المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد بن عبد الله ﷺ وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهذا الدرس الأخير في هذه السلسلة في هذه السنة بمشيئة الله تعالى في أحوال النبي ﷺ ولنا عودة إليها -إن شاء الله- فيما يستقبل، وكنا قد تحدثنا عن بعض المواقف من الحكم والفوائد من وراء نسيانه ﷺ، وقلنا: إنه ﷺ بشر من البشر ينسى كما ينسون، ولكنه ﷺ معصوم عن النسيان في تبليغ الوحي.
نسيانه ﷺ الاغتسال من الجنابة
ومما حدث له نسيانه الاغتسال من الجنابة، فذكر قبل الدخول في الصلاة، فعن أبي هريرة قال: أقيمت الصلاة، فقمنا، فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج إلينا رسول الله ﷺ، فأتى إلينا رسول الله ﷺ حتى إذا قام في مصلاه -قبل أن يكبر- ذكر أنه جنب، إذًا قبل أن يكبر للإحرام تذكر أنه على جنابة، فقال لنا: مكانكم، وفي رواية: "فأومأ إليهم بيده أن مكانكم" [رواه مسلم: 605].
يعني: ابقوا مكانكم، "ثم رجع فاغتسل، فلم نزل قيامًا ننتظره حتى خرج إلينا وقد اغتسل ينطف رأسه ماءاً، فكبر فصلى بنا، ومعنى ينطف: يقطر، ينطف رأسه يعني: يقطر رأسه. [رواه البخاري: 639، ومسلم: 605].
وفي رواية لأبي داود: إنما أنا بشر وإني كنت جنبًا [سنن أبي داود: 234].
وعند أحمد: إني كنت جنبًا فنسيت أن أغتسل [أحمد: 9786].
وعند ابن ماجه: إني خرجت إليكم جنبًا، وإني نسيت حتى قمت في الصلاة [سنن ابن ماجه: 1220] وهذه روايات صحيحة. [صحيح أبي داود: 228].
وفي هذا الحديث من الفوائد تعديل الصفوف، وأنها سنة معهودة عند الصحابة، ولذلك هم قاموا بها في قول الراوي: "قمنا فعدلنا الصفوف"، معناها أن الصحابة دون حاجة إلى تعديل النبي ﷺ هم يعدلون صفوفهم بأنفسهم.
وظاهر الحديث أنه ﷺ لما اغتسل وخرج لم يجددوا إقامة الصلاة، وهذا محمول على قرب الزمان، فإذا طال فلا بدّ من إعادة الإقامة كما ذكر النووي رحمه الله. [شرح النووي على مسلم: 5/103].
إذًا لو أقيمت الصلاة فطرأ طارئ فتأخرت تكبيرة الإحرام فهل تعاد الإقامة أم لا؟
إذا كان الفصل يسيرًا فلا حاجة لإعادة الإقامة، وإذا طال الفصل فإن الإقامة تعاد.
وفي الحديث من الفوائد: جواز النسيان على الأنبياء في أمر العبادة لأجل التشريع، يعني أن الله يكتب ذلك عليهم لتظهر أحكام من خلال النسيان.
وفي الباب دليل على طهارة الماء المستعمل أخذًا من قوله: "ينطف رأسه ماءاً".
وقوله: "فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج" فيه أن القيام للصلاة كان قبل خروج الإمام، وكان هذا أولاً ثم نهاهم النبي ﷺ بقوله: إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني متفق عليه [رواه البخاري: 637، ومسلم: 604].
والنهي عن القيام قبل أن يروه لئلا يطول عليهم القيام لأنه قد يعرض له عارض فيتأخروا بسببه، إذًا لو قال شخص: إذا شعرنا أن الإمام سيخرج نقوم؟
نقول: كان هذا عند الصحابة أول الأمر، إذا شعروا أن النبي ﷺ سيخرج قاموا، ثم نهاهم، فقال: إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني فإذًا لا يقوم الناس للصلاة إلا إذا رأوا الإمام، في بعض المساجد مثلاً باب يدخل منه الإمام في جهة القبلة، فقد يحس الناس بحركة الباب فلا يقوموا فإذا دخل عليهم الإمام قاموا، فصار قيام المأمومين مرتبطًا بأمرين:
إقامة الصلاة، ورؤية الإمام.
وفي الحديث جواز انتظار المأمومين مجيء الإمام قيامًا عند الضرورة، وهو غير القيام المنهي عنه في الحديث السابق.
فإذًا لو أن الإمام إذا أراد أن يكبر للإحرام تذكر أنه على غير طهارة والناس قاموا ولم يبقى إلا تكبيرة الإحرام، فقال لهم: مكانكم ثم ذهب وتوضأ ورجع، هل يجلس الناس أم يبقوا قيامًا؟
الحديث يدل على أنهم يبقون قيامًا.
هل يتعارض هذا مع حديث: إن كدتم آنفًا تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود [رواه مسلم: 413].
الجواب: لا يتعارض؛ لأن هذا القيام في هذه الحالة غير القيام المنهي عنه، الآن هم ينتظرون إمامهم، والمنهي عنه أن يصلي الإمام قاعدًا والناس قيامًا، فإذا صلى الإمام الراتب قاعدًا لعلة طرأت عليه، أصيب إصابة فجيء به فصلى قاعدًا، فإنهم يصلون قعودًا، أما إذا حصل أنه أراد أن يذهب ويتوضأ ويرجع فينتظرونه قيامًا.
