أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة والسراج المنير والبشير والنذير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وهو موضوع درسنا في هذه الليلة وبعنوان: "النبي ﷺ كأنك تراه".
مما لا شك فيه أن الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- يمثّلون الكمال الإنساني في أرقى صوره، فهم أطهر البشر قلوباً، وأزكاهم أخلاقاً، اختارهم الله تعالى واصطفاهم لنفسه، والله يصطفي من رسله من يشاء، و اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: 124]. فلم يكن بدْعا من الأنبياء أن يكون كل ما عليه نبينا ﷺ من الخَلْقِ والخلُق مسترعياً للأنظار في قمة الكمال والجمال ﷺ وقد كان لهذا أثره الكبير في استجابة الناس له، فكم من رجل دخل في الإسلام بمجرد رؤية النبي فهذا عبد الله بن سلام حبْر اليهود وأعلمهم بالتوراة، يقول: "لما قدِم رسول الله ﷺ المدينة انجفل الناس إليه" أي: أسرع الناس إليه وقيل: قدِم رسول الله ﷺ ثلاث مرات، فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما تأمّلت وجهه واستثبته أي تحققت وتبينت منه، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب" [رواه الترمذي: 2485، وابن ماجه: 1334، والحاكم: 4283، والبيهقي في الشعب: 3090، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: 2485].
كان أحسن الناس وأجملهم
فرسولنا ﷺ كان أحسن الناس وأجمل الناس، لم يصفه واصف قط إلا شبّهه بالقمر ليلة البدر، حتى لقد كان يقول قائلهم: لربما نظرنا إلى القمر ليلة البدر فنقول: "هو أحسن في أعيننا من القمر ﷺ، أحسن الناس وجهاً وأنورهم لوناً، يتلألأ تلألؤ الكوكب" [دلائل النبوة للبيهقي مخرجا: 1/299].
لقد جاء وصف النبي ﷺ في أحاديث كثيرة، وحفظ الله لهذه الأمة وللأجيال المتأخرة والتالية لها صفة نبيها ﷺ، لقد جاءت صفته في الأحاديث كأن الإنسان ينظر إليه إذا قرأها وصفاً دقيقاً ونعتاً عجيباً، نقله لنا الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-.
وصف أُمّ معبد للنبي صلى الله عليه وسلم
ومن الأحاديث العظيمة في وصفه ﷺ حديث أُم معبد الذي رواه حُبيش بن خالد ؛ أن رسول الله ﷺ حين أُخرج من مكة مهاجراً إلى المدينة هو وأبو بكر ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة ودليلهم الليثي عبد الله بن أريقط، مرّت هذه الكوكبة، مروا على خيمة أم معبد الخزاعية، وكانت برْزةً كهْلة عفيفة وعاقلة جلدةً تحتبي بفناء القُبّة، ثم تسقي وتطعم، فسألوها لحماً وتمراً ليشتروه منها، فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك، وكان القوم مرملين، كانت أُم معبد في قومها من أهل البادية في ذلك الوقت قد نفذ زادهم، وهم في شِبه المجاعة مسنتين، أي مجدبين في القحط، فنظر رسول الله ﷺ إلى شاة في كسر الخيمة في جانبها، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم، قال: أبها من لبن؟ قالت: هي والله أجهد من ذلك، قال: أتأذنين لي أن أحلبها قالت: إن رأيت بها حلباً فاحلبها، فدعا بها رسول الله ﷺ، فمسح بيده ضرعها وسمّى الله تعالى ودعا لها في شاتها، فتفاجّت عليه، فرّجت رجليها استعداداً للحلب، ودرّت واجترّت، ودعا بإناء يُربض الرهْط، إناء لو شرب منه الجماعة لثقلوا وناموا، ودعا بإناء يربض الرهط فحلب فيه ثجاً لبناً سائلاً كثيراً، حتى علاه البهاء، بياض رغوة اللبن عند الحلب، ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب رسول الله ﷺ آخرهم، ثم أراضوا عَللا بعد نهلٍ، أراضوا: أي شربوا وارتووا عللاً بعد نهل أي مرة بعد مرة والنهل الشرب الأول والعلل الشرب الثاني، ثم حلب فيها ثانياً بعد بدء حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها، ثم بايعها وارتحلوا عنها، فقلما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد، يسوق أعنُزاً عجافا يتساوكن هزلاً ضحىً مُخُهن قليل" أي أنهن هزيلات يتمايلن من الضعف ليس في العظام نخاع، لا يكاد يوجد فيه نخاع من شدة الجوع، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد والشاء عازب حيال؟ أي بعيدة المرعى لا تأوي إلى المنزل في الليل، لم تحمل، كيف جاءها اللبن؟ ولا حلوبة في البيت؟ فقالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا، قال: صفيه لي يا أم معبد، قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، أي الحسن والجمال، أبلج الوجه، أي حسن الوجه واسعه حسن الخلق، لم تعبه نحلة، نحلة أي النحافة، لا يُعاب بنحافة ولا دقة، ولم تزر به صلعة، والصلعة صغر الرأس، فليس بمعيب لا في نحل ولا في صغر رأس وسيم قسيم، أي جميل حسن كل أقسامه جميلة، في عينيه دعج، أي شديد سواد العين، وفي أشفاره غطف والأشفار جمع شُفر؛ وهو الذي ينبت عليه شعر العين، الرمش هذا، وغطف هو أن يطول شعر الجفن ثم ينعطف يطول وينعطف، هذا صفة رموشه ﷺ، وفي صوته صهلٌ، أي قوة وحدة مع شيء من البحة، وفي عُنقه سطع أي ارتفاع وطول في العنق، وهذه من علامات الجمال، وفي لحيته كثافة، أي أنها كثيفة شعرها طويل ليست بدقيقة أزج أقرن، أزجُّ الزجج هو تقوس الحجاب مع طول في طرفها وامتداد حواجبه متقوسة وممتدة، أقرن أي أن الحاجبان قد التقى طرفاهما، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سمى وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد وأحلاه وأحسنُه من قريب، حلو المنطق، فصلٌ لا نزرٌ ولا هزرٌ، ليس عنده كثير فاسد ولا هذر ولا كلام غير مفيد كأن منطقه خرزات نظم ينحدرن، ربْعة لا يأس من طول، ليس بالطويل الذي يوئيس مباريه في الطول، ليس طوله طولاً شديداً، ولا تقتحمه عين من قصر، وليس قصيراً تحتقره العين إذا نظرت إليه وتقتحمه، غُصنٌ بين غصنين، فهو أنظر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، محفود يخدمه أصحابه ويعظّمونه، ومحشود يجتمعون إليه، لا عابس ولا مفنّد، لا متجهّم وليس أنه لا فائدة في كلامه لكبر أصابه لا عابس ولا مفنّد، فقال أبو معبد زوج المرأة: هو والله صاحب قريش الذي ذُكر لنا من أمره ما ذكُر في مكة، ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا" حديث أُم معبد رواه ابن إسحاق في السيرة وكذلك الحاكم وقال: حديث صحيح الإسناد وكذلك قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "قصة أُمّ معبد مشهورة مروية من طرق يشدُّ بعضها بعضاً"[السيرة النبوية لابن كثير: 2/257].
وقال المحقّق في زاد المعاد: "حديث حسن".
وكذلك من الأحاديث التي وردت في صفته ﷺ ما جاء عن أبي هريرة قال:" ما رأيتُ شيئاً أحسن من رسول الله ﷺ، وكان كأن الشمس تجري في جبهته، وما رأيتُ أحداً أسرع في مشيته من رسول اللهﷺ، كأنما الأرض تُطوى له" أي تُقطع المسافة بيسر وسهولة يقطعها بيسر وسهولة، "إنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث" [رواه أحمد: 8943، وقال محققه الأرنؤوط: إسناده حسن].
نجهد أنفسنا بالسير ونبالغ للحاق به وهو غير مكترث لا يبالي، لا يصيبه إعياء ﷺ.
وعن جابر بن سمُرة -رضي الله عنهما- قال: "رأيت رسول الله ﷺ في ليلة إضحيان - أي مضيئة مقْمرة - وعليه حُلّة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلهو عندي أحسن من القمر" رواه الترمذي وهو حديث حسن وصححه الألباني. [رواه الترمذي: 2811، وصححه الألباني في المشكاة: 8].
وعن أبي عُبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: "قلت للربيع بنت معوّذ: صفي لي رسول الله ﷺ قالت: "يا بني لو رأيته رأيت الشمس طالعة"
رواه الدارمي وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات. [مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: 8/280].
صفة لونه عليه الصلاة والسلام
لونه ﷺ كان أزهر اللون وهو الأبيض المستنير الناصع البياض وهو أحسن الألوان، لم يكن بالأبيض الأمهق الشديد البياض كالبرص، ولم يكن بالآدم الشديد السُّمرة، وكان بياضه ﷺ مُشْرباً بحمرة حتى كان الصحابة -رضي الله عنهم- كثيراً ما يتمثلون بنعت عمه أبي طالب إياه في لونه حيث يقول:
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه | ثمال اليتامى عصمة للأرامل |
وهذا كان في قصيدة قالها أبو طالب لما عزم على نُصرة النبي ﷺ، لما آذت قريش النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم آذوا بني هاشم بسببه، قال:
ولما رأيت القوم لا ودّ فيهم | وقد قطعوا كل العرى والوسائل |
وقد صارحونا بالعداوة والأذى | وقد طاعوا أمر العدو المزايل |
قد حالفوا قوماً علينا أضنة | يعضون غيضاً خلفنا بالأنامل |
يقول بعد ذلك في هذه القصيدة: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
أي ملجأ اليتامى والأرامل.
