؟ ماذا فعل؟ قال: لقد نام عندي، يا للهول نام عندي، جاء ونام عندي، إنسان هذا ما هو متعود أن يطلع قدام الناس بثوب النوم أبداً، لازم يطلع بهذه السكبة الكاملة، فالآن عندما جاء هذا الرجل وجاء زاره وبعدين قال: الوقت تأخر إيش رأيك أنام عندك، وإنسان ما هو متعود أن ينام عند الناس ولا الناس يناموا عنده، وهذا صاحبنا الداعية يريد أن يتداخل بأسرع وقت فيحدث بعد ذلك مثل هذه الأمور المضحكة.
ومن مراعاة الحال في علاقة المدعو بالداعية: أن يراعي الداعية حجم العائلة عند المدعو، ونوع العمل ووقت الدوام، فلا يطلب منه ما يشق عليه ولا يطلب من المدعو الموظف مثلاً دواماً قصيراً مثلما يطلب من الموظف دواماً طويلاً، أو مثل الذي يعمل في نوبات، ونحو ذلك.

أو مراعاة مثلاً صعوبة الدراسة، فإن الطالب مثلاً في دراسة معينة في تخصص معين لا يكون عليه من الصعوبة في الدراسة مثلما عند الآخر.
وكذلك لا بد من مراعاة المستوى الذهني والفروق العقلية، وظروف الشخص، قد يكون عنده اختبارات في المدرسة، أو أعمال وانتدابات وجهد شاق في عمله، فعدم المراعاة تأتي بالنتائج العكسية، حكي أن مدعواً كان يتعامل مع الداعية من نافذة الحجرة، أو من شرفة المنزل، أو من سماعة جرس الباب، والسبب أن الداعية لم يكن يعلم كيف يتعامل مع هذا الشخص وكيف يراعي ظروفه، فلما أثقل عليه شاف الرجل هذا الدراسة ستضيع والمستقبل، قال: بلا دعاة بلا هم، وصار إذا جاءه أحد يصرفه من النافذة أو يكتب له على الباب ممنوع الإزعاج!

ومن الأشياء كذلك: مراعاة الأحوال مراعاة الطبائع والعادات، والأشياء القبلية والفروق في المناطق التي يتجمع منها الأشخاص ويأتون، إذا ما كنت فقيهاً في الأعراف تقع في إشكالات، فمثلاً بعض الناس لو أنك صبيت له باليسار فإنها تعتبر عنده طامة كبرى، أو مثلاً لقيته ظهرك في المجلس، فهذه تعتبر مصيبة عظمى، وكذلك لو تخطيته في الفنجان فأعطيت مثلاً من قبله ومن بعده ولم تعطه لعدها من الأشياء القاصمة الظهر، وحتى المرأة مع زوجها إذا أرادت المرأة أن تدعو زوجها، وما قلنا من الفروق أن تكون الداعية هي الزوجة أو الزوج، لأنه أيضاً هذه تفرق في مسألة الدعوة، بعض الناس يعتقدون أن المرأة إذا تخطت فوق الرجل وهو مستلق معناه انقطع نسله، ولذلك يقوم عليها ويمكن أن يضربها ضرباً مبرحاً، والرسول ﷺ كان يراعي عادات القبائل، وأحياناً تجد لك في بعض النصوص كلاماً من القبائل اليمانية، وكلاماً من قبائل نجد، وكلاماً حبشياً، كلام ، إذاً كان الرسول عليه الصلاة والسلام يراعي ذلك ويراعي عادات القوم.

وطبعاً لا بد للداعية أن يكون على شيء يقبله الناس سواء كان في هندامه ونظافته وطيبه، لا يكون له رائحة كريهة ولا تقعر في الكلام، ولا هندام سيئ وعدم اعتناء بالنظافة، والرسول ﷺقد حبب إليه من دنيانا الطيب.