وكذلك فإن الإمام إذا طرأ عليه طارئ أثناء الصلاة فأقعده فإنهم يصلون قيامًا بناء على أصل دخوله في الصلاة، وأنه كان قائمًا، فإذا ابتدأ قاعدًا ابتدؤوا قعودًا، وإذا طرأ عليه أثناء الصلاة ما أقعده يستمرون قيامًا جمعًا بين النصوص، كما ورد في السنة، وإذا أراد أن يكبر فتذكر أنه على غير طهارة فذهب ليتوضأ فإنهم يبقون قيامًا.
وفي الحديث جواز الكلام بين الإقامة والصلاة، وخصوصًا لمصلحة الصلاة أو لبيان الحال للمأمومين.
وفي الحديث جواز تأخير الجنب الغسل عن وقت الحدث، فلو قال قائل: هل يشترط أن يغتسل بمجرد انتهاء الجنابة؟ بمجرد كونه جنبًا يجب أن يقوم للاغتسال؟
الجواب: لا يجب، كلما بكر أفضل، لكن لو أخر جاز ذلك.
وأيضًا في الحديث جواز الخروج من المسجد بعد الآذان والإقامة للضرورة، مثل ما حدث في هذه القصة، فإنه خرج بعد الآذان والإقامة، ويلحق بالجنب المحدث والراعف، واحد يرعف سيخرج من المسجد ويتوضأ ويرجع عند من قال: بأن الرعاف ينقض الطهارة، وكذلك الحاقن، يعني: الذي احتاج إلى البول والغائط أو خروج الريح فصار حاقنًا، فإنه يخرج ولو بعد الإقامة، ويقضي حاجته ويتوضأ ويعود، هؤلاء معذورون في الخروج من المسجد بعد الآذان والإقامة، وكذا من يكون إمامًا لمسجد آخر فحضر درسًا بعد الآذان فلما صار وقت الإقامة انصرف ليؤم في مسجده فهذا معذور.
أما الخروج من المسجد بعد الآذان فهو منهي عنه لا يخرج إلا لحاجة.
وفي الحديث رد على من ظن أن من احتلم في المسجد فأراد الخروج منه لا بدّ أن يتيمم، ولذلك عنون البخاري "باب إذا ذكر في المسجد أنه جنب يخرج كما هو لا يتيمم". [صحيح البخاري: 1/63].
ومثال هذا رجل نام في المسجد فاحتلم، وهذا قد تفيد في الاعتكاف، نام في المسجد فاحتلم فإنه يخرج منه ليغتسل ولا يلزمه التيمم للخروج، وقد جاء في بعض الروايات أن التذكر والانصراف كان بعد أن كبر النبي ﷺ تكبيرة الإحرام، ودخل في الصلاة، ولكن أكثر الروايات وأصحها أنه كان قبل التكبير كما في الصحيحين.
فمن العلماء من صحح الروايتين وجمع بينهما على أنهما واقعتان مختلفتان، فمرة أراد أن يكبر فتذكر أنه على جنابة فانصرف للاغتسال ورجع، ومرة كبر وتذكر أنه كذلك فخرج من الصلاة؛ لأنه الآن لم تنعقد الصلاة أصلاً بالنسبة له لأنه على غير طهارة، فذهب ورجع فمنهم من حملها على أنها واقعتان، ومنهم من رجح رواية الانصراف قبل التكبير، كالإمام أحمد، واختاره ابن رجب. [فتح الباري لابن رجب: 5/430].
وبالأول قال ابن حبان، وتبعه النووي. [شرح النووي على مسلم: 5/103].
قال الحافظ: "ويمكن الجمع بينهما بحمل قوله: "كبر" على أراد أن يكبر". [فتح الباري: 2/122].
وعلى كل حال إن تذكر بعد أن شرع في الصلاة قطعها، وتوضأ، واستأنف الصلاة، يعني أنه سيبدأها من جديد، أما صلاة من خلفه فصحيحة.
قال ابن رجب رحمه الله: "إذا ذكر في أثناء صلاته فخرج فتطهر ثم عاد؛ فإن الإمام لا يبني على ما مضى من صلاته بغير طهارة بغير خلاف". [فتح الباري لابن رجب: 5/433]؛ لأن ما مضى من صلاة الإمام لا يصح.
فالإمام إذا تذكر في الركعة الثالثة أنه على غير طهارة ماذا سيفعل؟
يخرج ويتوضأ ويرجع، فيكون عندنا ثلاث احتمالات: إما أن ينتظروه حتى يرجع، وإما أن يقدم رجلاً ويستخلف، أو هم يقدمون واحدًا إذا انصرف إمامهم، أو أن يكمل كل واحد بمفرده، وكلها صحيحة، لكن الإمام لو تذكر في الركعة الثالثة أنه على غير طهارة، وذهب توضأ ورجع، صلاة من خلفه صحيحة، وهو إذا عاد سيبدأ من جديد، ثم قضية ماذا يفعلون هل ينتظرونه يأتي بما عليه ويكمل بهم؟ هذه مسألة أخرى، لكن الآن كلامنا أن الإمام إذا رجع سيستأنف الصلاة من جديد؛ لأن ما مضى من صلاته بغير طهارة لا يصح بغير خلاف، "فإن من صلى بغير طهارة ناسيًا فإن عليه الإعادة بالإجماع، لقول النبي ﷺ: لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ [رواه البخاري: 954، ومسلم: 225].
ولقوله ﷺ: لا يقبل الله صلاة بغير طهور [مسلم: 224] [فتح الباري لابن رجب:5/ 433].
ومن المسائل المتعلقة بهذا أن من صلى بغير طهارة ناسيًا أعاد، ومن تذكر وهو في الصلاة أنه جنب أو على غير طهارة خرج بلا سلم، هل ورد في الحديث أنه سلم وانصرف؟ لا. حتى في الرواية تذكر بعد تكبيرة الإحرام ما سلم انصرف وتطهر ثم استأنف الصلاة.
