السبت 13 جمادى الآخرة 1446 هـ :: 14 ديسمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

44- ما جاء في حياء رسول الله ﷺ وحجامته وأسمائه


عناصر المادة
ثم قال -رحمه الله-: "باب ما جاء في حجامة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
ثم قال: "باب ما جاء في أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم –"

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فقد قال المصنّف -رحمه الله- في كتابه الشمائل المحمدية: باب ما جاء في حياء رسول الله ﷺ.

والحياء لغة: هو انكسار يعتري الإنسان من خوف ما يُعاب به.

وفي الشرع: هو خُلٌق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذوي الحق.

والحياء بالجملة خُلق حسن.

وأفرده المصنّف -رحمه الله- عن باب خلق النبي ﷺ؛ لأن به ملاك الأمر كله في حسن المعاملة ومعاشرة الخلق.

وروى فيه حديث أبي سعيد الخدري ، قال: "كان ﷺ أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئًا عُرف في وجهه" [رواه البخاري: 3562، ومسلم: 2320].

وهذا الحديث يدل على شدة حياء النبي ﷺ، ولم يكن حياؤه من قول الحق أبدًا، ولا من فعل الحق، وإنما كان مما يُستحيا منه.

"كان أشد حياء من العذراء": وهي البكر، "في خدرها" يعني: في سترها؛ وكانوا يجعلون للبكر في جنب البيت داخل البيت يجعلون لها سترًا تستتر به، وتكون فيه.

وهذا يبين أن حياء النبي -عليه الصلاة والسلام- كان عظيمًا، والبكر تكون منعزلة في مكان في البيت، وربما لا تخالط حتى النساء؛ لتكون ذات حياء، بخلاف ما لو كانت تختلط مع غيرها وتسمع من هنا ومن هنا وتختلط بكافة النساء، فعند ذلك يحدث شيء من الخدش للحياء، فكانوا يجعلونها في البيت، ويجعلونها بمعزل مراعاة لحالها، وليس معناها أن أهل البيت لا يختلطون بها، لكن المقصود أنها لا تتعرض للبيئات الخارجية كثيرًا، ولم تكن البكر عندهم خرّاجة ولاجة وتذهب إلى الأسواق باستمرار وتذهب إلى البيوت، بل حتى مجيء الناس إليها ليس كثيرًا.

"وكان ﷺ إذا كره شيئًا عُرف في وجهه" يعني: لا يواجه أحدًا بما يكرهه، وإذا رأى شيئًا يكرهه عرف ذلك في وجهه، فقد كان ﷺ صريحًا وواضحًا وتظهر عليه علامات ينفعل مع ما يسمعه وما يراه، فإن كان شيئًا طيبًا سُرّ ورئي ذلك في وجهه، وإن كان شيئًا سيئًا عُرف ذلك في وجهه من الامتعاض والكره، فالنبي ﷺ كان شخصًا ينفعل مع ما يحدث أمامه، ولم يكن بذلك المتبلّد الإحساس الذي لا يعرف هل هو راضي أم ساخط أم مسرور أم غضبان، لا.

وبعض الناس يظن أن هذه -القدرة على ضبط الانفعال- تعني أنه أنت لا تعرف هذا ما هي مشاعره الحقيقية، وهذا غير صحيح، بل إن الإنسان الجيد والرجل القويم والداعية والمربي والإنسان القدوة، إذا رأى شيئًا سرّه ذلك وانبسطت أساريره ورئي ذلك في وجهه من علامات الفرح بما يحدث أمامه، وإذا كان منكرًا مثلاً رُئي في وجهه الغم والهم والكره لهذا المنكر.

إذن، كان ﷺ شخصًا واضحًا تقرأ في صفحة وجهه الأحكام الشرعية، حرام، واجب، حلال، يُعرف ذلك في وجهه؛ "وكان إذا كره شيئًا عُرف ذلك في وجهه"، وأحيانًا لا يواجه أحدًا بما يكرهه، بل مجرد تغير الوجه كافٍ في إعطاء الإشارة الواضحة على أن هناك شيئًا يجب أن يغير، أو أن هناك منكرًا ينبغي أن يُزال ونحو ذلك.

قال القاري في شرحه: "وكذلك البنت المخدّرة -يعني التي في خدرها- غالبًا لا تتكلم في حضور الناس، بل يرى أثر رضاها وكراهتها في وجهها، وبهذا يظهر وجه الارتباط بين الجملة الأخيرة، وكان إذا كره شيئًا عرف في وجهه، وبين ما تقدم يعني أنه ﷺ كان أشد حياء من العذراء في خدرها" [جمع الوسائل في شرح الشمائل: 2/174].

ومن الأدلة على حيائه ﷺ ما رواه الشيخان عن أنس في قصة زواج النبي ﷺ بزينب بنت جحش -رضي الله عنها- فبعد أن عمل الوليمة، ووضع لهم الطعام وأكلوا، تفرقوا كما هو الأدب، فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا [الأحزاب: 53]، وأن صاحب الوليمة وهو الزوج يتفرغ الآن لزوجته، بقي ثلاثة في البيت يتحدثون ما انصرفوا، مع أنه الوليمة قد انتهت عليهم الانصراف الآن، والنبي ﷺ يريد خروجهم، ولكن من حيائه ما أخرجهم، ولا قال: اخرجوا، ولا قال: أثقلتم علينا، ولا قال: آن الأوان لأن تنصرفوا، ولا قال: انصرفوا، قال أنس: "وكان النبي ﷺ شديد الحياء"، [رواه البخاري: 5163، ومسلم: 1428].

وفي رواية: "جعل النبي ﷺ يستحيي منهم أن يقول لهم شيئًا" [رواه مسلم: 1428].

يستحي أن يقول: امشوا، انصرفوا؛ وهذا من أعظم الأدلة على حيائه ﷺ، فقد حمله الحياء على عدم مواجهتهم بشأن خروجهم، فتولى الله ذلك، وأنزل الله آيات في تعظيم حق النبي ﷺ ومراعاة حاله، والانتباه لما يريده، فقال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ تجلس تحدث وصاحب البيت يريدك أن تنصرف،  إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ  [الأحزاب: 53].

ثم قال -رحمه الله-: عن عبد الله بن يزيد الخطمي عن مولى لعائشة قال: قالت عائشة: "ما نظرتُ إلى فرج رسول الله ﷺ، أو قالت: ما رأيتُ فرج رسول الله ﷺ قط"؛ ولكن هذا الحديث ضعيف، [رواه الترمذي: 360، وضعفه الألباني في مختصر الشمائل: 308]. 

