الأربعاء 10 جمادى الآخرة 1446 هـ :: 11 ديسمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

03- تعامله ﷺ مع النساء 3


عناصر المادة
مراعاته ﷺ للنساء في العبادة
تفقده ﷺ لضعاف النساء
بيانه ﷺ فضل بعض النساء
تعامله ﷺ معهن بالحلم والرفق
سعيه ﷺ على الأرملة والمسكينة
وفائه ﷺ لمن أرضعنه
إحسانه ﷺ لصواحب نسائه

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فلا زال حديثنا عن تعامل النبي ﷺ مع النساء، وقد ذكرنا حرصه ﷺ على موعظتهن، وتذكيرهن، وحثهّن على الصدقة، والإكثار من ذكر الله تعالى.
وأنه كان يعلمهن ما ينفعهن من الأدعية؛ كأدعية الكرب، وكذلك يتعاهدن في شهود مواسم الخير في الأعياد، وبركة المسلمين ودعوتهم، وأن النبي ﷺ كان يشفق على النساء.

مراعاته ﷺ للنساء في العبادة

00:00:59

وكان ﷺ يراعيهن غاية المراعاة، ومن ذلك أنه كان يخشى عليهن من الاختلاط بالرجال، فكان يريد لهن الصيانة، فينتظر في مصلّاه حتى يخرج النساء من المسجد؛ كي لا يختلطن بالرجال.
فعن هند بنت الحارث، أن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله ﷺ إذا سلّم قام النساء حين يقضي تسليمه، ومكث يسيراً قبل أن يقوم"، قال الزهري: "فأرى -والله أعلم- أن مكثه لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم" يعني الرجال. [رواه البخاري: 837].
وعن أم سلمة زوج النبي ﷺ قالت: كان يسلِّم فينصرف النساء، فيدخلن بيوتهن من قبل أن ينصرف رسول الله ﷺ [رواه البخاري: 850].
قال ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث مراعاة الإمامة لأحوال المأمومين، والاحتياط في اجتناب ما قد يفضي إليه الأمر من محذور، وكذلك قال: "فيه اجتناب مواضع التهم، وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات، فضلاً عن البيوت". [فتح الباري: 2/336].
يعني: إذا كان النبي ﷺ قد اتخذ تدابير للتقليل من اختلاط الرجال بالنساء عند مخارج المسجد، وفي الطريق أمام الناس، والأمور مكشوفة، فكيف بالاختلاط في المكاتب، والجامعات، والفصول، الغرف، حجرات المستشفى، هناك أمور لا بدّ أن تحصل، ولا يمكن الوقاية منها، لكن هناك أمور يمكن الوقاية منها الاختلاط.
ولذلك نجد في موضوع مثلاً، وهو بيت الطهر والعبادة أبعد ما يكون عن الفتن والشهوات، المسجد.
هناك إجراءات وتدابير اتخذها النبي ﷺ لكي يقلل من الاختلاط إلى أدنى قدر ممكن:
أولاً: صفوف النساء في مؤخرة المسجد، وصفوف الرجال في أول المسجد، وشر صفوف الرجال آخرها؛ لأنه أقرب إلى النساء، وشر صفوف النساء أولها؛ لأنه أقرب إلى الرجال.
هذا تدبير الفصل التام في المسجد، وإبعاد صفوف الرجال عن النساء ما أمكن
ثانياً: أنه ﷺ بعد السلام كان يمكث في مكانه، ويمكث الرجال حتى ينصرف النساء، ولا يقوم النبي ﷺ من مكانه لا ينصرف إلا وقد دخلت النساء بيوتهن.
ثالثاً: أنه ﷺ حدّد باباً خاصاً للنساء، لا يخرج منه الرجال، ولا يدخلون منه.
ثالثاً: أنه نظم عملية السير في الطريق بالنسبة للجنسين، وإليكم ذلك مع ما تقدم مخالطة الرجال للنساء هذا لا شك أن فيه فتن، وفيه خطورة كبيرة، والمأمومون إذا كانوا رجالاً فقط، فإن المكث بعد السلام بالنسبة للإمام لا يكون إلا بقدر قول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تبارك يا ذا الجلال والإكرام" أما إذا كان يوجد نساء، وليس هناك حاجز، فالإمام لا ينصرف، يعني إلى القوم، ولا ينفتل إلى الناس حتى يقوم النساء ويخرجن.


