الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علمًا إنك أنت العليم الحكيم.
أيها الإخوة: أحييكم في هذه الليلة، وأقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
فإننا في هذه الليلة سنكمل -إن شاء الله- ما بدأناه في ليلة الخميس الماضي عندما شرعنا في الكلام على موضوع: "طالب العلم والمنهج".
بعض الأسئلة التي وردت بعد المحاضرة السابقة كرد فعل عليها
وبعد المحاضرة الماضية كان هناك عدد من الأسئلة وهذه الأسئلة تضمنت ردود فعل مختلفة من عدد من الإخوان لسماعهم المحاضرة الماضية.
فبعضهم رأى أن فيها حثًا على الجدية في الطلب واستثمار الأوقات لكي يكون طالب العلم طالب علم حقيقياً فعلاً.
وبعضهم رأى في العرض السابق تثبيطًا ومشاعر من الإحباط في نفسه؛ لأنه لما قارن ما هو عليه بالمنهج الذي ينبغي أن يسير عليه طالب العلم رأى أن بين ذلك وهذا بونًا شاسعًا.
وبعضهم من أصحاب التخصصات العلمية والوظائف قالوا: إن معنى الكلام أنه ليس لنا موقع في طلب العلم، وأنه لا بدّ أن نتجه لقراءة الكتيبات ونترك العلم لأهل العلم.
وبعضهم قال مازحًا: نريد أن نبيع الكتب الكبيرة التي اشتريناها من معارض الكتاب فما فائدة وجود كتاب مثل كتاب: "المغني" لدينا؟
بعض مقاصد عرض المحاضرة السابقة
وحرصًا على إيصال الفكرة الصحيحة المرادة ونفي الخواطر غير الصحيحة المتوهمة أذكر ما يلي في نقاط سريعة.
كانت المحاضرة الماضية هزة للذين يخادعون أنفسهم بأنهم طلبة علم وليس عندهم إلا النزر اليسير.
وكانت المحاضرة الماضية تنبيهًا لأن طلب العلم مسألة شاقة وعسيرة، وأنها تحتاج إلى مجاهدة ومجالدة، وأنها تحتاج إلى صرف الأوقات والأعمار أن العلم غزير كثير إذا أعطيته كلك أعطاك بعضه.
وهذا كان مقصوداً من المقاصد الأساسية في المحاضرة، وهو الحث على الجدية واستثمار الأوقات، وأن طلب العلم ليس شيئًا سهلاً يناله كل أحد، وأن من قرأ كتابًا أو كتابين أو حضر درسًا أو درسين أصبح طالب علم، هذا كان من المقاصد الأساسية في المحاضرة الماضية.
وكانت المحاضرة تنبيهًا قويًا إلى بعض أصحاب الدراسات الدنيوية من أصحاب الشهادات العليا -العليا طبعًا في العلوم الدنيوية- المتسلطين على العلم الشرعي بأهوائهم والمتحكمين في أقوال العلماء بعقولهم القاصرة التي لم تتشكل بالعلم الشرعي، وإنما غرور الشهادة الدنيوية جعلهم يظنون أنهم يفهمون كل شيء حتى الفتاوى والأحكام الشرعية، فهؤلاء لابدّ أن يعرفوا حدودهم ويعرفوا ما هو المنهج الصحيح في الطلب، وما هو موقعهم بالنسبة للطلب، وبالنسبة لأهل العلم، ومن تكلم في غير فنه أتى بالعجائب.
ومن المقاصد في عرض الموضوع: الحث على تلقي العلم الشرعي عن أهله المختصين ما أمكن ذلك إن وجدوا، وتلقي بعض التصورات الإسلامية عمن يجيدها أيضاً، وتلقي الأدب عمن هو مشتهر به ومعروف، وهكذا.. وإن اجتمعت في شخص واحد فهذه النعمة، وإذا لم يوجد من أهل العلم المتخصصين من يمكن الوصول إليه والتتلمذ على يديه فلا بدّ من التعاون على دراسات الموضوعات الشرعية المختلفة مع الأمثل فالأمثل.
وقد تقدم أن المذاكرة الجماعية تقي الفرد كثيرًا من الانحرافات في التلقي والخطأ في الفهم.
وكذلك لا بدّ أن يوقن أصحاب التخصصات غير الشرعية بعظم المهمة التي يطلعون بها وحجم الثغرة التي يقومون بسدها، وكثافة المسؤوليات الملقاة على عواتقهم، وأن المجتمع يحتاج إلى الأطباء المتدينين الملتزمين بالدين، والمهندسين الملتزمين بالدين، والإداريين الملتزمين بالدين، والعسكريين الملتزمين بالدين، وهكذا.. فالذي يظن أن الإسلام لا يخدم إلا بطلاب العلم الشرعي متخصصين فنظرته قاصرة، وفيه تفكيره خلل، فالمسؤوليات الدينية كبيرة ينبغي القيام بها كالتربية والدعوة وإنكار المنكر، وسائر فروض الكفايات.
وتنبيه آخر لأصحاب التخصصات الشرعية لا بدّ من ذكره وهو: أن الذين يظنون أن الجامعات الشرعية تخرج طلاب علم أقوياء إذا نجح الطالب في المقررات هم أناس مخطئون، فإن كثيرًا من هؤلاء الطلاب يذاكرون للشهادة والنجاح ولا يطلبون العلم حقيقة، وما الكليات الشرعية إلا مفتاح للبدء في الدراسة الجادة، وتأهيلاً للطلب، وليست هي نهاية الطلب، والمتخرج من الكلية الشرعية لم ينه علوم الشريعة، وإنما لا بدّ من التركيز والمواصلة خصوصًا وأن كثيرًا من الكليات الشرعية في العالم الإسلامي تعرضت إلى مؤامرة تحجيم وهزالة مقررات، وقد سمعت بنفسي من أخبرني من الذين درسوا في بعضها أن الجيد بخمسة جنيهات، والجيد جداً بعشرة جنيهات.
وكذلك فهنالك اختلال في توجه أصحاب الطاقات العقلية لا يتناسب مع شرف العلم الشرعي بالمقارنة مع غيره، فبينما تجد كثيرًا من النابهين يتجهون لدراسة العلوم الدنيوية ترى في المقابل كثيرًا من أصحاب الطاقات المحدودة والمستويات المنخفضة يتجهون للدراسات الشرعية، وفي بعض بلدان العالم الإسلامي توضع المجاميع العالية للطب والهندسة، والمجاميع المنخفضة للشريعة والآداب في خطة تهدف إلى صرف الناس عن دراسة دين الله والإجادة فيه.
ثم إن هؤلاء المتخرجين من الحقول الشرعية هم الذين يتولون المناصب الدينية من الإمامة والخطابة والتدريس والقضاء والإفتاء، فتحدث الكارثة وتعم المصيبة، وينعكس هذا سلبًا بالطبع على تقبل الناس للدين وأهله، ولا بدّ بعد هذا من تسجيل حسنة عظيمة في حق بعض المتفوقين الذين آثروا دراسة دين الله والمواصلة فيه على دراسة علوم الدنيا رغم كثرة الإغراءات الدنيوية والضغوط الاجتماعية، ومن ثم فإن من آنس في نفسه قدرة على طلب العلم الشرعي، والحفظ والفطنة فإن عليه أن يتجه لهذه الدراسة منذ رحلة مبكرة، فيتجه بعد الدراسة الثانوية مباشرة مثلاً للعلم الشرعي والكليات الشرعية؛ لأن كثيرًا من الطلاب بعد أن يقطع مشوارًا في حقل من العلوم الدنيوية يريد أن يغير تخصصه، فيضيع على نفسه سنين، ويحصل عنده شيء من عدم الاستقرار، ولذلك فإن هذا التخطيط ينبغي أن يكون من مرحلة مبكرة.
كما أن هؤلاء المتخرجين من المدارس الثانوية ينبغي عليهم أن يلاحظوا أمورًا؛ منها: أن هناك مصالح شرعية عظيمة كأمور تتعلق بالدعوة إلى الله وتربية الناس قد يكون هو مجيد فيها، وقد يرى من المصلحة أن يدخل في هذه المجالات ويخدم فيها، ويتأخر معه التركيز الشرعي العلمي إلى مرحلة تالية ربما تكون بعد تخرجه من هذه الكلية غير الشرعية التي يدرس فيها، وذلك من أجل تحصيل المصالح الأخرى، فالمسألة إذًا دراسة ومشاورة وتفكر واستخارة، وليست القضية خبط عشواء، وليس المقصود من عرض منهج طلب العلم إحداث الخللة في الأوساط التربوية، واحتقار ما فيها والانسحاب منها بحجة افتقارها إلى الجودة العلمية، وإنما المقصود إثراء هذه الأوساط وتقويتها ونشر العلم فيها ودعمها بالبرامج العلمية الشرعية الجادة، فلا خير في تربية ودعوة بلا علم شرعي، ولا خير في طلب علم لا يوافقه تربية ولا تأديب، ولا اشتغال بالدعوة إلى الله .
وليس المقصود من عرض صفات طالب العلم إحداث التمرد والمشاغبة على كل مرب وقدوة بحجة أن عنده شيء من النقص في طلب العلم؛ لأن كثيرًا من هؤلاء تشغلهم طاعات أخرى عن التفرغ للطلب، وهناك فروض كفايات لا بدّ أن يقوم بها بعض أفراد الأمة، وإلا أثمت الأمة.
والمقصود أن يتجه الشاب إلى الطلب الجاد مع استمراره في التربية والتلقي للتصورات والمفاهيم الإسلامية، وصقل شخصيته من خلال التقائه بالقدوات، خصوصًا وأن بعض هؤلاء قد لا يكونون متركزين إلا في بعض الجامعات غير الشرعية تركزًا كبيرًا يساعد على صقل الشخصية واستمرارية التربية.
