الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فكنا قد تكلمنا في السلسلة الماضية في رمضان الماضي عن التعاملات النبوية؛ تعاملات النبي ﷺ مع أولاده، مع زوجاته، مع جيرانه، مع أقربائه، مع أنواع وأصناف من الناس.
وسنتابع بمشيئة الله تعالى في هذا الشهر الكلام عن تعاملات نبوية أخرى للنبي ﷺ مع أصناف آخرين من الناس.
فقد تعامل النبي ﷺ مع الحكام، والملوك، وتعامل مع المنافقين، وتعامل مع الأعراب، كما تعامل مع الجيران، كما تعامل مع الأطفال، كما تعامل مع النساء، كما تعامل مع الدواب.
فالنبي ﷺ تعامل مع مَن حوله، وهذه المعاملة النبوية فيها دروس عظيمة بليغة لنا جميعاً.
نتحدث بمشيئة الله تعالى في هذه الليلة عن شيء من تعامل النبي ﷺ مع النساء.
وصية النبي ﷺ بالنساء
كان النبي ﷺ حَسَن العشرة لسائر الناس، وذلك لما جبله الله عليه من الأخلاق الحميدة، والصفات الرقيقة، ولا عجب في هذا؛ لأن الله تعالى قال له: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ[القلم: 4].
وهو الذي قال عن نفسه: إنما بُعثتُ لأتمم صالح الأخلاق [رواه أحمد: 8952] حديث صحيح، وفي رواية للبيهقي: إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق[رواه البيهقي: 21301، وصححه الألباني: 45].
ولا شك أن من له أدنى إلمام بسنة النبي ﷺ، وسيرته، يدرك علوا أخلاقه، وحسن معاملاته.
وكان ﷺ مع النساء له معاملة خاصة وواضحة، ومن ذلك أنه ﷺ أوصى بهن خيراً، فعن عمرو بن الأحوص، أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله ﷺ، قال: "فحمد الله، وأثنى عليه، وذكّر، ووعظ، ثم قال: ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئًا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة رواه ابن ماجه، وهو حديث صحيح. [رواه ابن ماجه: 1851، وصححه الألباني في الإرواء: 2030]
فقوله: استوصوا قيل: معناه تواصوا بهن، وقيل: اقبلوا وصيتي فيهن، واعملوا بها، وارفقوا بالنساء، وأحسنوا عشرتهن، ومعنى قوله: عوان جمع عانية، والعانية هي الأسيرة.
وقوله: إلا أن يأتين بفاحشة مبينة يعني ظاهرة الفحش والقبح، قيل: المراد هي كبيرة الزنا، وقيل: المراد النشوز، وشكاسة الخلق، وإيذاء الزوج وأهله باللسان أو اليد.
وفي الحديث الندب إلى مداراة النساء باستمالتهن، والمقصود باستمالة الزوجة، وكذلك استمالة المرأة من ذوات المحارم أما استمالة المرأة الأجنبية فإنه من المعلوم أنه لا يجوز، وهذا الحديث فيه السياسة مع النساء، وأن هذه السياسة تقتضي العفو، والصبر.
وقد جاء في خطبته ﷺ في حجة الوداع، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، [رواه مسلم: 1218].
وهذه الوصية قد كررت من النبي ﷺ، وخصوصاً في أواخر أيامه، وهي وصية ملزِمة لجميع المسلمين.
وكان ﷺ يُعدّ النساء نظائر الرجال، فقال: إنما النساء شقائق الرجال [رواه أبو داود: 236، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 95] رواه أبو داود، وهو حديث صحيح، قال ابن الأثير رحمه الله: "شقائق الرجال يعني نظائرهم، وأمثالهم" [النهاية في غريب الحديث والأثر: 2/492].
وعن أُم عمارة الأنصارية رضي الله عنها أنها أتت النبي ﷺ، فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال، يعني: هذه الآيات كلها تأتي بلفظ المذكر، يعني: نحن ما لنا شيء؟، النساء، وما أرى النساء يذكرن بشيء فنزلت هذه الآية: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيماً [الأحزاب: 35]. رواه الترمذي، وهو حديث صحيح. [رواه الترمذي: 3211].
فذكرُ الله للنساء مع الرجال كم مرتبة في هذه الآية؟ عشرة مراتب، عشرة أعمال النساء يشاركن فيها الرجال: يشاركونهم في الإسلام، والإيمان، والقنوت، والصدق، والصبر، والخشوع، والتصدق، والصيام، وحفظ الفرج، وذكر الله تعالى، وكان النبي ﷺ يبايع النساء كما يبايع الرجال، لكن لا يصافح النساء.