ولذلك قال في الحديث: "فينصرف النساء، فيدخلن بيوتهن من قبل أن ينصرف رسول الله ﷺ وحديث أن النبي ﷺ لم يقعد إلا مقدار ما يقول: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام" محمول على إذا ما كان من خلفه فقط من الرجال كما ذهب إلى هذا عدد من العلماء كابن قدامة -رحمه الله-،وحمل حديث عائشة على هذا الإجراء الآخر، وهو فصل الصفوف، وإبعادها عن بعضها.
جاء في حديث أبي هريرة قال: "قال رسول الله ﷺ: خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها [رواه مسلم: 1013].
قال النووي رحمه الله في هذا الحديث الذي رواه مسلم: "المراد بالحديث صفوف النساء اللواتي يصلين مع الرجال، وأما إذا صلين متميزات لا مع الرجال فهن كالرجال، خير صفوفهن أولها، وشرها آخرها"، فإذا قالت المرأة: عندنا مصلّى في الكلية، نحن نصلي جماعة نساء، ليس معنا رجال في المكان، ما هو خير الصفوف بالنسبة لنا؟
فنقول: خير الصفوف بالنسبة للنساء أولها، وشرها آخرها مثل الرجال؛ لأنه لا يوجد رجال في المكان لكن إذا كان يوجد رجال في المكان فشر صفوف النساء أولها؛ لأنه أقرب إلى الفتنة، وإنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن من مخالطة الرجال، ورؤيتهم، وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم، وسماع كلامهم، ونحو ذلك، وذم أول صفوفهن لعكس ذلك، والله أعلم". هذا كلام النووي. [شرح النووي على مسلم: 4/159].


الإجراء الآخر أنه ﷺ خصص باباً للنساء في المسجد كما جاء عن نافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله ﷺ: لو تركنا هذا الباب للنساء قال نافع مولى ابن عمر: "فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات، من يوم أن سمع الحديث حتى مات هو في المسجد النبوي في المدينة قبل ما يموت النبي ﷺ، وبعد أن مات النبي ﷺ، كم مكث ابن عمر؟ مكث سنين طويلة في المدينة، ومع ذلك لم يدخل من هذا الباب أبداً التزاماً بقول النبي ﷺ: لو تركنا هذا الباب للنساء خلاص حدد باباً معيناً هذا باب النساء ما دخل منه ابن عمر حتى مات رواه أبو داود، وهو حديث صحيح. [رواه أبو داود: 462، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 483].
والحديث فيه دليل كما قال صاحب عون المعبود في شرح أبي داود: "أن النساء لا يختلطن في المساجد مع الرجال، بل يعتزلن في جانب المسجد، ويصلين هناك بالاقتداء مع الإمام، ولا يُقال هنا: أين اتصال الصفوف، فإن انقطاع صفوف النساء عن الرجال هذا من السنة هذا شرع ودين" [عون المعبود: 2/130].
وكذلك فإن عبد الله بن عمر كان من أشد الصحابة اتباعاً للسنة، فالتزم بذلك التوجيه النبوي، والإجراء الآخر أنه ﷺ كان ينهى النساء عن مخالطة الرجال في الطرقات والاقتراب منهم.
فعن أبي أسيد الأنصاري أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله ﷺ للنساء: استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق [رواه أبو داود: 5272، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 929].
فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به" رواه أبو داود، وهو حديث حسن، ما معنى: ليس لكن أن تحققن الطريق يعني تركبن وسط الطريق، ليس لكن ذلك، ليس من  حقكن أن تحققن يعني تتوسطن الطريق، عليكن بحافات الطريق.