ولا يمكن أن يكون المقصود من العرض السابق إخراج أصحاب التخصصات الدنيوية من دائرة العلم الشرعي، فالعلم الشرعي مراتب، وما لا يدرك كله لا يترك بعضه، ولا شك أن كثيرًا من أصحاب هذه التخصصات الدنيوية يتميزون بعقليات جيدة يستطيعون بها كثيرًا من الاستيعاب، وإنما كان المقصود أن تحصيل العلم وطلبه يحتاج إلى تفرغ لا يتأتى مع انشغال أصحاب هذه التخصصات بتخصصاتهم لا يتأتى في العادة، ولكن لا بدّ من الإعداد العلمي بقدر المستطاع إذ هل نترك هؤلاء الطلاب جهالاً؟ أو يقال لهم: استمروا على قراءة الطب وكتب الهندسة واتركوا العلم الشرعي بالكلية ولا تتفقهوا في دين الله؟ إن الذي يقول هذا لا شك أنه مخطئ فكيف ندعوا الناس إلى ترك العلم الشرعي بالكلية بحجة أنهم في تخصصات دنيوية، ولعل الفرصة تتاح لهؤلاء لمزيد من التركيز بعد تخرجهم من هذه التخصصات حيث ينطلقون إلى شيء من التفرغ الذي يتيح لهم التأسيس مع بعض وجود الحلق العلمية في البلد في بعض الأماكن، فإذا تخرج وعنده خلفية وقراءة واطلاع سابق في العلم الشرعي فإنه يجد نفسه عنده من الحصيلة ما يساعده على الاتجاه المؤسس القوي في المستقبل بخلاف ما لو أهمل ما يستطيعه من الطلب الشرعي أثناء الدراسة الدنيوية فإنه سيجد نفسه لو أراد التأسيس فيما بعد غريبًا كل الغرابة عن مجال العلم الشرعي.
والطالب الجامعي الذكي قد يحصل في الصيف واستثمار الأوقات أثناء العام أكثر مما يحصل طالب في كلية شريعة أقل منه ذكاءً وتوقدًا.
وإننا نقول للمهندس الذي يتخرج مثلاً ثم يعمل دوامًا حكوميًا إلى الساعة الثانية والنصف، ويخرج بعد ذلك متحررًا من ربقة الدوام: إنك تستطيع أن تكون طالب علم جيد ولا شك، وقل مثل ذلك وأسهل بالنسبة للمدرس الذي هو أقل دوامًا وأكثر إجازات.
لكننا نقول: إن أخذ الأمور بواقعية مهم، وإن الجمع بين نوعين من الدراسة الشرعية وغير الشرعية فيه صعوبة كبيرة، هذا الذي نريد أن نقرره، وأن نلفت النظر إليه.
ويوجد نوادر تستطيع الجمع بين الأمرين.
وكذلك فإن كثيرًا من هؤلاء الطلاب في المجالات الدنيوية يستطيعون خلال العطل والإجازات عمل شيء كثير لو أحسنوا استغلال أوقاتهم.
ثم إنك تجد في الواقع أن كثيرًا من هؤلاء الشباب لا يتجهون اتجاهاً دينيًا واضحًا يؤدي في النهاية إلى الاهتمام بالعلم الشرعي إلا في مراحل من الدراسات الجامعية غير الشرعية، فمتى كانت هدايته لدين الله والتزام بالإسلام إلا في هذه الجامعة، وبعد ذلك سيحس بأهمية العلم الشرعي، ويقبل على طلبه، فيجد صعوبة في الجمع بين الأمرين، فماذا يفعل وقد قطع مشوارًا في هذه الكلية؟ هل نقول لهؤلاء: ما دمتم قد اهتديتم في هذه الكليات الدنيوية اخرجوا بعد سنة أو سنتين أو ثلاث وانطلقوا إلى الكليات الشرعية، واتركوا ما بدأتموه ولم يبق على إتمامه إلا شيء قليل، لا شك أن ذلك لا يكون من الحكمة في كثير من الأحيان.
وقد تكلمنا أيضاً أنه قد يوجد من الندرة ندرة تستطيع الجمع بين الأمرين، ورغم قلة هؤلاء إلا أنهم أثبتوا أن هذا شيء عملي يمكن أن يقع إثباتًا يمنع اليأس من المحاولة.
ثم إن كثيرًا من هؤلاء الطلاب الذين يدرسون في الجامعات غير الشرعية لما أقبلوا على التعلم وأحبوا دين الله كانوا سببًا لتنشيط العلماء والمشايخ، ودفعهم إلى التدريس، بل إن لهؤلاء أثر بارز في إبراز دور المشايخ والعلماء، وتسليط الأضواء عليهم لدرجة أن بعض المشايخ والعلماء إذا سمعوا أسئلة هؤلاء ومناقشاتهم لا يخطر ببالهم مطلقًا أنهم ليسوا أصحاب تخصصات شرعية، بل لقد علق بعض الأكابر من العلماء على هؤلاء مستغربين بأن كلياتهم ليست كليات طلب وهندسة وإنما هي كلية شريعة ودعوة، بل ربما نصحوا بعض هذه النوعيات بالاتجاه إلى الكليات الشرعية للتخصص.
وإنني أقول: إن وجود هذه الندرة ممن تستطيع الجمع بين الأمرين في الكليات غير الشرعية وجودهم فيها أمر في غاية الأهمية؛ لأنه يساعد في ضبط المنهج، والوقاية من الانحراف، والإجابة على الأسئلة والاستفتاءات، فمن العيب الكبير أن يوجد كلية طلب أو كلية هندسة مثلاً فيها طلاب مسلمون كثيرون لا يوجد واحد منهم يجيبهم على سؤال يتعلق بصلاة كسوف أو خسوف، أو يجيبهم على سؤال يتعلق بأمر من الأمور التي تواجههم في حياتهم، على الأقل يوجد من يحفظ فتاوى العلماء لينقلها إليهم، وهذا بحد ذاته نوع من التحصيل للعلم.
فإذًا، المحاضرة السابقة كانت مكاشفة ومصارحة، وليست تيئيسًا ولا إحباطًا للمعنويات، علمًا أنني وجدت من خلال الأسئلة والتعليقات أن تلك المحاضرة السابقة وافقت هوى في نفوس بعض الكسالى والجهال، وقالوا: ما دام ليس لنا أمل بطلب العلم الشرعي ونحن أصحاب تخصصات غير شرعية، فلنركز على دراستنا الدنيوية إذًا لنخرج بأحد الأمرين على الأقل، وقالوا: لا يصلح أن نتجه لدراسة شيء من العلم الشرعي فإن المفهوم أننا ينبغي أن نتخصص ونركز ونتقن هذا التخصص الدنيوي، ونترك طلب العلم الشرعي بالكلية.
ولا شك أن هذا من الغلو، لا شك أن هذا من الانحراف في الفهم.
وكثير من ضوابط المنهج التي ذكرناها في المحاضرة الماضية تنفع لغير المتفرغ، فلا بدّ أن ندرك إذًا أن طلب العلم الشرعي ليس مقيدًا بالتخصص، وإن كنا نعرف أن طالب العلم غير الشرعي قد لا يستطيع أن يكون طالب علم شرعي قوي ويجمع بين الأمرين مع صعوبة دراسته وكثافتها.
لكننا نؤكد على الحقيقة ونقول مرة أخرى: إن المطلوب منك يا أيها الدارس في الكلية غير الشرعية مطلوب منك أمر يحتاج إلى تصميم ومجاهدة؛ لأن فيها صعوبة بالغة لأنك تحتاج أن تجمع بين أمرين لا يتيسر الجمع بينهما بسهولة، ولا شك أن مما يميز الدعوة الصحيحة: اقترانها بطلب العلم الشرعي على قدر المستطاع، فلا بدّ من حضور الدروس والحلق الممكن حضورها، والقراءة في كتب العلماء، وإنما نقول: أن طالب علم الشريعة المتخصص في كليته الشرعية عنده فرصة أكبر وأمره أسهل، وفرصة طالب العلم الدنيوي في طلب الشرعي أقل بالنسبة لطالب الكلية الشرعية، ولا يعني هذا أن طالب الشريعة سيكون طالب علم بتخصصه بالضرورة، ولا يعني أن طالب العلم الدنيوي لا يمكن أن يكون طالب علم شرعي بحال من الأحوال.
وطالب العلم الدنيوي إذا طلب العلم الشرعي فإنه يحتاج إلى جهد أكبر؛ لأنه يعاني من ازدواجية لكنه مطالب بتخصص ينفع فيه المسلمين، أو يبر فيه والديه، ومطالب كذلك بتعلم دين الله.
قواعد وإرشادات حول منهجية طلب العلم
وننتقل الآن لإكمال ما تبقى من الضوابط المتعلقة بالمنهج والإرشادات والنصائح في طلب العلم.
أصل العلوم الكتاب والسنة
وقد ذكرنا في المرة الماضية أمورًا تتعلق بالتدرج والأوليات، ونضيف إلى ذلك: أن أصل العلوم النقلية هي الشرعيات من الكتاب والسنة التي شرعها الله ورسوله، ثم يستتبع ذلك علوم اللسان العربي الذي هو لسان الملة، وبه نزل القرآن، وأصناف هذه العلوم النقلية كثيرة؛ لأن المكلف يجب عليه أن يعرف أحكام الله -تعالى- المفروضة عليه وهي مأخوذة من الكتاب والسنة بالنص أو بالإجماع أو بالإلحاق، فلا بدّ من النظر في الكتاب ببيان ألفاظه أولاً ما هو الكتاب؟ القرآن الكريم، وهذا هو علم التفسير، ثم بإسناد نقله ورواياته للنبي ﷺ الذي جاء به من عند الله، واختلاف روايات القراء في قراءته، وهذا هو علم القراءات، ثم بإسناد السنة إلى صاحبها، والكلام في الرواة الناقلين لها، ومعرفة أحوالهم وعدالتهم، ليقع الوثوق بأخبارهم بعلم ما يجب العمل بمقتضاه من ذلك، وهذه هي علوم الحديث، ثم لا بد في استنباط هذه الأحكام من أصولها من وجه قانوني يفيد العلم بكيفية هذا الاستنباط وهو هو أصول الفقه، وبعد هذا تحصل الثمرة بمعرفة أحكام الله -تعالى- في أفعال المكلفين، وهذا هو الفقه.