وفيها أن من صلى خلف إمام على غير طهارة وهو لا يعلم لم يعب على الراجح، سواء كان الإمام ذاكرًا أو ناسيًا، فلو أخبرهم بعد الصلاة قال للجماعة: أنا تذكرت أني على غير طهارة، ما حكم صلاة الجماعة خلفه؟
صحيحة على الراجح، منهم من قال: يعودون لأنهم ربطوا صلاتهم بصلاة الإمام، والإمام على غير طهارة، ولكن الراجح أن صلاتهم صحيحة، لو كانت لا تصح وكبر وذهب ورجع فيلزمهم أن يكبروا من جديد هم أيضًا، ولكن ما مضى من صلاة المأمومين صحيح، وكذلك فإن من صلى بغير طهارة الخبث ناسيًا -يعني: من صلى على ثوبه نجاسة ناسيًا- ولم يتذكر إلا بعد انقضاء الصلاة فصلاته صحيحة؛ بناء على حديث خلع النعلين في الصلاة.
فإن قال قائل: ما هو الفرق بين أن يتذكر بعد الصلاة أنه صلى على غير طهارة أو يتذكر بعد الصلاة أن في ثيابه نجاسة؟ أليس الطهارة شرط وطهارة الثياب شرط؟ فلماذا فرقنا بينهما؟
وقلنا: بأن من اكتشف بعد الصلاة أو تذكر أنه صلى بغير طهارة لا بدّ أن يعيد، ومن تذكر أن على ثيابه نجاسة بعد الصلاة أن صلاته صحيحة.
فالجواب: لأن الأول من باب فعل المأمور الذي هو الصلاة على طهارة، وهذا لا يسقط لا بالنسيان ولا بالجهل، أما اكتشاف أو تذكر نجاسة الثياب فإنه من باب ترك المحظور، وهذا يعفا عنه بالذهل والنسيان، ولذلك فإن النبي ﷺ لما أخبره جبريل أن في نعله نجاسة خلعهما واستمر في صلاته، ولو كان يجب عليه أن يبدأ من جديد لاستأنف، ولكن ما استأنف وأكمل، والحديث عند أبي داود. [أبو داود: 650] وهو حديث صحيح [صحيح أبي داود: 657].
وفي حديث الباب إذا دخل الإمام الصلاة وهو على غير طهارة ثم تذكر فإنه ينفتل، ويتطهر، ويأتيهم على حالهم، ويكمل بهم، فإذا صلى بهم مثلاً ركعة أو ركعتين ثم بان له أنه ليس على طهارة فإن شاء قال: مكانكم، ثم ذهب فتطهر ثم جاء وأكمل بهم الصلاة، وإن شاء استخلف كما استخلف عمر لما طعن، فتقدم عبد الرحمن بن عوف، فصلى بالناس وهذا أرفق بهم، يعني: أحسن من الانتظار، وإن صلوا وحدانًا كل أكمل لنفسه فلا حرج، والأفضل أن يستخلف، يسحب واحد يكمل بهم الصلاة.
نسيانه ﷺ سنة الظهر
ومن نسيانه ﷺ أنه نسي مرة سنة الظهر، فعن أبي سلمة أنه سأل عائشة عن السجدتين اللتين كان رسول الله ﷺ يصليهما بعد العصر؟
فقالت: "كان يصليهما قبل العصر، ثم إنه شغل عنهما أو نسيهما فصلاهما بعد العصر، ثم أثبتهما، وكان ﷺ إذا صلى صلاة أثبتها" تعني: داوم عليها. [رواه مسلم: 835].
وفي البخاري عن كريب أن ابن عباس والمسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن أزهر أرسلوه إلى عائشة -رضي الله عنها- فقالوا: "اقرأ عليها السلام منا جميعًا، وسلها عن الركعتين بعد صلاة العصر" -ما هذه الركعتان؟- "وقل لها: إنا أخبرنا عنك أنك تصلينهما، وقد بلغنا أن النبي ﷺ نهى عنها"، يعني: نهى عن الصلاة بعد العصر، فقال كريب" فدخلت على عائشة رضي الله عنها فبلغتها ما أرسلوني.
فقالت: "سل أم سلمة" يعني: أن التي حصلت لها القصة مع النبي ﷺ هي أم سلمة.
وفي هذا أنه يستحب للعالم إذا طلب منه التحقيق لأمر مهم وهو يعلم أن غيره أعلم به منه أن يرد إلى الأعلم، ويرشد إليه، ويحول عليه.
قال: "فخرجت إليهم فأخبرتهم بقولها، فردوني إلى أم سلمة"، ما ذهب إلى أم سلمة مباشرة، رجع إلى الذين وكلوه بالسؤال وأرسلوه، فقال: تقول عائشة: ارجع إلى أم سلمة، قالوا: ارجع إلى أم سلمة "بمثل ما أرسلوني به إلى عائشة، فقالت أم سلمة -رضي الله عنها-: سمعت النبي ﷺ ينهى عنها" كما قال الذين أرسلوه فعلاً هو نهى عن الصلاة بعد العصر، "ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر، أما حين صلاهما" يعني: بداية حدوث الركعتين هذه "فإنه صلى العصر ثم دخل وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار فصلاهما، فأرسلت إليه الجارية، فقلت: قومي بجنبه" لا أمام ولا وراء، "قومي بجنبه فقولي له: تقول لك أم سلمة: يا رسول الله سمعتك تنهى عن هاتين" يعني" ركعتين بعد العصر، "وأراك تصليهما، فإن أشار بيده فاستأخري عنه" انصرفي، "ففعلت الجارية، فأشار بيده فاستأخرت عنه، فلما انصرف قال: يا بنت أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر، وإنه أتاني ناس من عبد القيس الوفد من هجر فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان [رواه البخاري: 1233، ومسلم: 834].