إذًا الرجال في وسط الشارع، والنساء على جنب، هكذا وجّه النبي ﷺ  هذا ليس تنطّعاً، ولا تزمتاً، ولا تشدّداً، ولا تخلفاً، هذا هو الدين، هذه هي السنة، كانت المرأة تلتصق بالجدار من شدة الالتزام بهذا التوجيه النبوي، المرأة تلتصق بالجدار، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به فنهاهن ﷺ عن السير وسط الطريق؛ حتى لا يختلطن بالرجال، حتى في الطريق، وليس المراد منع النساء من المرور في الطريق أصلاً، لا، لأنه من الصعب أن تكون هناك شوارع للنساء، وشوارع للرجال، لكن هذا الشارع إذا كان فيه مشي فإن المرأة لا تمشي في وسط الطريق لها الحافة، والرجل يمشي في الوسط، ولا شك أن الحافة أستر، الجدار جانب الطريق أستر من وسط الطريق، حتى إذا هبّت ريح ووقع النظر على الوسط لا الوسط مكشوفاً.
وهكذا نجد أنه ﷺ يريد أن يجنب الرجال الاختلاط بالنساء، والنساء الاختلاط بالرجال ما أمكن، فإنك تجد في بعض الحالات أنه لا يمكن الفصل، رمي الجمرات، بعض حالات الطواف، لا يمكن الفصل، لكن هناك بعض الحالات يمكن، وإذا أمكن نطبق وننفذ هذا الكلام؛ لأن تماس أجساد الرجال بالنساء حتى في الطواف فتنة.
ولذلك الواحد إذا أراد أن يطوف بأهله لا يطوف بهن في أزحم الأوقات، ولو ذهب في رمضان مثلاً، فيُقال له: طُف بأهلك بعد المغرب مثلاً، الناس يفطرون في البيوت ويتعشون ونحو ذلك، عليه أن يتخير وقتاً يكون فيه الزحام أقل ما يكون ولذلك إذا قال: هناك أحوال سيكون فيها تلاصق الأجساد، وتضاغط الناس، فنقول: ابتعد عن هذا.


ومن العلماء من أفتى للمرأة إذا صارت ستدخل في وسط زحام الرمي بحيث تفتن، أو تفتن أو تؤذى، وتُهان كرامتها من بعض الفسقة الذين يندسون في الزحام أن توكل، ولا تدخل في هذه المعمعة.
وقد ندب النبي ﷺ المرأة إلى خضاب اليد فقال لامرأة: لو كنت امرأة لغيرت أظفارك[رواه أبو داود: 4166] يعني بالحناء رواه أبو داود، وهو حديث حسن.
قال ابن حجر: "وإنما أمرها بالخضاب لتستر بشرتها، فخضاب اليد مندوب للنساء للفرق بين كفها وكف الرجل". [التلخيص الحبير: 2/517]
أيضاً هذا في مسألة منع المشابهة، والستر، ولو بالخضاب، والمشابهة، مشابهة الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل، تشبه الجنسين ببعضهما من أسباب الفساد في الأرض.
وكذلك من أسباب وقوع الشذوذ الذي صار عاماً اليوم، ومن البلاء الذي نزل في البشر من جرّاء مخالفتهم لفطرة الله التي فطر الناس عليها.
تخفيفه ﷺ عليهن عند سمع بكاء صبيانهن في المسجد:
والنبي ﷺ من تعامله مع النساء أنه كان يخفف عليهن عندما يسمع بكاء صبيانهن في المسجد، فعن أنس أن النبي ﷺ قال: إني لأدخل في الصلاة، وأنا أريد إطالتها يعني ابتغاء الأجر والثواب فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه [رواه البخاري: 708، ومسلم: 1084]، ومعنى: شدة وجد أمه يعني من حزنها، واشتغال قلبها به.


قال النووي -رحمه الله-: "وفيه دليل على الرفق بالمأمومين وسائر الأتباع، ومراعاة مصلحتهم، وألا يدخل عليهم ما يشق عليهم، وإن كان يسيراً من غير ضرورة، وفيه جواز صلاة النساء مع الرجال في المسجد، وأن الصبي يجوز إدخاله إلى المسجد" قال النووي:  "وإن كان الأولى تنزيه المسجد عمّن لا يؤمن منه حدث" [شرح النووي على مسلم: 2 / 218].
لأن بعض مساجد المسلمين الآن صارت -مع الأسف- مكان لبول الصبيان، ورمي حفائظ الأطفال، والإتيان بالمأكولات والمشروبات للأطفال، ووضع هذه المشروبات بين أيدي الأطفال؛ لكي يقذّروا بها سجاد المسجد الذي هو وقف لا يجوز إتلافه ولا تقذيره.
وهكذا صار الوضع الآن، وضع مصاحف المساجد في خطر؛ لأن هؤلاء الأولاد يعبثون بها دون نهي لا من آبائهم، ولا من أمهاتهم، وإذا كان الرجل يريد أن يربي ولده على المسجد فلا بدّ أن يكون هذا الطفل الذي توقفه في الصف مميّزاً، يعقل معنى الصلاة، لا يلعب، ويدخل، ويخرج، ويتقدم، ويتأخر؛ لئلا يقطع الصف، وكذلك أن يوقفه بجانبه حتى يأمن من عبثه، وبعضهم الآن في صلاة التراويح في المساجد يترك ولده يرجع للخلف، ويجلس مع الصبيان، ويتكلمون ،ويعملون حلقاً للعلب والحديث، أو يسرحون ويمرحون في المساجد جاعلين منها ساحة للعب.
وهكذا إذا أراد الإنسان أن يأتي بولده للمسجد تربية له، فلا بدّ أن يحافظ عليه، ويعتني به.