فإذًا، القرآن، والحديث، والفقه، وهناك علوم آلة ذكرناها أيضاً مثل أصول الفقه والمصطلح واللغة، قال ابن خلدون -رحمه الله-: "لا بدّ أن تتقدّمه العلوم اللّسانيّة لأنّه متوقّف عليها وهي أصناف. فمنها علم اللّغة وعلم النّحو وعلم البيان وعلم الآداب" [تاريخ ابن خلدون: 1/550].
تلقي مسائل كل باب من أبواب الفن أولاً
وذكرنا في موضوع التدرج أموراً، ونضيف إليها كذلك: تلقي مسائل كل باب من أبواب الفن أولاً، فإذا أراد الإنسان أن يدرس فنًا من الفنون فكيف يتدرج في دراسته؟
أولاً: يتلقى مسائله الأصلية، أصول الفن هذا، ويقرأ شرحها ويسمعه من الشيخ على سبيل الإجمال، ويراعي في ذلك استعداده وعقليته حتى ينهي الفن بشكل ميسر مبسط شامل في البداية، فيتهيأ لفهم الفن وتحصيل مسائله بعدما أخذ فكرة إجمالية عنه، ثم يرجع إليه مرة ثانية بمرحلة أعلى من الأولى فيها رتبة أعلى فيستوفي الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال، وتذكر له أوجه الخلاف إلى أن يتمه مرة أخرى، ثم يرجع ثالثة وقد اشتد فلا يترك عويصًا ولا مغلقًا إلا فتح مقفله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته، وحصل له بذلك نفع كبير.
فإذًا، هذا التدرج وهو في الغالب يأتي على ثلاثة مراحل في الغالب كما ذكر بعض أهل العلم هذا مهم؛ لأن بعض الطلاب إذا أراد أن يدرس فنًا فإنه يريد أن يأتي عليه من أوله على دقائقه وتفصيلاته ومسائله وتعقيداته وعمقه، وهذا خطأ، فلا بدّ أن يأخذ أول فكرة إجمالية عبر متن مبسط سهل في شرح عام بدون الغوص في التفاصيل، ثم بعد ذلك المرحلة الثانية يعرف الخلافات، ثم المرحلة الثالثة يغوص في دقائقه ومصاعبه؛ لأن المتعلم إذا حصل ملكة في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد.
أما إذا غاص من البداية في عمقه فإنه يعجز عن الفهم، ويحصل له يئس من التحصيل.
البدء بصغار العلم قبل كباره
وتكلمنا كذلك على مسألة البدء بصغار العلم قبل كباره، وهذه تتبع التدرج، وقال الله : وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ[آل عمران: 79]، والرباني هو الذي يبدأ بصغار العلم قبل كباره، ويعلم الناس صغار العلم قبل كباره.
وقد قال بعض العلماء وهو علي بن المديني -رحمه الله- معلقًا على هذه المسألة في قضية طلب الحديث؛ لأن طلاب الحديث كانوا يكتبون الحديث في البداية، يكتبون الحديث البسيط الذي له طرق بسيطة، ثم يبدأون يكتبون الحديث الذي له طرق أكثر، وهكذا يتدرجون، فقال ابن المديني ضاربًا المثل على هذا المفهوم: إذا رأيت الحدث أول ما يكتب الحديث يجمع حديث الغسل، وحديث: من كذب، فاكتب على قفاه لا يفلح؛ لأن حديث الغسل وحديث من كذب هذه أحاديث أطرافها واسعة وطرقها كثيرة جداً، فإذا بدأ بها بدأ معناها بالمقلوب، معناها بدأ بالواسع بدأ بالكثير، ولم يبدأ من السلم من بدايته.
وقال ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- فيما ينبغي على طالب العلم: أن يتدرج فيأخذ المبسط، ثم بعد ذلك يضيف إليه ما اجتنى من الثمرات، ويقتنص الفوائد.
واعلم -رحمك الله تعالى- أيها الأخ المسلم: أن الذين يبدأون بطلب العلم في الفقه مثلاً فيبدأون بالعبادات مثلاً بالطهارة والصلاة والصيام والزكاة والحج تقصر همهم ويتوقفون، ولا يدخلون في المعاملات بعد ذلك، فلا يعرف البيع والنكاح والإجارة، وغير ذلك من أنواع الفقه، ولعل السبب في هذا أمور، فمنها: عدم التوجيه أو البدء بكتاب صعب، أو الدخول في حلقة متقدمة جداً، أو أن يأخذ الفقه في دروس متباعدة كأن يقتصر على الإجازات فقط في كل سنة، فلا ينتهي من الصلاة ولا من الزكاة إلا بعد فترة طويلة جداً يفتر فيها حماسه.
فلا بدّ إذًا أن تكون الدروس متقاربة قدر الإمكان خصوصًا في العلوم التي تحتاج إلى فترة في التحصيل؛ لأنها طويلة مثل التفسير والحديث والفقه.
طريقة تحصيل كل فن
ولا بدّ أن نعرف أن طريقة تحصيل كل فن تتلخص بما يلي:
أولاً: حفظ مختصر فيه.
ثانيًا: ضبطه على شيخ متقن.
ثالثًا: عدم الاشتغال بالمطولات والتفاريع قبل ضبط الأصل وإتقانه.
ورابعًا: عدم الانتقال من مختصر إلى آخر دون سبب وجيه.
ولابد كذلك من ضبط هذا كما أشرنا، وهذا الضبط كيف يتم؟
يتم بالقراءة على شيخ، أو بالرجوع إلى معاجم اللغة.
وكذلك كتب الضبط التي كتبها العلماء، اصطلاحات العلماء، أو التأمل في العبارة، والقاعدة تقول: إنما يُشكل ما يُشكل، ما الذي يُشكل بالضمة والفتحة والكسرة والسكون؟ ما الذي يُشكل؟ هو الذي يُشكل، كما أن الدابة تضبط بالشكال فتقيد.
فإذًا، العبارة التي تضبط تقيد بالضبط حتى لا يحدث التباس في إعرابها.
ومما قالوه في هذه المسألة: أولى الأشياء بالضبط أسماء الناس؛ لأنه شيء لا يدخله القياس ولا قبله شيء يدل عليه ولا بعده شيء يدل عليه، مثل أسماء الرواة.
وكذلك من الأمور والمصاعب التي تواجه طالب العلم: أنه يقع على متن من المتون الصعبة، وهذه المتون الصعبة بعض العلماء أراد أن يختصر العلم الكثير في مقطوعة قصيرة أو في منظومة قليلة الأبيات للتيسير، فالذي حصل مع هؤلاء أنهم صعبوا الأمور وعقدوها؛ لأنهم يريدون أن يجعلوا المعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة، فيأتي الطالب المبتدئ فيجد المتن أمامه صعبًا لا يستطيع أن يحل رموزه، ولذلك لا بدّ أن ينتقي متنًا سهلاً يدرسه على شيخ قدر الاستطاعة، أو يأخذ لهذا المتن شرحًا يفك إشكالاته، فإذا كان الأصل فيه بساطة فكذلك الشرح سيكون متيسرًا بطبيعة الحال.
المواظبة والاستمرارية في طلب العلم
ومن الأمور المهمة: المواصلة والمواظبة والاستمرارية، وهذا الأمر قد أشرنا إليه في السابق، ونزيد عليه بأن بعض الطلاب الذين يعتريهم الفتور ينبغي أن يكون الحماس متولدًا.
وينبغي أن يكون هناك في الوسط من يحمس ويشعل حماس مرة أخرى.
وينبغي إذا غابت الدروس فترة في الامتحانات أن تعود للظهور مرة أخرى حتى تحصل العودة.
ولا شك أن من ضعف الحماس أن يواجه الإنسان فترات مثل فترات الامتحانات والاختبارات، ولكن يجب أن يبدأ بعدها بانطلاقة كبيرة؛ لأنه من المفترض أن يكون متشوقًا متلهفًا لإكمال المشوار، كان رجل يطلب العلم فلا يقدر عليه فعزم على تركه فمر بماء ينحدر من رأس جبل على صخرة قد أثر فيها، فقال: الماء على لطافته قد أثر في صخرة على كثافتها والله لأطلبنه، فطلب فأدرك.
ولذلك المسألة تحتاج إلى مواصلة ومتابعة، وبالتدرج وبمرور الوقت يحصل الإنسان أشياء كثيرة.