وللطحاوي: قدم علي قلائص من الصدقة فنسيتهما نسيت سنة الظهر البعدية انشغالاً بتقسيم الصدقة، ثم ذكرتهما فكرهت أن أصليهما في المسجد والناس يرون [فتح الباري: 3/106].
متى تذكرها؟ بعد العصر. فكره أن يصليهما في المسجد والناس ينظرون، وهو قد نهاهم عن الصلاة بعد العصر، فدخل بيته وصلى الركعتين، أم سلمة كانت مشغولة بضيوفها من نساء الأنصار ما ذهبت هي لكن ما فوتت العلم أرسلت الجارية.
وفي الحديث أن السنن الراتبة إن فاتت يستحب قضاؤها، وأن قضاء سنة الظهر بعد العصر جائز، وأن الصلاة التي لها سبب لا تكره في وقت النهي.
قال النووي: "هذا الحديث هو عمدة أصحابنا في هذه المسألة، وليس لنا أصح دلالة منه، ودلالته ظاهرة". [شرح النووي على مسلم: 6/121].
فإن قيل: هذا خاص بالنبي ﷺ.
قلنا: الأصل الاقتداء به ﷺ وعدم التخصيص حتى يقوم الدليل على التخصيص، ولا دليل.
ومن فوائد الحديث إذا تعارضت المصالح والمهمات يبدأ بأهمها، ولهذا بدأ النبي ﷺ بحديث القوم في الإسلام، بعد صلاة الظهر وصل وفد بني عبد القيس قوم جاؤوا من بعيد، فلذلك أقبل عليهم، وكلمهم عن الإسلام لأنه أولى من صلاة سنة الظهر، وكذلك في رواية الصدقة في تقسيم الصدقة أنه لما جاءت الصدقة انشغل بتقسيمها فنسي سنة الظهر، فتذكرها فصلاها بعد العصر، فإذًا الاشتغال بإرشاد القوم وهدايتهم إلى الإسلام يقدم على السنة الراتبة.
وفي الحديث جواز استماع المصلي إلى كلام غيره، وفهمه له، لو واحد يصلي في البيت وزوجته تريد أن تخرج، أو تريد أن تقول له كلامًا مهمًا فلو كلمته وهو يصلي للحاجة ففهم الكلام هل يجوز أن يستمع الكلام؟ نعم.
فإذا فهمه لا يضر صلاته؛ لأن المسألة هل يجوز الكلام مع المصلي؟ وهل يجوز له أن يستمع للكلام ويفهمه؟ هذا إذا كان للحاجة.
والأدب أن يقوم المتكلم إلى جانب المصلي عند كلامه معه لا يقف أمامه، ولا خلفه لئلا يشوش عليه، وليتمكن من الإشارة إليه بدون مشقة.
وفي الحديث جواز الإشارة في الصلاة، وأن إشارة المصلي بيده إشارة خفيفة للحاجة لا بأس بها، مثلاً الجماعة يصلون في المجلس والذي وراء أزعجوهم بالكلام، وارتفعت الأصوات، فواحد من المصلين أشار بيده يعني: خففوا الصوت، فلا بأس بذلك؛ لأن النبي ﷺ أشار للجارية أن تنصرف، إذًا إشارة المصلي للحاجة إشارة خفيفة لا مانع منها.
وفي الحديث دلالة على فطنة أم سلمة، وحسن تأدبها بملاطفة سؤالها، واهتمامها بأمر دينها، وقيامها بحق ضيوفها، والجمع بين المصالح.
وفي الحديث نسيان النبي ﷺ لسنة الظهر، لكن لما قضاها بعد العصر، كان من عادته إذا صلى صلاة أثبتها، فصار يصليهما بعد العصر، فقال بعض العلماء: يؤخذ منه جواز صلاة ركعتين بعد العصر مباشرة، وأن ذلك ليس هو النهي، وأن وقت النهي يبدأ من اصفرار الشمس، أما إذا صلى والشمس حية فيجوز.
وقال بعضهم: وقت بعد العصر كله نهي، ما في إلا للحاجة تحية مسجد، نسيت سنة الظهر تصليهما بعد العصر للحاجة، أما نفل مطلق فلا.
وقال بعضهم: هذه من خصائص النبي ﷺ.
نسيانه ﷺ ليلة القدر
00:24:13
ومما حدث للنبي ﷺ من النسيان أيضًا أنه نسي ليلة القدر، كما جاء عن أبي سلمة قال: "تذاكرنا ليلة القدر، فأتيت أبا سعيد الخدري وكان لي صديقًا، فقلت: ألا تخرج بنا إلى النخل نتحدث؟ فخرج"، وفي هذا إيثار المواضع الخالية للسؤال، وانتهاز الفرصة في خلو العالم وصفاء ذهنه لسؤاله.
"قلت: حدثني ما سمعت من النبي ﷺ في ليلة القدر؟
قال: اعتكف رسول الله ﷺ" أبو سلمة بن عبد الرحمن ليس هو أبو سلمة حتى ما نخلط بينهما، هؤلاء أوهموا الخلط بينهم، "قال اعتكف رسول الله ﷺ العشر الأول من رمضان، واعتكفنا معه، فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك" -ليلة القدر ليست في العشر الأوائل، أنت اعتكفت العشر الأوائل تريد ليلة القدر، ليلة القدر أمامك، يعني: ما جاءت بعد، "فاعتكف العشر الأوسط في قبة تركية على سدتها حصير، فاعتكفنا معه"، وهي قبة صغيرة من لبود، تضرب في الأرض، قوله: "على سدتها حصير" يعني: وضعت قطعة حصير على سدتها لئلا يقع فيها نظر أحد، "فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك فقام النبي ﷺ خطيبًا في صبيحة عشرين من رمضان، فقال".