ومن شفقته ﷺ بالنساء أنه أناخ راحلته لامرأة، وهي أسماء بنت أبي بكر ، لما رآها تحمل من العبء ما تحمل، وكانت أسماء مخلصة لزوجها، وكانت تجمّل للزبير النوى، وتنقل، وتعلف الفرس، وكانت تمشي من أرض الزبير، وعلى رأسها كذا، وكذا على مسافة ثلُثي فرسخ، وهذا الحمل فوق رأسها، وكانت تسير فاستحيت بسبب ما يغشى الطريق من الرجال، وذكرت غيرةَ الزبير، فلذلك كان عندها أهون الأمرين أن تمشي، فقال لها زوجها لما علم: "والله لحملك النوى كان أشد عليّ من ركوبك" [رواه البخاري: 5224].

تفقده ﷺ لضعاف النساء

00:19:12

ومن شفقته ﷺ، وحُسن معاملته للنساء أنه كان يتفقد ويسأل عن المرأة الضعيفة، والمسكينة، والفقيرة، والكبيرة العجوز، فعن أبي هريرة "أن امرأة سوداء كانت تقمُّ المسجد يعني تنظفه، وتجمع قمامته –كناسته- ففقدها رسول الله ﷺ، فسأل عنها، فقالوا: ماتت، قال: أفلا كنتم آذنتموني دلوني على قبرها فكونه ﷺ يتذكرها، هنا امرأة، كان يرى امرأة تأتي تنظّف المسجد، أين هي؟ ما أخبارها؟ قالوا: ماتت، فقال: أفلا كنتم آذنتموني، دلوني على قبرها فكأنهم صغروا أمرها لما قالوا: هي امرأة مسكينة، وعجوز، وماتت ودفناها، وانتهينا، ولا داعي أن نزعجك، فقال: دلوني على قبرها فدلوه، فصلى عليها، ذهب وصلى عليها اهتماماً بأمرها وشأنها، وصح أنها عجوز، وكبيرة في السن، وامرأة لكن لها قدر، لها قيمة، امرأة تنظف المسجد، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم[رواه البخاري:458، ومسلم: 1588].

بيانه ﷺ فضل بعض النساء

00:20:53

من تعامله ﷺ أنه كان يبين فضل النساء الفاضلات المهاجرات، اللاتي قدّمن التضحيات، اللاتي تغرّبن عن الوطن في سبيل الله، اللاتي رافقن أزواجهن في ذات الله، اللاتي أوذين، واللاتي استوحشن في بلاد أعجمية، وربما يقول بعض الرجال: نحن أفضل منكن، وأنتم تغربتن، ونحن عند النبي ﷺ، وهذا ما حدث في قصة أبي موسى المشهورة المؤثرة، قال: "بلغنا مخرج النبي ﷺ ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وإخوان لي أنا أصغرهم، أحدهم أبو بردة، والآخر أبو رهم، في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلاً من قومي، فركبنا سفينة، أنظر، هنا ذهب الإخوة الأشقاء، وتركوا أهلهم باليمن، تركوا الوطن والبلد هجرة لله، وفي سبيل الله، وفيه تعاون الإخوة الأشقاء على الطاعة، واجتماع المؤمنين في العبادة، فقد اجتمع في هذه الهجرة في السفر من اليمن إلى المدينة اثنان وخمسون من المؤمنين الذين أسلموا من أهل اليمن، وكيف كان الطريق؟ بحرياً، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، يعني: مع الأمواج والريح تغير اتجاه السفينة، وذهبت إلى جهة الحبشة بدلاً من أن تتجه إلى الحجاز، فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده، وهذا قدر الله، وهو لطيف بالمؤمنين، أنه لما هبت الرياح، وغيرت اتجاه السفينة، سبحان الله، كيف تقع قلوب المؤمنين كما تقع الطيور على أشباهها!.
التقى أبو موسى اليمني الأشعري، واثنين وخمسون من قومه مع مَن؟ جعفر بن أبي طالب ومن معه الذين خرجوا من مكة إلى الحبشة مهاجرين من سنوات، كان اللقاء هناك.