أسباب ترك المنهجية في طلب العلم وبعض الأخطاء في ذلك
ومن أسباب ترك المنهجية في الطلب: استعجال النتيجة، بعض الناس يتصورون أنه لا بدّ أن يحصل المسائل ويجمع الأشياء في مدة قليلة، وأنه يستطيع أن يفعل ذلك، خصوصًا إذا بدأ طالب العلم بدراسة علوم الآلة، دراسة علوم الآلة لا تشعر الدارس أنه قد حصل علمًا كثيرًا؛ لأنه يدرس أشياء في المصطلح والأصول والنحو لا يحس أنه قد جمع مسائل وحفظ مسائل ووعى مسائل، هو يحس أن دائرة معلوماته قليلة، وفي الجانب المقابل ينظر إلى الفوضوي الذي لا يدرس على أصول ولا على منهج ولا يدرس مثلاً علوم الآلة الذي يفتح الكتب ويقرأ، ويجمع من هنا ومن هنا، فتحدث في خلال النقاشات أشياء تشعر الشخص الدارس على منهج، والذي يبدأ بدراسة علوم الآلة أن الشخص الفوضوي الآخر أحسن منه، وأنه جمع ما لم يجمع، وحصل ما لم يحصل فيتأسف، ويقول: لا فائدة إذًا من هذا المنهج الذي لم يزدني شيئًا، لكن ليعلم أنه بعد سنوات عندما يقارن نفسه وقد أسس نفسه بالآخر الفوضوي الذي يقرأ ما هب ودب أنه يكون أحسن وأوعى وأحفظ وأضبط، وأكثر جمعًا للمسائل في النهاية، وقد تشابكت عنده أطراف العلم، وتشابكت عنده خطوطه وتقاطعت فترسخت هذه الأمور في نفسه، ولا يصلح أن تشعرك النقاشات مع بعض الفوضويين وتحس أن عندهم أشياء وأطراف أنك ينبغي عليك أن تدرك المنهج؛ لأنه لم يفد ولم يؤد إلى تحصيل أشياء كثيرة في وقت قليل، وأصحاب التجميعات هؤلاء ما عندهم أسس ولا قواعد، ولذلك يصعب النقاش معهم.
وكثير من الشباب يتركون المنهجية من أجل القفز، والعجلة من الشيطان، من أجل القفز، يقولون: نحصل بسرعة نأخذ نقرأ الكتب الطويلة فيها أشياء كثيرة وهم ما بعد بدأوا بالكتب الأساسية.
والعلم لا يأتي بسنة ولا بأربعة ولا بإتمام منهج البكالوريوس في العلوم الشرعية، وإنما لا بدّ أن يصبر الإنسان حتى يحصل، ومن صبر ظفر.
ومن الملاحظات أيضاً والأخطاء التي يقع فيها البعض في المقابل: إفناء العمر في علوم الآلة، فيتبحر في النحو ويتبحر في الأصول أو في المصطلح، ويترك معاني القرآن والسنة مع أنك أنت تدرس علوم الآلة لغرض فهم معاني القرآن والسنة، فهل تتبحر فيها تاركًا معاني القرآن والسنة هذا خطأ.
فإذًا، علوم الآلة ليست مقصودة لذاتها وإنما تراد لغيرها، وهي مرقاة للوصول إلى فهم الكتاب والسنة، فلا يصح إفناء العمر فيها.
كتابة العلم وتقييده
ومن الأمور المهمة أيضاً في الطريق في طلب العلم: تقييد العلم، وخصوصًا الفوائد والشوارد، واستعمال هوامش الكتب، وبعض الشباب إذا اشترى كتابًا فوجد فيه صفحة بيضاء من أوله وصفحتين في آخره قال: ما بال هؤلاء الأغبياء يضيعون الأوراق على الفاضي، مع أنه ما عرف أن لهذه الأوراق البيضاء ورقة في أول الكتاب أو في آخره فوائد كثيرة في كتابة اللطائف والشوارد، والأشياء التي قد لا تكون موجودة في محل يسهل الوصول إليه، فيقيدها في أول الكتاب أو في آخره، أو كتابة بعض التحقيقات أو الإضافات، وكذلك ترتيب الهوامش والجوانب في كل صفحة؛ لأنك إذا أردت أن تكتب شرحًا على متن مثلاً فيحتاج أن تجعل الشرح أمام العبارة؛ لأن البعض لا يحسن الحساب، فيبدأ يكتب بخط طويل أو بخط كبير من أو أوله فلا يجد نفسه إلا وقد أتى في شرح العبارة الأولى إلى موضع العبارة الخامسة، فلم يرتب الصفحة ولم يحسب الحساب، وهذا فن بحد ذاته، وهو قضية إعداد الهوامش وإعداد الجوانب وترقيمها، ووضع أرقام في كلا الجانبين في الأصل وفي الحاشية حتى تعرف أن هذا الشرح لهذه العبارة، وهكذا..
وحسن تنظيمها وترتيبها يساعدك على استذكارها واستعادتها مرة أخرى.
وأما تقييد العلم فقد جاء فيه أحاديث، ومن ذلك: قوله ﷺ: قيدوا العلم بالكتاب[جامع بيان العلم وفضله: 1/306، والسلسلة الصحيحة: 2026].
وكان لعلي صحيفة كتب فيها أحاديث، ولعبد الله بن عمرو بن العاص صحيفة يقال لها: الصادقة.
وقال الشعبي: "لا تدعن شيئا من العلم إلا كتبته" [تقييد العلم، للخطيب، ص: 100].
وقالوا: الحِبر عطر الحَبر.
من هو الحَبر؟ العالم.
والحِبر؟ حِبر المحبرة المداد.
قالوا: الحِبر عطر الحَبر، الناس يضعون الآن كالونيات وأشياء وعطورات، والعالم عطره حِبر قلمه.
فالعلم صيد والكتابة قيده | قيد صيودك بالحبال الواثقة |
فمن الحماقة أن تصيد غزالة | وتتركها بين الخلائق طالقة |
الحذر من الانشغال بالكتابة عن الحفظ والتدبر
وفي المقابل من الأشياء المهمة: الحذر أن تشغلك الكتابة عن الحفظ والتدبر، قال ابن الجوزي -رحمه الله-: تأملت حالة تدخل على طلاب العلم توجب الغفلة عن المقصود، وهو حرصهم على الكتابة خصوصًا المحدثين، فيستغرق ذلك زمانهم عن أن يحفظوا أو يفهموا فيذهب العمر وقد عروا عن العلم إلا اليسير، فمن وفق جعل معظم الزمان مصروفًا في الإعادة والحفظ، وجعل وقت التعب من التكرار للنسخ، فيحصل له المراد.
وهذه مسألة مهمة العلم الأساس ما هو العلم؟
المحفوظ في الصدور، هذ العلم، هذا الأساس، فإذا صرف الإنسان وقته للكتابة، في بعض الشباب مثلاً يجيدون عمل الأبحاث وكتابة الأبحاث فيكتبون أبحاثا وأشياء كثيرة وتحقيقات، لكنهم لا يصرفون وقتًا في الإعادة والتكرار والحفظ مع أن هذا هو العلم الأصل، الأصل العلم هو ما وقر في النفس.
فهؤلاء عندهم أبحاث كثيرة جداً لكنك لو جئت سألته عن مسألة يقول: لحظة أدور على أوراقي، الأوراق غير موجودة، ما هي مفهرسة أوراقي، ضاعت أوراقي، أو تسأله في الشارع أو في مكان ما عنده أوراقه فيقف أمامك مبهوتًا مفلسًا ما عنده شيء.
ولذلك لابد من وقت، أكثر الوقت للحفظ والتكرار، ووقت آخر لتقييد الفوائد والشوارد، وكتابة الشروح؛ لأنك إذا ما كتبتها ربما تضييع منك، فما هو الحل؟ أن تكتبها.
وكذلك لو قلنا لك: اكتب دائمًا، اعمل أبحاثاً، اكتب حواشٍ، وما قرأت هذه الحواشي، ولا قرأت المتن ولا شرحه، ولا الأصل ولا التعليق عليه، فكيف طلب العلم هذا؟
لا يكون طلبًا، قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "ولما كانت القوى تمل فتحتاج إلى تجديد، وكان النسخ والمطالعة والتصنيف لابد منه، مع أن المهم الحفظ وجب تقسيم الزمان على الأمرين، فيكون الحفظ في طرفي النهار وطرفي الليل، ويوزع الباقي بين عمل النسخ والمطالعة، وبين راحة البدن وأخذٍ لحظه. ولا ينبغي أن يقع الغبن بين الشركاء.
قال: والنفس تهرب إلى النسخ والمطالعة والتصنيف عن الإعادة والتكرار؛ لأن ذلك أشهى وأخف عليها" [صيد الخاطر، ص: 219].
أيهما أصعب التكرار والحفظ أم الكتابة والتدوين؟
فلو سألتكم سؤالاً فقلت: هل الأصعب على النفس التكرار والحفظ أو الأصعب عليها الكتابة والتدوين؟
التكرار والحفظ؛ لأنه لا شك يحتاج إلى مجهود أكبر، فيه مجاهدة أكبر، ولأن يحصل فيه ملل، أما الكتابة أنت تتنقل من شيء إلى شيء ومن مسألة إلى مسألة وتدون.
أما الحفظ فأنت تحتاج أن تقرأ العبارة عشر مرات أو عشرين حتى تحفظها، وهذا قد يوجب مللاً، ولذلك يجب الإنسان أن يقاوم مع نفسه ولا ينجرف معها فيما تتجه إليه.
وقال أيضاً -رحمه الله-: ما رأيت أصعب على النفس من الحفظ للعلم والتكرار، وخصوصًا تكرار ما ليس لها في نفس تكراره وحفظه. وكذلك حفظ مسائل الفقه، يعني أشياء صعبة، بخلاف الشعر والسجع فإن لها لذة في إعادته، تستلذ النفس في إعادة الأشعار والسجع، ونحو ذلك، لكن ينبغي للعاقل أن يجعل جُل زمانه للإعادة، خصوصًا الصبي والشاب فإنه يستقر المحفوظ عندهم استقرارًا لا يزول، وسيندم من لم يحفظ وقت الحاجة إلى النظر والفتوى.
وينبغي أن يحكم الحفظ ويكثر: التكرار ليثبت قاعدة الحفظ [صيد الخاطر، ص: 274- 275].
فإذًا، صرف الوقت الأكثر للحفظ، وحفظ بعض الأشعار والأشياء والأدبيات جيدة من باب الترويح عن النفس، لكن لا تصبح هي المقصود وهي الهم الأكبر.
