الخطبة الأولى
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَآل عمران:102. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباًالنساء:1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماًالأحزاب:70-71.
خطورة منصب الإفتاء
عباد الله: تحدثنا في المرة الماضية عن الفتيا، وخطورة هذا المنصب يَسْتَفْتُونَك قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِالنساء:176. فليعلم الذي يطلق الفتوى أنه يوقع عن رب العالمين، وذكرنا طرفاً من تحرج العلماء في الفتوى، وكيف كانوا يتهربون منها، وكان الواحد منهم لا يتردد في قوله لا أدري.
وسئل مالك – رحمه الله –عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتي وثلاثين: لا أدري، وربما سئل عن خمسين مسألة فلا يجيب عن واحدة منها، وكان يقول: من أجاب في مسألة فينبغي من قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة؟ ثم يجيب فيها، وسئل عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: إنها مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: ليس في العلم خفيف، أما سمعت قول الله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاًالمزمل:5، فالعلم كله ثقيل، وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة، وقال: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهلاً لذلك، وتقدم أن النبي ﷺ وهو النبي ﷺ لم يكن يقول برأيه، وإنما ينتظر الجواب من الله.
وقد أخرج الإمام أحمد، والحاكم بسند حسن أن النبي ﷺ سئل يا رسول أي بلدان شر؟ ما هي المواضع التي هي أكثر شراً من غيرها؟ أبغض البقاع عند الله ما هو؟ فقال: لا أدري، فلما أتاه جبريل قال: يا جبريل أي البلدان شر؟ قال: لا أدري حتى أسأل ربي [رواه أحمد: 16744]، فانطلق جبريل ثم مكث ما شاء الله أن يمكث، ثم جاء فقال: يا محمد إنك سألتني أي البلدان شر؟ فقلت: لا أدري، وإني سألت ربي أي البلدان أشر؟ فقال: أسواقها، فالأسواق أخبث المواضع في الدنيا.
ولا أظن أن الناظر إلى المجمعات التجارية اليوم، والشوارع الأسواق لا أظنه سيستغرب هذا مطلقاً، فإن الفسق، والمجون، والفجور، والكذب في البيع والشراء، والغش، واختلاط الرجال بالنساء، وعموم أنواع المعصية تفعل في الأسواق.
وسبق أن ذكرنا -أيها الإخوة- أننا سنتحدث إن شاء الله عن بعض المسائل المتعلقة بموضوع الفتوى؛ لخطر هذا الموضوع؛ لأن هذا دينك الذي يجب أن تعرفه، وتسأل عنه، فلابد أن تعرف ما هي صفات المفتي؟ من هو الذي يحق له الفتوى؟
صفات وشروط المفتي في الإسلام
قال العلماء -رحمهم الله-: من صفته، وشروطه أن يكون مسلماً، عدلاً، مكلفاً، فقيهاً، مجتهدا، يقضاً ليس مغفلا، صحيح الذهن ليس بغبي ولا بليد، والفكر، والتصرف في الفقه، وما يتعلق به، والعدل عند العلماء من استمر على فعل الواجب والمندوب، والصدق، وترك الحرام، والمكروه، والكذب مع حفظ مروءته، وتجنب خوارم المروءة، وقد تحدثنا عنها.
ومجانبة الريب والتهم، لا يضع نفسه في موضع ريبة، ولا تهمة، ويستبرئ لدينه وعرضه، فمن استكمل الاجتهاد، والعدالة، والكف عن الترخيص والتساهل، لا يذهب بالناس مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال، فهذا هو المفتي.
قال النووي – رحمه الله -: " وينبغي أن يكون المفتي ظاهر الورع مشهوراً بالديانة الظاهرة، والصيانة الباهرة، كونه ثقة مأموناً منزهاً عن الفسق وخوارم المروء، فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح النظر والاستنباط، سواء كان حراً أو عبد، رجلاً، أو امرأة أعمى أو غيره" إنما ينبغي أن تتوفر شروط الفتيا، وبعد ذلك يجوز له أن يفتي، وأنت من خلال هذه الشروط تبحث عن المفتي.