وفي رواية: "فأخذ الحصير بيده، فنحاه في ناحية القبة، ثم أطلع رأسه فكلم الناس فدنو منه، فقال: من كان اعتكف مع النبي ﷺ فليرجع، فإن أريت ليلة القدر، وإني نسيتها، وإنها في العشر الأواخر في وتر، وإني رأيت كأني أسجد صبيحتها في طين وماء، وكان سقف المسجد جريد النخل، يقول الراوي: وما نرى في السماء شيئًا" -لا سحابة ولا شيء- "فجاءت قزعة" -يعني: قطعة من سحابة- "فأمطرنا حتى سال سقف المسجد، فصلى بنا النبي ﷺ حتى رأيت أكثر الطين والماء على جبهة رسول الله ﷺ وأرنبته" تصديق رؤياه فعلاً "رأيت أني أسجد صيبحتها في طين وماء" وفعلاً مع أنه ما كان في سحاب ولا شيء، فجأة جاءت سحابة وأمطرت، ولما جاء الفجر صلى في طين وماء.
وفي الراوية: "وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر". [رواه البخاري: 813، ومسلم: 1167].
وقوله: "ثم أنسيتها" المراد أنه أنسي علم تعيننها في تلك السنة، وفي الحديث أن النسيان جائز على النبي ﷺ ولا نقص عليه في ذلك، لاسيما فيما لا يؤذن له في تبليغه، وقد يكون في ذلك مصلحة تتعلق بالتشريع كما في السهو في الصلاة، أو في الاجتهاد في العبادة كما في هذه القصة؛ لأن ليلة القدر لو عينت ما اجتهد الناس إلا فيها، وتركوا الاجتهاد في بقية الليالي، فيفوتهم خير كثير، فكان إخفاؤها من مصلحة المسلمين، وهذا يتضح من قوله عليه الصلاة والسلام: عسى أن يكون خيرًا لكم[البخاري: 49].
وقد بوب البخاري في صحيحه باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر. [صحيح البخاري: 3/46].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "في هذه الترجمة إشارة إلى رجحان كون ليلة القدر منحصرة في رمضان، ثم في العشر الأخير منه، ثم في أوتاره، لا في ليلة منها بعينها، وهذا الذي يدل على مجموع الأخبار الواردة فيها.
وقد ورد لليلة القدر علامات أكثرها لا تظهر إلا بعد أن تمضي"، يعني: مثلاً تطلع الشمس صبيحتها ضعيفة حمراء، أو كقرص لا شعاع لها، هذا يعرف بعد انقضائها [فتح الباري: 4/260].
وعن عاصم بن كليب قال: حدثني أبي عن خالي الفلتان بن عاصم الجرمي قال: كنا ننتظر النبي ﷺ فجاء فجلس وبوجهه الغضب، ثم يجعل وجهه يسفر، فقال: إني نبئت بليلة القدر ومسيح الضلالة، فخرجت لأبينها لكم، فلقيت بسدة المسجد رجلين يقتتلان أو يتلاحيان، فحجزت بينهما فنسيتها، وسأشد لك منها شدوًا، الشدو هو القليل من كل شيء، والمراد سأذكر لكم شيئًا من المعلومات عنها، أما ليلة القدر فالتمسوها في العشر الأواخر وترًا، وأما مسيح الضلالة -تفريقًا له عن مسيح الهداية المسيح ابن مريم، مسيح الضلالة المسيح الدجال- وأما مسيح الضلالة فرجل أجلى الجبهة، ممسوح العين، عريض المنخر، كأنه فلان بن عبد العزى، أو عبد العزى بن فلان، وعبد العزى بن قطن كما تقدم.
ومعنى: أجلىما انحسر مقدم رأسه من الشعر، وهو دون الصلع، يعني: ليس صلع دون الصلع، لكن الشعر راجع إلى الوراء.
"قال أبي: فحدثت به ابن عباس فقال: ما أعجبك من ذاك؟ كان عمر بن الخطاب إذا دعي الأشياخ من أصحاب محمد ﷺ دعاني معهم، وقال: لا تبدأ بالكلام، فدعانا ذات ليلة أو ذات يوم، فقال: إن رسول الله ﷺ قال في ليلة القدر ما قد علمتم: فالتمسوها في العشر الأواخر وترًا، ففي أي الوتر ترونها؟
قال بعضهم: ليلة إحدى وعشرين.
وقال بعضهم: ليلة ثلاث.
وقال بعضهم: ليلة خمس.
وقال بعضهم: ليلة سبع، وأنا ساكت.
فقال لي: يا ابن عباس ما لك لا تتكلم؟
فقلت: إن شئت تكلمت.
قال: ما دعوتك إلا لتتكلم.
قلت: أقول برأيي.
قال: عن رأيك أسألك؟
فقلت: إني سمعت الله أكثر من ذكر السبع، فقال: السموات السبع، والأرضين السبع.
وفي رواية: وسبع أيام، والطواف بالبيت سبع، والجمار سبع، وأشياء ذكرها حتى قال: ونبت الأرض سبع.
فقلت له: كل ما قلت قد عرفته غير هذا" ما تعنى بقولك: ما أنبتت الأرض سبعًا؟ كلنا عرفنا أيام الأسبوع السبعة، والسموات السبع، والأرضين السبع، والطواف بالبيت سبع، والحصى سبع، والسعي سبع، والنبت سبع هذه جديدة علينا, فما النبت سبع؟
فقال: قال الله : ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [عبس:26-31].