إذا استغلق عليك فهم علم أجله حتى تتهيأ له فرصة أخرى للفهم
ومن القواعد كذلك في الطلب: أنه إذا استغلق عليك فهم علم أجله حتى تتهيأ لك فرصة أخرى للفهم، فبعض الشباب مثلاً يريد أن يدرس النحو فيبدأ بكتاب ويقرأ في شرحه فيجد أنه لا يفهم النحو ولا يجيده ولم يفقه فيه ما زال عنده التباس بين الفاعل والمفعول، وبين الحال والتمييز، وهكذا من أنواع الأشياء وأقسامها، فإذا ما وجد انطلاقة في البداية برغم التبسيط فإنه في هذه الحال يؤجل دراسة هذا العلم فترة من الزمن لعله أن يواجه أو يصادف انفراجًا في نفسه وفرصة للإتيان عليه، كما يحكى عن الخليل كما ذكر الأصمعي أنه اجتمع بالخليل بن أحمد -رحمهما الله- وحرص على فهم علم العروض من الخليل، الأصمعي يريد تعلم علم العروض من الخليل، فأعياه ذلك، حاول.. حاول.. فما وجد فائدة، فقال له الخليل يومًا قطع لي هذا البيت:
إذا لم تستطع شيئًا فدعه | وجاوزه إلى ما تستطيع |
ما كان مقصود الشيخ أن يقطع الطالب البيت، لكن كان المقصود المعنى الذي انطوى عليه البيت.
البيت يقول:
إذا لم تستطع شيئًا فدعه | وجاوزه إلى ما تستطيع |
وقد حصلت مثل هذه القضية مع العلامة محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله تعالى- فإنه كان يدرس عليه بعض الطلاب النحو واحد من الطلاب يدرس عليه النحو، ويحاول أن يفهم مع الشيخ، ويحاول أن يفهم ولا في فائدة، فقال له الشيخ محمد الأمين رحمه الله أعرب هذا البيت:
إذا لم تستطع شيئًا فدعه | وجاوزه إلى ما تستطيع |
الفرق: أن الأصمعي فهم المقصود، والطالب ما فهم المقصود فجلس يعرب ويحاول الإعراب.
الإقبال على العلم بالتفكير الطبيعي والعقل السوي
وكذلك من الأمور المهمة في طلب العلم: الإقبال على العلم بالتفكير الطبيعي والعقل السوي، فالفهم العادي السوي مهم جداً، والتفكير الفطري الخالص عن التعقيدات والشذوذات والأغلوطات والشبهات، اترك المداخلات جانبًا، أقبل على العلم بنفسية طبيعية، وتفكير عادي، يعني أقصد بعادي يعني ما فيه شذوذات، واترك قضية الشبهات لا تثير على الشيخ أنت في البداية، لا تثير عليه الشبهات، تقول: وإن كان كذا، وإن كان كذا، طيب يمكن المقصود كذا، دع التعقيدات ودع الأغلوطات جانبًا، ودع الشذوذات؛ لأن بعض الناس من كثرة مقاطعاتهم عقولهم ما تستقيم وتدخل العلم بشكل طبيعي، وإنما يحاولون الإتيان بالغرائب والعجائب، وأن يأخذ المسألة من باب غير اعتيادي، وبالنتيجة تتعقد عليه الأمور ولا يفهم، اترك الجدال في البداية، فرغ بالك للتعلم بالطريقة الطبيعية، وهذه مسألة في غاية الأهمية.
أما بالنسبة لقضية المطولات وجرد المطولات وقراءة المطولات مثل أيش ؟
"جامع الأصول"، "البداية والنهاية"، "درء تعارض العقل والنقل"، "تاريخ بغداد"، وما شابه ذلك من الكتب الطويلة، هذه ليس موقعها في البداية ولا في الوسط، وإنما تكون في مراحل متقدمة، وقد يفعل هذا من يريد جمع الفوائد أو تحضير محاضرة أو درس لكن ليس لمن يريد أن يؤصل نفسه تأصيلاً علميًا قويًا، وهذا يشغل عن التأسيس، أن تقول: خلاص نقرأ البداية والنهاية، ونقرأ مثلاً جامع الأصول، ونقرأ وأنت ما بدأت في الأربعين النووية، في شيء بسيط، ولا في كتاب في الفقه بسيط، أو كتاب في السيرة بسيط تريد أن تقرأ هذه المطولات من البداية، فهذه ليس محلها في البداية.
بعض النظريات الخاطئة في منهجية طلب العلم
وهناك نظرية بدأت تنتشر عند بعضهم موضة في هذه الأيام بعض الذين يريدون طلب العلم: اعتقاد أنهم إذا جردوا المطولات على بعض المشايخ فإنهم يكونون قد حصلوا العلم، فيقولون: يا شيخ نريد أن نقرأ عليك زاد المعاد من أوله إلى آخره، نتفرغ أسبوعين ثلاثة شهراً ننهي عليك زاد المعاد والبداية والنهاية، وننهي عليك جامع الأصول، وننهي عليك هذه العملية بهذه الطريقة ليست طلب علم بطريقة منهجية صحيحة، لا يتسنى للشيخ أن يعلق ولا ليشرح، وقصارى ما يحدث أن يقول هذا الطالب: ختمت الكتاب على الشيخ الفلاني، ليس المقصود أن تختم خمسة مجلدات أو عشر، المقصود أن تدخل من باب مؤسس، ولذلك العلماء كان يجعلون مثل كتاب درء تعارض العقل والنقل واقتضاء الصراط المستقيم وزاد المعاد ونحو ذلك يوضع في أوقات ليست أوقات طلب أساسية، مثل بعد الظهر أحيانًا.
وكذلك مثل كثير من الكتب هذه ما توضع في الفترات الأساسية للطلب، إذا كان عندك الأشياء الأساسية في أوقات محددة فلا مانع أن تأخذ مثل كتاب: غذاء الألباب، أو الآداب الشرعية، أو "إغاثة اللهفان"، هذه تؤخذ في غير أوقات الطلب الأساسية.
وكذلك بعضهم يفكر في قراءة كتب السنن من أول ما يطلب يقول نريد أن نقرأ ونأتي عليها وعلى مجملها، فنقول: تمهل رويدك فليست القضية الآن معاداة للسنن والنصوص، وإنما المسألة مسألة تجرد.
الجمع بين الأثر والنظر في طلب العلم
ومن أساسيات المنهج في الطلب وخصوصا التفقه في الدين: الجمع بين الأثر والنظر، وقد قامت عداوة مفتعلة بين أهل الفقه وأهل الحديث، وطار بعض شررها وتأثر منه كثير من الناس، ولكن العاقل الذي ينظر إلى العلماء المحققين ماذا قالوا في المسألة بين في قضية أهل الحديث وأهل الفقه أو أهل النظر وأهل الأثر أهل الرأي وأهل الحديث، هذا قيل أنه في الحجاز قد اشتهر مذهب أهل الحديث لكثرة مذهب أهل الحديث؛ لأن الأحاديث كثيرة والنصوص متوافرة، والعلماء موجودين الذين سمعوا هذه النصوص ودرسوها، بينما كانت مثلاً بالعراق تشتهر مدرسة أهل الرأي؛ لأن الحديث فيها قليل وطلاب الحديث فيها قليل، هذا مر في فترة من الفترات، فالآن بالنسبة للاتجاه في الحديث والفقه أو قضية التفقه كيف تكون، الصواب أن تكون جمعًا بين الأثر والنظر، قال الخطابي -رحمه الله- في كلام عظيم متين في مقدمة كتابه: "معالم السنن في شرح سنن أبي داود" قال: رأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر وأصحاب فقه ونظر، وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة؛ لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب.
ووجدنا هذين الفريقين على ما بينهم من التداني في المحلين والتقارب في المنزلتين، وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم إلى صاحبه إخوانًا متهاجرين، وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين.
فأما هذه الطبقة الذين هم أهل الأثر والحديث فإن الأكثرين منهم إنما وكدهم الروايات وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مكذوب، لا يراعون المتون ولا يفهمون المعاني" يقول: من الآفات أن الواحد فقط يعكف على متون الأحاديث فقط، ويطلب الأسانيد والطرق أنه لا يفقه المعاني "ولا يستنبط سيرها" وهذا خطأ "ولا يستخرجون ركازها وفقهها، وربما عابوا الفقهاء وتناولهم بالطعن، وادعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أتوه من العلم قاصرون، وبسوء القيل فيهم آثمون.
في الجانب المقابل الذي يقول فقط: فقه، ما نبغى نصوص ولا أدلة، لا نريد، ننظر ونرى في الأمر "أما أهل الطبقة الأخرى وهم أهل الفقه والنظر فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقله، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيده من رديئه، ولا يعبؤون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها، ووافق آراءهم التي يعتقدونها، وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم، وتعاورته الألسن فيما بينهم" يقولون: هذا حديث مشهور في كتبنا، في كتب الفقهاء، طيب انظر قد يكون ضعيفًا لا يصلح للاحتجاج به "من غير ثبت فيه أو يقين علم به، فكان ذلك ضلة من الرأي، وغبنًا فيه".
ثم قال: وهؤلاء لا يقبلون من أقوال أئمة الأئمة أبو حنيفة إلا من طريق أبي يوسف ومحمد بن الحسن لا يقبلون قول مالك إلا من طريق ابن القاسم والأشهب، لا يقبلون قول الشافعي إلا من طريق المزني والربيع [معالم السنن: 1/3 - 4].
طيب إذا كان لا تقبلون كلام أئمتكم إلا من خلال التلاميذ الموثوقين فالأحرى ألا تقبلوا الكلام الذي ينسب إلى النبيﷺ إلا من طريق الثقات المعروفين.
فهذا خلاصة الجمع بين الأثر والنظر، وبين الفقه الحديث، الفقه يجب أن يكون مختلطًا بالحديث، قال الترمذي: "سمعت أبا عبد الله يقول: إذا كان يعرف الحديث ويكون معه فقه أحب إليّ من حفظ الحديث لا يكون معه فقه" [الآداب الشرعية: 2/122].