ونقل الخطيب -رحمه الله- إجماع المسلمين على أن الفاسق لا تصح فتواه، لا تصح من فاسق الفتوى لغيره أبد، المفتي عنده دش، المفتي حليق المفتي مسبل، المفتي يدخن، هذا كلام فارغ، ليس بمفتي والله. المفتي يقابل امرأة في مقابلة تلفزيونية، هذا ليس بمفتي.
فإذا عرفت يا عبد الله شروط المفتي، فإنك بعد ذلك تعرف من تسأل، ولا يجوز لمن لا تنطبق عليه الصفات المذكورة أن يفتي، فإن فعل من غير ضرورة فهو عاص آثم، وينبغي على المفتي أن يكون حذراً فطناً، وذكر العلماء له أداب كثيرة، من ذلك: أنه يحرم عليه التساهل في الفتوى، والتسرع فيها.
بل إن بعض العلماء كان يمرن نفسه على التأمل في المسائل الخفيفة والمسائل السهلة، والأسئلة السهلة كما يبطئ ويتأمل في المسائل الصعبة، ومن ظن أن الإسراع في الفتوى براعة فهو مسكين، ويجب عليه كذلك أن يتجنب الحيل المحرمة، والرخص غير القائمة على الدليل.
ولذلك قال سفيان الثوري – رحمه الله -: إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد، فإذا جاءتك رخصة من عالم ثقة مبنية على دليل قال لك: إن المسح على الخفين لا حرج فيه، حتى لو كنت مقيماً حتى لو لم يكن الجو بارداً، فإن الدليل جاء بذلك، فهنيئاً لك بهذه الرخصة، إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، أما التساهل وتحليل الحرام، وتحريم الحلال فهذا أمر شنيع، والله تعالى نعى على اليهود أنهم كانوا يتحايلون لتحليل الحرام، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَالبقرة:65 .
ينصبون الشباك، ويرفعونها يوم الأحد، ويقولون: ما صدنا يوم السبت، وقال: ﷺ: لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل، وقال: لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها يعني: أذابوها وباعوها، وأكلوا أثمانها[رواه البخاري:3460، ومسلم:1582].
ويجب على المفتي كذلك أن يكون نزيهاً يعامل الجميع سواسية، أما أن يفرق بين صديق وغريب وبعيد، فليعلم إنه عند الله موقوف، وأن عمله باطل مردود عليه، وبعض الناس كان يقول: إذا سألني صديقي أفتيته بالرواية التي توافقه، وإذا افتاني آخر أفتيته بالرواية المعروفة المعتمدة في المذهب، ضلال مبين، حتى أن واحداً منهم جيء له بسؤال فكتب عليه الفتوى بالرواية المعروفة التي تفيد التحريم، فلما علم من السائل بعد ذلك قال له معتذراً: ما علمنا أنها لك، وأفتاه بالرواية الأخرى التي توافق هوى السائل، وهذا من قلة الخير، وكثرت النفاق، ولاشك في تحريم هذا الفعل عند العلماء.
إذاً، لابد من المعاملة بين الناس سواسية، وإذا اكتشفت أنت أن المفتي يحابيك. فلا يجوز لك مطلقاً أن تأخذ بفتواه، بل إنك إذا ارتبت في الفتوى، فلا يجوز لك أن تعمل بها حتى يطمئن قلبك، وسيأتي مزيداً لهذا بعد قليل.