بل إنه يخالف ما روى ابن حبان في صحيحه عن عُتبة بن أبي حكيم أنه سأل سليمان بن موسى عن الرجل ينظر إلى فرج امرأته؟ فقال: سألت عنها عطاء، فقال: سألت عنها عائشة فقالت: "كنتُ أغتسل أنا وحِبي ﷺ من الإناء الواحد تختلف فيه أكفنا، وأشارت إلى إناء في البيت قدر ستة أقساط" [رواه ابن حبان: 5577، وحسنه الألباني في التعليقات الحسان: 5550]، قال ابن حجر: "وهو نصٌ في المسألة" [فتح الباري لابن حجر: 1/364]، وقد ورد في بعض الأحاديث نهي الرجل عن النظر إلى عورة زوجته؛ ولكن لا يصح منه شيء، ومن ذلك حديث: "إذا جامع أحدكم زوجته فلا ينظر إلى فرجها فإن ذلك يورث العمى"، قال الألباني في السلسلة الضعيفة: موضوع، يعني: مكذوب، ثم قال الشيخ عقّب ذلك: "والنظر الصحيح يدل على بطلان هذا الحديث، فإن تحريم النظر بالنسبة للجماع من باب تحريم الوسائل، فإذا أباح الله للزوج أن يجامع زوجته، فهل يعقل أن يمنعه من النظر إلى فرجها" [سلسلة الأحاديث الضعيفة: 1/353]، يعني أصلاً النظر إلى المرأة الأجنبية حُرّم؛ لئلا يؤدي إلى الوقع عليها، ومجامعة الأجنبية، وهذا الزنا والفاحشة، فإذا أبيح مجامعة الزوجة فمعنى ذلك أن النظر مباح، ويؤيد هذا النقل حديث عائشة قالت: "كنتُ أغتسل أنا ورسول الله ﷺ من إناء بيني وبينه واحد فيبادرني حتى أقول: دع لي دع لي" [رواه البخاري: 261، ومسلم: 321]، فإن الظاهر من هذا جواز النظر.

قال الحافظ في الفتح: "وهو نص في جواز نظر الرجل إلى عورة زوجته وعكسه، وإذا تبين هذا فلا فرق حينئذ بين النظر عند الاغتسال أو الجماع، فثبت بطلان الحديث" [فتح الباري لابن حجر: 1/364]، أي الحديث الموضوع هذا المكذوب.

إذن، قضية الاستمتاع وقضية النظر بين الزوجين ليست منافية للحياء، لو كان هذا منافيًا للحياء كان النبي ﷺ ما اغتسل مع عائشة، ولا شك أن الاغتسال فيه تجرد من الثياب، نعم هو لا يلزم قد يغتسل وعليه شيء، ولكن هذا ليس واجبًا، ولو أنهما تجردا واغتسلا فلا حرج في ذلك، بل إن هذا من باب المؤانسة بين الزوجين، وينبغي أن يكون هذا المباح والحلال هو الوسيلة الشرعية بدلاً من أن يسلك الناس الوسائل المحرمة أو الطرق المحرمة الأخرى التي قد شاعت بهذه الوسائل التي تنشر الرذائل في الفاحشة والزنا.

ثم قال -رحمه الله-: "باب ما جاء في حجامة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

00:10:18

الحجامة: من الحجم؛ والحجم: هو المص، والحجامة: إخراج الدم من الجسم بطريقة معينة.

عن حميد قال: سُئل أنس بن مالك عن كسب الحجام، فقال: "احتجم رسول الله ﷺ حجمه أبو طيبة فأمر له ﷺ يعني أجرة للحجامة- بصاعين من طعام، وكلّم أهله فوضعوا عنه من خراجه" [رواه مسلم: 1577]؛ لأن أبا طيبة كان عبدًا مملوكًا، فالنبي ﷺ توسّط عند الذين يملكونه فيضعون من خراجه ليقل تعبه ولا يُرهق.

وقال ﷺ:  إن أفضل ما تداويتم به الحجامة، أو إن أمثل ما تداويتم به الحجامة  الحديث رواه البخاري في كتاب الطب من صحيحه، باب الحجامة من الداء، وكذلك رواه مسلم رحمه الله.

"سئل أنس بن مالك عن كسب الحجام" يعني: هل هو طيب أو خبيث؟ فقال: "احتجم رسول الله ﷺحجمه أبو طيبة" [رواه البخاري: 5696، ومسلم: 1577].

أبو طيبة هذا -كما قلنا- كان مولى، واسمه: نافع، مولى لبني بياضة، فالنبي ﷺ أمر له بصاعين من طعام، لو كان كسب الحجام خبيثًا كان النبي ﷺ ما أعطاه شيئًا أو قال: لا يجوز لك أن تطلب، ولكن أمر له بصاعين من طعام، معناها أن أُجرة الحجام صحيحة مباحة، وهذا يدل على جواز كسبه، لكن عندنا حديث آخر وهو: ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، وكسب الحجام خبيث  [رواه مسلم: 1568]. والحديث صحيح كما ترون، فكيف نجمع بين هذا وهذا؟

فالجواب: إن بعض العلماء قال: إن حديث:  كسب الحجام خبيث  منسوخ بحديث أبي طيبة، ومنهم من قال: إن معنى كسب الحجام خبيث يعني: على وجه التنزه، يعني ليس حرامًا، لكن ليس من المكاسب الرفيعة العالية، وإنما هو من مكاسب التي فيها شيء من الدنو، وهذا واضح.

يعني مثلاً الآن لو قلت لك كسب السباك وعمله جائز، مباح؟ نعم مباح، لكن هو يلابس النجاسات ويخالط النجاسات، أليس كذلك؟ فعمله ليس من الأعمال الرفيعة والعالية من الأعمال الوضيعة، لكنه ليس حرامًا، فهناك مكاسب مباحة، لكن العمل نفسه لما يلابسه مثلاً مص الدم قد يدخل شيء في الجوف كذا، هذا الذي يعمل في تسليك المجاري ممكن يلابس النجاسات مثلاً، الذي يعمل في المسلخ أيضًا قد تلامس الدماء ملابسه، لكن ليس حرامًا، ليس محرمًا هو مباح، لكنه ليس من المكاسب العالية الرفيعة، ليس من الحرف العالية الرفيعة، ولذلك فإن كلمة كسب الحجام خبيث لا تدل على التحريم، نعم إنه عطف على أشياء محرمة، لكن لا يلزم العطف دائمًا أن يأخذ حكم المعطوف عليه.

وقال ابن حجر -رحمه الله-: "واختلف العلماء بعد ذلك في هذه المسألة فذهب الجمهور إلى أنه حلال، واحتجوا بهذا الحديث، حديث أبي طيبة، وقالوا هو كسب فيه دناءة، ولكن ليس بمحرم، فحملوا الزجر عنه على التنزيه -يعني الأحسن لا، لكن ما يصل إلى حرام- ومنهم من ادعى النسخ، وأنه كان حرامًا ثم أُبيح، وجنح إلى ذلك الطحاوي والنسخ لا يثبت بالاحتمال، وذكر ابن الجوزي أن أجر الحجام إنما كُره؛ لأنه من الأشياء التي تجب للمسلم على المسلم إعانة له عند الاحتياج إليه، فما كان ينبغي له أن يأخذ على ذلك أجرًا" [فتح الباري لابن حجر: 4/459].