يلوذ به الهلاّك من آل هاشم | فهم عنده في رحمة وفواضل |
لعمري لقد أجرى أُسيد وبكرة | إلى بغضنا وجزآن لآكل |
إلى أن قال في آخر هذه القصيدة:
لقد علموا أن ابننا لا مُكذَّب | لدينا ولا يُعنى بقول الأباطل |
فأصبح فينا أحمد في أرومة | تقصر عنه سورة المتطاول |
حدبت بنفسي دونه وحميته | ودافعت عنه بالذرى والكلاكل |
فأيِّدهُ رب العباد بنصره | وأظهر دينا حقه غير باطل |
رجال كرام غير ميل نماهم | إلى الخير آباء كرام المحاصل |
[السيرة النبوية لابن كثير: 1/491].
هذه القصيدة التي وصف فيها أبو طالب النبي ﷺ بأنه أبيض يُستسقى الغمام بوجهه.
وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: "سمعت أنس بن مالك يصف النبي ﷺ، يقول: "كان ربْعَة من القوم ربعة متوسط بين الطول والقصر، ربعة بين القوم ليس بالطويل ولا بالقصير أزهر اللون أبيض مستنير ليس بأبيض أمهق ولا آدم، ليس شديد السُّمرة ولا شديد البياض جداً كالبرص، ليس بجعد قَطَط ولا سبْطٍ رجِل" [رواه البخاري: 3547]. فهو ليس شديد التواء الشعر ولا شديد الجعودة، وفي الوقت نفسه ليس مسترسلاً شديد الاسترسال، بل إن شعره وسط بين هذا وهذا.
وعن الجريجي عن أبي الطفيل قال: "رأيت رسول الله ﷺ وما على وجه الأرض رجل رآه غيري، فقلت له: كيف رأيته؟ قال: "كان أبيض مليحاً مقصّدا" [رواه مسلم: 2340].
المقصد المعتدل لا جسيم ولا نحيف ولا طويل ولا قصير وهذا الحديث رواه مسلم والذي قبله رواه البخاري -رحمه الله تعالى-. وعن علي بن أبي طالب قال: "كان رسول الله ﷺ أبيض مشْرباً بياضه بحُمْرة" [رواه الترمذي: 935، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: 935].
وعن محرش الكعبي أن النبي ﷺ خرج من الجعرانة ليلاً فاعتمر ثم رجع، فأصبح بها كبائت، فنظرت إلى ظهره كأنه سبيكة فضة" وهكذا كان، شبّهه في صفاء لونه وبياضه بسبيكة الفضة ﷺ، [رواه أحمد: 15512، والنسائي: 2864، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي: 2864 ].
وكذلك جاء في صفة وجهه ﷺ أنه كان أحسن الناس وجهاً، كان وجهه كالقمر، كان وجهه مستديراً ﷺ كأنه يتلألأ، كأن العرق في وجهه كاللؤلؤ، كان أسيل الخدين سهلهما ﷺ، أي ليس فيه نتوء قليل اللحم في الخد أقنى الأنف، أي أن أرنبة الأنف رقيقة مع حدَب في وسط الأنف ضليع الفم حسن الثغر براق الثنايا، إذا ضحك كاد يتلألأ".
وعن البراء بن عازب قال: "كان رسول اللهﷺ أحسن الناس وجهاً وأحسنه خَلْقاً". [رواه البخاري: 3549]. وعن أبي إسحاق قال: "سُئِل البراء: أكان وجه النبي ﷺ مثل السيف قال: لا، بل مثل القمر" الحديث [رواه البخاري: 3552]. كأن السائل أراد أن يقول وهذا السائل تابعي لم ير النبي ﷺ فهو يروي عن البراء أنه سُئل السائل، كان يُسأل: هل كان وجه النبي ﷺ طويل مثل السيف؟ فرد عليه البراء قال: بل مثل القمر في التدوير، ويُحتمل أن يكون قصد السائل: هل وجه النبي ﷺ مثل السيف في اللمعان؟ فقال: بل هو فوق ذلك، وعدَل البراء عُدولاً عجيباً لطيفاً رفيقاً دالاً السائل على صفة أحسن من التشبيه هذا بالسيف أنه مثل القمر في الإضاءة والتدوير. [رواه البخاري: 3552].
وعن علي بن أبي طالب قال: "كان رسول الله ﷺ عظيم العينين، العين واسعة أهدب الأشفار مُشْرباً بحمرة". [رواه أحمد: 684، وقال محققه أحمد شاكر: إسناده صحيح].