التحايل في الفتيا، وخطورة الأئمة المضلين على الشريعة
أيها الإخوة: إن بعض الناس ينقلون الحيل للسائلين، لا يتورعون عن هذا، ومعلوم أنه حرام تعليم الناس الحيل طريقة اليهود، تصوروا أن شخصا علم حيلة في قضية الزكاة فقيل له: إذا صار عندك المال الذي تجب فيه الزكاة، فإذا اقترب موعد الحول اقترب موعد الحول، فهبه لزوجتك، يدخل في ملكها، ويخرج من ملكك، فإذا اقترب موعد حلول الحول عليها تعيد هبته لك، ويخرج من ملكها، ويدخل في ملكك، وهكذا دواليك حتى لا تجب فيه الزكاة مطلق ما هذا؟ وهل ينجيه عند رب العالمين؟ وهل ينفعه عند رب العالمين؟ أبداً، بل وصلت الشناعة في بعضهم أن يفتي امرأة تريد الخلاص من زوجها، ولم تجد طريقة عبر القضاء أن تكفر وترتد عن الدين بمكفر حتى ينفسخ العقد، وتخرج من عصمته.
عباد الله إن هذه الشنائع، والفضائح تدل على أن هناك أناسا لا يخافون الله، ولا يرجون اليوم الآخر، والنجاة فيه، يقومون مثل هذه الترهات، فإذا أعطاك أحد المفتين كلاماً يوافق هواك وحيلة فلا تظنن أنك ستنجو مطلقاً إذا فعلت ذلك.
وينبغي على المفتي أن لا يجاري الظروف والواقع، ويطوع الشرع، ويعدل الشرع ليوافق الواقع، بل يجب أن يفتي بالشرع مهما خالف الواقع، وأن يقول الحق لا يخاف في الله لومة لائم.
إنما تطويع الشريعة لتوافق الواقع، وأن يفصل من الشريعة ملابس مشوهة على قدر الواقع وقده، فهذا من الإثم المبين، والضلال، ولا شك أن النبي ﷺ لما حذرنا من الأئمة المضلين كان حكيم، إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلين[رواه أبي داود:4252، والترمذي:2229]، يفصلون من الشريعة يقتطعون من النصوص ما يوافق الواقع.
ويقولون: الحكم حلال جائز، والدليل كذا، وكذا نصف الدليل يأتي بدليل، ويترك آخر يفتيك بحديث ضعيف، ونحوه؛ ليوافق الواقع الأصل هو الدين، والشريعة، ويجب أن يكون الواقع تبعاً لا أن تكون الشريعة تابعة للواقع، وينبغي على المفتي أن لا يفتي وهو مشغول القلب، أو غضبان، أو به جوع، أو عطش، أو غم، أو هم، أو خوف، أو حزن، أو فرح غالب، أو نعاس، أو ملل، أو مرض، أو برد مؤلم، أو مدافعة الأخبثين، ومتى أحس باشتغال قلبه يجب عليه أن يقوم، ويجب على المستفتي أن يراعي ذلك فلا يسأل العالم، أو المفتي، وهو في حال الضجر، أو في مثل هذه الأحوال حتى لا يأخذ جواباً خاطئاً.
وينبغي على المفتي أن يتبرع بالفتوى، وهو أفضل، ولا يأخذ عليها أجراً، فإن أعطي رزقاً من بيت المال لقاء تفرغه للفتوى، وعدم اشتغاله بأعمال تجارية، أو غيرها، فإنه لا بأس؛ لأنه لا يستقيم حاله إلا به، ولكن يبقى الأفضل أن لا يأخذ أجراً على منصب الإفتاء، وينبغي كذلك أن يفتي المستفتي، وأن يرجح له، فإن قال له: المسألة فيها قولان، وسكت أو ذكرهما وسكت، فإنه لم يفده شيء، ولا يعتبر هذه فتوى؛ لأن المستفتي يريد أن يخرج بشيء، أما أن يخرج بأن المسألة خلافية فإنه في الحقيقة لم يخرج بشيء، ويجب على المستفتي أن يبحث عن المفتي الثقة، فإن قال قائل: كيف نعرف المفتي الثقة: فنقول: إننا نعرفه بأمور منها:
التواتر بين الناس، والاستفاضة بين طلبة العلم، وأهل التقوى. أما مجرد الشهرة بين الناس، فلا تعني شيء، فإن العامة قد يلبس عليهم، ويشتهر بينهم أن فلاناً مفتي يصلح للإفتاء، وليس كذلك.