أي أن الله ذكر مما تنبته الأرض سبع: الحب، والعنب، والقضب، وهو القت علف الدواب، والزيتون، والنخل، والفاكهة، والأب، وهو الكلأ وما تأكله البهائم والأنعام.
فقال عمر عجزتم أن تقولوا مثل ما قال هذا الغلام الذي لم تجتمع شواة رأسه". [ابن خزيمة في صحيحه: 2172، والبيهقي في السنن الكبرى: 8559].
قال البوصيري في إتحاف الخيرة: رجاله ثقات. [إتحاف الخيرة المهرة: 2372]، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح مجمع الزوائد [5060].
والشوى جمع شواة، وهي جلدة الرأس.
نسيانه ﷺ ساعة الجمعة
نسي النبي ﷺ أيضًا ساعة الجمعة كما جاء في حديث أبي سلمة، قال كان أبو هريرة يحدثنا عن رسول الله ﷺ أنه قال: إن في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم وهو في صلاة يسأل الله خيرًا إلا أتاه الله إياهوقللها أبو هريرة بيده، فلما توفي أبو هريرة قلت: والله لو جئت أبا سعيد، فسألته عن هذه الساعة، أن يكون عنده منها علم، فأتيته فأجده يقوم عراجين" -جمع عرجون، وهو القضيب الأصفر المتقوس الذي يكون عذق الرطب فيه- فقلت يا: أبا سعيد ما هذه العراجين التي أراك تقوم؟
قال: هذه عراجين جعل الله لنا فيها بركة، كان رسول الله ﷺ يحبها، ويتخصر بها" يعني: يتخذ منها مخصرًا يتوكأ عليها كالعصا والسوط، "وكان يحب العراجين ولا يزال في يده منها" كما جاء في رواية أبي داود: قال: "فكنا نقومها، ونأتيه بها فرأى بصاقًا في قبلة المسجد، وفي يده عرجون من تلك العراجين، فحكه" يعني: بالعرجون، وقال: إذا كان أحدكم في صلاته فلا يبصق أمامه، فإن ربه أمامه، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه؛ لأن الأرض كانت حصى، وطين، ورمل، وتراب، فإن لم يجد مبصقًا ففي ثوبه أو نعلهقال: ثم هاجت السماء من تلك الليلة، فلما خرج رسول الله ﷺ إلى صلاة العشاء الآخرة برقت برقة فرأى قتادة ابن النعمان" فرأى قتادة بن النعمان في ضوء تلك البرقة، فقال: ما السرى يا قتادة؟ السرى: السير ليلاً، والمراد ما الذي أخرجك ليلاً؟ إذًا هذا أبو سعيد يحدث أن النبي ﷺ هاجت السماء في ليلة فخرج لصلاة العشاء الآخرة، فبرقت برقة على ضوء البرقة رأى قتادة بن النعمان، فقال: ما الذي أخرجك ليلاً ما السرى يا قتادة؟، قال: علمت يا رسول الله أن شاهد الصلاة قليل فأحببت أن أشهدها، قال: فإذا صليت فاثبت حتى أمر بك ، فلما انصرف أعطاه العرجون.
وقال النبي ﷺ لقتادة بن النعمان: خذ هذا فسيضيء أمامك عشرًا.
قال السدي: الظاهر أنها عشرة أذرع مسافة الإضاءة، قال: وخلفك عشرًا، فإذا دخلت البيت وترائيت وسوادًا في زاوية البيت فاضربه قبل أن يتكلم فإنه شيطان ففعل قتادة ذلك، قال أبو سعيد: فنحن نحب هذه العراجين لذلك.
قلت: يا أبا سعيد إن أبا هريرة حدثنا عن الساعة التي في الجمعة، فهل عندك منها علم؟
فقال سألت النبي ﷺ عنها، فقال: إني كنت قد أعلمتها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر، ثم خرجت من عنده فدخلت على عبد الله بن سلام، فسألته عنها".
إذًا بعد ما خرج من عند أبي سعيد دخل على عبد الله بن سلام، فقال: أنا أعلم بتلك الليلة؟
فقلت: أخبرني بها، لا تبخل بها عليّ، قال: خلق الله آدم يوم الجمعة، وأهبط إلى الأرض يوم الجمعة، وقبضه يوم الجمعة، وفيه تقوم الساعة، فهي آخر ساعته، ساعة الاستجابة آخر ساعة من يوم الجمعة قبل المغرب، فقلت: كيف تكون بعد العصر؟ وقد قال رسول الله ﷺ: لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يعني: هذا وقت نهي وهو قال في حديث ساعة الاستجابة: أنه لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي فكيف تقول أنت: هي قبل المغرب، ثم آخر ساعة بعد العصر، وهو يقول في حديثه: وهو يصلي وتلك الساعة لا يصلى فيها.
فقال عبد الله بن سلام أليس قد قال رسول الله ﷺ: من جلس مجلسًا ينتظر الصلاة فهو في صلاة، قلت: بلى، قال: فهو ذاك" يعني: تريد تحصلها أذهب المسجد قبل المغرب، واجلس انتظر صلاة المغرب، وادع تصيبها هذا معنى كلام عبد الله بن سلام، والحديث رواه أحمد. [أحمد: 11624].
قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح [مجمع الزوائد: 3010]، وبعضه في سنن الترمذي، وصححه العراقي في طرح التثريب. [طرح التثريب: 3/ 207].