وفي الحديث: "فوضعوا عنه من خراجه" يعني: خففوا عنه من ضريبته التي يضربونها عليه؛ لأن العبد كان يكلف بمبلغ يومي يأتي به إلى سيده، فقد يشتغل نجارًا أو حدادًا أو زراعًا أو حمالاً، فيأتي بالكسب يعطيه لسيده.

وقوله: إن أفضل ما تداويتم به الحجامة  يدل على أهميتها، وأن لها تأثيرًا بالغًا، وقد جاءت أحاديث متعددة تبين أثرها، فمن ذلك حديث: "الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكي بنار، وأنهى أمتي عن الكي"، رواه البخاري.

فالآن النهي عن الكي هنا ليس للتحريم، لكنه للكراهة؛ لأن فيه تعذيبًا، وفيه إيلامًا شديدًا، وفيه تشويهًا، ومُثلة؛ لكن لأن فيه شفاء فهو مباح، وآخر الدواء الكي، وقد تنبه الناس في هذا الزمن إلى أهمية الحجامة، وصار هناك أنواع كثيرة من الحجامة الآن تستعمل طبيًا على مستوى العالم، ولكن في شرعنا من زمان هذا الأمر معروف، ونلاحظ أنه تدرج في العلاج من الأسهل، بدأ بالأسهل، فقال: شربة عسل، والعسل لذيذ وطيب ومستساغ، فلماذا ينتقل الإنسان إلى الحجامة التي فيها الشرط ومص وإخراج الدم، هذا أصعب، فإذا لم يجد العسل، أو هذا المرض ليس مما يعالج بالعسل مثلاً، ما كفى العسل فينتقل للحجامة، والحجامة فيها أيضًا فائدة كبيرة جدًا، فإذا ما استفاد بالحجامة انتقل إلى الكي، والمقصود أن الإنسان لا يبدأ بالأصعب وهناك علاجات أسهل، يعني لو كان هناك علاج بالشراب أشربة أو حبوب، هل تعمل عملية فيها قص الجلد وقطع الجلد والدم والخياطة وعندك شيء أسهل؟ لا، لكن إذا ما أجدت هذه الأشربة والأدوية فلا مناص من العملية، وهكذا أنت تسلك في علاج نفسك الأسهل فالأسهل وليس تبدأ بالأصعب.

قال: "وعن عليٍ ، أن النبي ﷺ "احتجم وأمرني فأعطيت الحجام أجره"، [رواه أحمد: 1130، وابن ماجه:  2163، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 310]، وفيه جواز إعطاء الحجام الأجرة على الحجامة.

وعن ابن عباس قال: "إن النبي ﷺ احتجم في الأخدعين، وبين الكتفين، وأعطى الحجام أجره؛ ولو كان حرامًا لم يعطه" رواه البخاري -رحمه الله- في عدة مواضع من صحيحه، وكذلك مسلم. [رواه البخاري: 2103، ومسلم: 1202].

فأما "الأخدعان": فهما عرقان في جانبي الرقبة، "وبين الكتفين": تحديد الأماكن التي احتجم فيها النبي ﷺ، ومنطقة ما بين الكتفين تسمى: الكاهل، إذن، احتجم في الكاهل بين الكتفين، واحتجم في الأخدعين عرقان عن يمين وشمال الرقبة، "وأعطى الحجام أجره؛ ولو كان حرامًا لم يعطه".

وعن ابن عمر : "أن النبي ﷺ دعا حجامًا فحجمه، وسأله: كم خراجك؟ ، فقال: ثلاثة آصع، فوضع عنه صاعًا، وأعطاه أجره". [رواه أحمد: 1136، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 312].

و"آصع": جمع صاع؛ وهو أربعة أمداد، والمد: ملء يد الرجل المتوسط حبًا أو طعامًا، إذا جمع كفيه وبسطهما فملؤهما طعامًا يكون مُدًّا، والصاع: أربعة أمداد بكفي الرجل المتوسط، يعني لا اليد الضخمة ولا اليد الصغيرة الوسط.

وعن أنس بن مالك ، قال: "كان رسول الله ﷺ يحتجم في الأخدعين والكاهل، وكان يحتجم لسبع عشرة، وتسع عشرة، وإحدى وعشرين". [رواه الترمذي: 2051، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 4927].

وعرفنا أن الكاهل ما بين الكتفين، "وكان يحتجم لسبع عشرة" تحديد أفضل أيام الحجامة، فليست أيام الشهر سواء في الحجامة، فهناك أيام في الشهر تُستحب فيها الحجامة، أو تكون أجدى أو أكثر أثرًا من أيام أخرى، فبين لنا أن سبعة عشر من الشهر، وتسعة عشر، وإحدى وعشرين؛ أيام مرغوبة في أن تكون الحجامة فيها.

ففي هذا الحديث: تحديد أفضل أيام الحجامة في الشهر، قال المباركفوري -رحمه الله-: "قد عقد البخاري بابًا في صحيحه بلفظ: باب أي ساعة يحتجم، وذكر فيه أثر أبي موسى أنه احتجم ليلاً، وحديث ابن عباس : "احتجم النبي ﷺ وهو صائم"، وهذا فيه كلام كثير في قضية الحجامة والصيام.

قال الحافظ -رحمه الله-: "ورد في الأوقات اللائقة بالحجامة أحاديث ليس فيها شيء على شرطه"، فكأنه أشار إلى أنها تُصنع عند الاحتياج ولا تتقيد بوقت دون وقت؛ لأنه ذكر الاحتجام ليلاً، وذكر حديث ابن عباس: "أن النبيﷺ احتجم وهو صائم" [فتح الباري لابن حجر: 10/149].

وهذا يعني أن الحجامة كانت نهارًا، هل يكون صيامًا في الليل؟!

فإذا قال: احتجم ليلاً واحتجم وهو صائم، يعني هو يبين أن الحجامة ممكن في الليل، وممكن في النهار.

وقد ورد في تعيين الأيام والأشهر التي يحتجم فيها عدة أحاديث منها: "فاحتجموا على بركة الله يوم الخميس، واحتجموا يوم الاثنين والثلاثاء، واجتنبوا الحجامة يوم الأربعاء والجمعة والسبت والأحد"، وحديث: "من احتجم لسبع عشرة، وتسع عشرة، وإحدى وعشرين، كان شفاء من كل داء"؛ إلا أن كثيرًا من المحدّثين قالوا: إنه لا يصح من هذه الأحاديث شيء.

وقال العقيلي: "وليس في الحجامة شيء يثبت لا في الاختيار، ولا في الكراهة" [تهذيب التهذيب: 1/479].

وقال أبو حاتم الرازي والذهبي عن الحديث الوارد في تحديد الأيام: "باطل".

قال المباركفوري: "ولكون هذه الأحاديث لم يصح منها شيء قال حنبل بن إسحاق: "كان أحمد يحتجم أي وقت هاج به الدم، وأي ساعة كانت" [تحفة الأحوذي: 6/175]، يعني: من ليل أو نهار.