إذاً، إذا كان هذا مشهوراً بين طلبة العلم أنه مفتي، عند أهل الثقة والدين والأمانة أنه مفتي، فعند ذلك تعرف، وبذلك تعرف المفتي الثقة، أو بتزكية العلماء العدول الثقات لهذا الشخص، وأنه أهل للفتوى، فعند ذلك تعرف أنه ثقة، وأنك تسأله.
وينبغي، ولا بأس أن يسأل الإنسان الأقل فضلاً مع وجود الفاضل إذا كان أهلاً للفتوى، والواقع قد يقود إلى أشيئا، من هذا عندما يكون الأفضل، أو الأعلم مشغولاً، أو يصعب الوصول إليه، فلا بأس أن يسأل من هو أقل علماً إذا كان يفي بالغرض.
الفتوى لا ترد عقاب الله عن الظالم
ولا يجوز للمستفتي العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبولها، وتردد فيها؛ لأن النبي ﷺ قال: استفت نفسك[رواه أحمد :18001] وإن أفتاك المفتون.
متى نطبق هذا الحديث استفتي نفسك؟ أو استفتي قلبك وإن أفتاك المفتون، نطبقه عندما يشعر المستفتي أن الجواب ناقص، عندما يشعر المستفتي أن المفتي لم يفهم السؤال، عندما يعلم المستفتي أنه أخفى معلومات، عندما لا تطمئن نفسه للفتوى، لا لأجل أنها شديدة، أو لا توافق هواه، ولكن لاعتبار صحيح، فعند ذلك لا تبرأ ذمته با الفتوى، ويجب عليه أن يستفتي مرة أخرى، ولا تخلصه فتوى المفتي من الله.
يقول ابن القيم: الكلام له في أعلام الموقعين عن رب العالمين: "ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه هذا المفتي كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك، كما قال النبي ﷺ: من قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من نار[شرح معاني الآثار:6143].
فإذا جاء عند القاضي وأقنع القاضي أن الأرض له، وهو يعلم أن الأرض لخصمه، وخصمه ليس عنده بينة، أو هو عيي لا يحسن البيان، وهذا الرجل فصيح، فاقتنع القاضي فحكم له، فلا يظننن أن حكم القاضي يغير من الحقيقة شيء، أو أن حكم القاضي ينفع عند رب العالمين.
وهذا نص حديث النبي ﷺ: فإنما أقطع له قطعة من نار، ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، في الحقيقة سواء أو تردد أو حاك في صدره لعلمه في الحال الباطن، أو لشكه في الأمر، أو محابة المفتي، أو جهل المفتي بالحقيقة، أو إخفاء شيء من الأمور لا يظننن أن فتوى المفتي تنفعه، ومن هنا تعلم أن الأمثلة العامية الموجودة في بعض الناس ضعها في رقبة عالم، وأخرج منها سالم ضعها في رقبة عالم، وأخرج منها سالم ضع بينك وبين النار شيخاً أنه لا يفيدك مهما فعل، ومهما أخذ من الأشياء المكتوبة، وغير المكتوبة، فإنه لا يفيده شيئاً عند رب العالمين.
احتياطات المفتي، وأهمية تجرده في الفتوى
وقد ذكر العلماء احتياطات للمفتي ينبغي أن يتخذها في كتابة الفتوى، منها أن لا يدع فراغات بين الأسطر، وأن يكون مكان الكتابة محصوراً حتى لا يزور عليه، ويضاف إلى كلامه، ونحو ذلك، وهنا يظهر ذكاءه، وفطنته في عدم اتاحة المجال للعب، والتزوير لخطورة القضية الفتوى التوقيع عند رب العالمين، ويختم الجواب بقوله: وبالله التوفيق، أو والله الموفق، أو والله أعلم.