كان أسود الحدقة السواد المستدير وسط العين البؤبؤ كان أسوط الحدقة أهدب الأشفار وفي حديث يزيد الفارسي في رؤيته المنامية لرسول ﷺ التي قصّها على ابن عباس وأقرّه عليها، قال له في الوصف لما قال رأيت النبي ﷺ في المنام، قال: "صِف لنا ما رأيت" لو جاء واحد وقال: رأيت النبيﷺ في المنام كيف نعرف رآه أو ما رآه، نقول: صف ما رأيت فإن وصفه على هذا النعت الدقيق والدقيق جداً عرفنا أن الذي رآه هو هو ﷺ؛ لأن الشيطان لا يتمثّل به ولا يظهر في صورة النبي ﷺ في المنام، لا يمكن أن يتمثّل الشيطان بصورة النبي الحقيقة ﷺ، ولكن يمكن الشيطان يتمثّل بأي صورة أخرى يزعم أنه رسول الله في المنام، لكن لا يمكن يأتي الشيطان على وصف النبي ﷺ في المنام؛ ولذلك ابن عباس سأل الرجل حتى يعلم؛ هل هو الذي رآه فعلاً هو النبي ﷺ أو غيره، قال: "صفه لنا؟ قال: "رأيت رجلاً... إلى أن قال في الوصف: "حَسَنُ المضحك، أكحل العينين، سواد يكون في مغارز الجفن خلقة أهدب الأشفار" [رواه أحمد: 3410، وقال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد، ورجاله ثقات].
فبين له أنه لم يعدوه هو الصفة التي وصفه هو هو كأنك تصفه وأنت تراه.
وصف رأسه ولحيته صلى الله عليه وسلم
وأما من ناحية رأسه ﷺ ولحيته، فقد كان رسول الله ﷺ عظيم الرأس، ذا لحية عظيمة حسنة، كثيرة الشعر، سوداء تكاد تملأ نحره"، إذا تكلّم في نفسه عرف ذلك من خلفه باضطراب لحيته لعظمها". ومن الأحاديث التي وردت في ذلك ما يلي: عن علي بن أبي طالب في وصف النبي ﷺ قال: "كان ضخم الهامة" [رواه أحمد: 944، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 4820].
والهامة هو الرأس.
وعن علي بن أبي طالب في وصف رسول الله ﷺ قال: "كان رسول ﷺ عظيم اللحية" [رواه أحمد: 944، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 4820].
وعن علي بن أبي طالب قال: "كان رسول الله ﷺ كثّ اللحية أن أصولها وشعرها كثيفة فيها كثافة ليست دقيقة لحيته ﷺ" [رواه أحمد: 944، وقال محققه أحمد شاكر: إسناده صحيح]. وفي رواية: "كان كثير شعر اللحية".
وعن أبي هريرة في وصف النبي ﷺ قال: "كان رسول الله ﷺ أسود اللحية" رواه البيهقي وقال ابن حجر: "إسناده قوي".
صفة شعره عليه الصلاة والسلام
وأما صفة شعره ﷺ فإنه ليس بشديد الجعودة ولا شديد السبوطة، بل هو بينهما وسط بينهما، شديد السواد يبلغ إلى أنصاف أذنيه، وتارة شحمة أذنيه وتارة بين أذنيه وعاتقه، وتارة يضرب منكبيه، وكان أول أمره قد سَدَل ناصيته بين عينيه، ثم فرقه بعد ذلك فجعله فرقتين، وكان ربما جعله غدائر أربعاً يخرج الأذن اليمنى من بين غديرتين يكتنفانها" وبهذا جاءت الأوصاف عنه ﷺ.
ومن ذلك ما رواه البخاري -رحمه الله- عن أنس بن مالك ، قال: "كان رسول الله ﷺ: "رجل الشعر ليس بالسبِط ولا بالجعد القطط" [رواه البخاري: 3548].
وكذلك جاء عن أبي الطفيل قال: "رأيت رسول الله ﷺ يوم فتح مكة، فما أنسى بياض وجهه مع شدة سواد شعره" الحديث قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
وكذلك جاء عن أنس، قال: كان شعر رسول الله ﷺ إلى أنصاف أُذنيه" [رواه مسلم: 2338]. وكذلك جاء عن البراء بن عازب ، قال: "كان رسول الله ﷺ رجلاً مربوعاً، له شعر يبلغ شحمة أذنيه" اللِّين من الأذن في أسفلها وهو معلق القرْط الذي تضع النساء عليه حُلّة حمراء، ما رأيت شيئاً قط أحسن منه" [رواه البخاري: 5901].
وفي رواية عنه في شعر النبي ﷺ "أنه كان يضرب منْكبيه" رواه البخاري -رحمه الله- فهكذا كان ﷺ في شعره" [رواه مسلم: 2337]. مطابقة هنا.
وجاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: "كان أهل الكتاب يُسدلون أشعارهم" [رواه مسلم: 2336].