وقال سفيان بن عيينة: "يا أصحاب الحديث تعلموا معاني الحديث فإني تعلمت معاني الحديث ثلاثين سنة [الآداب الشرعية: 2/125].
وهؤلاء الذين يعتمدون على الأحاديث دون الفقه ويجمعون الطرق ويغربون ويشغلهم ذلك عن معرفة الواجبات، حتى أن أحدهم يشغل عن أركان الصلاة فلا يدري ما هي، وقد يستحي من رد الفتوى يجمع أحاديث ويحفظ دون فقه، فيفتي بما لا يحسن ذكره حتى أن امرأة سألت أحد هؤلاء الذين يجمعون الحديث فقط دون فقه سألت أحدهم وهو في مجلس مع أناس كثيرين: إني حلفت بصدقة إزاري أيش الحل؟ حلفت أنها تتصدق بالإزار وربما تكون محتاجة إليه؟ طيب ماذا أفعل، وهذا ما عنده فقه، فقال: بكم اشتريته؟ قالت: باثنين وعشرين درهمًا، فقال: الجواب: صومي اثنين وعشرين يومًا، فلما ذهبت جعل يقول: آه غلطنا والله أمرناها بكفارة الظهار، وكفارة الظهار كم يوم؟ صيام كم يوم؟ ستين، وهذا أول شيء قال: بكم شريته؟ قالت: باثنين وعشرين دهم، قال: الحل بدل الكفارة الحلف هذا صومي اثنين وعشرين يوم، ثم قال: غلطنا، أعطيناها كفارة الظهار.
فإذًا، مثل هذا كيف يصلح أن يعلم الناس؟
فإذًا، الاشتغال بالنصوص فقط من غير معرفة المعاني خطأ، ولذلك قلنا أن بعض الشباب يخطئون عندما يتفقهون بصحيح الجامع، ويقرأون يكون علمهم مثلاً من كتاب مثل صحيح الجامع، كتاب أحاديث، صحيح أنها أحاديث مخدومة ومخرجة، لكن هل موجود فيها الشروح، قد يكون الحديث منسوخًا، قد يكون مخصوصًا.
فإذًا، هذه الطريقة لا تصلح، والانشغال فقط بالنسخ ومعرفة الصحيح من الضعيف والجرح والتعديل واتصال السند وجمع الطرق، ثم لا تعرف معنى الحديث هذا عيب كبير.
زوامل الأخبار لا علم عندهم | بمثقلها إلا كعلم الأباعد |
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا | بأوساقه أو راح ما في الضرائر |
تعلم الفقه وأهمية الفقه
ثم ننتقل إلى قضية تعلم الفقه وأهمية الفقه، قال ابن الجوزي -رحمه الله-: إن الفقه عليه مدار العلوم "فإن اتسع الزمان للتزود من العلم فليكن من الفقه فإن الأنفع" [صيد الخاطر، ص: 184].
وقال الشافعي ليونس بن عبد الأعلى: عليك بالفقه فإنه كالتفاح الشامي يحمل إنعامه.
وقال ابن الجوزي: الفقه عمدة العلوم.
وقال محمد بن الحسن: كان أبو حنيفة يحثنا على الفقه وينهانا عن الكلام.
وكان يقول: لعن الله عمرو بن عبيد لقد فتح للناس الطريق إلى الكلام فيما لا يعنيهم.
وقال بعض العلماء: "أفضل العلوم عند الجمهور بعد معرفة أصل الدين وعلم اليقين معرفة الفقه والأحكام الفاصلة بين الحلال والحرام" [الآداب الشرعية: 1/125].
فلا شك أن علم التوحيد أشرف العلوم، العلم بالله وأسمائه وصفاته وربوبيته وإلهيته هذا أشرف العلوم ما في شك، وبعده يكون الفقه.
-طبعًا- كل اثنين على الكتاب والسنة ما في شك، والاعتناء بالدليل وصحة الدليل، ما في ذلك شك، كيف تعتقد شيئًا لم يصح، وكيف تعمل بشيء في الحلال والحرام لم يصح.
وقال كذلك: "أعظم دليل على فضيلة الشيء النظر إلى ثمرته، ومن تأمل ثمرة الفقه عرف أنه أفضل العلوم، واعتبر هذا بأهل زماننا، فإنك ترى الشاب يعرف مسائل الخلاف الظاهرة فيستغني، وكم رأينا مبرزاً في علم القرآن أو في الحديث أو في التفسير أو في اللغة لا يعرف مع الشيخوخة معظم أحكام الشرع، وربما جهل علم ما ينويه في صلاته.
على أنه ينبغي للفقيه أن لا يكون أجنبيًا عن باقي العلوم، فإنه لا يكون فقيهًا بل يأخذ من كل علم بحظ، ثم يتوفر على الفقه فإنه عز الدنيا والآخرة [صيد الخاطر، ص: 177 - 178].
فإن سألت عن منهج دراسة الفقه، وكيف ندرس الفقه، فالجواب باختصار في ابتداء دراسة الفقه أن تجمع بين متن فقهي ميسر يُشرح على شيخ ثقة ومتن حديثي يطعم الفقه بأحاديث الأحكام.
وإذا أردت أن تدرس متنًا خاليًا من الأدلة فلتدرسه على شيخ يبين لك الراجح بالأدلة.
وإذا وجدت الشيخ لا يهتم كثيرًا بالأدلة فاختر كتابًا فيه أدلة، فمثلاً تقدم: "منار السبيل على زاد المستقنع".
أيهما أكثر أدلة؟
"منار السبيل".
أما إذا وجدت الشيخ يبين الأدلة فلا بأس أن تدرس عليه متنًا في الفقه لا تكثر فيه أو تندر فيه الأدلة لأنه سيبين من خلال الشرح.
فإذًا، لا بأس بقراءة كتاب من كتب المذهب مثلاً على شيخ أو طالب علم يذكر فيه الراجح بالدليل، فيؤصل من خلال الشرح.
أما الكتاب بمجرده فقد لا يعطي لك شيئًا كثيرًا في الغالب.
ودراسة الفقه من غير نصوص تورث أخذ الأقوال بلا أدلة، والتقليد المذموم، والمتعصبة يدرسون الفقه دون حديث، وبعض الشاطحين في المقابل يدرسون الحديث دون فقه، فلو جمعت بين كتاب في كل جهة منهما لكان ذلك جيدًا، فلو درست العمدتين: عمدة الفقه لابن قدامة، وعمدة الأحكام لعبد الغني -رحمه الله- لكان هذا الجمع جيداً جداً، أو أخذت مثلاً: زاد المستقنع مع كتاب بلوغ المرام على سبيل المثال تجمع بين المتن الفقهي وبين المتن الحديثي، فإن ذلك خير عظيم.
ثم بعد ذلك في الفقه تتدرج أول ما تأخذ كتابًا واحدًا ما فيه إلا قول واحد حتى لا تتشتت، القول موجود مع الدليل من شرح الشيخ أو من شرح المتن نفسه إذا ما وجد شيخ، متن يشرح بالأدلة الصحيحة، هذا هو خط البداية.
ثم بعد ذلك تنتقل إلى معرفة القولين أو الخلاف في المسألة، ونحو ذلك، أو ما يوجد في المذاهب الأخرى.
وتأمل ابن قدامة -رحمه الله- كيف رتب المنهج فإنه أولاً: جعل "العمدة" عمدة الفقه قول واحد، ثم "المقنع" قولان، ثم "الكافي" في تفصيل أكثر، ثم "المغني" فيه فقه مقارن، فالذي يريد أن يدرس المسائل من المغني مباشرة من أولها وهو لم يجيد على الأقل قولاً في المسألة بدليله يعرفه، فهذا يضيع كثيرًا.
وكتاب "العمدة" على سبيل المثال وإلا يختلف البلدان لو ذهبت إلى بلد في المغرب لوجدت أنهم يدرسون مثلاً متناً في الفقه المالكي، أو في بلد آخر يدرسون متنًا في الفقه الشافعي أو الحنفي، ونحو ذلك، أو قد يدرس متناً ليس على مذهب معين ك "الدرر البهية للشوكاني" مثلاً.
فالشاهد: أن تجمع بين متن فقهي مع متن آخر فيه أدلة.
وحتى متون الحديث، أحاديث الأحكام فيها تدرج فمثلاً: إذا بدأت ب "عمدة الأحكام" ثم "بلوغ المرام"، ثم "منتقى الأخبار" هذه متون فيها ابتداء وتوسط وتوسع.
أمور ينبغي أن يتنبه لها القارئ في كتب الفقه
ولا بدّ للقارئ في كتب الفقه أن ينتبه إلى أمور منها:
أولاً: ما يكون في بعضها من المخالفة للنصوص الثابتة في الكتاب والسنة ومتابعة للمذهب فقط وتأييد للرأي المحض عن النص كما يذكر مثلاً في بعض كتب المذاهب أن الإمام يقوم في صلاة الجنازة عند صدر الرجل والمرأة، ليش؟ قال لأن الصدر فيه القلب، والقلب هو مستقر الإيمان.
فإذًا: نقوم عند الرجل والمرأة في صلاة الجنازة عند الصدر في كليهما، مع أن السنة قد جاءت بأن يقف الإمام عند رأس الرجل، ووسط المرأة.
أو مثلاً ما يوجد في بعض الكتب من أن حضور النساء للجماعات متروك بإجماع المتأخرين.
طيب هذا تحكيم للعقل تحكيم للرأي في النص وماذا أفادنا إجماع المتأخرين إذا كان خالف الكتاب والسنة.