فبعض العلماء حسن الأحاديث، وقال: إذا كان سبعة عشر أو تسعة عشر أو واحد وعشرين وكان وافق خميس هذا أحسن، قالوا: إنه أحسن، بعضهم قال: أبدًا هذه الأحاديث كلها لا تصح، واحتجم متى ما شئت.

وعن أنس بن مالك : "أن رسول الله ﷺ احتجم وهو محرم بملل، على ظهر القدم"، الحديث رواه البخاري ومسلم، لكن بدون الزيادة "بملل على ظهر القدم"، هذه الزيادة عند الترمذي هنا في الشمائل، وصححه الألباني. [رواه الترمذي في الشمائل: 366، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 314].

"احتجم وهو محرم": فيه جواز الحجامة للمحرم بشرط أن لا يكون فيه حلق شعر؛ لأن المحرم لا يجوز له إزالة الشعر، احتجم وهو محرم إذا لم يحلق شعرًا.

قال ابن حجر: "قال النووي: إذا أراد المحرم الحجامة لغير حاجة، فإن تضمن قطع شعر فهي حرام لقطع الشعر، وإن لم تتضمنه جازت عند الجمهور" [فتح الباري لابن حجر: 4/51].

يعني واحد ذاهب في أثناء الإحرام لقي حجامًا مشهورًا سمع عنه جاي إلى الحج فوافقه، وإذا ما حجمه الآن خلاص راح هذا في ملايين الحجاج وما رآه بعد ذلك، فانتهز فرصة فقال: احجمني، هب أنه لقيه مثلاً في مزدلفة، فإذا ما كان فيه حلاقة شعر فلا بأس، فقد يكون الرجل أصلع أو قد يكون المنطقة التي يحجمه فيها ما فيها حلاقة شعر، وإذا احتاج لو احتاج الحجامة وهو محرم وفي منطقة مثلاً في الرأس ولا بد من حلق الشعر، ولكن مثلاً فيه صداع شديد جدًا لا يزول إلا بالحجامة مثلاً، فعند ذلك يحتجم وعليه فدية، مثل الذي حلق شعره كعب بن عُجرة -رضي الله عنه- لأجل القُمّل وأخرج الفدية، ونزلت الآية فيه.

واستُدل بهذا الحديث: على جواز الفصد، وربط الجرح، والدُّمّل، وقطع العرق، وقلع الضرس، يعني كله للمحرم، يعني أن إخراج الدم عند الحاجة الفصد، وربط الجرح، وبط الدُّمّل، البط أن يكون هذا متقيحًا منتفخًا، فيريد أن يطهره فيجعل فيه قطعًا، ويزال القيح هذا، ويُطهّر الجرح فيسمونه: بط الجرح أو بط الدُّمّل، البط أيضًا كلمة عادية، كلمة عامية، بطه يبطه بطًّا، وكذلك قطع العرق، وقلع الضرس، وغير ذلك من وجوه التداوي إذا لم يكن في ذلك ارتكاب ما نُهي عنه المحرم من تناول الطيب، وقطع الشعر، ولا فدية عليه في شيء من ذلك، والله أعلم.

وقد احتجم النبي ﷺ كذلك "وهو صائم" كما روى الشيخان، والجمهور على أنه لا يفطر، وقال أحمد: يفطر الحاجم والمحجوم لخبر: أفطر الحاجم والمحجوم  وهو صحيح، وأوّله الجمهور بأن معناه: تعرض للإفطار بالمص للحاجم، والضعف للمحجوم، أو بأن ذلك كان أولاً ثم نُسخ، والكلام في الحجامة للصائم من المسائل هذه العويصة، وفيها كلام كثير لأهل العلم، واختلفوا فيها اختلافًا متباينًا وممن عرض ذلك بشكل مرتب ومنظم المباركفوري -رحمه الله- في شرح التحفة.

قوله: "بملل": موضع في الطريق بين مكة والمدينة، يعني بين الحرمين، وقيل موضع في طريق البادية، فلما كان ﷺ بملل احتجم، أين؟ على ظهر القدم، إذن واضح احتجم على ظهر القدم وهو محرم لا بأس بذلك، الموضع الرابع احتجم في وسط الرأس، إذن، احتجم في الكاهل، احتجم في الأخدعين، احتجم في ظهر القدم، احتجم وسط الرأس، دليل الحجامة في وسط الرأس جاء في صحيح مسلم: "أن النبي ﷺ احتجم بطريق مكة وهو محرم وسط رأسه" [رواه مسلم: 1203].

قال النووي عن حديث مسلم هذا: "وهذا الحديث محمولٌ على أن النبي ﷺ كان له عُذرٌ في الحجامة في وسط الرأس؛ لأنه لا ينفك عن قطع الشعر"، كيف سيحتجم بدون قطع الشعر؟ إلى أن قال: "وفي هذا الحديث بيان قاعدة من مسائل الإحرام؛ وهي أن الحلق واللباس وقتل الصيد، ونحو ذلك من المحرمات في الإحرام يُباح للحاجة وعليه الفدية، كمن احتاج إلى حلقٍ، أو لباسٍ لمرضٍ أو حر أو برد أو قتل صيدًا للحاجة وغير ذلك، والله أعلم"[شرح النووي على مسلم: 8/123].

مثل مثلاً لبس الكمام، أنتم تعلمون أن المحرم لا يغطي وجهه؛ لأن تغطية الوجوه من محظورات الإحرام، والكمام يغطي نصف الوجه وأكثر، أحيانًا يغطي أكثر من نصف الوجه، فلو احتاج الكمام، ولابد من الكمام، وهو يمشي بين الحافلات والشاحنات ومناطق لا يتحمل فيها الرائحة، أو يعمل في المسلخ في منى، أو أنه لابد أن يلبس الكمام، فيلبس ويخرج الفدية، هذا ما أفتانا به شيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله-، وسألته عن لبس الكمامة للمحرم.

ثم قال: "باب ما جاء في أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم –"

00:27:25

قال ابن القيم عن أسمائه ﷺ: "وكلها نعوت، ليست أعلامًا محضة لمجرد التعريف، بل أسماء مشتقة من صفات قائمة به توجب له المدح والكمال" [زاد المعاد: 1/84].

عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي  أخرجه البخاري ومسلم. [رواه البخاري: 4896،، ومسلم: 2354].

قوله: إن لي أسماء ، وفي رواية: لي خمسة أسماء ، قد أخرجه البخاري أيضًا، وجاء في رواية نافع بن جبير عن ابن سعد أنه دخل على عبد الملك بن مروان فقال له: أتحصي أسماء رسول الله ﷺ التي كان جبير بن مطعم يعدها؟، قال: نعم، هي ست؛ فذكر الخمس التي ذكرها محمد بن جبير وزاد: "الخاتم"، يعني: هو خاتم النبيين.

ومن المعلوم أن له أكثر من ذلك، فأسماؤه ﷺ ليست محصورة في خمسة، وقد أجيب عن هذا الحديث بعدة أجوبة، يعني إذا ما كانت محصورة في خمسة، لماذا قال إن لي خمسة أسماء في هذه الرواية، لي خمسة أسماء، فمنهم من قال: إن مفهوم العدد لا اعتبار له فلا ينفي الزيادة، لكن اقتصر على هذه الخمسة؛ لأنها موجودة في الكتب القديمة، ومعلومة للأمم السالفة؛ فهي موجودة في التوراة والإنجيل.

وقيل معناه: ولي خمسة أسماء لم يسم بها أحد قبلي، وأما بقية الأسماء ففي، سمي ناس بمحمد وأحمد مثلاً.

قال الحافظ: "الذي يظهر أنه أراد أن لي خمسة أختص بها لم يُسمّ بها أحد قبلي أو معظمة أو مشهورة في الأمم الماضية، لا أنه أراد الحصر فيها".

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "وأسماؤه ﷺ نوعان: أحدها: خاص لا يشاركه فيه غيره من الرسل؛ كمحمد وأحمد والعاقب والحاشر والمقفّى ونبي الملحمة، والثاني: ما يشاركه في معناه غيره من الرسل، ولكن له منه كماله، فهو مختص بكماله دون أصله" [زاد المعاد: 1/86].

فإذن، لا يوجد أحد قبل نبينا سُمي بمحمد، ولا في أحد قبل نبينا من الأنبياء سُمي بأحمد، مع أن الأنبياء كثر جدًا، والله أرسل رسلاً كثيرين، وأوحى إلى أنبياء كثيرين جدًا، الله يحب إقامة الحجة؛ ولذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وبعث الأنبياء، لا يوجد نبي قبل نبينا له هذه الأسماء؛ أحمد، محمد، الحاشر، العاقب، نبي الملحمة، وهناك أسماء كانت لأنبياء من قبله مثل: رسول الله، نبي الله، عبد الله، الشاهد، المبشِّر، النذير، نبي الرحمة، نبي التوبة، ليست خاصة به، فهناك من الأنبياء، أي نبي ممكن يكون نبي التوبة ونبي الرحمة ومبشِّر ونذير، وكذلك المصدوق والصادق، بعضهم جعل له من الأسماء إلى المائتين والرؤوف والرحيم، ومنهم من قال: إن لله ألف اسم، وللنبي ﷺ ألف اسم، الله أعلم، ذكر الكلام ابن القيم في زاد المعاد، ونحن ما نثبت إلا ما ثبت.

وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمّى وعلو مكانته، والعرب من عادتها إطلاق الأسماء الكثيرة على كل من كان ذا شأن عظيم ومنزلة رفيعة، واختيار الأسماء من الأمور التي اهتمّ بها الإسلام وندب إليها، وكان من خصائص النبي ﷺ التي أكرمه الله بها واختصّه بها عمن سواه تلك الأسماء الحميدة العديدة والصفات الحميدة ذات المعاني الفريدة، فكانت أسماؤه ﷺ دالة كل الدلالة على معانيها.

يعني ممكن الواحد الآن مثلاً اسمه صلاح الدين وهو خراب الدين، ممكن واحد اسمه صالح وهو طالح، ممكن جدًا الآن الأسماء قد يكون اسمه رامي وهو لا يعرف من الرماية شيء، فإذًا الاسم قد يصدق على الشخص وقد لا يصدق عليه، فقد يكون اسمه محمود وهو مذموم لسوء أخلاقه ودينه، وقد يكون اسمه طاهر وهو من أنجس الناس قد يكون مشركًا، وفي بعض أسماء أهل البدع من المشركين الطاهر والمطهر والمتقي وكلهم وهم لا طاهر ولا مطهر ولا متقي ولا يعرف التقوى ولا هو من أهل الملة الحنيفية أهل ملة التوحيد أصلاً.

إذن، الاسم قد ينطبق على المسمّى، وقد لا ينطبق،؛ وأسماء النبيﷺ كلها تنطبق عليه انطباقًا تامًا، وله معاني كاملة اتصف بها، وتجسّد ذلك في سلوكه وأخلاقه وشؤونه، فمن أسمائه ﷺ محمد، اسم مفعول من التحميد، سُمّي لكثرة خصاله المحمودة، أو لأن الله تعالى حمده حمدًا كثيرًا بالغًا غاية الكمال، وكذلك الملائكة والأنبياء والأولياء، أو تفاؤلاً ليكثر حمده كما وقع؛ لأنه يحمده الأولون والآخرون.

قال الحافظ في الفتح: "قال عياض: حمى الله هذه الأسماء أن يسمّى بها أحدٌ قبله -يعني قبل محمد ﷺ، وإنما تسمّى بعض العرب محمدًا قرب ميلاده لما سمعوا من الكهّان والأحبار أن نبيًا سيبعث في ذلك الزمان يسمى محمدًا، فرجوا أن يكونوا هم فسموا أبناءهم بذلك.

يقول الحافظ: "وقد جمعتُ أسماء من تسمى بذلك في جزء مفرد فبلغوا نحو خمسة عشر نفسًا" [فتح الباري لابن حجر: 6/556].

إذن هذا الذي تسمى باسم محمد في الجاهلية، ناس من أهل الجاهلية سموا أبناءهم بهذا الاسم، أما أنبياء قبل نبينا ما أحد كان له اسم محمد أبدًا، والله ادخر لنبيه هذا الاسم، ولا غرابة أن تمر الأجيال الطويلة جدًا على البشرية ويكون اسم غير مستعمل، ما عُرف إلا في وقت معين، هذا يحيى :  لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [مريم: 7]، أول واحد في البشرية، وكم قبله من الناس من وقته إلى آدم كثير، يحيى عاصر عيسى -عليه السلام-، ابنا الخالة: يحيى بن زكريا، وعيسى ابن مريم.

فإذًا يعني الاسم قد يحميه الله أو يدخره لشخص معين، محمد ﷺ من هذه الأسماء، ومحمد يعني كثير الخصال التي يحمد عليها، ولذلك فهو أبلغ من محمود؛ لأن محمد من المبالغة، وهو الذي يحمد أكثر مما يحمد غيره، أما أحمد فهو على وزن أفعل التفضيل مشتق من الحمد، فيقال مثلاً: هذا أحمد من هذا، وهذان الاسمان إنما اشتقا من أخلاقه وخصائصه المحمودة التي لأجلها استحق أن يسمّى بها ﷺ.

والفرق بين لفظ أحمد ومحمد من وجهين:

الأول: أن محمدًا هو المحمود حمدًا بعد حمد، فهو دال على كثرة حمد الحامدين له، محمد يعني يحمده الناس، وهذا يستلزم كثرة موجبات الحمد، وأما أحمد فهو أفعل التفضيل من الحمد يدل على أن الحمد الذي يستحقه أفضل مما يستحقه غيره، فمحمد زيادة حمد في الكمية، وأحمد زيادة حمد في الكيفية، فمحمد يعني كثر حامدوه، ما أكثر من حمده، الذين يحمدونه كثيرون جدًا، فلذلك هو محمد من كثرة الذين يحمدونه سمي محمدًا، وبالتأكيد ما كثر حامدوه إلا وهو يستحق لصفاته العظيمة، أما أحمد فإنه الذي بلغ في الحمد غاية عظيمة، فهو في الكيفية أحمد من البشر الآخرين جميعًا.