والله تعالى قد أمر نبيه أن يبايع النساء، وهذه المبايعة لها فائدة؛ لأن المبايعة إلزام، المبايعة أن يأخذ بالعهد، يعاهد،
هذه المبايعة تجعل المعاهِد ملزَماً، وهو يتذكر البيعة التي بايعها فيفي، يعني أن البيعة تحمل على الوفاء أكثر من أن يكون الأمر بلا بيعة، ولذلك كان ﷺ يبايع، وهذه بيعة النبي ﷺ الخاصة به.
هذه البيعة كان الصحابة يبايعون فيها على الإسلام، وكان ﷺ يبايع من قِبَل المسلم حديثًا.
والله قال لنبيه في كتابه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ هذه بنود البيعة، هذه البنود فيها أشياء تَركية، وأشياء فعلية، أشياء من النواهي، وأشياء من الأوامر، أشياء من المأمورات، ومن المنهيات، يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الممتحنَة : 12].
وعن أُميمة بنت رقيقة أنها قالت: "أتيتُ النبي ﷺ في نسوة من الأنصار نبايعه، فقلن: "يا رسول الله، نبايعك على ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف، قال: فيما استطتعنّ، وأطقتنّقالت: قلن الله ورسوله أرحم بنا، هلمّ نبايعك يا رسول الله،
فقال رسول الله ﷺ: إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة[رواه النسائي: 7756، وابن ماجة: 2874، والبيهقي: 16345، وصححه الألباني: 4181].
أي: أنه كان يبايع الرجال واحداً واحداً، لكن في النساء قوله لمائة امرأة منهن في البيعة، كقوله لواحدة، كأنما بايعهن واحدة واحدة.
فإذًا، البيعة قولية ليس فيها مصافحة، ليس فيها لمس للمرأة؛ مع أنه النبي ﷺ، منزّه عن القاذورات، وعن الأرجاس، ولكن مع ذلك لا يصافح المرأة الأجنبية، فما بالك اليوم بهؤلاء المتساهلين المميعين للدين الذين يريدون أن ينشروا أحكاماً غير التي أرادها الله ، فيجيزون مصافحة المرأة الأجنبية، والعجيب أن واحد من هؤلاء الضلال ممن تسنّم منصبًا كبيرًا للفتوى في أحد البلدان، لما قابل امرأة مسلمة أوروبية مدّ يده ليصافحها، فامتنعت، فقال لها: أنتِ إرهابية! فما تظنون بوقع هذا الكلام على نفسه؟.
وهذا من المؤسفات الكبار في هذا الزمان؛ أن من يتسنّم منصب الفتوى يمد يده ليصافح المرأة الأجنبية التي تتورع، وهي مسلمة حديثاً عن مصافحته؛ لأنه رجل أجنبي، أهو خير من رسول الله ﷺ؟
ورسول الله ﷺ قال: إني لا أصافح النساء، [رواه النسائي: 4181، وابن ماجة: 2874، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 2513]. وهذا يريد أن يصافح النساء!
هذا نموذج من النماذج التي ابتُلينا بها اليوم لضعف الدين أن يتسنّم الفتيا مثل هذا، ويفتي بالمصافحة أمثاله من المتساهلين، والممعين، والمبدّلين لأحكام الله؛ ليثبتوا أنهم أهل تقدم، وأنهم أهل تحرر، وأنهم أهل سهولة، ومن أصحاب المذهب الواسع، والفكر المتفتح، والأفق الممتد، وماذا تعني مخالفة شرع الله !؟.
وقالت عائشة رضي الله عنها: "فمن أقرّ بهذا الشرط منهن قال لها رسول الله ﷺ: قد بايعتك كلاماً يكلمها بها، تقول عائشة رضي الله عنها: "والله ما مسّت يده يد امرأة قط في المبايعة، وما بايعهن إلا بقوله".
دون مصافحة، ولا وضع صفح اليد في اليد كما هو في بيعة الرجال.
في بيعة الرجال يضع صفح اليد على صفح اليد، المبايعة: أن يضع كفه على كف المبايَع، أما في بيعة النساء فلا يجوز، قالت عائشة: "وما بايعن إلا بقوله"[رواه البخاري: 2713].
وقوله في الحديث: "قد بايعتك كلاماً"، أي: يقول ذلك كلاماً فقط، لا مصافحة باليد كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة.
