مقدمة بين يدي الموضوع
نطرح في هذه الليلة هذا الموضوع المهم، ونتحدث عنه؛ لأن الدعوة إلى الله يجب أن تسير في خضم هذا العفن الذي يرتع فيه كثيرون، وغمرة هذه الانحرافات التي يتأثر بها المجتمع، ولا حل -كما قلنا سابقاً- إلا بالدعوة إلى الله، وبأن يتوب هذا المجتمع إلى الله ، وأن نقوم بتربية الناس على دين الإسلام.
صفات يجب توفرها في الداعية
وحتى نحقق هذا الدور ينبغي أن يكون هناك صفات، هناك أمور نتطلبها في شخصيات الدعاة إلى الله ، نحاول أن نلقي الضوء على بعضها في هذه الليلة، ونسأل الله أن يجعلنا من الدعاة إلى سبيله والموفقين إلى عمل الخير إنه سميع مجيب قريب.
قوة إيمان الداعية
أيها الإخوة: في شخصية الداعية إلى الله لا بد أن يكون هناك إيمان يغمر هذه النفس، وأن يكون هذا الإيمان قوياً بالله واليوم الآخر لكي يتحرك هذا الداعية في العمل لهذا الدين.
ولم يكن نجاح الثلة المؤمنة في المجتمع الأول في نشر دين الإسلام وتغيير بلاد بأكملها؛ بلاد الشام والعراق ومصر وغيرها، غُيرت واقعاً ولغة وديناً بهؤلاء المؤمنين الذين انطلقوا في جنبات الأرض وفجاجها ومسالكها ينشرون منهج الله في الأرض، ويحطمون قلاع الكفر والوثنية قلعة تلو قلعة.
هؤلاء المؤمنين من أصحاب محمد بن عبد الله الذين عمر الإيمان قلوبهم فكانوا كما وُصفوا: فرسان بالنهار ورهبان بالليل [المجالسة وجواهر العلم: 4/123] كانوا أصحاب عبادة.
ينبغي أن يكون تقوية الإيمان موضوعاً مهماً جداً، بحيث يرتقي الإنسان بإيمانه ودينه.
فيعرف أولاً: ما هو الإيمان، أنه اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، فلماذا يعصي إذاً؟
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة: 124].
لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح: 4].
هذه الزيادة التي تحدث بوسائل كثيرة، ومنها: الآية، الحديث، النبوة، سماع الوحي من مصدر النبوة.
ملئ عمار إيماناً إلى مشاشه، يخالط لحمه ودمه وعصبه، إنه معه دائماً، ولذلك تكون موالاته في الله، ومعاداته في الله، كلما سمع هذا الداعية آية أو حكمة زادته إيماناً.
إن زيادة الإيمان تتطلب جهداً، وأما نقصانه فلا يتطلب إلا الغفلة والانسياق وراء الهوى.
والإيمان كذلك يحتاج إلى تثبيت، ولذلك فإن الله وصف المؤمنين بأنهم ينفقون ما ينفقون ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا ًمن أنفسهم.
فهم يعملون الطاعات لتثبيت الدين في قلوبهم، وبدون العبادات وبدون طاعات كيف يثبت الدين ؟
إن هناك مسألة تخيف كل مخلص وهي أن ينتكس على عقبيه، وأن ينكص، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
والله قادر على أن يسلب العبد إيمانه.
والله يزيد الذين يريدون الهداية هدى، ولكن الذي يريد الزيغ يزيغ الله قلبه.
نريد تفكراً يزيد الإيمان في هذه الآيات المنثورة في الكون والمسطورة في كتاب الله –تعالى-، وإعمالاً للعقل الذي هو في القلب فيها، بناءً على ما جاء في الكتاب والسنة.
هذا الذكر، وهذا العمل، هذه المحافظة على النوافل، وكذلك الأذكار، هذه الأعمال اللسانية وأعمال الجوارح التي تزيد الإيمان.
أليس من العيب أنه قد يوجد بعض الأشخاص يستطيعون الرد على الطوائف الضالة، وإفحام المرجئة والمبتدعة وغيرهم، ولكن هذا الشيء الذي صار الخلاف فيه بيننا وبين المرجئة وهو قضية الإيمان لا يزيد في قلوبهم؟
إذا كنا نستطيع أن نفهم عقيدة أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات على القواعد الصحيحة دون أن تؤثر الأسماء والصفات علينا، دون أن يكون لهذه الأسماء والصفات آثار في نفوسنا، إذاً عملنا ناقص، ما عندنا استطاعة للربط بين الأسماء والصفات وآثارها في الواقع وتحقيق معنى أسماء الله سبحانه تعالى: الرحيم، التواب، الرزاق، في واقعنا بحيث نكون قريبين من الله .
إن اجتماع المسلم مع إخوانه على الخير يزيده إيماناً، سواء كان اجتماعاً في عبادات كصلاة التراويح التي نحن مقبلون عليها، ونسأل الله أن يبلغنا ذاك الشهر، وأن يتم علينا نعمته بصيامه وقيامه، صلاة الجماعة، صلاة العيدين، الكسوف، الحج، الجهاد، وحدة الزمان، وحدة المكان تزيد الإيمان، أو كان اجتماعاً على علم أو دعوة أو مشروع خيري.
ويتواصى هو وإياه: "اجلس بنا نؤمن ساعة" [صحيح البخاري: 1/10].
أيها الإخوة: إن هذا التواصي الذي فقده الكثيرون، من منا الآن يذهب إلى أخيه المسلم زائرا ًله يطلب منه أن يجلس معه ليزداد هو وإياه إيماناً؛ كما افترق الصحابيان فصار بيد كل واحد منهما نوراً آتاه الله إياه كرامة.
وهكذا انصرف أسيد ، وهكذا نزلت الملائكة تستمع لقراءته.
أيها الإخوة: إن الشريعة لما حثت على التزاور في الله، وجعلت الذي يزور أخاه في الله، يقال له: طبت وطاب ممشاك [رواه الترمذي: 2008، وابن ماجه: 1443، وأحمد: 8536، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2578]، لا لأجل تزجية الأوقات، ولا لأجل أن يذهب الوقت هدراً، وأن تكون تلك اللحظات مصروفة في مضيعات الأوقات، كلا، وإنما لكي يزداد هذا بهذا إيماناً.
كان بعض السلف ربما يتذكران مسائل من العلم والإيمان من بعد صلاة الفجر والعشاء حتى يطلع الفجر وهما على تلك الحال.
ثم نحتاج إلى صبر يثبت الإيمان، الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، والإنسان قد يدعو مرة أو مرتين، ويتصدق مرة أو مرتين، ويبذل مرة أو مرتين، لكن لا يطيق الاستمرار على هذا إلا المصابرون.
بعض الناس يعملون جداول ويمشون على هذه الجداول في علم أو في أعمال من الطاعات وعندهم أوراد لكن الذي يواظب على ذلك قلة.
أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلّ [رواه مسلم: 2818].
وكان النبي ﷺ يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك [رواه الترمذي: 2140، وأحمد: 12107، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 102].
ولا بد أن يكون هناك ابتعاد عن الأجواء المسمومة والأجواء التي تسبب أن تأسن النفس حتى يكون الإنسان بمنأى عنها.
تحلي الداعية بالحكمة
يحتاج الداعية إلى الله أن يكون عنده: صفة الحكمة.