العاشر: الصبر:
من علاقة الداعية بالمدعو أن يصبر عليه في أشياء كثيرة، يصبر على هذه النفسية المعقدة، ويصبر على هذه الشخصية التي امتلأت شهوات وتمردت على شرع الله، وطال عليها الأمد فقسى القلب، والداعية يريد التغيير، وهو لا يتعامل مع أحجار صلدة ولا ملائكة بررة، فينبغي أن يراعي ذلك، فيصبر على تعليم المدعو، يصبر على أذاه، يصبر على انحرافاته والتوائه، قال الله لرسوله: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ [سورة النحل:127]، وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ [سورة الأنعام:34]، لاحظ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ، وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ [سورة الأنعام:34].

فالداعية قد يواجه من المدعو شروداً، وقد يواجه منه كلاماً مؤذياً وتصرفات سخيفة، فيجب أن يصبر عليها، وأن يحفظ ما يستطيع حفظه من ماء الوجه، واحترام شخصيته، ولا يعني الصبر الرضا بالذل والمهانة أبداً، ولكن فيه شيء من سعة الصدر، وفيه شيء من التقبل، الرسول ﷺ كان يتقبل الأذى صدره رحب لهذا الأذى، المدعو قد يكون عنده أخلاق سيئة، قد يكون إنساناً متعجرفاً متكبراً مغروراً، عنده عجب، فعلى الداعية أن يصبر عليه، وأن يعالج هذه الأخلاق السيئة بالأساليب الحكيمة، فيداري هذا الشخص ويكرمه، والرسول ﷺ قال: ائذنوا له بئس أخو العشيرة، ويوجه التوجيه المتواري بغير الأمر، الشخصيات المتعجرفة المتكبرة المتغطرسة، كيف تدعو شخصاً متكبراً؟ لا بد أن توجه له الأمر هذا ما يصلح مع الشخص قال لك: ماذا أنت حتى تأمرني أصلاً، لكن لو قلت له: لو أنك فعلت كذا، أو أليس من الأحسن أن تفعل، والنصيحة له سراً حتى لا يشعر أنك فضحته في الملأ، ويستعلي عليك، وأن تظهر له أنه ليس المقصود لذاته بالنصح، وأن النصح عام له ولغيره، ورسول الله ﷺ كان يجاهر فيقول: ما بال أقوام، ويعطيه، إعطاء الفرصة لاكتشاف الخطأ بنفسه، لأنك لو أنت أوقفته على خطئه لازداد عتواً وتمرداً وغروراً، بينما لو أعطيته الفرصة ليكتشف خطأه بنفسه لربما تخطيت عقبات من الكبر والغرور، والمناقشة مع غيره أمامه في موضوع يهمه دون الإشارة إليه وهو يسمع، وتعليمه التواضع بالقدوة.
وداعية آخر غيرك يواجهه بدائه لو استدعى الأمر المصارحة ولو كرهه، فتنجو أنت فلا يكره الأول.

وأعداء الإسلام إذا كانوا يعتمدون التوجيه غير المباشر فدعاة الإسلام أولى به وأحرى، وتذكر هذه الجملة: التوجيه غير المباشر.
ومن الصبر: الصبر على صدود هذا المدعو، قد تأتي تمر بإنسان تقول له: نصلي، يقول لك: إن شاء الله، نمشي سوياً، يقول: اسبقني أنت اسبقني إلى المسجد، انتهت الصلاة ورجعت وجدته مكانه، صليت معنا؟ لا صليت أنا في مسجد ينتهي بدري، الحل: اصبر على ما يقولون.
والمدعو قد يظن أن للداعية مطامع دنيوية، فينبغي على الداعية أن يبين له ويقول: ما سألتكم عليه من أجر.
والصبر أيضاً على تغيير واقعه السيئ، والتحمل ما يصدر منه من التصرفات.