عنايته عليه الصلاة والسلام بالنساء
وكان النبي ﷺ عنده اعتناء بالغ بالنساء، وعنده محافظة على مشاعرهن، ورقتهن، ومعنى هذه المحافظة أي أنه لا يريد أن تُخدش، وأن تُنال هذه الرِّقة النسائية بشيء من السوء، ولا أن يعبث بها، ولا أن يؤثر عليها أي تأثير سلبي، فكان ﷺ يعامل النساء، ويأمر بمعاملتهن مدركاً، وهو على أتم الاطلاع بما جبلهن الله عليه من الرقة، والضعف، فعن أنس قال: "كان رسول الله ﷺ في بعض أسفاره، وغلام أسود يُقال له: أنجشة يحدو.
والحداء هو نوع من اللحن في الصوت تُقاد به الإبل، فالحادي الذي يسوق الإبل يحدو، يعني يصدر صوتاً فيه شيء من اللحن حتى تنتعش الإبل، وتتنشط، وتسرع أكثر، ويطرد عنها الملل والسآمة، هذا معروف عند أهل البادية.
الحدّاء: الراعي، والحادي يحدو بإبله، أنجشة كان يسوق الإبل، وكان أنجشة حسن الصوت، وأنجشة هو المسؤول عن إبل أمهات المؤمنين فهو يقودها.
وفي رواية: "وكان يحدوا بأمهات المؤمنين ونسائهم، فقال له رسول الله ﷺ: يا أنجشة، رويدك سوقاً بالقوارير[رواه البخاري: 6149، ومسلم: 6180].
وفي لفظ: ارفق يا أنجشة، ويحك بالقوارير[رواه البخاري: 6209]، يعني ضعفة النساء.
قال قتادة: "هذا الحديث له معنيان؛ إما أنه يعني ارفق بالحداء هذا الحديث له معنيان ؛ لأن النساء رقيقات لا يتحملن هذه الشِّدة في العدو، وسرعة السير أو ارفق يا أنجشة بهذا الصوت الجميل، فتتأثر النسوة بهذا الصوت فيكون فتنة لهن، قال أبو قلابة: " فتكلم النبي ﷺ بكلمة، لو تكلم بها بعضكم لعبتموها عليه" [فتح الباري : 10/545]، فالنبي ﷺ شبّه النساء في هذا الحديث بالقوارير، والقوارير جمع قارورة، والقارورة هي الزجاجة المعروفة، لماذا سمّيت هذه القنينية قارورة؟ وهذه الزوجة لماذا سُمّيت قارورة؟ لاستقرار الشراب فيها.
قال الرامهرمزي رحمه الله: "كنّى عن النساء بالقوارير لرقتهن، وضعفهن عن الحركة، والنساء يشبهن بالقوارير في الرقة واللطافة، وضعف البنية" [فتح الباري: 10/545]، والقارورة أدنى ضربة تهشمها.
واختلف العلماء في المراد بتسميتهن: "قوارير" على قولين: المعنى الأول كما أشرنا سابقًا أن أنجشة كان حسن الصوت، وكان يحدو بهن، وينشد شيئاً من القريش والرجز، فأنجشة يحفظ من الأشعار والرجز، والقريض، ما يُقرض من الشعر، وبهذا المعنى قال الرامهرمزي رحمه الله، وقال العلماء: فلم يأمن أن يفتنهن، ويقع في قلوبهن حداؤه فأمره بالكف عن ذلك" [شرح النووي: 8 /30].
إذًا، النبي ﷺ خشي على النساء من الافتتان بالصوت الجميل؛ خصوصاً عندما يكون هناك لحن هل كان مع أنجشة ربابة عود، أو كمنجة، أو بيانو أورج؟ ما كان معه شيء من ذلك، صوت بشري فقط، ومع ذلك قال: رويدك يا أنجشة لماذا؟ لأنه خشي من افتتان النساء باللحن، لم تكن معه مؤثرات صوتية، وليس معه سان بلر، ولم يكن هناك جهاز كمبيوتر يخرج مائتين وخمسين ألف صوت، ما كان معه شيء من هذا، وليس هناك مؤثرات؛ ومع ذلك قال: رويدك يا أنجشة فما بالك اليوم بهؤلاء الذين يعملون من الأصوات البشرية أصواتاً موسيقية بالمؤثرات الصوتية، ويأتي فرقة من الرجال، ويُقال لك: هذا صوت الطبل، وهذا صوت كذا، وهذا صوت كذا، ندخل أصواتهم على الأجهزة، ونخرج لك أصواتاً مثل الأصوات الموسيقية، مؤثرات صوتية.