وقال العراقي رحمه الله: ولعل ذلك يكون خيرًا للأمة ليجتهدوا في سائر اليوم، كما قال ﷺ: في ليلة القدر حين أنسيتها، وعسى أن يكون خيرًا لكم [البخاري: 49] [طرح التثريب:3/ 214].
نسيانه ﷺ شيئاً من الصدقة
نسى النبي ﷺ شيئًا من الصدقة فتذكرها وهو في الصلاة، فعن أبي سروعة عقبة بن الحارث قال: صليت وراء النبي ﷺ بالمدينة العصر، فسلم ثم قام مسرعًا، فتخطا رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج علينا فرأى أنهم عجبوا من سرعته، فقال: ذكرت شيئًا من تبر عندنا، فكرهت أن يحبسني، فأمرت بقسمته [رواه البخاري: 851].
وفي لفظ: ذكرت وأنا في الصلاة تبرًا عندنا، فكرهت أن يمسي أو يبيت عندنا، فأمرت بقسمته [رواه البخاري: 1221]، والتبر: قطع الذهب قبل أن يضرب، والظاهر أن هذا كان من مال الصدقة التي تجب قسمتها في المساكين ونحوهم، فلذلك عجل بالذهاب لقسمته.
وقوله: يحبسني يعني: يشغلني التفكر فيه عن التوجه والإقبال إلى الله تعالى.
وفي الحديث أنه يجوز للإمام أن يتخطأ المأمومين للحاجة، وإن كان بعد فراغه من الصلاة مباشرة، كما له أن يتخطأ الصفوف في حال دخوله أيضًا، وأما غيره فيكره له ذلك.
ما هي الحاجة؟ الإمام لا بدّ أن يصل للمحراب، وإذا ما له طريق إلا من بين المأمومين يجوز له أن يتخطأ.
وكذلك في هذا الحديث إنشاء العزم في أثناء الصلاة على الأمور الجائزة، وأنه لا يضر، أو تذكر في الصلاة، فأين قرر أين يقسمه في الصلاة، وأن هذا لا يضر.
وفيه أنه ينبغي أني يبادر إلى الخير؛ لأن الآفات تعرض ،والموانع تمنع، والموت لا يؤمن، والتسويف غير محمود، وهذا أخلص للذمة، وأنفى للحاجة، وأبعد من المطل المذموم، وأرضى للرب، وأمحى للذنب.
وفيه دليل على أن الإسراع بالقيام عقب السلام من غير تمهل لم يكن من عادته النبي ﷺ، يعني: أنه يسلم على طول ويمشي لم يكن من عادته، ولهذا تعجبوا من سرعته هذه المرة، فلما علم منهم ذلك بين لهم السبب.
وفي هذا الحديث أيضًا أن التفكر في الصلاة في أمر لا يتعلق بالصلاة لا يفسدها، لكن هذا في شيء لا يمكن الاحتراز منه، وأيضًا تفكره عليه الصلاة والسلام كان مؤقتًا، ما كان في كل الصلاة، وأيضًا كان لحاجة؛ لأن عنده شيء يجب أن يقسم بسرعة، وتفكر في طاعة، ما تفكر في عده نقوده، تفكر في طاعة، وفرق بين أن يهجم الخاطر وبين أن تستدعيه أنت.
وقال ابن رجب: "هذا الذي وقع للنبي ﷺ من جنس ما كان يقع لعمر" [فتح الباري لابن رجب: 9/378] مثل تجهيز الجيش في الصلاة، من شدة هم الإمام بالرعية، وهم الإمام بالجهاد؛ لأن هذا معلق به، وهو المسؤول عنه، ومن شدة اهتمام النبي ﷺ قام مسرعًا ليقسمه، فتداخلت العبادات الصلاة مع قسمة الصدقة، والنية لإرادة ذلك.
نسيانه ﷺ بيت المقدس
ونسي النبي ﷺ شيئًا من وصف بيت المقدس احتاجه كي يقوله لقريش لما كذبوه، فرفعه الله إليه كما في رواية مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لقد رأيتني في الحجر، وقريش تسألني عن مسراي لما جاء وقال: أنا ذهبت إلى بيت المقدس، وعرج بي إلى السماء، فجعلوا يهزؤون منه، ويسخرون ويضحكون، قالوا: ذهب بيت المقدس في ليلة، وأيضًا عرج إلى السماء، فقالوا: منا من رآه، منا من سافر إلى بيت المقدس، من الموجودين، تكذب علينا، سنسألك عنه، قال: فسألتني عن أشياء يعني: قريش من بيت المقدس لم أثبتها يعني لما أسري بي ما حفظته، ما دققت فيها، كان مشغول بالأنبياء، والصلاة الجماعة، ما كان مشغول بالأشكال، هم سألوه عن أشكال، قال: فكربت كربة ما كربت مثله قط ماذا أقول؟ الآن يكذبوني، يقولون: أنت كذاب، قال: فرفعه الله لي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به [رواه مسلم: 172].
نسيانه ﷺ الأمر بتخمير القرنين
ونسي النبي ﷺ مرة أن يأمر بتخمير القرنين الذين في الكعبين، وذلك لسبب فروى أبو داود عن صفية بنت شيبة قالت: سمعت الأسلمية -وهي صحابية أم عثمان بنت سفيان- تقول: قلت لعثمان بن طلحة: ما قال لك رسول الله ﷺ حين دعاك؟ قال: قال: إني نسيت أن آمرك أن تخمر القرنين ما هما القرنان؟ قرنا الكبش الذي أنزله الله لإبراهيم فداء لإسماعيل من الذبح، فكان القرنان في الكعبة، فقال ﷺ لعثمان الذي معه مفاتيح الكعبة، سادن الكعبة، قال: إني نسيت أن آمرك أن تخمر القرنين، فإنه ليس ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي النبي ﷺ دخل الكعبة، وصلى ركعتين، فرأى قرني الكبش في الكعبة من الداخل، فكان يريد أن يغطى القرنين حتى لا يشغلا من يصلي في الكعبة، نسي فلما خرج تذكر فنادى المسؤول، قال: إني نسيت أن آمرك أن تخمر القرنين، فإنه ليس ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي [رواه أبو داود: 2030، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 1770].