مراعاة الداعية للمصالح والمفاسد في دعوته للمدعو

01:16:41

الحادي عشر: أن تكون العلاقة قائمة على مراعاة المصالح والمفاسد، فلو كان الداعية إذا أمره بأمر تأكد نفوره، أو إذا ألزمه بأمر فوق طاقته لو داوم عليه لانقطع، فيكون كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، فإنه يراعي المفاسد التي قد تنشأ عن هذه الأمور، وهذه المسألة قد تدخل في بعض الأشياء التي سبق أن ذكرناها.
وكذلك من مراعاة المفاسد ما سبق أن ذكرناه في موضوع التدرج من تحديثه بشيء لا يفهمه أو لا يعقله.

ومن مراعاة المفاسد أيضاً: مثال: بعض الدعاة يرى أنه لا فائدة من هذا المدعو، أن قضاء الوقت معه مضيعة للوقت، فلا بد أن أتركه، فهنا لا بد أن يكون تركه له بحكمة، حتى لا ينقطع عنه بالكلية، فيصبح هذا عدواً له، أو يشوه صورته، ويتكلم عليه في المجالس، فالترك بالتدريج وبحكمة، ولا يتركه فجأة فيكون يكرمه، ثم لا يجد هذا منه كرماً أبداً، ويكون يزوره فلا يجد منه زيارة أبداً، ويكون يهتم به فلا يجد اهتماماً أبداً، وهكذا يحصل ما يحصل من الانعكاسات والسلبيات والمفاسد.
ثم ليس من المصلحة قطع الخير عن هذا الشخص أبداً ولو كان إنسان وجدت أن قضاءك للوقت معه مضيعة للوقت، فلا بد من الكلمة والكلمتين والزيارة والزيارتين، والإيقاظ للصلاة يعني على الأقل على أشياء لا تأخذ منك وقتاً، ولا تستهلك منك جهداً.

ومن مراعاة المصالح في الدعوة: أن الداعية ينبغي أن يتفطن لتمييز الناس وانتقاء من يصلح لخدمة هذا الدين أكثر من غيره، فإن بعضهم يخطئ فينتقي الأسهل ولا يفكر في الأجود، وقد يكون الشخص الأحسن نفعاً أكثر نفعاً للإسلام لو اهتدى قد يكون أصعب، قد يكون أشق، ولكنه إذا اهتدى يكون فيه نفع عظيم للإسلام والمسلمين، فعلى الداعية أن يتذكر، عمر بن الخطاب كم كان فيه من العتو والتمرد، كان شخصية صعبة جداً، لكن عندما هداه الله، انتفع به الإسلام أيما انتفاع.

ولذلك التفكير في المصالح في هذه القضية، وتحمل المدعو جيد المزايا حسن الشخصية وقاد الذهن، ولو كان صعب المراس، أو صاحب معاصي ما لم تغلب مفسدة يكون أيضاً من مراعاة المصالح.

واعلموا -أيها الإخوة- نحن عندما نشتغل بالدعوة إلى الله لا نهمل الناس؛ نقول: هذا غارق في المعاصي لا نقترب منه شخص مقرف، فإن الذين يستمعون الدسكو أو يستخدمون الاستشوار من الذكور في تصفيف شعورهم، لا ينبغي إلغائهم من قائمة الدعوة بالكلية فربما يكونون هم نجباء المستقبل.

الاحترام المتبادل بين الداعية والمدعو

01:20:13

والثاني عشر: أن تكون العلاقة قائمة على الاحترام المتبادل، والمحافظة على المشاعر، فاحترام وجهة نظر المدعو ورأيه، بل والأخذ به إذا لم يكن هناك حرج، كاختيار المطعم، أو أدوات اللعب، أو مكان الدراسة، ونحو ذلك، وبعض الدعاة يخطئون ويعاملون المدعو كأنه طفل فلا يقيم لوزنه رأياً، وينصب نفسه ولياً لأمره، ويريد منه ألا يقطع أمراً دونه، وهكذا..، أو يشعر المدعو بأنه مراقب ومتتبع، وأن تصرفاته محسوبة، وأنفاسه معدودة، وأنني أعرف ماذا تفعل، وإلى أين، هذا يضايق كثيراً من الناس المدعوين.
أو أن يزوره زيارة مفاجئة لم يكن مستعداً لها، أو أن يعمل له في عرض الكلام نغزات وقفشات ربما تسبب له نفوراً كبيراً، بينما يظن هو الداعية أنها من الحكمة، وأن هذه الدقات مناسبة، فيتباهى، أو أنه يتخذها تخصصاً له في الكلام مع المدعو فيفسد إفساداً كثيراً.