شخصيات الدعاة يجب أن تتصف بالحكمة، تلك الحكمة التي جعلت النبي ﷺ يكف مع أصحابه عن رفع اليد، واستعمال القوة في مكة؛ لأنهم قلة، لو أنهم استعملوا يداً، أو رفعوا سلاحاً في ذلك الوقت ماذا كانت النتيجة؟
فقيل لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ [النساء: 77] حكمة مؤيدة بالوحي.
وهكذا كان النبي ﷺ يأمر أصحابه على الصبر، ولذلك فإن كفار قريش، بل العرب تعجبوا من هذه النوعيات الجديدة التي تستثار فلا تثور.
والعربي من طبيعته أنه إذا استثير فإنه يلجأ إلى القوة مباشرة لكنهم ضبطوا أنفسهم بتلك الحكمة.
تلك الحكمة في الدعوة التي جعلت النبي ﷺ يقيد أسارى بدر في مكان قريب من المسجد حتى يسمعوا كلام الله، فيقول الصحابي جبير بن مطعم لما سمع الآيات تتلى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور: 35] قال: "كاد قلبي أن يطير" [رواه البخاري: 4854].
تلك الحكمة التي جعلت النبي ﷺ يمتنع عن قتل عبد الله بن أُبي مع أن نفاقه قد تبين، وآذى النبي ﷺ إيذاءً عظيماً، وأراد أن يسبب فتنة كبيرة بين المسلمين، وقال لقومه أهل المدينة: مثلنا ومثل هؤلاء الذين زاحمونا على المياه" على مصادر المياه، لما اقتتل ذلك المهاجري مع الأنصاري على بئر الماء، ومن الذي يشرب ويسقي الدواب أولاً، لما صار قال: "كاثرونا، مثلنا ومثلهم كما قال الأول: "سمّن كلبك يأكلك".
ما هو الحل؟
بالكلام الخفيف، وبالمؤامرة الشنيعة: اقطعوا عنهم الطعام، امنعوا عنهم الماء، سيرحلوا عنكم.
أراد أن يحدث فتنة ممكن أن ينكب المجتمع الإسلامي بها نكبة عظيمة جداً إذا دق إسفين الفرقة بين المهاجرين والأنصار، ولو أطاعوا عبد الله بن أبي ماذا كان حصل؟
وهو الذي قال: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون: 8].
وهو الذي رمى عائشة بالأمر العظيم، وهو الذي رجع في أحد بثلث الجيش، مؤامرة تلو مؤامرة، مع ذلك النبي ﷺ لم يطاوع عمر في قتله، حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه [رواه البخاري: 4905، ومسلم: 2584] حكمة.
عبد الله بن أُبي محسوب على المسلمين في الظاهر، وعند العرب رجل معروف، كان سيتوج ملكاً على قومه في المدينة، شخصية معروفة في العرب، ليس نكرة، فهو محسوب على المسلمين، ولما انتصروا في بدر قام بعد صلاة الجمعة يعمل مواعظ ينصح قومهم بأن يبايعوا النبي ﷺ ويطيعوه.
كل ذلك نفاقاً، وكذباً، وتستراً.
محسوب على المسلمين في الظاهر، لو قتله النبي ﷺ ماذا ستقول العرب؟
صاحبه قتله، دخل في دينه وقتله، بدون جرم ظاهر.
إذاً، نحن لو دخلنا في دينه ممكن نقتل بدون جريمة!
حكمة من النبي ﷺ.
الحكمة مطلوبة في الدعوة -أيها الإخوة-.
الحكمة هي التي تجنب الداعية إلى الله أن يستعمل قوة في غير موضعها.
الحكمة التي تجنب الداعي إلى الله أن يبدأ بشيء ليس من الأولويات.
الحكمة من الداعية إلى الله هي التي تجعله يعرف ما هي الطريقة المناسبة للتسلل إلى نفس هذا المدعو وقلبه، وكيف يبدأ معه، وبماذا يبدأ.
أيها الإخوة: هذه الحكمة التي نفتقدها كثيراً سببت شروداً لعدد من الناس بسبب افتقاد بعض الدعاة للحكمة.
قدرة الداعية على تحمل المسؤولية
من الصفات المهمة جداً في شخصيات الدعاة: القدرة على تحمل المسؤولية، "الناس كإبل مائة لا تجد فيهم راحلة" [رواه البخاري: 6498، ومسلم: 2547] والراحلة هي التي تحمل، تحمّل وتتحمل.
وهناك مهمات عظيمة ينبغي القيام بها، وإذا ما وجد من هذه الشخصيات من تتحمل المسؤوليات وتقوم بها، وتعرف معنى المسؤولية، لما النبي ﷺ قال لأصحابه: من يأخذ السيف بحقه؟ [رواه أحمد: 12235، والطبراني في الكبير: 14، والحاكم في المستدرك: 5019، والبيهقي السنن الكبرى: 18474، وقال محققو المسند: "سناده صحيح على شرط مسلم"] أبو دجانة لما تقدم كان يعرف معنى هذا الكلام، يعرف ما معنى أن يتقدم ويأخذ السيف، السيف هذا أخذه فضرب ففلق به هام المشركين، فلق به رؤوس المشركين، ولذلك نجح القادة.
لماذا نجح القادة الإسلاميون الأوائل؟
لماذا نجح أسامة بن زيد مع أنه صغير في السن؟ لماذا نجح جعفر الطيار ونجح عبد الله بن رواحة، ونجح زيد، ونجح خالد بن الوليد؟
لماذا نجح أبو عبيدة ونجح سعد بن أبي وقاص؟ لماذا نجح أولئك؟
نجحوا لأنهم يعرفون معنى المسؤولية، مسؤولية مهمة، يجب على الإنسان المسلم أن يكون عنده قدرة على تحمل المسؤولية.
الناس ثلاثة: رجل يحرك نفسه ويحرك غيره، هذا عنده تحمل مسؤولية، ورجل يحرك نفسه وليس عنده قدرة على أن يحرك غيره، والثالث أنزل المراتب يحتاج إلى من يحركه.
نحن نحتاج أن نكون متحركين قادرين على تحريك غيرنا.
إذا عندك قدرة أن تدفع غيرك إلى الأمام، عندك تحمل المسؤولية، الذي يرى منكراً ولا يسكت يشعر بالمسؤولية، الذي يرى إنساناً مدعواً، إنساناً تائهاً، يتحمل مسؤولية دعوته، يقوم بها، الذي يرى أناساً في جهل، يتحمل مسؤولية تعليمهم، الذي يرى شركاً منتشراً وبدعة فإنه يريد أن يحارب البدعة، ويحارب الشرك، يتحمل مسؤولية، عندما الإنسان يتزوج، يكون له زوجة وأولاد، مسؤولية في تربيتهم.
لما حبس بنو العباس بني أمية قيل لهم في الحبس: ما أشد ما فقدتم؟ قالوا: تربية أولادنا.
تربية الأولاد مسؤولية عظمية.
أيها الإخوة: بناء مسجد مسؤولية، وعمل أي مشروع خيري مسؤولية، عمل برنامج دعوي مسؤولية، القيام بأي نشاط خيري مسؤولية، أي جمع للصدقات مسؤولية.