ومعنى يسدلون أشعارهم: أنهم يرسلونها على الجبين، سدَلَ شعره إذا أرسله ولم يضمّ جوانبه، فكان أهل الكتاب يُسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون الشعر من الوسط، يفرقونه ويجعلونه فيه فرقاً من الوسط، "وكان النبي ﷺ يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به"، شيء ما جاء فيه تشريع ولا دليل ولا أُوحي إليه فيه بشيء يوافق أهل الكتاب؛ لأنهم أقرب من المشركين في هذا الأمر الذي ليس فيه تشريع، فسدل رسول الله ﷺ ناصيته سدلها شعر مقدم الرأس سدله ثم فرق بعد" [رواه البخاري: 5917].
فإذن، السَّدْل من فعله ﷺ منسوخ، كان يفعله لما كان المشركون يفرقون الشعر، فخالف الأكفر والأضل، خالفه فلم يفرق وسدل، لما قضي على المشركين وفُتحت مكة وانتهى الشرك، لم يكن هناك مشركين حتى يخالفهم، فخالف أهل الكتاب؛ فلأنهم كانوا يسدلون صار هو يفرق شعره ﷺ.
وصف الشيب في شعره صلى الله عليه وسلم
بعد ذلك هل كان في شعر النبيﷺ شيب؟
الجواب: نعم، كان فيه قليل من الشيب، وكان أكثر شيب رأسه ﷺ في فوداء رأسه" فوداء الرأس أي: حرفاء الفرق جانبي الفرق وإذا مس ذلك الشيب الصفرة صار كأنه خيوط الذهب يتلألأ بين ظهري سواد شعره ﷺ.
كان شيبه قليل جداً والأدلة على ذلك ما يلي: عن أنس بن مالك قال: "تُوفي رسول اللهﷺ وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء" [رواه البخاري: 3547، ومسلم: 2347].
قال ربيعة: "فرأيت شعراً من شعر رسول الله ﷺ؛ لأن بعض الصحابة احتفظوا ببعض شعره بعد موته ﷺ، فإذا هو أحمر، فسألت: أنتم تقولون أنه أسود لماذا الآن شعره أحمر؟ فقيل: من الطيب الذي كان يدهن به احمرّ بعض الشعر.
وعن محمد بن سيرين قال: "سألتُ أنس بن مالك: أخضب رسول الله ﷺ؟
يعني: هل صبغ شعره بالحناء؟ قال: "إنه لم يُر من الشيب إلا قليله" [رواه مسلم: 2341].
ولذلك لم يكن هناك حاجة للخضاب.
وعن ثابت قال: "سُئل أنس بن مالك عن خضاب رسول الله ﷺ؟ فقال: "لو شئتُ أن أعدّ شمطات كنا في رأسه فعلت" يعني من قلتها يمكن أن تعد. [رواه مسلم: 2341].
وكذلك جاء عن أنس أن النبي ﷺ لم يختضب، إنما كان البياض في عنفقته". والعنفقة هذا الشعر الذي يكون أسفل الشفة السفلى وهو تابع للحية، فلا يجوز حلْقه، كان في هذا العنفقة شعرات بيضاء في شعر النبي ﷺ"وفي الصدغين وفي الرأس نبذ" [رواه مسلم: 2341].
إذن، هذا الشيب كان في العنفقة وفي الصدغين، والصدغان الشعر الذي بين الأذن وبين العين، هذا الصدغ وفي الرأس نبذ" يعني: أشياء متفرقة يسيرة.
وكذلك جابر بن سمرة كان رسول الله ﷺ قط شمط مقدم رأسه ولحيته" ومعنى شمط أي بدأ فيه الشيب، "وكان إذا ادهن ومشط لم يتبين" [رواه أحمد: 20998، وقال محققه الأرنؤوط: صحيح لغيره].
وإذا شعثَ رأسه تبين، فإذا بعُد العهد بالغسل وتسريح الشعر بان شيء من الشيب في شعره ﷺ.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي ﷺ كان يلبس النِّعال السِّبتية ويصفِّر لحيته بالورس" [رواه أبو داود: 4210، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 5010] وهذا الحديث قد رواه أبو داود وقال محقق جامع الأصول: إسناده حسن، فكان يصبغ بالورس ﷺ وهو نبات أصفر باليمن يؤتى به في اليمن يستعمل في الصبغ يعطي اللون الأصفر.
فالنبي ﷺ في الراجح أنه قد خضب قال ابن كثير -رحمه الله-: "ونفيُ أنس للخضاب معارَض لما تقدم عن غيره من إثبات الخضاب، والقاعدة تقول أن الإثبات مقدّم على النفي والمثبت معه زيادة علم ليس مع النافي" [البداية والنهاية: 6/22].
صفة خاتم النبوة
من صفاته ﷺ، كان له خاتم نبوة، يقول عاصم: "عن عبد الله بن سَرجَس ، قال: "رأيت النبي ﷺ وأكلتُ معه خبزاً ولحماً، فقلت: أستغفرَ لك النبي ﷺ؟ قال: نعم ولك، ثم تلا هذه الآية: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد: 19].