وكان بعض السلف يكتب إن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطئاً فمني، والله موفق، أي: الموفق للصواب يطلب يطلب من الله التوفيق، والتسديد، وبعض السلف يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وبعضهم كان يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويقول: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَاالبقرة:32رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِيطه:25-28.وبعضهم كان يقول: اللهم وفقني وهدني وسددني، واجمع لي بين الصواب، والثواب، وأعذني من الخطأ والحرمان؛ لأن القضية قضية خطيرة، وينبغي كذلك ينبغي أن يبين الأمر، ويدرس الاحتمالات، فإن سئل مثلاً عن شخص قال: إن الصلاة لعب، والحج عبث، أن لا يبادر إلى قول هذا حلال الدم يقتل بل يقول: إذا ثبت عليه ذلك بالبينة، أو بالإقرار،استتابه الإمام، فإن تاب قبلت توبته، وإن أصر ولم يتب قتل، وفعل به كذا، وكذا، من ثبت عليه أن قال: الصلاة لعب، والحج عبث كافر بالله العظيم، إذا ثبت عليه كلامه، واستتيب ولم يتب يقتل مرتداً عن دين الله تعالى، وينبغي كذلك على المفتي أن يكون عادلاً يقدم الأسبق فالأسبق، وعند التساوي يقرع ويقدم المرأة، والمسافر الذي شد رحله إذا كان في ذلك حرج عليه.
ينبغي على المستفتي -يا عباد الله- الذي يسأل الفتوى أن يعلم أن ليس كل من قال أسألوني أنه مفتي ثقة، وليس كل من انتصب للتدريس في المسجد، أو ألقى الدروس فهو مفتي، وبناء على ذلك يجب عليه أن لا ينخدع، وإنما ينظر إلى الشروط التي سبق ذكرها، وعند ذلك يعلم من هو المفتي الثقة، ويسأل طلبة العلم من هو العالم الثقة الذي يجب علي أن أساله، فلان لم أصل إليه ولم استطع من هو الذي يليه أسأل من غيره، يسأل طلبة العلم الثقات من أئمة المساجد وغيرهم من المعروفين بالدين يسأل عن العالم الثقة ليصل إليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: "وإذا نزلت بالمسلم نازلة فإنه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله على أي مذهب كان، فإذا قال أنا لا أستفتي إلا حنبلي أنا لا أستفتي إلا شافعي نقول: لا، اسأل أستفتي من تظن أنه يفتيك بشرع الله، الذي تتوافر فيه الشروط، على أي مذهب كان، وقد لا يكون المفتي متمسكاً بمذهب معين، أو مقلداً لإمام معين، فقد يكون عنده شيء من رتبة الاجتهاد، ويجب أن يعتقد السائل أنه لا أحد معصوم من الزيغ، وأنه لا يجب اتباع أي شخص في كل شيء إلا النبي ﷺ فإن الناس مهم كانت مراتبهم قد يخطئون، فإذا سأل المفتي فأجابه بجواب، فإنه يعمل به مادام ثقة، وهذا معنى قول العلماء مذهب العامي مذهب مفتي".
العامي ماذا يفعل؟ يستفتي، ويأخذ بفتوى المفتي مادام ثقة، ولم توجد أي موانع، ويكفيه ذلك، وينجيه عند رب العالمين؛ لقوله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَالأنبياء:7.