فإذاً، كان النبي ﷺ نهى أنجشة عن التمادي في الحُداء؛ حتى لا يفتتن النساء، فما بالكم اليوم بالقنوات التي تبث أناشيد فيها مؤثرات صوتية لا تقارن بصوت أنجشة؟
صوت أنجشة صوت عادي صوت بشر مجرد لكن كان جميل الصوت، واليوم مؤثرات صوتية مثل الموسيقى، ليس هناك فرق إذا سمعتها تظنها لأول وهلة أنها موسيقى، وتكاد أن تغلق الصوت، فإذا به يقول لك: لا، هذه قناة إسلامية!، أو هناك بعض القنوات التي تسمى إسلامية عندهم أصوات موسيقية أصلاً صريحة موسيقى، ونساء متبرجات، وتطلق على نفسها أنها قناة إسلامية! يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ[الفتح : 15]، يريدون أن يبدلوا هذا الدين، يعرضون الدين بطريقة سيئة للغاية، ويخالفون الدين باسم الدين، ولذلك يندر اليوم أن ترى قناة خالية من المحاذير الشرعية إلا من رحم الله.
فليت الذين يشتغلون بالمؤثرات الصوتية، ويخرجونها على أنها أناشيد إسلامية ليتهم يعقلون حديث أنجشة، ويتفكرون فيه، ويقفون مع أنفسهم وقفة حساب، وتفكر هل ما يفعلونه هذا بهذه المؤثرات الصوتية هذا جائز، وهل هذا الذي يُعرض في هذه المقاطع في القنوات التي تقول أنها إسلامية، هل هذا يناسب النساء أم هو فتنة للنساء؟
قال: فلم يأمن أن يفتنهن، ويقع في قلوبهن حداؤه، فأمره بالكف عن ذلك، هذا المعنى الأول في المراد من الحديث الثاني، أن المراد به الرفق في السير؛ لأن الإبل إذا سمعت الحداء أسرعت في المشي، واستلذته، فأزعجت الراكب، وأتبعته، فنهاه عن ذلك؛ لأن النساء يضعفن عند شدة الحركة، ويخاف ضررهن وسقوطهن.
وجوّز القرطبي رحمه الله في المفهم- المفهم هذا شرح للقرطبي على صحيح مسلم- جوّز الأمرين، يعني أن يكون المراد بهذا رويدك يا أنجشة أنه ينهاه عن التمادي بالحداء؛ لئلا يفتتن النساء، ولئلا يتضرر النساء من إسراع الإبل الإسراع الزائد نتيجة الحداء، قال: "فخاف عليهن من حث السير بسرعة السقوط، أو التألم من كثرة الحركة، والاضطراب الناشئ عن السرعة، أو خاف عليهن الفتنة من سماع النشيد" هذا كلام القرطبي في المفهم.
فالقارورة نوع من الأواني الزجاجية شديدة الرّقة والهشة التي تنكسر بسرعة إذا أُسيئ استعمالها، واستُخدِمت بنوع من العنف، وهذا حال النساء، فإن تكونهن الجسماني أو العاطفي فيه ضعف مقارنة بالرجال.
ولذلك أمر الرجال بالرفق بالنساء، ومراعاتهن، وهذه الرقة، وهذا اللطف في التعامل معهن مراعاة لطبيعتهن، وما خلقهن الله، وجبلهن عليه.
وهكذا تعامل النبي ﷺ مع المرأة فيه هذه المراعاة، وكان منه هذا التنبيه لأنجشة رحمةً بالنساء؛ لئلا يسقطن، ولئلا يفتتن، والنبي ﷺ كان لا يشعر النساء بأنهن جنس آخر، ومبغوض، ومكروه مثلاً، أو ازدراء، ونقص كما يفعل بعض الرجال اليوم، إذا تكلم عن النساء ربما يتكلم بشيء وكأن النساء نجس!.
ثناؤه ﷺ على الصفات الطيبة لدى النساء
وكان يثني على الصفات الطيبة في النساء، فمثلاً قال في نساء قريش القرشيات خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوجه في ذات يده [رواه البخاري: 5365، ومسلم: 6618].
ليس المقصود كل نساء قريش، قال: صالح نساء قريش؛ لأنه قد يوجد قرشية ولكنها ليست بذات دين، فماذا ينفعها نسبها؟ أبو جهل قرشي، وأبو لهب قرشي، وأُمية بن خلف قرشي أين هم؟ في النار، أم جميل قرشية أين هي؟ حمالة الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ[المسد : 5]، قرشية في النار، لذلك قال في الحديث: خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش، والمقصود هنا صلاح الدين، صلاح العلاقة مع الزوجة، حسن المخالطة له، وحسن التبعل.