أما إذا كان الواحد لا يتحمل المسؤولية، فمعنى ذلك أنه سيضيع القضايا، هب أنه وكل بجمع صدقات ماذا سيفعل؟ ربما يضع العنوان شيئاً ويأخذ من الناس على شيء آخر، ويضع بطانية الشتاء في كفالة يتيم، وأموال المجاهدين في تحفيظ القرآن، وأموال تحفيظ القرآن في تفطير الصائم، وفوضى بسبب عدم القدرة على تحمل المسؤولية.
وممكن يستمر لصرف أيتام بعدما بلغوا، واليتيم بعد البلوغ لا يسمى يتيماً، لكن بسبب التسيب وعدم تحمل المسؤولية تضيع أشياء كثيرة.
ولذلك لما نجح أولئك الفاتحون الأوائل، لما صاروا قادرين على تحمل المسؤولية.
قدرة الداعية على معالجة المواقف وسد نوافذ الشر
من المواصفات المطلوبة في شخصيات الدعاة إلى الله : القدرة على معالجة المواقف وحسم القضايا، وسد نوافذ الشر وأبواب الفتنة.
لما قام السامري بعمل الخدعة الكبرى في بني إسرائيل وأخذ عجلاً، أخذ بقية هؤلاء اليهود كانوا أخذوا من القبط في مصر حُلياً واستعاروه، فلما ذهب موسى لموعد مع ربه استغل السامري أن القيادة القوية الأولى ليست موجودة ليلعب لعبته.
هؤلاء عندهم ورع، من شيء ووقوع فيما هو أعظم منه بكثير، قالوا: هذا الذهب أخذناه من القبط، كيف يكون معنا ويبقى؟ لابد أن نتخلص منه.
حفروا حفرة، وضعوه فيه، جاء السامري بقبضة من أثر الرسول، وقيل: فرس جبريل.
فألقاها في ذلك، وسوى لهم تمثالا من عجل، ما هو معبود بني إسرائيل الأصيل؟ اليهود معبودهم الأصيل ما هو؟ الذهب. فلما عمل لهم عجلاً من ذهب له فتحة في مؤخرته وفتحة في مقدمته، وإذا هبت الريح صوّت، قالوا: هذا هو هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى [طـه: 88] لكن موسى نسي وراح إلى اتجاه ثانٍ، وهذا هو الإله الحقيقي. فعبدوه، عبدوا العجل، هو معبود اليهود الأصيل، وصارت الفتنة، وهارون قال: يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي اسمعوني وَأَطِيعُوا أَمْرِي [طـه: 90] ما أفاد.
ولم يكن يريد أن يذهب عنهم حتى لا يلومه موسى ويقول: كيف تركت بني إسرائيل؟ أنا وليتك عليهم،
رجع موسى وقد أخبر من الله بأن قومه قد فتنوا، هذه الشخصية كيف واجهت الموقف؟ رجع واحد ليرى ناساً تعب معهم، كان يدعوهم في مصر وهم تحت نير الاستعمار من قبل فرعون، والتسلط الذي حدث من ذلك الطاغية، وكان يربيهم وقتاً بعد وقت وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [يونس: 87] يا قومي استعينوا بالصبر والصلاة.
ويقولون له: أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ الأعراف: 129].
لما أصيبوا بالإحباط قبل أن يصلوا إلى ذلك البحر: قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62]
ويعبر بهم البحر ويمرون: اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: 138] أين التربية الأولى؟
شبه ضاعت.
يتركهم فترة بعد المعاناة لملاقاة الله، يرجع القوم منحرفين، كأن التربية ضاعت.
ولذلك موسى صبر على قومه صبراً عجيباً، واحد يبقى معهم سنين ثم يغيب عنهم فترة يسيرة فيرجع وقد نقضوا أساس الدعوة وهو التوحيد، وعبدوا عجلاً، وأشركوا مع الله، بالسهولة هذه ينخدعون هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى [طـه: 88] عبدوا العجل.
رجع موسى، ماذا فعل؟
هذه الصفة المهمة للشخصية المسلمة في حسم المواقف والقدرة على استيعاب القضية ومعالجة الأوضاع المتفجرة والعودة بها إلى بر الأمان، رجع مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا [طـه: 86].
أولاً: أراهم الغضب على ما صنعوا، والنكير على ما فعلوا مشتداً عليهم: يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا [طـه: 86] أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ [طـه: 86] في انتظار ما وعدكم الله؟ أَمْ أَرَدتُّمْ بل أردتم أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ بهذا الصنيع، بالشرك؟ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي [طـه: 86] فبكل وقاحة: مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا [طـه: 87] ليست القضية باختيارنا، ولا بقدرتنا، وأعذار باردة، لماذا فعلوا ذلك؟ قالوا: نحن تورعنا عن حلي القبط، ألقيناها في الحفرة، كيف نأخذ من القبط الحلي؟ نحن استعرنا عارية: فَقَذَفْنَاهَا [طـه: 87] وألقيناها عنا، فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ قبضة في التراب، وعجن لهم هذا: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ [طـه: 88].
هذا عذر!
مثلما جاؤوا في الحج إلى ابن عمر، يقولون: دم البعوض، المحرم يقتل البعوضة وإلا لا؟ قال: تقتلون ابن بنت رسول الله ﷺ وتسألون عن دم البعوض. [رواه البخاري: 5994].
هؤلاء يتورعون عن الحليّ الذي أخذوه من الكفرة من المحاربين لهم من قوم فرعون، يتورعون عن الحلي، ويلقونه في الحفرة، ثم لما يصنع العجل يعبدونه ويشركون بالله ويكفرون به؟ أيش الورع الفاسد هذا؟
يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طـه: 92 - 93]؟ أمسك بالقائد البديل، بالنائب، لماذا حصل هذا؟ محاسبة.
واستثار هارون فيه العاطفة: يَا ابْنَ أُمَّ ما قال يا أخي، يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طـه: 94].
لأنك أمرتني أن أمكث فيهم، لو فارقتهم أنا.
بعدما عنف قومه وردهم إلى الحق وأنبهم على ما صنعوا، ثم حاسب القائد البديل، والنائب، اتجه إلى مصدر الفتنة بعد ذلك: فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ [طـه: 95] تحقيق، فأخبره بما فعل: قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ [طـه: 97]، مسلط عليك من الله عذاب، أن لا تمس أحداً ولا أحد يمسك، ولا تستطيع أي مساس، اذهب مقبوحاً منبوحاً طريداً، لا تمس أحداً ولا أحد يمسك، لَا مِسَاسَ ، هذا في العذاب في الدنيا، وفي الآخرة وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا [طـه: 97] انظر كيف موسى يقضي على الفتنة، يقضي على الفتنة ويئدها في مهدها ويتخلص منها إلى الأبد، لَّنُحَرِّقَنَّهُ نأتي بمبارد الحديد ونجعله ذرات: ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا [طـه: 97] في ريح عاتية ما يبقى له أثر، ولا يمكن الوصول إليه في المستقبل، والقضاء على المنكر قضاءً تاماً.
وهكذا استوعب موسى الموقف، نحتاج إلى رجال مواقف يتعاملون مع المواقف، ويحسنون مواجهة هذه الأزمات، لا بد أن يكون هناك تحمل للمسؤولية والقيام بالواجب، وكذلك مواجهة هذه الأزمات.
اقتداء الدعاة بالأنبياء
أيها الإخوة: إن من المتطلبات في صفات الدعاة: أن يكون عندهم اقتداء وتأسي؛ لأن هذه شخصيات تحتاج إلى تكميل، واقتداءً بمن؟
أولاً: بالأنبياء فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90].