أما إذا كان السائل له شيء من الفقه والدراية، فإنه يسأل عن الدليل ليتعرف عليه، فيكون متبعاً لا مقلد، وكذلك فإنه إذا تعرض لقولين لمفتيين مثلاً، فإنه في هذه الحالة إذا كان له نوع تمييز يتبع أي القولين أرجح عنده بحسب تمييزه كما رجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى، أما العامي الذي لا يعرف التمييز بين الأقوال إذا اجتمع عنده قولان فماذا يفعل؟ هل يقدم القول الأصعب، لأنه يخالف هوى النفس، أو يقدم القول الأسهل؛ لأنه موافق لمبنى الشريعة على اليسر والسهولة، أو يقلد الأعلم، والأورع، وهذا قول قوي ينبغي المصير إليه، في أنه إذا أجتمع عنده قولان فأكثر أن يقدم قول الأوثق، والأورع، لو كان عندك قولين لطبيبين من الأطباء، أفتياك في حالتك الصحية واحد قال: تأخذ الدواء الفلاني واحد قال تأخذ الدواء الفلاني، واحد قال: مرضك كذا، وعلاجه كذا. والآخر قال: مرضك مرض آخر، وعلاج آخر فماذا تفعل؟ تتحرى أي الطبيبين أوثق، وأعرف بالمهنة، وأقدم في لخبرة، ونحو ذلك أفعل الشيء نفسه في حال تعرضك لموقف أمامك كفيه فتوتين لأهل العلم، أمامك فيه قولين لأهل العلم، فإنك تأخذ بقول الأوثق، والأعلم، وإذا اجتمع الورع مع العلم، الأعلموالأورع، فإنه المطلوب، وأما إذا كانت الحالة تستدعي المزيد من العلم، وتعارض قولاهما، فإنك تقدم الأعلم الأقل ورعاً على الأورع الأقل علماً إذا كانت القضية تتطلب العلم، وذلك المفتي الأقل ورعاً لم يخرج عن حد القبول لا زال ورعاً، لا زال مقبولاً لا زال ورعاً، ويجوز أن يقلد الميت؛ لأن المذاهب لا تبطل بموت أصحابها، ويجوز للإنسان أن يعتنق مذهباً معيناً يمشي عليه في سهولته، وصعوبته إلا إذا تبين له أن الحق في هذه المسألة في خلاف المذهب، وجب أن يترك المذهب في هذه المسألة، ويتبع الحق.
نسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً، ويرزقنا اجتنابه، وأن يخرجنا من هذه الدنيا ونحن في عافية، وسلامة وعلى ملة التوحيد، وهو راض عنا والحمد لله رب العالمين، وأفسحوا لإخوانكم يفسح الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمد رسول الله صلى عليه الإله، وعلى من اتبعه، واقتفى أثره وهداه.
العصمة لله ولرسوله ﷺ
عباد الله، إنه ليس أحد معصوم إلا النبي محمد ﷺ في هذه الأمة؛ لأن الله عصمه في تبليغه الوحي، وفي أقواله في هذا الدين، وهذه قضية ينبغي أن تتقرر، ومنه يعلم أنه لا يجوز أن يكلف الناس، ويوجب عليهم تقليد شخص معين، أو مذهب معين؛ لأنه لا يجوز إيجاب ذلك إلا لنبي ﷺ هو الوحيد الذي يجب تقليده في كل صغيرة، وكبيرة.
أما التمذهب بمذهب من المذاهب الأربعة، فهو أمر سائع، ولكن لا يعتقد أن صاحب المذهب معصوم، ويجب اتباعه في كل صغيرة، وكبيرة، وإنما إذا اتبع مذهباً من المذاهب، فإنه يسير عليه ما لم يعرفه أن الحق بخلافه، ولا يجوز له أن يتحول عن المذهب لمذهب آخر لغرض دنيوي لهوى كما يفعل بعض الناس يقول: هذا المذهب أسهل في الحج، هذا المذهب أسهل في رمي الجمرات، هذا المذهب أسهل في قضية الأموال، هذا المذهب أسهل في كذا، فيضلون لا يجوز.