قال: ثم دُرتُ خلفه، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه عند ناغض كتفه اليسرى جُمْعاً".
أما ناغض الكتف فهو أعلى الكتف قيل: هو العظم الرقيق الذي على طرف الكتف وهو يتحرك أثناء حركة الكتف، ولذلك سُمي ناغضاً لتحركه عند ناغض الكتف اليسرى، "جُمْعاً" أي أنه كجمع الكف بعد تجمع الأصابع وتضامها، هذه هيئة خاتم النبوة، "عليه خيلان" والخيلان جمع خال والخال هي الشامة في الجسد "كأمثال الثآليل" [رواه مسلم: 2346]. وهي الحبيبات تعلو الجسد جمع ثؤلول، مثل قدْر بيضة الحمامة، خاتم النبوة مثل قدر بيضة الحمامة، حوله مثل هذه الثآليل مثل الخيلان حبة الخال المجتمعة عند ناغض الكتف الأيسر.
جاء في رواية جابر: "كان وجه رسول الله ﷺ مثل الشمس والقمر مستديراً ورأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامة يشبه جسده" [رواه مسلم: 2344].
فهذا هو مقداره هذا الخاتم الذي كان مكتوباً في الكتب المقدسة وصفه خاتم النبوة، ولذلك لما جاء سلمان الفارسي دار حول النبي ﷺ ليراه من الخلف ويتأكد، والنبي ﷺ انتبه، فأرخى الرداء الذي عليه، أرخاه ونزّله حتى يستطع سلمان أن يراه، فرآه، فعرف أنه رسول الله ﷺ، لم يكن هذا الخاتم تشويهاً، وإنما كان جمالاً في ظهره ﷺ وآية منبئة عن نبوته وأنه رسول الله.
وصف منكبيه عليه الصلاة والسلام
أما المنكبان فجاء عن البراء ، قال: "كان رسول اللهﷺ بعيد ما بين المنكبين" رواه البخاري. إذن، عريض المنكبين وعن أبي هريرة في نعت ذراعي النبي ﷺ قال: "كان شبح الذراعين" رواه الإمام أحمد وحسنه الألباني. [رواه أحمد: 8352، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 4816]. ومعنى شبح الذراعين أي: إنه كان عريض الذراعين ﷺ أو طويل الذراعين ﷺ.
وأما بالنسبة للكفين فقد جاء عن أنس كان النبي ﷺ ضخم اليدين حسن الوجه" [رواه البخاري: 5907].
وجاء في حديث علي: "كان النبي ﷺ شثن الكفين" [رواه الترمذي: 3637، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 4]. ومعنى شثن الكفين يعني: غليظ الأصابع والراحة غليظ الكف في أنامله غلظ دون قصر.
وكان أيضاً ﷺ عظيم المشاش هذه مفاصل الأصابع عظيم المشاش، وكان ﷺ بالرغم من ضخامة كفّه وعظم الأصابع، كانت كفُّه في غاية اللين، ولذلك يقول أنس : "ولا مسستُ ديباجة ولا حريرة ألين من كف رسول الله ﷺ، ولا شممتُ مسكاً ولا عنبراً أطيب من رائحة رسول اللهﷺ" [رواه البخاري: 1973، ومسلم: 2330، واللفظ لمسلم].
وصف ساقيه عليه الصلاة والسلام
أما عن ساقيه ﷺ فإنه قد جاء أنهما كانتا في غاية البياض وذلك في حديث سراقة أنه نظر إلى ساقي النبي ﷺ قال: "كأنها جمّارة" [رواه البيهقي في الدلائل: 2/488]. والجمّار قلب النخلة وشحمتها وهو في العادة أبيض فكأنه طلع النخل من بياض ساقيه ﷺ.
كان في ساقيه ﷺ هذا البياض في اللون وأما القدمان فكان ضخم القدمين ﷺ كما جاء في حديث أنس عند البخاري. [رواه البخاري: 5908].
وأما بالنسبة للعقبين فإنه كان منهوس العقبين، منهوس يعني: قليل لحم العقب الذي في القدم، وكان ﷺ يطأ بقدميه جميعاً، ليس له أُخمص، والأخمص ما داخل بطن القدم الذي لا يصيب الأرض، التجويف الذي داخل بطن القدم من أسفل الأشخاص العاديين عندهم هذا التجويف الأُخمص، هذا لا يصيب الأرض عند المشي النبي ﷺ لم يكن له أخمص كان يطأ بقدميه جميعاً على الأرض، وليس من عيب بل كان عدوه سريعاً فسابق عائشة وسبقها وكان يمشي مشياً نشيطاً سريعاً يعجز الصحابة أن يلحقوا به ﷺ.