ومن الأمور المضايقة كذلك: المحاسبة غير الشرعية، مثل أن يقول له: تعال، ماذا صليت اليوم من السنن؟ وكم سبحت؟ وهل تركت؟ وهل..؟ لست رقيباً على الناس بهذا، فالله رقيبهم وحسيبهم، ولكن أنت تدعوهم إلى الإسلام تدعوهم إلى الإيمان، تدعوهم إلى شعائر الخير، والله يحصي أعمالهم، ولست أنت الذي تحصي أنفاسهم.

والإنسان بطبعه مفطور على النفور من الإكراه والإلزام، وكل أحد يحب أن يفكر بحرية، ويختار بحرية، ويعمل بحرية، وحين يشعر أن الأفكار أو الأعمال تملى عليه إملاء قسرياً دون أن يكون هناك اختيار، تصد نفسه ويحجم عن قبول الفكرة، أو الاستجابة لأمر الداعية ونهيه، قبل أن يفكر حتى في سلامة الفكرة أو صحتها ونفعها، ولكن عندما تتسلل إليه الفكرة تسللاً يتوهم المدعو منه أنه هو صاحب الفكرة، تكون دوافعه ذاتية، وتطيب نفسه بالتطبيق، وتسمح بالاستجابة، فالإقناع والترغيب والترهيب، وإيضاح الاختيار، حتى الله في القرآن يقول: مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [سورة الفرقان:55]، لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ [سورة التكوير:28].
فتقول له: أنا لا أكرهك، أنا لا أجبرك، لا أقسرك، يقول الله: أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ [سورة يونس:99].
وهذا نوح يقول لقومه: يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ [سورة هود:28].

مراعاة الداعية للجدية والوقار في دعوته للمدعو

01:23:06

الثالث عشر: أن تكون العلاقة محتفظة بدرجة من الجدية والوقار، فبعض الدعاة قد يستخدم مزحاً مشيناً كثيراً، أو مفرطاً، أو ثقيلاً، أو يأتي بحركات قد تغضب المدعو، أو تسقط الهيبة فيما بينه وبينه، ويفترض بعض الدعاة أحياناً أن هذه دماثة خلق، وأن المزح طيب لتأليف القلوب، أو أن العلاقة قوية تسمح بمثل هذه التجاوزات مع أن الأمر ليس كذلك عند المدعو أنه يعتبره كلاماً ثقيلاً سمجاً، وتصرفاً سخيفاً.
فإذاً، ينبغي على الداعية أن يحاسب نفسه على مثل هذه التصرفات.
وتميز شخصية الداعية وعدم تميعها مع المدعوين هذا أمر واجب، فلا يجوز أن يشاركهم في أمر محرم، مثل رجل أخذ له شيشة يقول: داعية قال داعية يعني، قال: الشباب يشيشوا آخذ معهم شيشة ونطلع يعني  ، أو ألعب معهم الورق مثلاً، أو نشاهد معهم مباريات بحجة التداخل، وما شابه ذلك من وساوس الشيطان.