كما ذكر ذلك شيخ الإسلام وقال: "وهو بمنزلة من لا يسلم إلا لغرض دنيوي، أو ليهاجر إلا لامرأة، أو مصلحة كما فعل مهاجر أم قيس عندما هاجر من المدينة إلى مكة لأجل امرأة يريد أن يتزوجها".
وإما إذا كان انتقاله من مذهب إلى آخر لأمر ديني، مثل أن يتبين له أنه أرجح، وأقوى، وأن الدليل موافق، يوافق الدليل فهذا مأجور، فهذا مأجور إن شاء الله، والهوى في هذه المسألة أمر خطير جداً، فإن بعض الناس يفتي لنفسه، أو يأخذ لنفسه بقول معين فيه رخصة، وإذا جاء غريماً له أو عدو شنع عليه، وقال: كيف تأخذ بهذه الرخصة، ولا يجوز أن يعتقد الإنسان الشيء واجباً ثم يعتقده حراماً بغير دليلاً ينقله، أو قول قوي يجعله يقتنع بذلك.
وضرب شيخ الإسلام – رحمه الله- مثالاً فقال: "مثل أن يعتقد أنه إذا كان أخ مع جد أن الإخوة تقاسم الجد هذا مذهب من مذاهب أهل العلم. إذا مات ميت، وله إخوة وجد الأخوة يقاسمون الجد"قال – رحمه الله -: "فإذا صار جداً هو صار جداً مع أخ، ووجد أخ اعتقد أن الجد لا يقاسم الأخوة، وصار يقول: لا أنا الآن أمشي على المذهب الذي يقول: إن الجد لا يقاسم الأخوة؛ لأنه جد من مصلحته أن يأخذ كل النصيب، فإذا صار أخ قال: لا أن أخذ المذهب الذي فيه أن الأخوة يقاسمون الجد إذاً المسألة صارت لعب صارت اتباع هوى، وهكذا".
ندرة المفتين في هذا الزمن، وآداب المستفتي.
عباد الله إنه ينبغي للإنسان المسلم أن يبحث عن العالم، والمفتي، وهم ندرة في هذا الزمان قلت لكم في الخطبة الماضية: هذه المدينة مثل مدينة تعداد السكان فيها أكثر من مائة ألف فيها عالم واحد رجل تعرفه يصح أن يطلق عليه لقب عالم على أي شيء يدل ذلك؟ مائة ألف لا يوجد فيهم عالم هذا دليل على تقصيرنا، وعجزنا، وعجزنا مائة ألف ما يطلع فينا واحد عالم، فماذا نقول لغيرنا من بلاد المسلمين الذين فيهم الملايين لا يوجد فيهم حتى طالب علم حتى طالب علم، ومثل هذه الأوصاف يعشش فيها، ويفرخ أصحاب الهوى: اتخذ الناس رؤوساً جهال، فأفتوا بغير علم، فضلوا، وأضلوا فضلوا، وأضلوا يا عباد الله.
أيها الإخوة: إن الإنسان المسلم إذا أفتاه المفتي يجب عليه أن يأخذ بقوله، لزمه الأخذ بفتياه ما لم يوجد مفت آخر، ويجب عليه أن يبحث عن المفتي حتى لو سافر إليه، بل أن بعض العلماء قالوا: إذا احتاج إلى مفتي في البلد، ولا يوجد لا يجوز أن يسكن في البلد إذا كان لا يستطيع الوصول للمفتي إلا بالسفر لغيره يجب أن يسافر، ومع توفر الهواتف الخدمة الهاتفية، وتطور وسائل الاتصالات أنحل قدر كبير من هذه المشكلة ولله الحمد، فصار سهلاً عليك أن تتصل بالعالم، وأنت في أقصى الدنيا لتأخذ قوله، وينبغي أن يتأدب المستفتي مع المفتي، فلا ينفض يديه في وجهه، ويدفع الرقعة إليه مفتوحة حتى لا يكلفه مؤنة فتحها، ويأخذها منه منشوره حتى لا يكلفه مؤنة طيها، وأن يتأدب معه، ولا يقول: غيرك أفتاني بغير هذا، في علماء قالوا أقوال أخرى، هذا قلة أدب مع المفتي، أو يقول: سبحان الله نفس الرأي عندي المستفتي يسأل، ثم يقول: نفس الرأي عندي، ومن هو حتى يكون له عنده.