يوسف مثال في العفة، كيف امتنع عن قربان المرأة بالحرام رغم توفر كل الدواعي للزنا؟ رجل أعزب، عبد في القصر، لا يشك فيه، يدخل يخرج على كيفه، شاب، يتوقد حيوية، والمرأة جميلة وذات منصب، وهي التي دعته، والأبواب مغلقة، وغاب الرقيب، والزوج ما عنده غيرة: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ [يوسف: 29]
يا يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا [يوسف: 29]، شيله من القصر ما دام شفت النار والبنزين، أين الغيرة؟ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ .
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا [يوسف: 29] اعتبر ولا كأن شيء صار، وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ .
والزوج ما عنده غيرة، والمرأة هي التي دعته وهددته بالسجن، واستعانت عليه بكيد النسوة، ومع ذلك: قَالَ مَعَاذَ اللّهِ [يوسف: 23].
يوسف ضرب مثلاً في الحلم، فلما قدر على عقوبة إخوته وهذه الجريمة الكبيرة التي فعلوها فيه، فرقوا بينه وبين أبيه، تسببوا في أنه يكون في رقّ العبودية، ويدخل السجن، ولما قدر عليهم كان حليماً: لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ [يوسف: 92].
يونس مثال في اللجوء إلى الله في الشدة: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ [الصافات: 143] وعنده رصيد أعمال صالحة من قبل لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات: 144].
وهذا شعيب، تحديد لأهداف الدعوة: إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: 88].
وهذا محمد ﷺ خاتم الرسل فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90].
إبراهيم في ولائه وبرائه، ولاؤه لله وبراءته من المشركين.
وهذا موسى في المعاناة والصبر على الشدائد التي لقيها.
وهذا نوح في الاستمرارية في الدعوة، وتنويع الوسائل، وباللين والصبر والمصابرة والتحدي: إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود: 38].
هذا أيوب في صبره على البلاء.
وحتى القدوات النسائية موجودة في التاريخ، هذه مريم العابدة.
وهذه آسيا الصابرة على ظلم الزوج، وحتى لاقت ربها على الدين.
وهذه خديجة المؤازرة في الدعوة.
وهذه عائشة الناقلة للعلم.
وهذه فاطمة سيدة نساء العالمين، تزيل سلى الجزور عن ظهر أبيها وتقبل على الكفار تسبهم بشجاعة.
وبنتا الرجل الصالح في العفة والصيانة: لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء [القصص: 23] لا نخالط الرجال، ما خرجنا للعمل تسلية، لكن أبونا شيخ كبير.
ولما جاءت تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء [القصص: 25] استحياء غير خرّاجة ولا ولّاجة ولا سلفع، فهي تقول: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ وليس أنا أدعوك.
ما هو الغرض من الدعوة؟
حتى لا يكون هناك أي ريبة: لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا .
ولما صارت الفرصة للتخلص من العمل خارج البيت والوظيفة التي لا تناسب المرأة: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ [القصص: 26]، نخلص من العمل خارج البيت، المرأة: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب: 33].
فهنالك قدوات على مستوى الرجال، على مستوى النساء، حفل بها التاريخ كلها موضع للاقتداء والائتساء.
شخصيات الأنبياء متكاملة، تربية فذة، صحابتهم تأثروا بهم، وحواريوهم اتبعوهم، وأخذوا عنهم، والعلماء عن الصحابة، فنحن قدوتنا الأنبياء والصحابة والعلماء.
وأيها الإخوة: إن هناك مخرجاً عظيماً لمن يقتدي بالصالحين، وفيها إنقاذ له، قد يكون الإنسان في ضلالة، قد يكون في بدعة، قد يكون في انحراف، قد يكون في جهل، فتنقذه القدوة.
ابن تيمية أنقذ ابن القيم
يا قوم والله العظيم نصيحة | من مشفق وأخ لكم معوان |
جربت هذا كله ووقعت في | تلك الشباك وكن ذا طيران |
حتى أتاح لي الإله بفضله | من ليس تجزيه يدي ولساني |
حبر أتى من أرض حران فيا | أهلا بمن جاء من حران |
فالله يجزيه الذي هو أهله | من جنة المأوى مع الرضوان |
أخذت يداه يدي وسار فلم يرم | حتى أراني مطلع الإيمان |
[متن القصيدة النونية، ص: 143].
هذه التربية، أن تدل المتربي على المنهج الصحيح، وتجعله يستلم الطريق ليمشي بعد ذلك.
أخذت يداه يدي، وسار فلم يرم، مربي يدل المتربي، ويقوده ويعلمه، وهكذا يريه الحق.
أخذت يداه يدي وسار فلم يرم | حتى أراني مطلع الإيمان |
ورأيت آثارا عظيما شأنها | محجوبة عن زمرة العميان |
[متن القصيدة النونية، ص: 143].
والناس لا يردونه إلا من ال | لاف أفرادا ذوي إيمان |
[متن القصيدة النونية، ص: 144].
وقال في موضع آخر عن نفسه لما كان مع الصوفية ماشياً، كان ابن القيم في طريق آخر:
لولا تداركه الإله بلطفه | ولى على العقبين ذا نكصان |
لكن توقف خاضعا متذللا | مستشعر الإفلاس من أثمان |
فأتاه جند حل عنه قيوده | ........................................ |
[متن القصيدة النونية، ص: 264].
هؤلاء الإخوة أهل الخير، يحلون عنك قيود المعصية، يحلون عنك قيود الجهل، يحلون عنك قيود البدعة، يحلون عنك قيود الغفلة.
هؤلاء لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ [الأنعام: 71].
فأتاه جند حل عنه قيوده | فامتد حينئذ له الباعان |
والله لولا أن تحل قيوده | وتزول عنه ربقة الشيطان |
كان الرقي إلى الثريا مصعدا | من دون تلك النار في الإمكان |
[متن القصيدة النونية، ص: 264- 265].
ثم قال:
إن رمت تبصر ما ذكرت فغض طر | فا عن سوى الآثار والقرآن |
[متن القصيدة النونية، ص: 265].
التكامل في شخصية الدعاة
المطلوب في شخصية الدعاة: أن يكونوا في تكامل.
والتكامل هذا -أيها الإخوة- ما يحصل إلا بالتأسي، تأخذ من كل واحد أحسن ما عنده: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا وإن لكل أمة أميناً، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح [رواه ابن ماجه: 154، ].
شيء في الإيمان مضرب في التقوى، في الأعمال الصالحة، في العلم، في القضاء، في الفرائض، في الأمانة، في القراءة، وهكذا...
فإذا أخذ الإنسان من هذا حماسه في الدعوة، من هذا حماسه في العلم، ومن هذا حماسه في العبادة، ومن هذا حسن خلقه، ومن هذا بره بأبيه، ومن هذا .. ومن هذا.. اجتمع فيه الخير كله.
نحتاج أن ندقق جيداً في قضية الائتساء والاقتداء لنرتفع بشخصياتنا إلى أعلى.
وإذا كنت تريد أن تكون مصلحاً وأن تكون داعية فلا بد أن تتصف شخصيتك بالصفات العالية.