دعوة الداعية لأقارب وأصدقاء المدعو ونفعه لهم

01:24:16

والرابع عشر: أن تكون العلاقة ذات نفع متعد لأقرباء المدعو وأصدقائه، فبعض الدعاة إذا أراد أن يدعو شخصاً في أسرة أو بيت مثلاً لا يسأل إلا عنه، ويطرق الباب بدون سلام وكلام، فلان موجود، فقد يخرج أبوه أو أخوه أو زميله، فيتضايق من هذا الأسلوب، وأنك أنت فقط لا تريد إلا فلاناً، وماذا تريد منه؟ وماذا تقصد؟ وماذا تريد أن تفعل به؟ وهكذا..
فيكون الداعية قد اكتسب بذلك استنكار أو عداء وإقامة حواجز بينه وبين أقرباء المدعو أو أصدقائه.
وكذلك يتصرف بعض الدعاة مع بعض المدعوين بشكل يشعر المدعو أن هذا الداعية يريد خطفه من بين أقرانه أو زملائه القدامى أو العاديين، أو يذم أصحابه وزملاءه ذماً شديداً فينفر هذا المدعو، لأنه نقول: لا يستاهلون كل هذا الذنب، لماذا يحمل عليهم الداعية هذه الحملة الشعواء؟ فيصوره لهم كأنهم من أصحاب المخدرات واللواط وهكذا..، مع أن معاصيهم قد تكون أقل من ذلك مثل استماع الأغاني ولعب الورق والمسلسلات مثلاً، فينبغي أن يبين ويوازن الكلام ويتزن الكلام، ويكون لكل واحد نصيبه.
وكذلك يضع المدعو في موقف محرج مثل أن يقول له: اختار إما أصدقاءك أو أنا أصدقاءك، لا، فيضعه في زاوية ضيقة، وقد يكون هذا المدعو متشبث عاطفياً بأصحابه القدامى لا يريد تركهم.

ومن الأدلة على أن الصحابة كانوا يوسعون العلاقة ، هذا أبو هريرة كم اهتدى على يديه من الناس لكن، يقول في الحديث: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول اللهﷺ ما أكره، فأتيت رسول الله ﷺ وأنا أبكي فقلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، وإني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال: اللهم اهد أم أبي هريرة[18].
وهذا الداعية لا يجب أن يغفل عن الدعاء في الدعوة، ولا يظن المسألة كلها أسباب فقط، وإنما يلجأ إلى الله قال: فلما جئت قصدت إلى الباب فإذا هو مجاف مغلق، فسمعت أمي حس قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت حصحصة، صوت الماء، ولبست درعها وأعجلت خمارها، ففتحت الباب وقالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، قال: فرجعت إلى رسول الله ﷺ فأخبرته فحمد الله، وقال خيراً[19].
إذًا، أنت إذا تهتم بشخص اهتم يا أخي بأقربائه وأصدقائه وزملائه على الأقل ولو جزئياً.

نفع الداعية للمدعو وخدمته له

01:27:08

الخامس عشر: أن تكون العلاقة قائمة على نفع المدعو وخدمته وليس انتظار النفع منه، والنفع قد يكون نفعاً دينياً للمدعو أو دنيوياً له كسد جوعه، أو قضاء دين، أو حل مشكلة، أو شرح درس، وانتبه أن لا تشرح إلا وأنت تفهم ما تشرح، وأبوه قد يكون مغرقاً في الديون، وهذا الرجل مهموم يفكر في ترك الدراسة من أجل مساعدة أبيه المديون، فإعطاؤه الرأي السديد والإشارة عليه يفرج كثيراً من همومه.
وقد يفترض بعض الدعاة في مرحلة من المراحل أن المدعو الآن يجب عليه أن يقدم ولا بد أن تستخدم سيارته لمنفعة الدعاة وإمكانياته، وهكذا.. مع أن المدعو الآن في مرحلة لا تمكنه من هذا، بل إنه يخدم ويعطى، ولا يطلب منه شيء، وعند ذلك تحصل نفرة.