وفي رواية: إن كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت، فنسيت أن آمرك أن تخمرهما، فخمرهما، فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت -يعني: في الكعبة- شيء يشغل المصلي يعني: داخلها.
قال سفيان: "لم تزل قرنا الكبش في البيت الحرام حتى احترق البيت فاحترقا" رواه أحمد، وفي التعليق عليه أنه صحيح. [أحمد: 16637].
قال ابن رجب رحمه الله: "المراد بالقرنين: قرنا الكبش الذي فدي به إسماعيل فإنهما كانا في الكعبة إلى أن أحرقا عند حريق البيت، احترقا عند حريق البيت، وقد نص أحمد على كراهة أن يكون في القبلة شيء معلق من مصحف أو غيره، وجاء عن إبراهيم النخعي أنه قال: كانوا يكرهون ذلك، وعن مجاهد قال: لم يكن ابن عمر يدع شيئًا بينه وبين القبلة إلا نزعه سيفًا ولا مصحفًا، ونص أحمد على كراهة الكتابة في القبلة لهذا المعنى، وكذا مذهب مالك. [فتح الباري لابن رجب: 2/428].
فالذين يكتبون على محاريب المساجد ما عندهم علم لأن هذا يشغل المصلي.
متى احترق البيت؟ هذا كان في زمن يزيد بن معاوية لما وجه الجيش لابن الزبير، هو وجه مسلم بن عقبة، فمات في الطريق، فولى الحصين بن نمير، فقدم الحصين فحاصر ابن الزبير أربعة وستين يومًا، ونصب الحصين المنجنيق على ابن الزبير ورمى الكعبة، ومات يزيد، فارتحل الحصين فأمر ابن الزبير بتلك الحصاص، يعني: الحجارة التي كانت حول الكعبة فهدمت فبدت الكعبة، وأمر بالمسجد فكنس ما فيه من الحجارة والدماء، فإذا الكعبة قد وهت من أعلاها إلى أسفلها من حجارة المنجنيق، وإذا الركن قد اسود واحترق من الحريق الذي كان حول الكعبة، فتركها ابن الزبير، كذلك جاءها الموسم ورآها الناس يعني ليعرفوا ماذا فعل هؤلاء المعتدون، طبعًا كانت النهاية أن الحجاج هو الذي جاء وأكمل هذا، وقتل ابن الزبير .
نسيانه ﷺ المنذر
انشغل ﷺ لما أتى أبو أسيد بابنه المنذر حين ولد، فنسيه ولم يذكره حتى ردوه إلى بيته، فعن سهل بن سعد قال: أتي بالمنذر بن أبي أسيد إلى النبي ﷺ حين ولد فوضعه على فخذه" يعني: إكرامًا له، "وأبوه أسيد جالس، فلهى" انشغل النبي ﷺ بشيء بين يديه، فأمر أبو أسيد بابنه فاحتمل من فخذ النبي ﷺ فاستفاق النبي ﷺ" يعني: فرغ من الشغل هذا الذي ألهاه، "فلم ير الصبي، فقال: أين الصبي؟، قال أبو أسيد: قلبناه يا رسول الله" رددناه إلى البيت، قال: ما اسمه؟، قال: فلان، فكأنه سماه اسمًا ليس مستحسنًا، قال: ولكن أسمه المنذر فسماه يومئذ المنذر. [رواه البخاري: 6191، ومسلم: 2149].
الراوي أغفل الاسم المستبشع ليس له داعي أن يذكر، فإذًا ثبت أن النبي ﷺ سمى المنذر، وسمى إبراهيم، وسمى عبد الله أخو أنس بن مالك، وقال: سم ابنك عبد الرحمن [رواه البخاري: 6186] فأطلق عدة أسماء من السنة.
لو قلت ما هي الأسماء التي سماها النبي ﷺ بنفسه فهذه منها، فكأنه قال للرجل: الاسم الذي سميت به ولدك لا يليق، وكان الصحابة إذا ولد لأحدهم الولد أتى به النبي ﷺ ليحكنه، ويبارك عليه، ريق النبي ﷺ مبارك، فكان أول ما يوضع في أفواه الصبيان تمر مضغه النبي ﷺ لكي يحنك به الصبيان، وهذا من الخصائص النبوية، قضية الريق، وأما التمر يمكن أن الإنسان يأتي بها، ويلينها ويحنك بها الولد.
وسبب تسمية النبي ﷺ هذا المولود المنذر لأن ابن عم أبيه المنذر بن عمرو، كان قد استشهد ببئر معونة، وكان أميرهم فتفاءل بأن يكون خلفًا له، وهذا في شرح صحيح مسلم [14/128].
إذًا تسمية الناس على أسماء عظماء قبلهم رجاء أن يكونوا مثلهم، وليقتدي المسمى بالمسمى عليه أو به هذا أمر حسن، بهذا نكون قد أنهينا درسنا هذا، وهو نهاية هذه الدورة في هذا المسجد في هذا الشهر في هذه السنة.
نسأل الله تعالى أن يعيده علينا وعليكم مرارًا، وأن يرزقنا وإياكم الصدق والإخلاص في القول والعمل.