ولا شك أنه كان لقاء إيمانيًا، ولقاء أخوياً، ولقاء عظيماً التقت فيه قلوب المؤمنين وأجسادهم مع الغربة، هؤلاء من اليمن، وهؤلاء من مكة اجتمعوا في الحبشة مثلما يقع الآن لبعض المسلمين في الخارج، تجد أحياناً واحد ذهب يدرس، وآخر ذهب للتجارة، وآخر ذهب للعلاج، والتقوا في مركز إسلامي، أو في أي مكان في آخر الدنيا، كل واحد جاء من بلد، جمعهم صلاة جمعة، صلاة عيد، درس علم في بلاد الكفر في أقصى الدنيا، فتلتقي قلوب المؤمنين، وتتلقي أجسادهم في أماكن أحياناً غريبة لم يكن يتوقع الواحد أن يجد هناك إخوان في الله.
هذا أبو موسى الأشعري خرج من اليمن، ويجد جعفر بن أبي طالب في الحبشة، هو أصلاً ما كان متجهاً إلى الحبشة، ولكن كان من الممكن أن تلقيهم السفينة في جزر أخرى، لكن شاء الله تعالى أن يلاقي أبو موسى أخاه وإخوانه، ومن معه أيضاً، التقوا في سبيل الله.
وصار لأبي موسى الآن هجرتين، هو الآن خرج من اليمن مهاجراً إلى الحجاز إلى المدينة، فإذا بالسفينة تذهب للحبشة، فصارت هجرة للحبشة، وهجرة للمدينة، فقال جعفر -وهو مجتهد من الصحابة- ليس هناك اتصال من النبي ﷺ صعب جداً، فقال جعفر: "إن رسول الله ﷺ بعثنا ها هنا" يعني نحن الآن نمكث هنا في الحبشة بناء على توجيه نبوي، ليس مزاجاً، أو أننا أتينا للنزهة، لا، نحن جئنا إلى الحبشة بناء على توجيه نبوي، يعني معنا دليل في جلوسنا، قال: "إن رسول الله ﷺ بعثنا ها هنا، وأمرنا بالإقامة، فأقيموا معنا، فأقمنا معه"، انضم الآن ثلاثة وخمسين من المؤمنين من المسلمين من اليمن إلى إخوانهم في الحبشة، كثر العدد، الآن زاد عدد الجالية الإسلامية في الحبشة برعاية النجاشي.


كان جلوسهم هناك بأمر من النبي ﷺ، كان حكمة؛ لأن قريشاً اضطهدت المسلمين، فلا بدّ من إيجاد مكان آخر يكون فيه قاعدة بديلة للمسلمين، ومكان لحفظ الدعوة، وحفظ النفر هؤلاء. 
والنبي ﷺ أرسل أناس من خيار الصحابة، جعفر بن أبي طالب هذا ابن عمه، ومن قدامى المؤمنين من مكة، ومعه من النساء والرجال من المهاجرين والمهاجرات، فأقمن معه حتى قدمنا جميعاً بناء على أمر من النبي ﷺ عادوا من الحبشة بعد أن استتب الأمر في المدينة النبوية.
كان خط جعفر مكة- الحبشة- المدينة- أبو موسى اليمن- الحبشة- المدينة-، فوافقنا رسول الله ﷺ حين افتتح خيبر، فأسهم لنا، أو قال: أعطانا منها تطيباً لهم؛ لأنهم تغرّبوا في سبيل الله سنوات، صحيح أنهم لم يشاركوا في فتح خيبر، لكن هؤلاء يستحقون على هذا التغرب، واللأواء، والشدة، فوافقنا رسول الله ﷺ حين فتح خيبر، فأسهم لنا، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئاً إلا لمن شهد معه إلا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه قسم لهم معهم.
وكان هناك من المسلمين من يقول لأهل السفينة: سبقناكم بالهجرة، نحن هاجرنا من مكة إلى المدينة، وحضرنا بدر، وأحد، والخندق، وخيبر الآن، كم  هذه السنوات؛ لأن الحديبية كانت سنة ست، والله وعد المسلمين في الحديبية فتحاً قريباً، وهو خبير؛ فخيبر بعد الحديبية، فهذه قرابة سبع سنين.
جاء الآن وفد الحبشة من أهل مكة، ومن أهل اليمن إلى المدينة، فكان الذين قدموا من مكة إلى المدينة مباشرة، وحضروا قبلهم إلى المدينة يقولون لأهل السفينة: سبقناكم بالهجرة.