والوجه الثاني: أن محمدًا هو المحمود حمدًا متكررًا، وأحمد هو الذي حمدُه لربه أفضل من حمد الحامدين غيره، فدلّ أحد الاسمين وهو محمد على كونه محمودًا، ودلّ الاسم الثاني وهو أحمد على كونه أحمد الحامدين لربه.

وقال ابن القيم -رحمه الله- في جلاء الأفهام: "فتسميته بهذا الاسم الذي هو أحمد؛ لما اشتمل عليه من مسماه وهو الحمد، فإنه محمود عند الله، ومحمود عند الملائكة، ومحمود عند إخوانه المرسلين، ومحمود عند أهل الأرض أجمعين، وإن كفر به بعضهم فإن ما فيه من صفات الكمال محمودة عند كل عاقل، وإن كابر عقله جحودًا أو عنادًا أو جهلاً، ولو علم اتصافه بها لحمده، فإنه يُحمد من اتصف بصفات الكمال، وهو اختص من مسمى الحمد بما لم يجتمع لغيره، فإن اسمه محمد وأحمد وأمّته الحمّادون، يحمدون الله على السراء والضراء، وصلاة أمته مفتتحة بالحمد، وخطبته مفتتحة بالحمد، وكتابه مفتتح بالحمد، وبيده لواء الحمد يوم القيامة، ولما يسجد بين يدي ربه للشفاعة ويؤذن له فيها يحمد ربه بمحامد يفتح بها عليه حينئذ، وهو صاحب المقام المحمود الذي يغبطه الأولون والآخرون عليه، قال تعالى:  وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا  [الإسراء: 79]، وإذا قام في المقام حمده الخلائق جميعًا وأهل الموقف مسلمهم وكافرهم، وأولهم وآخرهم، وهو محمود بما ملأ الأرض من الهدى والإيمان والعلم النافع والعمل الصالح، فتح الله به القلوب، وكشف به الظلمة عن أهل الأرض واستنقذهم من أسر الشيطان ومن الشرك بالله والكفر به والجهل، حتى نال به أتباعه شرف الدنيا والآخرة" [جلاء الأفهام: 179].

وقوله: أنا الماحي   الذي يمحو الله به الكفر، الماحي الذي محا الله به الكفر ولم يمح الكفر بأحد من الخلق ما محي بالنبي ﷺ، فإنه بعث وأهل الأرض كلهم كفار إلا بقايا من أهل الكتاب، وهم ما بين عباد أوثان، ويهود معضوب عليهم، ونصارى ضالين، وصابئة دهرية لا يعرفون ربًا ولا معادًا، وبين عُبّاد الكواكب، وعباد النار، وفلاسفة لا يعرفون شرائع الأنبياء ولا يقرون بها، وقد نظر الله - سبحانه - حينئذ، يعني حين بعثة نبينا محمد ﷺ إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلى بقايا على آثار من دين صحيح، فأغاث الله به البلاد والعباد، وكشف به تلك الظُّلم، وأحيا به الخليقة بعد الموت، فهدى به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غُلفًا، ومحا الله برسوله الكفر حتى ظهر دين الله على كل دين، وبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار -يعني مشرق الأرض ومغربها- وسارت دعوته مسيرة الشمس في الأقطار، هذا من كلام ابن القيم -رحمه الله- في اسم الماحي، ما معناه.

وقوله: وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي  الحشر: هو الضم والجمع، فهو الذي يحشر الناس على قدمه فكأنه بُعث ليُحشر الناس، وقد ضبط: قَدَمَيَّ، وضبط: قَدَمِي؛ بالمفرد والمثنى، قال النووي: "معنى الروايتين" معنى: يحشر الناس على قَدَمَيَّ أو  على قَدَمِي  معناه: يُحشرون بعدي، يُحشرون على إثري وزماني ورسالتي، هذا معنى: وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي ، يعني يحشرون بعدي، والمعنى أنه ﷺ يحشر أولاً، ثم يحشر الناس بعده، وهذا مصداق ما أخبر به ﷺ في قوله: "أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة"، فإذًا هو أول واحد سيحشر، أول واحد يخرج من قبره، كل الناس سيخرجون بعده، وهو يكون في الأول وبعده يأتون على قدمه وعلى إثره، يخرجون من القبور ويحشرون إلى أرض المحشر عند قيام الساعة.

وجاء في رواية نافع: "وأنا حاشر بعثت مع الساعة" يعني: يحشر الناس على إثر زمان نبوتي، وليس بعدي نبي، فالمراد بالقدم الزمان أي وقت قيامي بظهور علامات المحشر؛ لأن النبي ﷺ أول أشراط الساعة بعثته، ويحتمل أن يكون المراد بالقدم الزمان أي وقت قيامي على قدمي بظهور علامات الحشر إشارة إلى أنه ليس بعده نبي ولا شريعة.

وأظهر هذه المعاني -والله أعلم-  يُحشر الناس على قدمي  يعني: أول واحد أخرج من القبر، وأول واحد أحشر الناس كلهم بعدي، كلهم يحشرون بعدي، حتى الأنبياء الآخرون كلهم يحشرون بعدي.

وقوله:  وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي : هذا العاقب، وهو خلف كل الأنبياء وليس هناك نبي يخلفه، وأما عيسى فإنما هو حاكم بشريعته، ولا يأتي بشرع جديد، وإنما ينزل ليحمل الناس على شريعة محمد ﷺ بالرضا أو بالقوة، حتى لا يكون في الأرض دين إلا الإسلام، حتى الجزية تكون مرفوضة، إما أن يُقتل وإما أن يُسلم، فلذلك كل الأرض تدين بالإسلام على شريعة محمد ﷺ، وهو العاقب ﷺ بمنزلة خاتم النبوة بمنزلة خاتم الأنبياء، فلذلك سُمِّي عاقبًا؛ لأنه جاء عقب الأنبياء جميعًا، ولا يأتي بعده نبي ولا يُبعث بشرع جديد، ليس بعده نبي، وبعثة ما في، أما نزول عيسى هذا نزول، وليس بعثة، نزول.

وعن حذيفة قال: "لقيت النبي ﷺ في بعض طرق المدينة فقال: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا نبي الرحمة، ونبي التوبة، وأنا المقفِّي، وأنا الحاشر، ونبي الملاحم أخرجه أحمد، وحسّنه الألباني. [رواه أحمد: 16771، وحسن إسناده الألباني في مختصر الشمائل: 316].