الفرق بين فتوى المفتي وحكم القاضي
ومن الأمور التي يحدث فيها التباس عند الناس، وهي مسألة مهمة ينبغي الانتباه لها الفرق بين حكم القاضي، وفتوى المفتي هناك فروق كثيرة ذكرها العلماء، ومن أهمها: أن حكم القاضي ملزم سوى اقتنع الشخص الخصم اقتنع بذلك، أو خصمه اقتنع بذلك، أو لم يقتنع، أعتقده صوابا أو لم يعتقده، إذا قال له: أنت قلت: زوجتي طالق ثلاثاً قال: بأن زوجته طالق بالثلاث، فأنا أحكم أنها طالق بالثلاث، لا تحل لك إلا بعد زوج حكم الحاكم انهى الموضوع، وفصل القضية، مع أن هناك من العلماء من يقول: إذا قال: أنت طالق بالثلاث أنها طلقة واحدة، لو كان هذا المتقدم للقاضي، أو المختصم مع زوجته عند القاضي يعتقد أن طلاق الثلاث بواحدة، ومقتنع بذلك، فإن حكم القاضي ينفذ عليه؛ لأنه لابد بمجلس القضاء من حكم ينفذ، وإلا إذا قال: أنا لست مقتنعا، وهذاك قال: أنا لست مقتنع، ونحو ذلك، فما هو الشيء الذي ينفذ إذاً؟
إذاً حكم القاضي ملزم يجب تنفيذه إلا إذا كان باطلاً فهذا شيء آخر، إذا حكم القاضي بحكم يوافق قولاً معتبراً من أقوال أهل العلم، فحكمه ملزم، ويجب تنفيذه سواءً اعتقده صواب أو لم يعتقده هذا الحاضر عنده في مجلس القضاء.
أما المستفتي مع المفتي، فإذا أعتقد المستفتي أن فتوى المفتي ليست صواباً، وأنها باطلة، فإنه لا يجوز له أن يأخذ بها، ويجب أن يبحث عن الحق، ومن هنا فإن بعض المفتين نلاحظ أنهم لا يفتون في المسائل القضائية، وهذا كان ما فعله الشيخ محمد بن إبراهيم – رحمه الله تعالى – فإنه لما جاءه رجلان يستفتيان، فإنه رفض أن يفتيهما، ومما برر به ذلك أنه قال: إن الفتوى قد تشوش على القاضي؛ لأن القاضي إذا حكم بحكم معين يقول له ذلك الرجل: لكن المفتي أفتاني بخلاف هذا، ويخاصم القاضي بفتوى المفتي.
ولذلك بعض أذكياء المفتين لا يفتون في المسائل المتعلقة بالقضاء، ويردون السائل إلى المحكمة، ويفعل ذلك شيخنا الشيخ عبد العزيز – حفظه الله – كثيراً في مسائل متعددة يقول ارجع إلى المحكمة لا لأنه لا يعرف الجواب، ولكن لأن الجواب إذا خالف رأي القاضي يشوش على القاضي، والقاضي ليس ملزماً برأي شيخ معين، فإذا أخذ برأي معتبر من أراء أهل العلم، وحكم به صار ملزماً، وواجب التنفيذ، فمن فطن لهذه المسألة لم تلتبس عليه الأمور والحمد لله.
نسأل الله أن يجعلنا ممن أراد بهم خيراً في التفقه في دينه، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.