وكذلك: الحذر من الأحاديث الضعيفة والموضوعة والاحتجاج بها، واستنباط الأحكام منها، فتجد مثلاً في بعض كتب الفقه وضع اليدين تحت السرة أحاديث وضع اليدين تحت السرة في الصلاة، أو مثلاً دفن الشعر والأظفار، أو عدم استقبال الشمس والقمر أثناء قضاء الحاجة، أو إعادة الوضوء من القهقهة، هذه الأحاديث ما هي؟
كلها ضعيفة لا يصلح الاحتجاج بها، ولا الاعتماد عليها، فلا بدّ من الحذر أثناء القراءة في الكتب الفقه من هذا الأمر.
وكذلك: أن تحذر من تقديم أقوال العلماء المتأخرين على أقوال الأئمة المتقدمين.
وكذلك: عدم انحباس طالب العلم المتقدم في مذهب واحد ويترك الاستفادة من علوم المذاهب الأخرى.
ومن أمثلة ما تقدم في اعتماد أقوال بعض العلماء المتأخرين وترك فعل المتقدمين: أن بعضهم قال مثلاً: لا يجوز للشافعي أن يقتدي بإمام حنفي، وبعضهم قال: لا يجوز للحنفي أن يقتدي بإمام شافعي، مع أن الأئمة كانوا يصلون وراء بعضهم البعض، والاختلافات التي بينهم لا تمنع الاقتداء بعضهم ببعض في الصلاة، فيقولون قول المتأخرين: لا يقتدي الشافعي بالحنفي أو الحنفي بالشافعي.
ولذلك وجدت أربع محاريب في المساجد، كل جماعة تصلي لوحدها، الأحناف لوحدهم، والمالكية لوحدهم، والشافعية لوحدهم؛ لأن المتأخرين عندهم أن الشافعي ما يقتدي مثلاً بالحنفي، وهكذا.. مع أنه في عصر أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد يصلي بعضهم وراء بعض، أحمد يصلي وراء الشافعي، ولا يقول هذا يخالفني في فروع فأنا لا أصلي وراءه.
فأخذ كلام بعض المتأخرين المخالف للمتقدمين هذه مشكلة.
كذلك: الانحباس على أقوال مذهب معين وعدم أخذ الاستفادة من أقوال المذاهب الأخرى أيضاً فيه ضيق، وفيه فوائد كثيرة، بل إن التعصب وصل عند بعضهم أنه قال: كتب المذهب الفلاني مثل أحاديث أهل الكتاب لا نصدق ولا نكذب، نتوقف فيها.
وكذلك: ليحذر من خلو كثير من الكتب المذهبية من الأدلة الشرعية بحيث صارت المتون الفقهية هي المرجع الأول والأخير، وهذا خطأ.
وكذلك: في بعض الكتب الفقهية تجد الخوض في مسائل خيالية وافتراضات سخيفة، وأحيانًا تكون المسائل الخيالية هذه تكون نتيجة اعتقادات صوفية باطلة فقد تسربت الاعتقادات الصوفية الباطلة إلى بعض كتب الفقه، فمثلاً تجد في بعض هذه الكتب: بحث في الصلاة إلى أرض الكعبة إذا خرجت الكعبة.
أين خرجت الكعبة؟
قالوا: لزيارة الأولياء، إذا راحت الكعبة لزيارة الأولياء وبقيت أرضها فارغة، ماذا يفعل من يصلي في الحرم؟
الجواب: اتفقوا على أنه يصلي إلى الأرض الفراغ، إلى فراغ أرض الكعبة.
وكذلك الأشياء السخيفة كما قالوا: لو دخل رجل في فرج امرأة لوجب عليه الغسل؛ لأنه بطبيعة الحال قد غيب الحشفة، هل هذا كلام يعقل؟ وإنما شيء يستحى من أن يقال.
وهناك أمثلة أخرى كثيرة في هذا، لكن يعف اللسان عن ذكرها.
كذلك: فتح باب الحيل المحرمة فهذا ينتبه منه.
وكذلك: مخالفة الفروع للأمور المقرة في أصول حتى أصول المذهب.
وكذلك: التعقيد في أسلوب بعض المتون.
وسبق أن ذكر بعض العلماء قالوا: ليس العالم الذي يحفظ متنًا من المتون ، ليس العالم الذي يحفظ متن مختصر خليل في فقه المالكية أو مراقي الفلاح والكنز في فقه الحنفية، أو غاية التقريب عند فقه الشافعية، أو زاد المستقنع عند الحنابلة.
"من حفظ الزاد حكم بين العباد" لا، المسألة تحتاج إلى فهم للمتن وأدلة، ولا يصح قطع الطالب عن الكتاب والسنة.
وكذلك: في طلب الحديث هناك تدرج في طلب الحديث، يبدأ مثلاً ب "الأربعين النووية"، ثم ينتقل إلى كتاب أوسع مثلاً "عمدة الأحكام"، وهكذا سبق أن أشرنا إلى ذلك، ويجعل العلل آخر شيء آخر ما يدرس في الحديث العلل وهو أصعبها، أصعب شيء في علم الحديث العلل.
وكذلك: ينتبه دارس الحديث إلى جمع الطرق؛ لأن جمع الطرق تتبين فيه أشياء كثيرة، كما قال الإمام أحمد -رحمه الله-: إذا لم يجمع طرق الحديث لم يفهم والحديث يفسر بعضه بعضًا يعني الطرق تجد زيادة في حديث تفسر لك الحديث الآخر، وهكذا..
وكذلك: أن يعلم صحيحه من سقيمه، هذا من الأشياء المهمة جداً في علم الحديث.
ومن هنا نعلم: أن الذين يدرسون المصطلح ثم يغوصون في الأسانيد والرجال، وهذه قضية لها لذة، لا شك أن دراسة المصطلح والأسانيد والرجال لها لذة، وتعلمها سهل، والنتائج سريعة، وكثير من هؤلاء يصدرون مؤلفات: حققه فلان، وخرجه فلان، وعلق عليه فلان، يجب أن نعلم أن هؤلاء القاصرين المقتصرين على المصطلح والجرج والتعديل ليسوا طلبة علم حقيقيين.
نعم، قد تفيد مجهوداتهم في أشياء، قد يسهلون لطالب العلم المبتدئ الذي يريد أن يؤصل نفسه إذا قرأ في كتب العلم أن يعرف الصحيح من الضعيف، لكن هم أنفسهم هؤلاء المخرجين والمحققين كثير منهم ليسوا بأهل علم، لكن الآن أصحاب دور النشر يقولون: الكتب الماشية في السوق الكتب المخرجة والمحققة، تريد تشتغل تريد تؤلف ألف في التخريج والتحقيق، يقول: الآن الكتب الماشية كتب العقيدة، وكتب خرجه وحققه، والأحاديث، ألف في هذا.
فهم إذًا يتجهون لهذا من باب التكسب والمتاجرة، ولا لطلب العلم، وقد لا يبتغون فيها وجه الله.
وتجد الواحد منهم يعارض أقوال فحول العلماء لمجرد أنه عرف كيف يخرج رجال من كتب، ويتكلم في إسناد، فهؤلاء ليس لهم في طلب العلم المؤسس نصيب وافر، ولا طريقة صحيحة.
وينبغي على من يشتغل في التخريج أن ينقل كلام العلماء المتقدمين في التصحيح والتضعيف، وألا يحكم هو بنفسه في البداية؛ لأن الحكم يحتاج إلى تعمق وخبرة، وهو ما صار له سنوات معدودة يشتغل في هذا، ثم يخالف كلام العلماء الكبار، فينبغي على طالب العلم أن لا يأبه بقول هؤلاء إذا خالفوا الراسخين.
الحذر من إهمال القرآن وتفسيره
ثم ننتقل إلى مسألة مهمة جداً وهي: الحذر من إهمال التفسير وإهمال كتاب الله .
ومع الأسف فإنه في هذا الزمان التفسير لا يكاد يوجد له طالب، وهذا من كيد الشيطان، فتجد الطلاب يتجهون إلى الأصول والمصطلح والنحو، ويتركون أصل الأصول وهو تفسير القرآن، لا يعرفون حتى تفسيرًا مبسطًا للقرآن أو متوسطًا، مع أن التفسير المسند بالآثار المنقولة عن السلف ومعرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومقاصد الآيات هذا لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين.
ولذلك ينبغي الاهتمام بتفاسير القرآن المبنية على الأثر: تفسير القرآن بالقرآن، تفسير القرآن بالسنة، تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين، وكلام أهل العلم.
وينبغي على الإنسان أن يدرس التفسير تفسيرًا مبسطًا مثل: "تفسير العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-"، فإذا انتقل بعد ذلك إلى "تفسير ابن كثير" يكون عنده فكرة مجملة عن تفسير القرآن.
فإذًا، أن يدرس مثلاً تفسير المفصل، ويبتدئ بالمفصل يحفظه ويدرس تفسيره، فيبدئ بتفسير مبسط حتى يتعود على الأسلوب وعلى المنهج، ثم بعد ذلك يأخذ ما بعده.
أما أنه يبدأ من البداية فيحضر السورة من تفاسير كثيرة وهو ما سلك السبيل الطبيعي الذي فيه التدرج فلا شك أنه يضيع أيضاً.
دراسة علم النحو
ومن العلوم المهمة الواجب الذي ينبغي تحصيلها لارتباطها بفهم الكتاب والسنة: دراسة علم النحو، وقال أهل العلم: من العلوم التي تلزم صاحب الحديث معرفتها معرفة النحو لئلا يلحن، ولكي يورد الحديث على الوجه الصحيح، ويعرف أصل الكلمة واشتقاقها ومعناها، وهل هي مصدر أو فعل، وكان ابن عمر يضرب ولده على اللحن رواه ابن شيبة بإسناد جيد [مصنف ابن ابي شيبه: 5/240، الأدب المفرد: 1/304، جامع بيان العلم وفضله: 2/1133] من الصغر يربون أولادهم على اللسان الفصيح.