قال في سبب هذا المدح: أحناه أكثره شفقة، والحانية على ولدها هي التي تقوم عليه في حال يتمه، فلا تتزوج فإن تزوجت فليست بحانية، كما قال الهروي، يعني: المرأة التي يموت زوجها، وعندها أيتام فتشفق أن تتزوج، فتأثر الأيتام، فتصبر، ولا تتزوج من أجل الأيتام؛ مع أن الزواج بالنسبة لها فيه متعة، ومباحة، وقضاء وطر، ولذة، لكنها تترك كل هذا من أجل أولادها الأيتام، فتصبر من أجلهم، فالمرأة الحانية التي عندها أيتام، ولا تتزوج بعد أبيهم الذي مات من أجلهم، هذه الحانية في اللغة.
أما الحنان هذه صفة موجودة في النساء عموماً، لكن الحانية غير الحنون، الحانية هي المشفقة على الولد، والأولاد الأيتام الذين عندها، قال ﷺ في سبب خيرية نساء قريش الصالحات: وأرعاه على زوج في ذات يده يعني أصون لماله، فيها أمانة، وصيانة، وديانة في حفظ المال، وعدم التبذير والإسراف.
والحديث فيه فضل الحنو، والشفقة، وحسن التربية، والقيام على الأولاد، وحفظ مال الزوج، وحسن التدبير فيه.
كان ﷺ يخصص لهن يوما لتعليمهن
ومن معاملة النبي ﷺ مع النساء أنه كان يخصص لهن يوماً لتعليمهن، ويراعي حاجة النساء إلى الفقه، ومعرفة الأحكام الشرعية، فعن أبي سعيد الخدري ، قال: "جاءت امرأة إلى رسول الله ﷺ، فقالت: "يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه، تعلمنا مما علمك الله"، وفي رواية للبخاري قالت النساء للنبي ﷺ: "غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فقال: اجتمعن في يوم كذا، وكذا في مكان كذا وكذا [رواه البخاري: 7310].
وفي رواية: موعدكن بيت فلانة فاجتمعن، فأتاهن رسول الله ﷺ فعلمهن مما علمه الله، ووعظهن، وأمرهن، فكان فيما قال لهن: ما منكن امرأة تقدم بين يديها من ولدها ثلاثة لم يبلغوا الحنث إلا كان لها حجابًا من النار [رواه البخاري: 7310]، فقالت امرأة منهن: "يا رسول الله، "أو اثنين؟" فأعادت مرتين أو اثنين؟ ثم قال: واثنين، واثنين، واثنين [رواه البخاري: 7310، ومسلم: 6868].
لم يبلغوا الحنث يعني لم يبلغوا سن التكليف الذي يُكتب فيه الحنث؛ والحنث معناه الإثم، لم يبلغوا سن الحنث يعني السن الذي يُكتب فيه الإثم على الولد، وتبدأ كتابة الإثم على الولد إذا بلغ، والمعنى أنهم ماتوا قبل أن يبلغوا.
حدثونا قبل أيام عن امرأة من الجدّات، مات لها أيام الجدري، والأمراض التي كانت تأتي على الجزيرة، مات لها أحد عشر ولد، منهم من بلغ سن الثانية عشرة، ومنهم من كان كبيراً، ومنهم من كان في بطنها، ومنهم من ولد لتوه، وما عاش لها إلا ولد واحد، وكان من هذا الولد أحفاد كثير، كم يكون أجرها عظيماً هذه إذا صبرت الثلاثة تدخل بهم الجنة إذا ماتوا صغارًا، واثنين أيضاً.
قال ابن حجر: "وفي الحديث ما كان عليه نساء الصحابة من الحرص على تعلم أمور الدين". [فتح الباري: 1/196].
لو قال قائل: لماذا لم يبلغوا الحنث؟ ماهي المناسبة؟ فقيل: إن الحزن على الولد إذا مات قبل الحنث يكون أشد.
على أية حال الشاهد من الحديث هو قضية تعليم النساء، وموعظة النساء، وتخصيص دروس للنساء، وإتاحة المجال للنساء للسؤال، وجواز كلام الرجل مع النساء للمصلحة إذا أُمنت الفتنة عليه وعليهن، واقتطاع إمام المسلمين الإمام الأعظم وقتاً من وقته الثمين لأجل النساء، وأن على المربي، والناصح مراعاة النساء.
وكذلك مراعاة المصابات بفقد الأولاد، وتصبير هؤلاء، ومكانة الابن في نفس الأم عظيمة، ولذلك يُذكر لها الأجر والثواب حتى تصبر، سنكمل معكم بإذن الله تعالى هذه السلسلة فيما يتيسر من الأيام القادمة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.