ودخلت أسماء بنت عميس، وهي ممن قدم معنا على حفصة زوج النبي ﷺ زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، وقد سبق الكلام على شخصية أسماء بنت عُميس رضي الله عنها، وفقه هذه المرأة، وقوة شخصية هذه المرأة، أسماء بنت عميس، هذه المرأة المجاهدة المهاجرة، فقيهة جريئة في الحق.
هذه المرأة رضي الله عنها جاءت زائرة لحفصة، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء من هذه؟ قالت: أسماء بنت عُميس، قال عمر: الحبشية؟ هذه البحرية؟ نسبها إلى الحبشة لسكناها فيها، وإلى البحر لركوبها إياه، قالت أسماء: نعم، قال: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله ﷺ منكم، فغضبت أسماء، وقالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله ﷺ يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار البعداء، والبغضاء بالحبشة"، البعداء يعني في النسب، والبغضاء في الدين؛ لأنهم كانوا نصارى إلا النجاشي الذي أسلم وكان يستخفي بإسلامه من قومه.
النجاشي ما كانت الفرصة لديه متاحة، والحرية التامة في أن يظهر إسلامه مع  قومه النصارى، ومعلوم ماذا فعل الروم بهرقل لما أظهر لهم الإسلام ثاروا عليه حتى رجع إلى الكفر.
النجاشي كان يداري قومه، ولكنه في الحقيقة كان مسلماً، فقالت أسماء لعمر: كلا والله، يعني: لستم أفضل منا أنتم كنتم مع النبي ﷺ، ويطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا نحن في دار البعداء والبغضاء بالحبشة وعلى أمر من النبي ﷺ، ونحن صبرنا طيلة هذه السنين بناء على أمره، هو الذي أمرنا أن نذهب إلى الحبشة، وأن نمكث فيها هذه المدة، قالت: وذلك في الله وفي رسوله ﷺ وأيُّم الله لا أطعم طعاماً، ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلتَ لرسول الله ﷺ أذهب، واشتكيك، ونحن كنا نُؤذى، ونخاف، نحن كنا في دار البعداء، والبغضاء، والغرباء، أنتم أسستم دولة ومجتمع وجيش في المدينة.
نحن كان عندنا الخوف أشد، وسأذكر ذلك للنبي ﷺ، وأسأله، ونرى يا عمر الحق مع من؟، والله لا أكذب، ولا أزيغ، ولا أزيد عليه، يعني هذا كلامي الذي أقوله أمامك يا عمر هو الذي سأقوله أمام النبي عليه الصلاة والسلام، ولا أزيد، ولا أكذب، ونرى الحق مع مَن؟.


فلما جاء النبي ﷺ إلى بيت زوجته حفصة، قالت أسماء بنت عميس: "يا نبي الله، إن عمر قال كذا، وكذا، وأنهم أفضل منا، ونحن الذين في الحبشة أقل، وهم سبقونا، قال: فما قلتِ له؟ ماذا رددت على عمر؟ قالت: قلت له: كذا، وكذا، يعني أنكم كنتم مع رسول الله ﷺ يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار البعداء البغضاء بالحبشة، وكنا نُؤذى ونخاف.
قال النبي ﷺ: ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان مكة الحبشة، الحبشة، المدينة، هجرتان، اليمن الحبشة، الحبشة المدينة، ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان، قالت: "فلقد رأيتُ أبا موسى، وأصحاب السفينة يأتوني أرسالاً، يعني أفواجاً، فوجًا بعد فوج يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء  هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي ﷺ.
قالت أسماء: "فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني، أعيدي علي، من فرحه بالحديث والفضل العظيم الذي كان لهؤلاء المؤمنين، والحديث [رواه البخاري: 4231، ومسلم: 6567]، وفيه دروس عظيمة.
وهذا الحديث يحتاج إلى وقفات، وأن ننظر كيف أن النبي ﷺ كان يقدّر تضحيات النساء حقق قدرها، وبيّن لهن الفضل، وكل أهل السفينة ما ظهر فضلهم إلا عن طريق امرأة، وهي أسماء هي التي ذهبت، وجادلت، وسألت، وتكلمت، وحامت، ونافحت، ودافعت، واستخرجت لهم هذا الفضل، وتعلموه عن طريقها، وجاء الرجال، والنساء أفواجاً يستعيدون منها الحديث، ويسمعونه منها.