لا بد أن تتصف شخصيات الدعاة بعامل التثبيت للآخرين، الناس كثيرٌ منهم مهزوزون، يعني لا يوجد علم شرعي، لا يوجد رؤية صحيحة، يضيعون في الأوضاع، يأتي حزب مشرك جاهلي يعمل بعض الأشياء التي تظهر للناس على أنها بطولات ويزعمون أشياء، يصفق الناس لهم ويسمون أولادهم على أسماء أولئك القوم، ويمشون وراءهم، ويناصرونهم، يعتبرونهم مثلاً أعلى.
يا قومي ناس مشركون! لو المشرك قاتل يهودي فكان ماذا؟
فخار يكسر بعضه بعضاً.
أيها الإخوة: من الذي يملك الرؤية الصحيحة في الأحداث؟ من الذي يستطيع أن يقدم للناس رؤية شرعية على الكتاب والسنة فيما يجري؟
الناس يعيشون هزات، يعيشون غبشاً، يعيشون ردة، يعيشون انتكاساً، إذا جاءت أحداث يمكن أن تهزهم، وتكسر أشرعة مراكبهم، ويفقدون البوصلة، ويروحون في اتجاهات أخرى.
تثبيت، عامل التثبيت مهم جداً، لا بد من واحد يثبت على الأقل، ويرفع الراية حتى يرتد إليه بقية الناس، النبي ﷺ في معركة حنين رغم أن معه أكثر من عشرة آلاف شخص، لكن ولى أكثرهم الأدبار: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا [التوبة: 25].
ولو الأدبار، كيف تراجع الناس؟ كيف حصل التثبيت؟
ثبت النبي ﷺ، ثبت معه قلة، صار ينادي الناس، يعلن عن نفسه، يعلن عن مكان الحق:
أنا النبي لا كذب | أنا ابن عبد المطلب |
[رواه البخاري: 2930، ومسلم: 1776].
أمر العباس أن يصيح بهم، وكان جهوري الصوت: يا أصحاب بيعة الشجرةـ يا أصحاب بدر، يا كذا..، الصفات، تراجع إليهم الجيش.
لو ما حصل هذا التثبيت كان طاروا من زمان.
ولذلك -أيها الإخوة- وجود من يثبت الناس في المحن، الإمام أحمد -رحمه الله- لماذا ما سامح العلماء الذين استجابوا؟ لأنه رأى أن تراجع هؤلاء يفقد الناس العناصر المثبتة.
ولذلك فإن وجود هذه العوامل، وجود هؤلاء الناس الذين يثبتون في المحن، شهوات، شبهات، هو الذي يجعل الناس يفيئون إليهم، فإذا فاءوا إليهم بقيت القوة الإسلامية موجودة.
كان أحد الدعاة إلى الله في أحد بلدان الأعاجم، يلقي خطبة في الناس، فجاء أحد أعداء الدعوة ليطلق عليه الرصاص، في ذلك الحشد، وهو واقف على المنصة، فارتبك الناس عند سماع الصوت، والدوي، وهذا الدوي، فمن قفز، ومن احتبى واختفى، ومن شرد، فقام بعضهم ينصحونه: اجلس حتى لا يصيبك شيء، فقال كلمته المشهورة: إذا جلست أنا فمن سيظل واقفاً هنا؟
فعلاً، إذا جلست أنا فمن سيظل واقفاً هناك؟
لا بد واحد يبقى، لا بد أن يُعبر عن الحق، لا بد من قلة تنقذ الموقف.
أيها الإخوة: إن النشاط والهمة في الدعوة أمر مطلوب، الحيوية، العمل، اعملوا، اعملوا فكل ميسّر لما خلق له [رواه البخاري: 4949، ومسلم: 2647].
كان ذلك الداعية يكتب المجلة ويطبعها ويوزعها على دراجة هوائية لقلة ذات اليد وحده، واحد، يصدر المجلة، ويطبع المجلة، ويوزع المجلة، واحد!
هناك ناس عندهم مبادرات، ونشاط، وهمة، ولذلك فيحصل النجاح.
ثم -أيها الإخوة- لا بد أن يكون هناك تجرد عن الهوى، وإخلاص لله ، لما النبي ﷺ قال: من بنى لله مسجداً ذكَّرنا بأن الذي يبنيه رياءً لا يدخل في الحديث، والذي يبنيه بأجرة، يبني ويأخذ فلوساً لا يدخل في الحديث.
الذي يكون له بيت في الجنة: من بنى لله مسجداً بنى الله له في الجنة مثله [رواه مسلم: 533].
قال ابن الجوزي -رحمه الله-: من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيداً من الإخلاص.
من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة إخفاء الأعمال.
التجرد عن الهوى -طبعاً- هذه من علامات الإخلاص.
بعضهم قد يتكاسل، مشتغل بالدعوة عن العبادات والصلوات بحجة القيام بأمور الدعوة.
يا أخي: ممكن تحدث مرة، النبي ﷺ تأخر مرة عن صلاة؛ لأنه ذهب إلى بني عمرو بن عوف يصلح بينهم، لشيء عظيم، فتأخر في الرجوع، حصلت مرة، مرتين، لكن سائر صلواته كيف كانت؟
يدرك تكبيرة الإحرام.
بعض الناس ممكن ينجرفون مع الهوى فيضيعون أشياء ويزعمون أنها على حساب أشياء، يمكن أن يبرر القسوة في كلامه مع الآخرين على أنها حزم، يمكن أن يقسم المهمات على الآخرين، ويبقى هو دون أي عمل.
بعضهم يحب التسلط.
بعضهم يحب التصدر، عنده حب للرئاسة.
حب الرئاسة هذا ما أكثر ما قتل الإخلاص وذبحه عند كثير من الدعاة.
تعالوا نجتمع؟
من الرئيس؟!
يا أخي: صل على النبي ﷺ، لماذا؟ هذا أول شيء، من الرأس؟ لماذا؟
هذه صدور المجالس مذابح، فكان السلف يتوقون صدور المجالس؛ لأنها تذبح الإخلاص، قضية التصدر عندهم من القضايا المحاربة، لا بد أن تتصف شخصية الدعاة إلى الله للتجرد عن الهوى، لأنه داعية ومثل وقدوة، كيف هو يكون متبعاً للهوى ثم يريد أن يكون داعية؟
ثم كذلك: القدوة صفة القدوة في شخصية الداعية، من المتطلبات العظيمة أن يشعر هذا المدعو أنه أمام إنسان قدوة في أقواله، في أفعاله، لا يدخل في ما لا تقولون وما لا تفعلون، بل إنه يطبق ما يفعل، ليس عنده أنواع من النفاق إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر [رواه البخاري: 34، ومسلم: 58]، فجور في الخصومة ورد الكلمة عشرة، إذا خاصم فجر .
بل عنده أدب إسلامي، عنده عبادة، صاحب علم، إنسان يطبق ما يتعلم.
أبو داود استأجر قارباً ليذهب يشمت واحداً عطس على الشاطئ الآخر، للتطبيق.
وتسرى الإمام أحمد، اشترى أمة، اتباعاً للسنة.
واحتجم وأعطى الحجّام ديناراً، لماذا؟
قال: النبي ﷺ أعطى أبا طيبة الحجام ديناراً.
قدوات، لماذا صاروا يقتدى بهم؟
تعلموا وطبقوا ما تعلموا، فكانوا قدوات.
فإذا أردت أن تكون قدوة -يا عبد الله- فاعمل بما علمت: "هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل" [بغية الطلب في تاريخ حلب: 8/3637].