هذه الأوصاف الدقيقة التي شاء الله تعالى أن تُحفظ وأن تُنقل من جيل لجيل من الصحابة للتابعين لمن بعدهم وسُطّرت في الكتب وجاءتنا بالوصف الدقيق لنبينا ﷺ صفة وصفه كأنك تراه، ومع ذلك قال: من الناس من صدق إيمانهم في آخر الزمان: يود أحدهم لو أنه فقد أهله وماله وأنه رآني [رواه مسلم: 2832].
وذلك لأن رؤيته ﷺ يترتب عليها ميزة عظيمة جداً جداً وهي الصحبة وأجر الصحابة لا يعدلها أجر إطلاقاً ومهما فعل أحدنا من الأعمال الصالحة لا يمكن أن يتفوق ولا يزيد على أجر صحبة النبي ﷺ فتلك العيون التي اكتحلت بمرآه والنفوس التي شرفت بلقياه والتي صار بها أصحابها صحابة وخير حواري الأنبياء وتلك المنزلة العالية لهم عند الله لأنه رضي عنهم وأرضاهم سبحانه وتعالى -رضي الله عنهم- ورضوا عنه هؤلاء لما لقوا النبي ﷺ صاروا صحابة فمن يعدل بأجرهم ومن يستطيع أن يصل إلى ما وصلوا إليه ولذلك قال: يود أحدهم لو فقد أهله وماله وأنه رآني قال: وددت أنا لو رأينا إخواننا يقول ﷺ متمنّياً أن لقي إخوانه في الأجيال الذين ما جاءوا بعد قالوا: "أولسنا إخوانك يا رسول الله؟" قال: أنتم أصحابي إخواننا الذين لم يأتوا بعد [رواه مسلم: 249]. نسأل الله أن يجعلنا من إخوانه جميعاً، يود أحدهم لو فقد أهله وماله وأنه رآني لأنه يترتب على الرؤية شيء عظيم جداً وقد جمع الله له مع كمال خلقته جمع له أيضاً كمال الخلق ﷺ.
لقد كان ذا سكينة باعثة على الهيبة والتعظيم داعية إلى التقديم والتسليم، كان مُهاباً في النفوس حتى ارتاعت رُسُل كسرى من هيبته حين أتوه مع اعتيادهم للملوك والدخول عليهم، لكن ارتاعوا لما جاءوه وكان في نفوسهم أهيب وفي أعينهم أعظم من سائر ملوكهم.
طلاقة وجهه صلى الله عليه وسلم
وكان فيه ﷺ طلاقة موجبة للمحبة الباعثة على المصافاة والمودة، وكان صلوات الله عليه محبوباً استحكمت محبة طلاقته في النفوس، حتى لم يقله مصاحب، يعني: لم يبعد عنه أحد، ولم يتباعد منه مقارب، وكان أحب إلى أصحابه من الآباء والأبناء وشرب الماء البارد على الظمأ، وكان حَسَن القبول تميل إليه القلوب، وتسرع إلى طاعته وتذعن لموافقته وكان من رأى منظره ﷺ، ارتاح وعرف انه صاحب الحق مالت النفوس إليه وانقادت لموافقته وثبتت معه على الشدائد، وهذه أخلاقه التي منها رجاحة عقله وصدق فراسته،، وصواب رأيه وحسن تدبيره، وتألّفه للناس.
كان ثابتاً في الشدائد صابراً على البأساء والضراء وهو مكروب ومحروب ونفسه في اختلاف الأحوال ساكنة، لا يخور في شديدة ولا يستكين لعظيمة، قد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي ويهدُّ الصياصي، ولكنه كان صابراً صبر المستعلي ثابتاً ثبات المستولي، كان زاهداً في الدنيا معرضاً عنها لم يمل إلى غضارتها ولم يله بحلاوتها ومع أنه ملك من أقصى الحجاز إلى عذاري العراق ومن أقصى اليمن إلى شِحر عمان، وهو أزهد الناس فيما يُقتنى ويُدخَر، لم يُخلّف عيناً ولا ديناً ولا حفر نهراً ولا شيّد قصراً ولا ورّث ولداً ولا متاعاً ولا مالاً ليصرف أهله عن رغبة في الدنيا، وإنما أراد أن يكونوا على مثل الحال التي مات عليها.