تعامله ﷺ معهن بالحلم والرفق

00:35:39

كان تعاون النبي ﷺ مع النساء قائماً على الرفق والحلم، فعن سعد بن أبي وقاص، قال: "استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله ﷺ، وعنده نسوة من قريش يسألنه عالية أصواتهن على صوته، قال الشرَّاح: هذا يحتمل أن يكون قبل نزول النهي عن رفع الصوت فوق صوته؛  لأن الله قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ[الحجرات : 2].
وكذلك يحتمل أن يكون علو أصواتهن إنما كان باجتماعها أما كلام كل واحدة بانفرادها فلم يكن أعلى من صوت النبي ﷺ، فلعل العلو في هذه الحالة كان علو اجتماع الأصوات، وليس علو صوت كل واحدة  هذا جواب سؤال، لو قال قائل: كيف يرفعن أصواتهن فوق صوت النبي ﷺ؟، والآية فيها ما فيها، فلما استأذن عمر في هذه الحالة تسربن، واختفين وراء الحجاب، واختبأن وراء الستار خوفا ورهبة من عمر، فأذن له النبي ﷺ، فدخل عمر والنبي ﷺ يضحك، فقال عمر: "أضحك الله سنّك يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، ما هو السبب؟ عمر لم يفعل شيئاً يضحك، لكنه لما رأى المشهد الذي حدث قبل قليل، الزوجات أصواتهن مرتفعن، ويطالبن، وكلام كثير، فلما جاء عمر واستأذن، عرفن صوته مباشرة تسرّب واختفاء، فقال ﷺ: عجبتُ من هؤلاء اللاتي كن عندي لما سمعن صوتك تبادرن الحجاب.
فقال عمر : "أنتَ أحق أن يهبن يا رسول الله"، يعني كان من المفترض أن يهبنك أنت أكثر مني، ثم أقبل عليهن بالكلام، فقال: "يا عدوات أنفسهن، أتهبنني ولم تهبن رسول الله ﷺ؟ فقلن: إنك أفظ، وأغلظ من رسول الله ﷺ، وأفظ، وأغلظ على وزن أفعل، وأفعل في اللغة للتفضيل، لكنها ليست دائماً في باب المفاضلة، وقد قال الله: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ[آل عمران : 159].
إذًا، استعمال أفعل التفضيل في أفظ وأغلظ ليس على بابه، وإنما هو تعبير يُراد منه أن عمر فيه شدة، وليس المراد منه أن النبي ﷺ فيه فظاظة وغلظة.


وكان ﷺ لا يواجه أحداً بما يكره إلا في حق من حقوق الله، وعمر زجر عن المكروهات، وطلب المندوبات، فلهذا قال النسوة له ذلك المهم بعد هذا التلاسن الذي حصل.
قال النبي ﷺ: إيه يا ابن الخطاب وهذه كلمة تعني في اللغة لا تبدأن بحديث، قال: إيهٍ يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجّاً إلا سلك فجاً غير فجك [رواه البخاري: 3294، ومسلم: 6355].
قال النووي: "وهذا الحديث محمول على ظاهره، أن الشيطان متى رأى عمر سالكاً فجاً هرب هيبة من عمر، ولا يمكن الشيطان أن يدخل في طريق دخل فيه عمر، لازم الشيطان يولي الأدبار إذا رأى عمر سالكًا، سيهرب، ويفارق ذلك الفج، ويذهب إلى فج آخر لشدة خوف إبليس من بأس عمر أن يفعل به شيئاً" [شرح النووي على مسلم: 15/165]، ومقصود الكلام أن الشيطان يهابك يا عمر، فكيف لا يهبنك هؤلاء النسوة؟.
وفي هذا الحديث فضل لين الجانب، وأنه ﷺ كان يصبر على نسائه كان يسمع، وينصت، ويصبر، ويحلم، ويعطي المجال للمرأة أن تتطلب وتطالب، لكنه ما لم يفوت مقصوداً شرعياً، ينصت، ويسمع، وهذا من باب قول الله تعالى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ[الحجر : 88]، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ[آل عمران : 159]، وقال تعالى عن نبيه ﷺ: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة : 128].
وكان ﷺ يرفق بالأرملة والمسكينة، ويولي الضعيفات الرفق والرحمة، ولا يأنف منهن، فعن عبد الله بن أبي أوفى قال: "كان رسول الله ﷺ يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة" رواه النسائي، وهو حديث صحيح.