وكذلك يجب أن تتصف شخصيات الدعاة إلى الله -تعالى- بالأخلاق اللازمة في الدعوة؛ كالرفق، وعدم الخلط بينه وبين التسيب والإهمال، وإذا اتصف بالحزم فلا يخلط بينه وبين الشدة المقيتة والعنف.
وإن من موانع الرفق أحياناً: طبع عند الإنسان، أو يفهم الحزم فهماً خاطئاً، فيترك الرفق، ويقع في الشدة، وما كان الرفق في شيء إلا زانه.
وكذلك فإن صفة الكرم مهمة جداً لكي ينجح الداعية في دعوته، والنبي ﷺ استقطب ناساً كثيرين من العرب بالكرم، وأعطى مائة من الإبل، ومائة من الإبل، وأعطى عطاء من لا يخشى الفقر، حتى رجع الواحد من عنده يقول لقومه: إني رأيت -رأى عجباً- رأيت من يعطي عطاء لا يخشى الفقر.
يعطي وادي غنم، يعطي..!
جاء مخرمة إليه ومعه ابنه المسور، فخرج إليه النبي ﷺ والحديث في الصحيح، يقول: خبأت لك هذا [رواه الترمذي: 2818، وأحمد: 18927، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"] تأليفاً لقلبه، خبأ له لباساً نفيساً، خبأ له، لما جاء هذا يزوره وكان في خلقه شيء، أخرج له، قال: خبأت لك هذا ! أعددته لك، وهيأته لك، هدية.
فتألف قلوب أناس كثيرين بالعطايا، ولذلك اجتمعوا عليه مع حسن خلقه ودعوته ومؤيد من ربه، وهذا الفيض العظيم.
استمرارية الداعية في العمل
أيها الإخوة: إن هناك من الصفات المهمة: صفة الاستمرارية في العمل.
من المتطلبات في شخصية الدعاة: الاستمرارية، المواظبة، المداومة، وقلنا: إن النبي ﷺ استحب المداومة وإن قلة على الأعمال؛ لأن الانقطاع مصيبة.
لو واحد انقطع عن عمل صالح أو أعمال صالحة ممكن جداً ينتكس.
من أسباب الاستمرارية على الثبات على الطريق: المداومة على الأعمال الصالحة ولو كانت قليلة.
هذه المداومة -يا أخوان- تنافي المزاجية التي يتصف بها البعض، فيعملون تارة ويتركون أخرى، وينشطون مثل الدعوة في أول الفصل الدراسي ثم ينامون بعد ذلك، وربما قاموا ببعض المجهودات في وقت من الأوقات.
الآن أحداث فلسطين حركت الناس، صار عند بعضهم حماس، وعمل، وصدقات، وأدعية، وبعضهم يمكن ترك أشياء من المعاصي؛ لأن الوضع في مصائب المسلمين لا يتحمل أنه..، استحيا شيئاً ما، لكن تمر الأيام، يهدأ الوضع، تبرد الأحداث، ماذا يحدث في النفوس؟! أين الاستمرارية؟ أين الاستمرار في العطاء؟ أين المواظبة؟
حديث: من ثابر على ثنتي عشرة ركعة من السنة بنى الله له بيتا في الجنة [رواه الترمذي: 414، وابن ماجه: 1140، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 579] السنن الرواتب، فانظر إلى قوله: ((ثابر)) في رواية صحيحة من ثابر على ثنتي عشرة ركعة المواظبة في العمل مهمة جداً.
استحب بعض العلماء أن الإنسان إذا كان ختم القرآن، إذا خلص من سورة الناس شرع في الفاتحة والبقرة، ولا ينتهي عند سورة الناس، لماذا؟
قالوا: حتى لا ينقطع.
إذا أنهى ختمة في نفس المجلس يبدأ ختمة جديدة، إذا أنهى ختمة في مجلس ما يسكر المصحف، يبدأ ختمة جديدة حتى يصير عنده دافع الاستمرار، خلصنا وبدأنا من جديد، لأجل قضية المواظبة والاستمرارية هذه.
بعض الأحيان توجد ظروف تجعل الناس يبردون، مثلاً داعية ينشط في أول الفصل الدراسي، ثم تأتي الامتحانات يصير فيه نوع من البرود، تأتي الإجازات يحصل نوع من الانقطاع.
فالإجازات والامتحانات تجعل بعض الناس ينزل عطاؤهم.
لكن إذا قلنا: إن الدعوة مواسم مثل التجارة، والواحد ممكن يجد موسماً رابحاً فيدخل فيه بقوة، ينبغي إذا خفّ الموسم أن يفتح له مجال عمل جديد، وإذا كان خف نشاطه في الدعوة لأسباب مقبولة مثل الامتحانات أو الإجازات أحياناً، فإنه في الإجازات ينبغي أن يكون مثلاً متقداً في طلب العلم، ويعوض بعض ما فاته.
أما أن الواحد ينشط في وقت من كل ناحية في الدروس وفي الدعوة وفي مرافقة الأخيار، وإلى آخره، ثم بعد ذلك كل الأشياء تبرد مع بعض، معناها هذا إنسان ليس إخلاصه وإيمانه بالقوي، شغله موسمي، تدين موسمي، إذا جاء رمضان طار حماساً، إذا انتهى رمضان رجعت حليمة إلى عادتها القديمة.
إذاً، صحيح أن الإيمان يزيد وينقص وأن الناس غير مطالبين أن يكونوا دائماً في القمة؛ لأن المسألة غير ممكنة، والنبي ﷺ قال: لكل عامل شرة، ولكل شرة فترة... ومن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى [رواه أحمد: 23474، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح"] يعني نحن نعلم أن هناك قمة وبعدها نزول، لكن لما تنزل لا تترك واجباً ولا ترتكب محرماً، فإذا فعلت ذلك فأنت بخير.
لا يصلح أن تكون أعمالنا ردود أفعال، يجب أن تكون مؤسسة ومرتبة وموزعة، بحيث تستمر، من المآسي أن الواحد أحياناً يكون عمله ردة فعل لشيء أو حدث معين إذا برد الفعل برد العمل.
بعض الناس عندهم مزاجية قاتلة، إذا تغير مزاجه لا حضر درساً، ولا حضَّر درساً، ولا اشتغل بدعوة، يعني على المزاج يشتغل، ومتى إن شاء الله نحن سنعرف مزاجك متى يعتدل؟ وكيف يمكن أن نبني على أشخاص مزاجيين؟
ولذلك لا بد أن يلزم الإنسان نفسه بعمل ولو كان قليلاً، وأن يعمّق في نفسه العمل مع إخوانه حتى لا تحصل قضية المزاجية؛ لأن المزاجية تتواءم مع الفردية كثيراً.
ثم كذلك أن يكون هناك تحميس بين فترة وأخرى لمثل هذا الشخص، وهذا دور الخطباء في تحميس الناس لأعمال الخير، هذا دور المربين في تحميس المتربين في أعمال الخير.
لو رأى الناس فتروا حمسهم، هذه مهمة جداً -يا إخوان-، والناس يتأثرون، يتأثر بخطبة، بكلمة، بموعظة، بنصيحة، بشيء يقرؤه، بحدث معيّن، الناس يتأثرون.
والمطلوب موالاة الحث حتى يستمر العمل.
تفاؤل الداعية
من الصفات المطلوبة في شخصيات الدعاة: التفاؤل، الشخصيات المتفائلة تعمل، لماذا؟ لأنه يرى نوراً في نهاية النفق ولو كان في نفق مظلم، لكن يرى نوراً في نهاية النفق.