لقد كان هذا الرجل ﷺ بهذه الصفات حقيق ألا يُتهم بكذب ولا يُخوّن، وأنه ﷺ في تواضعه وخفض جناحه لأصحابه كان مُطاعاً يمشي في الأسواق ويجلس على التراب، ويمتزج بأصحابه ويداعبهم ويمازحهم ويسلِّم على الصغير، وكان حليماً وقوراً ليس فيه طيشٌ يهزّه أو خرق يستفزه، كان أحلم الناس في النفار وأسلم في الخصام من كل سليم، وقد مُني بجفوة الأعراب، فلم يوجد منه نادرة، ولم يُحفظ عليه بادرة، لا طاش ولا اشتد ولا نبا بكلمة ولا آذاهم؛ مع أنهم آذوه، وحَلُم عليهم وسفهوا عليه، وتمالؤوا عليه وصفح عنهم، وعف وغفرهم، وقال لهم حين ظفر بهم عام الفتح: اذهبوا فأنتم الطلقاء! [رواه البيهقي ف الشعب: 18276، وابن كثير في السيرة: 3/570]. مع أنهم أذاقوه أشد النكال وأشد الإيذاء وحتى تلك المرأة التي بقرت بطن عمّه حمزة ولاكت كبده صفح عنها، وحتى الذي قتل عمّه حمزة لم يفعل له شيئاً هذا هو صاحب العفو والصفح ﷺ، وكذلك كان حافظاً للعهد وفيّا بالوعد، يرى الغدْر من كبائر الذنوب، يرتكب الأصعب لحفظ العهد والوفاء بالوعد حتى يبتدئ معاهدوه بنقضه، فيجعل الله فرجاً ومخرجاً كما حصل في الحديبية وسلم صاحبه الذي جاء مستنْجداً به، سلّمه للكفار لأجل المعاهدة التي كانت بينه وبينهم فجعل الله له من تقواه فرجاً ومخرجاً، وهرب ذلك الصحابي حتى جعل الكفار يناشدون النبي ﷺ ألا يرد من جاء إليه لقد أتي حكمة بالغة وعلوماً باهرة وهو أمي من أمة أمية لم يقرأ كتاباً ولا درس علماً ولا صحب عالماً ولا معلماً أتى بما بهر العقول وأذهل الفطن من إتقان ما جاء به من الأحكام.
وكذلك فإن الله قد هيأ له ذِهناً صحيحاً وصدراً فسيحاً وقلباً شريحاً، وكذلك آتاه جوامع الكلام واختصر له الكلام اختصاراً، فصار يأتي بجوامعه وأتي من مُستحسن الأخلاق ومُستحسن الآداب؛ من صلة الأرحام والعطف على الضعفاء والأيتام، وغير ذلك ما جعله بحق أعظم الناس على الإطلاق.
كان لسانه محفوظاً، لا يكذِب ﷺ، كان يلزم الصدق دائماً، وكان يتحرّى في كلامه ويتوخّى ولا يهذي هذياناً، وكان كثير الصمت كثير الفكرة، وكان أحسن الناس سمتاً، وأفصح الناس لساناً وأوضحهم بياناً وأجزلهم ألفاظاً، وقد دوّن الكثير من جوامع كلامه وشرح في المجلدات الكبار، ولو مزجت كلامه بكلام غيره لتميز لك كلامه عن كلام غيره، ولظهر التنافر بين كلامه وكلام غيره من الخطباء والشعراء، حسُنت سيرته وصحت سياسته واستقرت قواعد دينه بعد أن أقامها ﷺ، جمع بين رغبة من استمال ورهبة من استطاع، حتى اجتمع الفريقان على نصرته وقاموا بحقوق دعوته، كلاهما فتابعه الراغب والراهب، وشرعه وسط لا غلو ولا تقصير.
وكذلك فإنه ﷺ لم يحتج لأهل الكتاب في شيء، وإنما احتاجوا إليه في كثير من معاملاتهم ومواريثهم وجاؤوا لشرعه، وأقبلوا على درسه وأخذوا منه أموراً كثيرة ﷺ.
جهاده صلى الله عليه وسلم
انتصب لجهاد الأعداء وأظهر الشجاعة الفائقة وكان بطلاً، وكان يُتقى به عند البأس، وكان يصابر العدو ويدافعهم بقلب آمن وجأش ساكن عضّده الله بأنجاد وأمجاد، فانحاز وصبر، وأمدّه الله بالنصر، وكان صاحب سخاء وجود حتى جاد بكل موجود وآثر بكل مطلوب ومحبوب، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي على آصُع من شعير طعاماً لأهله، كذا صاع من شعير لإطعام أهله مع أنه قد ملك جزيرة العرب وكان فيها ملوك وأقيان لهم خزائن وأموال يقتنونها ويتفاخرون بها، فما أخذ منها درهماً ولا ديناراً، أكل الخشن ولبِس الخشن وأعطى الجزْل الخطير، ووصل الجمّ الغفير، وهو على الجوع وعلى القلّة ﷺ، ليس في بيته إلا إهاب وسريرٌ مُرْملٌ، وهكذا كان في تخففه من الدنيا ﷺ .
وكان ولا شك هو أعظم الأنبياء وإمامهم ومقدم الناس وسيدهم أنا سيّد ولد آدم ولا فخر [رواه ابن ماجه: 4308، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة: 4308]. ﷺ.
فهذه طائفة من أخلاق نبينا ﷺ وشمائله ووصفه ﷺ، نسأل الله أن يلحقنا به، وأن يجعلنا من أهل سنته، وأن يميتنا على دينه وسيرته ﷺ، ويرزقنا شفاعته يوم الدين.