 نبي الرحمة: سبب الرحمة، سببها، قال تعالى:  وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107]، رحم الله به المخلوقات، كان أمانًا حتى لقريش من الخسف والاستئصال بالعذاب، فبعثه الله رحمة لقومه، ورحمة للعالمين، وحصل النفع برسالته في جموع أهل الأرض، وأتباعُه نالوا كرامة الدنيا والآخرة، وأعداؤه عُجّل قتلهم وموتهم بسببه، وهذا فيه خير لهم، ولو زادت حياة هؤلاء لزاد تغليظ العذاب عليهم في الآخرة، أما المعاهدون له؛ الآن الناس ببعثة النبي ﷺ أقسام: متبعون مهتدون، ومحاربون، ومعاهدون، ومنافقون، وأمم نائية، أما أتباعه: فكانت بعثته رحمة لهم بلا ريب ولا شك، لأنهم اتبعوه وآمنوا به فصاروا من أهل الجنة، ونالوا الفوز العظيم، وجاهدوا معه، ونشروا دعوته ودينه، وبلغوا، وأما أعداؤه: فالمحاربون له قد عجل قتلهم وموتهم؛ وهذا خير لهم من أن تمتد بهم الحياة فيزدادون عذابًا في النار، وأما المعاهدون له: فعاشوا في الدنيا تحت ظله وذمته، وهم أقل شرًا من المحاربين له، ولكن عدله فيهم رحمة لهم، وقد وفى لهم بالعهد، والمنافقون: من الرحمة التي حصلت لهم به حقن دمائهم؛ فإنه ما رضي بقتل المنافقين حتى عبد الله بن أبي، فكانوا يعيشون في المدينة، ولا يعتدى على دمائهم ولا على أموالهم؛ لأنهم يظهرون الإسلام، وعاملهم على الظاهر؛ وفي هذا رحمة لهم، كونه عاملهم على الظاهر رحمة لهم، ولو عاملهم على الباطن مع أن الله أخبره بحقائق عدد من المنافقين كان من الممكن يبني على الباطن، لكن ليس هكذا الشرع، وليس هكذا علمنا، وهذا من الرحمة بهم، كونه يجري على المنافقين أحكام الإسلام في الظاهر فيُسلّم عليهم ويشمتون عند العطاس ويرثون ويورثون وتحقن دماؤهم هذا من الرحمة بالمنافقين، وأما الأمم النائية: فإن الله رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض، يعني استفاد من بعثته حتى الدواب، رحمة للبشر كلهم، وللجن أيضًا استفادوا وجاءوا وأسلموا وتعلموا والتقوا به، وجاء وفد جن نصيبين، يعني أكثر من مرة التقى بهم وعلمهم وأسلم منهم من أسلم، وكذلك فإنه رحمة لكل أحد، لكن المؤمنون قبلوا الرحمة، والكفار ردوها، فهي موجودة لكن هم أبوها.

نبي التوبة: لأن الله فتح به باب التوبة على أهل الأرض، فتاب عليهم توبة لم يحصل قبل مثلها، وكان ﷺ أكثر الناس استغفارًا وتوبة، ولذلك يُسمى نبي التوبة؛ لكثرة توبته لربه، ولأنه علمنا التوبة؛ ولأن من قبلنا كان الواحد إذا أراد التوبة ربما يحتاج أن يقتل نفسه كما حصل في الذين عبدوا العجل فكان في بني إسرائيل التوبة تصل لدرجة أن الواحد لابد أن يقتل، بالقتل بالقتل، لكن في شريعتنا لا، التوبة بالندم والإقلاع معروفة ولا تحتاج للقتل، ولذلك نبينا نبي التوبة، وفي المجلس الواحد يتوب إلى الله أكثر من مائة مرة، رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور  أحصوها له في المجلس الواحد مائة مرة في حديث ابن عمر، رواه الترمذي، وهو حديث صحيح. [رواه الترمذي: 3434، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 3486]. 

وقال ﷺ: يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة [رواه مسلم: 2702].

وتوبته أكثر من توبة باقي الأمم، وأسرع قبولاً، وأسهل تناولاً، وهذا من كرامته عند الله أن جعل طريق التوبة على أمة محمد ﷺ سهلاً ميسورًا.

وقوله: أنا نبي المرحمة : الرحمة والمرحمة متقاربة، ومقصودها أنه ﷺ جاء بالتوبة والتراحم، ولذلك من معاني الأخوة الإسلامية بين المسلمين:  رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ  [الفتح: 29]، من أخلاق المسلمين التي جاء بها هذا النبي العظيم: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [البلد: 17]، رحمة اليتيم، ورحمة المرأة الضعيفة، ورحمة المسكين، هذه من المرحمة في هذه الشريعة، بل إنه ﷺ:  بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ  [التوبة: 128]، إنه ناشد ربه في عدد من المواطن من أجل هذه الأمة حتى أعطاه الله خيرًا عظيمًا، بُعث رحمة للعالمين، خفّف الله عن هذه الأمة الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ  [البقرة: 54]، وفي شرعنا لو بلغ الذنب الشرك بالله التوبة منه ما تحتاج إلى القتل، سهلة ميسورة.

وأما المقفِّي  أو  المقفَّى : كلاهما روايتان؛ المقفِّي والمقفَّى، باسم الفاعل واسم المفعول.

فعلى رواية: المقفَّى : التابع للأنبياء، فهو آخرهم، والتابع لآثارهم، كما قال الله له: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ  [الأنعام: 90]، اقتدي بالأنبياء من قبلك، فهو متبّع للأنبياء جميعًا في التوحيد ومكارم الأخلاق، ما في حسنة ما في ميزة في شرع نبي من قبل إلا وفي شريعتنا منها، وما هو أكثر.

أما  المقفِّي : فهو الذي قفى على آثار الأنبياء، وختم الله به الرسالة، قال تعالى: ثُمَّ ‌قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا  [الحديد: 27]، فالمقفِّي هو المولي الذاهب؛ يعني: آخر الأنبياء المتبع لهم، فإذا قفى فلا نبي بعده.

أما نبي الملحمة: فالملحمة هي الحرب والقتال الشديد، سمي بنبي الملحمة لأنه جاهد، ومن دينه الجهاد، وحرص على الجهاد، وسارع إليه.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "فهو الذي بُعث بجهاد أعداء الله، فلم يجاهد نبي وأمته قط ما جاهد رسول الله ﷺ، يعني موسى جاهد ومعه قومه، لكن جهادهم بالنسبة لجهاد نبينا محدود، سليمان جاهد، داود جاهد، يوشع بن نون جاهد؛ تلميذ موسى والنبي من بعد موسى قائد بني إسرائيل الثاني بعد موسى؛ لكن جهاد هؤلاء الأنبياء بالنسبة لجهاد نبينا أقل ولا شك، فنبينا نبي الملحمة.