الشخصية المتشائمة لا ترى نوراً البتة، فلماذا يسير؟ وإلى أين يسير وهو لا يرى نوراً أصلاً؟
ولذلك فإن التفاؤل من الدين، والنبي ﷺ كان يعجبه التفاؤل.
وكان يعجبه إذا خرج في سفر أن يسمع: يا راشد يا نجيح [رواه الترمذي: 1616، وصححه الألباني في الروض النضير: 86]؛ لأن الرشد والنجاح مما يطلبه في سفره وفي غزواته وفي ذهابه، يريد نتائج طيبة.
يا راشد يا نجيح يعجبه هذا.
وجاء سهيل بن عمر، قال: سهل لكم من أمركم [رواه البخاري: 2731] يعني ما علاقة الاسم بأن يحدث المطلوب؟ العلاقة ضعيفة وإلا قوية؟
علاقة اسم إنسان ما بحدوث مطلوب، انتصار في معركة؟
ضعيف، فلماذا أصر عليه مع ضعفه؟
تعليمنا درساً في التفاؤل.
ومهما كان السبب ضعيفاً اسلك سبيله، واعمله، مع التوكل على الله -عز وجل-.
كم أثار التشاؤم من مصائب، وأودى في مهاوي.
بعض الناس مثلاً إذا جاء يعرض أشياء على الجمهور، عرض المآسي، مجازر كذا، هزائم كذا، مصائب كذا..
إذا كان ما قلت شيئاً عن نصر الله وشروط النصر، وكيف يمكننا الخروج والانتصار بعد الهزيمة؟ كيف الخروج من النفق؟
إشاعة أجواء التشاؤم شيء سيئ جداً، لا بد أن نكون متفائلين دائماً، ممكن واحد يقول: يا أخي لكن ما في سبب يدعونا للتفاؤل، الواقع سيئ؟
لا -يا أخي- فيه أسباب.
حدثت انتصارات في هذا العصر، عصر الهزيمة، والذل، حدثت انتصارات ولو كانت انتصارات جزئية، حصلت أم لا؟
إذاً، ممكن تتوسع وتكثر.
عندنا نصوص تثبت أن المستقبل للإسلام وإلا لا؟
عندنا نصوص، هذه النصوص تدعونا للتفاؤل.
الله رحيم، والله لا يريد أن يجعل الكافرين على المؤمنين سبيلاً وأن يبقي المسلمين في ذل دائماً، الله لا يريد هذا.
ولو صار أشياء فهي أمور مؤقتة: وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140]، ولحكم يريدها تعالى، أن يحصل بالمسلمين هزائم وذل، يمكن فيها رحمة لهم من جهة أن يعودوا إلى دينهم، وإلا لو بقوا انتصارات، مع تراجعهم عن الإسلام، مهما تركوا الدين باقين في انتصارات، كيف يحس بخطايا الشخص؟ كيف يتوبون مثلاً؟
لكن كانت آثار غزو التتار وغزو الصليبيين وغزو اليهود لنا، كان لها آثار بعد ذلك، تأتي آثار توقظ الأمة، تردها إلى دينها، الناس يرون أننا نحن الآن مسحوقين بهذا التراجع عن الدين.
إذاً، لا بد أن نعود إليه، وهكذا..
التفاؤل -أيها الإخوة- الذي يدفع الإنسان أن يقول الكلام الطيب، أن يصف أشياء جيدة في الواقع، أن يذكر نتائج إيجابية.
هناك أشياء إيجابية، وأشياء سلبية.
إذا طرقنا الأشياء السلبية باستمرار نشيع التفاؤل بين الناس.
ومن أسوأ الأشياء واحد يجلس في مجلس يقول: والله يا إخوان شكلها قبل المهدي ما في شيء.
كيف يعني؟
يعني قبل المهدي وعيسى، ما في انتصار، لماذا؟
عندك دليل على أنه ما في انتصارات قبل هذا؟
أجل، خلاص نقعد وننتظر، نقف مكتوفي الأيدي، نقول: يبعث الله المهدي وعيسى، ونحن لا نفعل شيئاً.
قوموا موتوا على ما مات عليه كان عنده إيجابية، روح الإيجابية في نفس ذلك الصحابي الذي قال: إذا كان مات موتوا على ما مات عليه.
قم قاتل حتى تموت، تعيش ليه؟ لماذا أنتم قاعدون؟
قوموا موتوا على ما مات عليه ، قاتلوا إلى أن تموتوا، تلحقوا به.
ما انتهى كل شيء بموت النبي ﷺ.
أيها الإخوة: إن الطموح الموجود في نفوس الدعاة إلى الله وعملهم بالقواعد الشرعية: "الميسور لا يستقبل معسور"، "ما لا يدرك كله لا يترك بعضه"، هذا هو المطلوب.
أما إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ونشروه ونشروا التشاؤم والنتائج السلبية، الشيطان يريدنا أن نترك العمل، أليس كذلك؟
أيها الإخوة: عودة مرة أخرى إلى صفة الإيجابية: أن يكون الإنسان عاملاً وفي الناحية الإيجابية، وأن يكون ممن يقدم أشياء للإسلام، أن لا يكون متقاعساً، ولا بارداً ولا اتكالياً، لا تعتمد أن غيرك سيعملها... لماذا؟
اعملها أنت.
بعض الناس عندهم قضية الإيثار في الطاعات، خله هو الذي يأخذ الأجر، خله هو الذي يدعو هذا، خله هو اللي ينصح فلاناً، خل هذا هو اللي يتقدم للصف الأول، لماذا؟
هذا ليس من الدين، هذا له حالات معينة تكون مصلحة الإيثار فيها أقوى وأجرها أكثر، لكن الأصل ماذا؟
سارعوا في الخيرات، سارعوا، سابقوا... فليتنافس المتنافسون.
يعني نحن نعمل، ينبغي أن نعمل.
أما أن نترك ونقول: نفسح المجال للآخرين.
أيش نفسح المجال للآخرين؟
يا أخي: اعمل أنت.
وكذلك فإن التثبيط يمكن أن يأتي بكلمات أو تصرفات تقتل هذه الإيجابية الموجودة لدى بعض الناس.
ونحن إذا رفعنا لواء الإيجابية يمكن أن نعالج كثيراً من هؤلاء السلبيين.
أنت يمكن أن تجد ناساً ما عندهم نفس البحث العلمي فتقدم بحثاً جيداً تحمسهم لعمل مثله.
أنت تجد الناس متقاعسين عن الصدقات فتعمل عملاً يشجعهم عليه.
يعني وجود النموذج الذي يحتذى والذي يعمل ويشق الطريق ويرفع اللواء، مهم جداً، فجاء رجل بصرة كادت كفه أن تعجز عنها بل قد عجزت، ثم تتابع الناس، متى تتابع الناس؟
حتى صار فيه كومان من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله ﷺ يتهلل كالقمر إذا استنار كأنه مذهبة، قطعة من الذهب تبرق، قال: من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده [رواه مسلم: 1017] هذه هي الإيجابية.