بُعد الداعية عن العواطف الهوجاء مع المدعو

01:28:03

والسادسة عشر: أن تكون العلاقة بعيدة عن العواطف الهوجاء، فالعلاقة بين الداعية والمدعو لا بد أن يكون فيها نوع من العاطفة والجمود من الخلل، ولكن ما يحدث في بعض الأحيان انقلاب العلاقة عن حد الاعتدال والوقار لتنقلب إلى سعار لا يهدأ من العواطف الجياشة المتلفة لنفسية الطرفين، فهذه ألفاظ تغدق بغير حساب، وهذه أحاسيس تنقل ومشاعر تسطر، وأبيات من الشعر وإعجابات مكتوبة، وأحلام يعقبها حسرة وآلام، حتى أنه ربما يفكر إذا ترك المدعو تركه أن يذهب وراءه إلى آخر الأرض، فهذا الداعية تذهب نفسه حسرات ويتقطع.
وعند ذلك نقول: صحح علاقتك يا أخي، لا تقصر نفسك على شخص معين أو تقيم هذه العلاقة الهوجاء غير الشرعية التي ربما تؤدي إلى أوامر غير محمودة العواقب من الأمور المحرمة.
وإن الدعوة إلى الله -أيها الإخوة- شيء ممتع ولذيذ جداً وهو من أشوق ما يمارس الإنسان في حياته.

وهذا لعله من الأشياء التي جعلها الله للقائمين بهذه الوظيفة العظيمة، وإن نسيت لا أنسى تلك الأيام المحبوبة إلى النفس التي لا يعرف قدرها إلا من فقدها، ولا أكتمكم أن الإنسان عندما يكون طالباً تكون الدعوة متيسرة أكثر في مجتمع الطلاب لسهولته وانفتاحه، ولا تفقد متعته إلا إذا فارقته وستذكر غداً عندما تصبح بين طلبات الزوجة وصياح الأطفال وهموم الوظيفة كيف كنت في نعمة عظيمة إن لم ترعها يا من تعيش وسط الطلاب أو العزاب، فإن بعض العمال مثلاً يكون يعيش مع بعض الناس من العمال الآخرين تكون أياماً جميلة وفي تآلف فيندم إذا تركها بغير أن يطبع بصماته الدعوية على أولئك الأقران، فلتعلم إذا كنت متفرغاً قدر هذه النعمة ولا تضيع الفرصة.
صحيح أنك ستجد مجالات كثيرة للدعوة في المستقبل بين الأقارب والجيران، وستصبح بزوجتك وأولادك أكثر قدرة على التداخلات الاجتماعية، ولكن متعة الدعوة في الوسط المدرسي أو الجامعي لا تكاد تنسى.

نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا دعاة إلى سبيله، وأن يجعلنا عاملين بالعلم، وأن يجعلنا مستبصرين بالسنة متمسكين بها، وأن يجزل لنا الأجر العظيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

  1. ^ رواه البخاري: (3461).
  2. ^ رواه الترمذي: (2656)، وصححه الألباني في الروض النضير: (276)، والسلسلة الصحيحة: (404).
  3. ^ رواه البخاري: (2942)، ومسلم: (2406).
  4. ^ رواه البخاري: (1122)، ومسلم: (2479).
  5. ^ رواه البخاري: (1496)، ومسلم: (19)، واللفظ للبخاري.
  6. ^ رواه البخاري: (6025)، ومسلم: (284).
  7. ^ رواه مسلم: (537).
  8. ^ رواه مسلم: (1830).
  9. ^ رواه مسلم: (1830).
  10. ^ رواه البخاري: (1734)، ومسلم: (1732).
  11. ^ البخاري: (127).
  12. ^ صحيح البخاري: (1/ 11).
  13. ^ الآداب الشرعية: (2/ 156).
  14. ^ البخاري: (4993)
  15. ^ رواه البخاري: (1968).
  16. ^ رواه الترمذي: (1956)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: (2685).
  17. ^ رواه البخاري: (54).
  18. ^ رواه مسلم: (2491).
  19. ^ رواه مسلم: (2491).