قال ابن القيم: "فلم يجاهد نبي وأمتُه قط ما جاهد رسول الله ﷺ وأمته"، والملاحم الكبار التي وقعت وتقع بين أمته وبين الكفار لم يُعهد مثلها قبله، لا عددًا ولا حجمًا، لا توجد معارك صارت بين مسلمين وكفار مثل التي صارت في هذه الأمة، هذه أمة الملحمة أو نبيها نبي الملحمة نبي الجهاد؛ لكثرة ما حصل فيها من الجهاد الذي يرفع الله به أقوامًا، ويتخذ منهم شهداء، ويُذل به الطواغيت، ويُذهب به الكفار، ويقوّض دولهم، وينشر العدل، الجهاد هذا باب عظيم؛ يذهب الله به الهم والغم، وجعل رزقي تحت ظل رمحي [رواه أحمد: 22719، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 4063]. 

يعني فوائده كثيرة جدًا، قال: "والملاحم الكبار التي وقعت وتقع بين أمته وبين الكفار لم يُعهد مثلها قبله، فإن أمته يقتلون الكفار في أقطار الأرض على تعاقب الأعصار، وقد أوقعوا بهم من الملاحم ما لم تفعله أمة سواهم"، يعني في أمم أخرى قاتلت، يعني الصينيون قاتلوا اليابانيون قاتلوا الأوربيون قاتلوا النصارى قاتلوا واليهود قاتلوا لكن لا توجد أمة قاتلت مثل المسلمين، الإسكندر المقدوني قاتل فلان قاتل، لكن مثل هذه الأمة، في أمم انقرضت قاتلت وبادت وراحت، هذه الأمة الجهاد فيها إلى يوم القيامة، ولا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق  [رواه أبو داود: 4252، وصححه الألباني في المشكاة: 5406]. لا يمكن أن ينقطع الجهاد ماض إلى يوم القيامة، فلا توجد أمة قامت بملاحم مثل هذه الأمة وضحت بالنفوس والمهج والأرواح والأموال في سبيل الله.

قال المناوي: "وسُمي نبي الملحمة لحرصه على الجهاد، ووجه كونه نبي الرحمة، ونبي الحرب؛ أن الله بعثه لهداية الخلق إلى الحق وأيده بمعجزات، فمن أبى عُذّب بالقتال والاستئصال، فهو نبي الملحمة التي بسببها عمّت الرحمة وثبتت المرحمة، ولذلك هو نبي الملحمة؛ لأنه بسبب الملحمة تحصل المرحمة، وسُمي نبي الملاحم لأنه سبب لتلاحم أمته واجتماعها، ولا تعارض بين كونه نبي الملحمة ونبي المرحمة والرحمة؛ لأن الرحمة لمن يستحقها"؛ بل من الرحمة بالشعوب قتال الطغاة الذي يتكبرون عليهم ويحكمونهم بالظلم، وكان من الخير لشعب كسرى أن يزال ملك كسرى بالجهاد، وكان من الخير لشعب قيصر أن يزال ملك قيصر بالجهاد، ولذلك هم رأوا عدلاً ورأوا من السيرة العظيمة الطيبة ما دخلوا به في الدين أفواجًا أصلاً لغتهم تغيرت وبلادهم تغيرت لما رأوا هذا الدين.

من الأسماء الأخرى للنبي ﷺ يقول ابن حجر العسقلاني رحمه الله: "ومما وقع من أسمائه في القرآن بالاتفاق: الشاهد، المبشر، النذير، المبين، الداعي إلى الله، السراج المنير، وفيه أيضًا المذكر، الرحمة، النعمة، الهادي، الشهيد، الأمين، المزمل، المدثر، وفي حديث عبد الله بن عمرو أنه سُمي بالمتوكل" سماه الله المتوكل.

ومن أسمائه المشهورة: المختار، المصطفى، الشفيع، المشفّع، الصادق، المصدوق، طبعًا في ناس اخترعوا له أسماء مثل: طه، طه هذه من الأحرف المقطعة، وليست من أسماء النبي ﷺ طه مثل: حم، طس، طه، حروف مقطعة، والآن أسماء طه أحمد، طه عبده، طه.... حتى جعلوه من أسماء النبي ﷺ ودرجوا على ذلك، قال ابن حجر: "والحكمة في الاقتصار على الخمسة المذكورة أنها أشهر من غيرها وموجودة في الكتب القديمة وبين الأمم السالفة" [فتح الباري: 6/558].

ذكر ابن القيم -رحمه الله- للنبي ﷺ أسماء أُخر فمنها: الفاتح الذي فتح الله به باب الهدى بعد أن كان مغلقًا، وفتح به الأعين العمي، والآذان الصم، والقلوب الغلف، فتح الله به أمصار الكفار، ويفتح الله به باب الجنة يوم القيامة، فتح الله به طريق العلم النافع والعمل الصالح، فتح الله به الدنيا والآخرة، فتح الله به الأبصار والأمصار.

من أسمائه الأمين: فهو أحق الناس بهذا الاسم، وهو أمين من في السماء إذا كان الوحي ينزل عليه ويبلغه إلينا بأمانة، أمين الله على وحيه، كانوا يلقبونه في الجاهلية بالأمين، لأنهم إذا أودعوا عنده شيئًا أداه إليهم كاملاً، لا يجحد ولا يتعب ولا يراوغ، فكانوا يضعون أماناتهم عنده لأمانته.

أما الضحوك القتّال : فاسمان مزدوجان لا يفرد أحدهما عن الآخر؛ لأنه ضحوك في وجوه المؤمنين غير مقطب ولا عابس ولا غضوب ولا فظ، وقتّال لأعداء الله لا تأخذه فيهم لومة لائم؛ فهو الضحوك القتال.

وأما البشير: لأنه يبشر لمن أعطاه بالثواب، والنذير: ينذر من عصاه بعذاب النار.

ومن أسمائه الهادي: لأنه دعا إلى الهداية والهدى.

وسماه عبد الله: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ  [الجن: 19]،  تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ  [الفرقان: 1]، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى  [النجم: 10]،  وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا  [البقرة: 23]، فسماه عبدًا.

والمتوكل: لأنه يتوكل على ربه في كل حال، كما قال عبد الله بن عمرو بن العاص: "إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن، ويوجد في التوراة: "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا، ومبشرًا، ونذيرًا، وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله"، والملة العوجاء هي: الشرك، ويقيمها بالتوحيد، والتوحيد: لا إله إلا الله، "ويفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا"، رواه البخاري. [رواه البخاري: 2125].

من أسمائه: سيد ولد آدم، سماه الله: سراجًا منيرًا، وسمّى الشمس سراجًا وهاجًا، والمنير ينير من غير إحراق بخلاف الوهاج، وهذا من أسمائه ﷺ" [زاد المعاد: 1/94].

وكان ذلك بابًا نافعًا ماتعًا، وكلام العلماء فيه كما ترون في غاية الجمال لطبيعة الموضوع، مدح محمد ﷺ، لأن أسماء النبي ﷺ تتضمن مدحًا وكمالاً لنبينا ﷺ، فهذا نهاية شرح أحاديث هذا الباب، وصلى الله على النبي المختار، وعلى آله وصحبه الأبرار.