وقال شعبة: مثل الذي يتعلم الحديث ولا يتعلم النحو مثل البرنس لا رأس له [جامع بيان العلم وفضله: 2/1133].
وقال بعض العلماء: اللحن في الكلام أقبح من آثار الجدري في الوجه [الآداب الشرعية: 2/129].
وكذلك: ينبغي أن يصحح النطق ويعرف الإنسان اللغة لكي يفهم الكتاب والسنة كما كان يفهمها العربي الأول، كانوا لا يحتاجون إلى تفاسير لأن لغتهم صحيحة، فلما خاطبهم القرآن والسنة وقعت في قلوبهم موقعًا.
عدم الخلط بين الألفاظ الشرعية والمصطلحات المستحدثة
وكذلك مما ينبغي أن ينتبه إليه عند دراسة القرآن والسنة: عدم خلط كلام العلماء المتقدم أو الألفاظ الشرعية بالمصطلحات المستحدثة الجديدة التي حدثت بعد ذلك.
افرض أن إنسانًا مثلاً قال: الواجب ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، والمكروه مثلاً: مَا يُثَاب على تَركه، وَلَا يُعَاقب على فعله، ثم قرأ قول الله في الزنا والقتل وأكل مال اليتيم، وآخر الآية: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًاالإسراء: 38] فماذا يقول الآن هذا مكروه يعني؟ هذا يعني لا يعاقب فاعله ما دام أنه مكروه؟ فإذًا، معرفة التفاصيل هذه مهمة.
وفهم القرآن والسنة ينبغي أن يفهم مع الأخذ بعين الاعتبار المصطلحات المتأخرة أنها لا تدخل في هذا الفهم فيخطئ الإنسان.
تعلم النحو وأساليب اللغة
وكذلك فإن تعلم اللغة مهم؛ كما قال الحسن -رحمه الله- لما سئل: أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويقيم بها منطقه؟ قال: نعم فليتعلمها، فإن الرجل يقرأ بالآية فيعياه توجيهها فيهلك.
وقال الشاعر:
النحو يصلح من لسان الألكن | والمرء تعظمه إذا لم يلحن |
ولحن الشريف محطة من قدره | فتراه يسقط من لحان الأعين |
وترى الدني إذا تكلم معربا | حاز النهاية باللسان المعلن |
وإذا طلبت من العلوم أجلها | فأجلها منها مقيم الألسن |
قال ابن عبد البر -رحمه الله- معقبًا: لو كان مهتديًا هذا الشاعر لقال:
وإذا طلبت من العلوم أجلها | فأجلها منها مقيم الأدين |
[الآداب الشرعية: 2/129].
والعلم بالنحو يسدد الفهم فيعلم الضمير يعود على أي شيء، وأنه قد لا يشترط أن يعود على أقرب مذكور مثلاً.
وكذلك: يعلم يعني اشتقاق الكلمة مهم: ألم يأتك خبر الذي لما جاء على تفسير قول الله : رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ [آل عمران: 117] ؟ قال: الصر هذا الصراصير، ريح فيها الصراصير، فيها صراصير الليل.
ومن العجائب كذلك: أن بعض هؤلاء إذا قرأ نصًا يستغرب مع أن لو عنده شيء من الفهم الصحيح في قضية الضمائر لعلم أن المسألة ليست هكذا؛ كما حدث في بعض الشباب قرأ: أن النبي ﷺ أتي بصبي فوضعه في حجره فبال عليه ﷺ
تصور عادي الفهم الآن يقول لنا: كيف النبي ﷺيبول؟ كيف يبول على الصبي؟ فهمني هذه، فهذا يتقي الله ويستغفر الله، النبي ﷺ يفعل هذا؟ كيف يتبادر هذا الفهم إلى الذهن؟ كيف؟
ومثال آخر: أن أحدهم جزم أن حديث أبي هريرة في النزول على اليدين قبل الركبتين مقلوب، قال: وقال الحاكم أنه مقلوب، فقال له شخص كيف هذا؟ كيف تقول إنه قال مقلوب؟ قال: أنا آت لك بكلام الحاكم، ففتح المستدرك وأتى على كلام الحاكم بعد الحديث هذا، لما أورد الحاكم هذا الحديث قال: والقلب إلى هذا أميل، يقصد بالقلب فهمه وفقهه في قلبه أنه إلى حديث أبي هريرة أميل، قال: لا، هذا يفهم القلب يعني أنه مقلوب.
وكما ظن بعضهم أن الحلق لا يجوز قبل صلاة الجمعة؛ لحديث: نهى عن الحلق قبل الجمعة، مع أن الحديث نهى عن الحِلق قبل الجمعة، يعني عن التحلق.
وهكذا الأخطاء الكثيرة التي تقع في الفهم نتيجة عدم معرفة النحو واشتقاق الكلمات، ومن أين جاءت، وهكذا..
والضبط لا بدّ أن الإنسان يضبط.
والكتاب لا يضيئ إلا إذا أظلم، يعني بالتعليقات والضبط والحواشي، لا يضيئ الكتاب إلا إذا أظلم.
ومما ينبغي أيضاً أن ينتبه إليه في القراءة: هذه حادثة حصلت أن بعض الشباب لما اتجه إلى القراءة في كتاب المحلى لابن حزم في وقت مبكر، حصلت عنده ظاهرية مفرطة، وابن حزم نفسه لما ألف الكتاب ألفه بعد أن قطع مشوارًا في الطلب، ثم هذا يريد أن يقرأ يقول: اعجبني أسلوب ابن حزم أسلوبه ممتاز، فأورثه ذلك ما عنده قواعد ابن حزم فكيف تتوقع أن تكون النتيجة في النهاية؟
ترقيق القلوب وليس فقط الجمع
ومن الأمور المهمة كذلك في طلب العلم: ترقيق القلوب وليس فقط الجمع؛ لأن كثرة الحفظ والجمع قد تقسي القلب، فلابدّ من التطعيم بالمرققات، وتلذيع النفس بأسباب المرققات تلذيعًا لا يقدح في كمال التشاغل بالعلم، وإلا فإن الانشغال فقط بالتحصيل والحفظ وعلوم الآلات ونحوها قد يقسي القلب، فإذا لم تجعل لك نصيبًا من العبادات والقراءة في كتب الوعظ والزهديات والرقائق تأسن النفس.
ولذلك فإن القراءة في ذكر الموت وزيارة المقابر وأخبار المحتضرين، وحسن الخاتمة وسوء الخاتمة، هذا أمر لا بدّ منه، وإلا فقد يقسو قلب طالب العلم.
كتب مقترحة للمبتدئين في طلب العلم
وفي النهاية نقول: إن وضع معرفة منهج يسير عليه الإنسان في الطلب طالب علم وغيره في البداية سواء الذي عنده استعدادات والذي ما عنده استعدادات لابدّ أن يكون للجميع برنامجاً، لكن المرحلة الأولى منه يشتركون فيها ولا يشترط أن ينتقل الجميع إلى المرحلة الثانية أو الثالثة، وهكذا..
فإذا أخذت مثلاً في التفسير الحفظ المفصل مع معرفة معانيه من تفسير ابن كثير مثلاً، فهذا شيء جيد.
وفي الحديث: "الأربعين النووية"، ثم "رياض الصالحين" أو أبواب منتقاة من صحيح البخاري، طبعًا مع شرح كل ذلك، فهذا أمر مهم.
في العقيدة مثلاً: لو أخذت مثلاً: أعلام السنة المنشورة، والعقيدة الواسطية، وفتح المجيد، فهذا خير كبير.
وفي الفقه تأخذ مثلاً: كتاب العبادات على أحد الكتب الفقهية المعتمدة، وتجمع بينه وبين معرفة الأدلة مع قراءة فتاوى العلماء المعاصرين يكون هذا شيء جيد في طلب الفقه.
وبعد ذلك تأتي أشياء أخرى مثل السيرة والفكر الإسلامي والأخلاق والسلوك والآداب والرقائق والدعوة، ونحو ذلك، فهذه أشياء أيضاً ينبغي أن يكون لك فيها سهم.
فالمقصود: أن هذا برنامج مبسط يشير إلى بعض الأشياء التي لابدّ أن يكون الطلب فيها.
التأكيد على ضرورة طلب العلم
ونعود ونقول فيما بدأنا في البداية: إن الإنسان لابد أن يطلب، ولا يقول: أنا تخصصي غير شرعي وأنا موظف وأنا إنسان مشغول وعندي مناوبات، لست معذورًا في ترك تعلم دين الله، ولا يصلح أن يبقى الإنسان جاهلاً.
وينبغي أن يحرص على كل فرصة تسمح له بالتعلم، ولابد أن يحسن أوضاعنا.
أما أن نبقى على هذا الجهل، فهذا غير صحيح، هذا خطأ كبير جداً أن نستمر على جهلنا.
وقد تواجهك أشياء في ظروف لا تجد فيها عالمًا تسأله، فماذا تفعل، وليس عندك علم عن المسألة، على الأقل يا أخي تحفظ فتاوى العلماء، حفظ فتاوى العلماء فيه خير عظيم.
إذا لم تستطع أن تسلك سبيل التفقه على أصوله على الأقل احفظ فتاوى العلماء، فلست معذورًا في ترك الطلب، ولا بد أن تستمر على الطلب.
ومن أساسيات المنهج الصحيح: طلب العلم.
من الأشياء التي تميزنا عن الصوفية والمبتدعة وغيرهم: طلب العلم لا بدّ من هذا.
أما ترك الطلب ويقال: للعلم أهله ونحن ما لنا، فهذا انحراف لا شك في ذلك.
فهذا ما تيسر جمعه وذكره من بعض الأشياء التي تتعلق بالمنهج في طلب العلم.
ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص والاستقامة والفقه في دينه والفوز بجنات النعيم.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.