هذه الإيجابية أنك أنت تحيي سنة ميتة عند الناس، تدعو إلى خير ما عمله أحد، أنت تبدأ بشيء فيقتدي بك الآخرون، مهم جداً -يا إخوان-، لا بد يوجد فينا هذا، هذا مما ينبغي أن تتسم به شخصيات الدعاة: البدء بالمشاريع، ممكن تعمل مدرسة فيقتدي بك غيرك، نعمل موقعاً إسلامياً يقتدي بك غيرك، تعمل مطوية يقتدي بك غيرك، نشاط في مسجد يقتدي بك غيرك، تطوير في حلقة من حلقات التحفيظ لها أثر ملموس يقتدي بها غيرك، مستودع خيري، عمل بر، مشروع في سد حاجة المسلمين.
فيه بعض الناس أفكارهم وعقولهم متقدة، أذهانهم حادة، تتفتق عن أفكار، الأفكار تحتاج إلى إقامة في الواقع أن تتحقق.
وهكذا يجب أن نكون إيجابيين، نعمل نحن ليقتدي بنا الآخرون فنأخذ الأجر، نحن ماذا نريد؟ ألسنا نريد الأجر؟
ومن الأجر بالإضافة إلى أجر العمل أجر الاقتداء، إذا اقتدى بك الآخرون -يا أخي-، النبيﷺ أكثر الأمة أجراً.
من الأسباب: أنه ما أحد يعمل عملاً صالحاً الآن إلا وهو مقتدٍ فيه بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، إما بالقول الذي دعاه إليه، أو بالفعل الذي فعله.
ولذلك كان أكثر الأمة أجراً.
أيها الإخوة: تحريك النفوس بذكر الأجور، هذا مما يشيع أجواء الإيجابية ويدفع للعمل، ليش ذكرت لنا أجور في القرآن والسنة... من فعل كذا فله كذا؟ لماذا اهتم العلماء بكتب الترغيب؟
لأنها من الدوافع للأعمال.
ثم إن السلبية القاتلة الموجودة عند بعض الناس تجعلهم يعتذرون عن أشياء ولا يعملونها، وأعذار باردة يتخلفون عن مناسبات خيرية بأعذار باردة، هذه ولا شك أنها تفسدهم وتفسد غيرهم.
نباهة الداعية وسرعة بديهته
ومن الصفات أيضاً: النباهة، أبو بكر الباقلّاني لما ذهب إلى الروم، أو ذهب إلى النصارى لدعوتهم إلى الله، هؤلاء النصارى اجتمعوا مع ملكهم، قالوا: هؤلاء المسلمين إذا جاؤوا إلينا لا يسجدون لملكنا ولا ينحنون له، وعندهم الانحناء محرم، نريد أن نلجئ هذا المسلم القادم إلينا ونجبره على الانحاء، نريد أن نركعه، ونجعله ينحني رغماً عنه، كيف الطريقة؟ فكروا وقدروا وعبسوا وبسروا، ثم أقبلوا للفكرة التالية، قالوا: نبني مدخل باب مستواه نازل، نعمل جدار مدخل على قاعة الملك هذه، نعمل المدخل واطياً حتى إذا جاء هذا رسول المسلمين يدخل من الباب لازم ينحني ويدخل؛ لأنه طول الباب أقصر من طول الشخص.
ينحني ويدخل، وبذلك نكون قد أجبرناه على الانحناء، فجاء ممثل المسلمين ولا بد أن يكون فيه صفات قوية، يمثل الدين أمام أمة كافرة، ورأى هذه الخدعة، ما صار مغفلاً، أو ما انتبه ماذا فعلوا، وانحنى ودخل، عرفها مباشرة، عرف الخدعة وعرف ماذا يراد، والمكتوب يظهر من عنوانه، ماذا فعل؟ مباشرة بالنباهة، استدار ودخل بقفاه، أحييك بدُبُري، خذ تحية إليك..، وهكذا..
إذاً، الإيمان يوقد البديهة في الحقيقة، النباهة في نفس المؤمن.
وكذلك سرعة البديهة أيضاً صفة نافعة مهمة للداعية تخلصه من ورطات كثيرة.
ولأختم لكم بهذه الطرفة، وإن كانت هي باللهجة العامية المصرية، لكنها توضع المقصود.
هذا داعية ذهب إلى الصعيد، يلقي فيهم خطبة، وهو منهم، فلما ألقى خطبة باللغة القوية الفصيحة، قال له بعضهم-قد يكون بسذاجة لكن ما قصد أن يؤذي هذا الداعية- قال: إيه ده، دا أنت جاموس اللغة.
قاموس اللغة هو قصده، لكن القاف يقولونها "قا" أنت جاموس اللغة.
-طبعاً- طلعت بالجهة الأخرى ممكن تُفهم "جاموس" على لغة أهل اللهجة، أهل الحضر.
فبالبديهة، قال: أيوه بس فين العجول اللي بتفهم.
العقول.
فتأمل، ذاك يقول: جاموس، والعجول، لكن ليس أي واحد يسويها!
فالشاهد -يا إخوان-: سرعة البديهة.
-طبعاً- هذا شيء كان معروفا في علمائنا لما ردوا على المبتدعة، وضربنا مثلاً في محاضرة سابقة في قضية سرعة البديهة؛ لأن المسلم لا يتورط ويجلس حائراً زائغ النظرات أبداً، بل إنه عنده بالذات في قضية الناس الذين في المجالس الذين يؤذون الله ورسوله ويعتدون على الدين، ويستهزئون بالصالحين.
لا بد من إسكاتهم مثل هذا...
دكتور يقول: متى نتخلص من الخيشة هذه؟ الخيمة التي على المرأة، الخيمة السوداء، وتتحرر المرأة، تمارس دورها، والرياضة والفن، تروح الأولمبياد، وتشارك، وتطلع بدلاً من هذا الخنق، وهذه قطعة القماش.
فوقف له واحد من الطلاب المسلمين، قال: يا دكتور، قال: نعم، قال: أنا عندي سؤال؟ قال: تفضل، قال: أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ [البقرة: 140].
-طبعاً- هذا السؤال مأخوذ من القرآن مباشرة، جزء من آية: أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ فهذا اضطر أن يعترف، لا يمكن يصرح بالكفر، يقول: أنا أعلم، قال: لا، طبعاً الله أعلم.
قال: يا دكتور إذا كنت تقول: الله أعلم، فإذًا قال الله: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ [الأحزاب: 59]، وقال الله: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور: 31]، وقال الله: وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب: 33] نسمع كلامك وإلا كلام الله؟
فبهت الذي كفر.
فالمطلوب من صفات الداعية إلى الله : أن يكون حاضر البديهة، عنده علم شرعي، عنده قدرة على الرد؛ لأن من العيب الكبير أن يأتي واحد يستهزئ بالصالحين، يستهزئ بشيء من الدين، يستهزئ بشعيرة إسلامية، كالحجاب أو تعدد الزوجات، أو أي ما كثر الاستهزاء به هذه الأيام، ثم يجيء هذا حائر زائغ ضعيف هزيل، رد هزيل...
ألا ترى أنهم في بعض هذه الحوارات الفضائية يعطون صورة سيئة جداً عن الإسلام بسبب أن هذا الشخص الذي جاء لا يعرف كيف يمثل الدين، ولا عنده علم قوي، ولا حجة قوية، ولا لسان فصيح، ولا منطق بليغ.
وبالتالي تحدث طامات.
هذا ما أحببت أن أذكره في هذه الليلة بشأن متطلبات في شخصيات الدعاة، أو مطلوبات في شخصيات الدعاة.
وأسأل الله أن يجعلنا هداة مهتدين وأن يرزقنا اتباع سنة سيد المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.