سعيه ﷺ على الأرملة والمسكينة

00:41:48

وكان النبي ﷺ يرى أن هؤلاء الأرامل والمساكين يفيئون إليه، ومن لهم بعد الله إلا هو، أين مرجعهم؟ أين يذهبون بأنفسهم؟ هو إمام المسلمين، فهم إذا أتوه فإنه هو المسؤول الأول، وهو فيئتهم.
وقد قال ﷺ: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل [رواه البخاري: 5353، ومسلم: 7659].
ومعنى كلمة الساعي، أن يذهب، ويجيئ في تحصل ما ينفع، الأرملة والمسكين، إذا كان أولاد هذه الأرملة يحتاجون التسجيل في المدارس فإنه قد يذهب عشرة مرات حتى يسجل لها أولادها في المدارس، وإذا كانوا يحتاجون أغراض يذهب ويجيء، وما المقاس الكبير؟ والمقاس الصغير؟ يرجع يبدل، ويرجع يأتي بالملابس، ويبدل الملابس حتى تقضى الحاجة، فالساعي تعني أنه مستعد يذهب ويجي مرات حتى تقضى الحاجة للأرملة والمسكين، أرملة يعني يصعب عليها أن تذهب في الطرقات، وتخالط الرجال، وتطالب، ويُسمع لها فلذلك يذهب الرجل له شأن يُسمع لكلامه، ويقضي حاجتها، شراء شيء، معاملة حكومية، لأودها أشياء، لها مطالبات في المحكمة، حقوق في الشؤون الاجتماعية، في التقاعد، يحصّل لها حقوقها، حقوق أولادها، هذا الشيء يأخذ عليه المحامون، ومحصلو الأتعاب كذا وكذا، هذا استحصال الحقوق فيه الأجرة، وهذا يُقَدر له أجرة، لكنه فعلها في سبيل الله لأجل الأرملة والمسكين، ويستخلص الحقوق لأصحاب العاهات قد يكون شخص مشلولاً، مقعد مرض مزمن، فهو يحتاج علاج مراجعة في المستشفى، شفاعة حسنة لإدخاله إلى مستشفى.
الشاهد الساعي على الأرملة والمسكين، الساعي ليس معناه فقط أن يرفع السماعة ويسأل هل هناك مجال؟ يُقال له: ليس هناك مجال، لا، الساعي يذهب يحامي وينافح حتى يستخلص، وينفع ويقضي الحاجة المطلوبة.


فإذاً، عندما نرى في الحديث كالمجاهد في سبيل الله، أو كالذي يصوم النهار، ويقوم الليل، هذا الأجر الكبير ليس على رفعه السماعة ومع السلامة، لا، فيها بذل جهد، استعمال، وجاهه، وشفاعة، وإلحاح، ومطالبة، وذهاب وبتكبير وتضحية بأغراضه وحاجته هو من أجل حاجة الأرملة واليتيم ،والمسكين.
فهو ﷺ يرى أن هؤلاء فئة محتاجة، ولا عائل لهم بعد الله إلا هو، ولذلك اهتم بالأرامل وأولاهن العناية الخاصة المناسبة لهن، وكان لا يتوانى في قضاء حاجة الضعفة من النساء، فعن أنس قال: "جاءت امرأة إلى رسول الله ﷺ فقالت: "يا رسول الله: "إن لي إليك حاجة، فقال لها: يا أُم فلان، انظري أي السكك شئتِ حتى أقضي لك حاجتك فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها".
كان النبي ﷺ في المجلس مع الرجال، ولا يريد أن تتكلم أمام الرجال في المجلس، وهي عندها حاجة خاصة تستحي أن تتكلم أمام الرجال، فقالت لي: إليك حاجة، معنى ذلك أنها تريده على انفراد، لكن كيف يكون الوضع دون أن يخلو الرجل بالمرأة؟ يكون في طريق على مرأى من الناس، لكن من بعيد، فليس هناك خلوة، فقال: انظري أيّ سَكة شئت أنا أذهب إليها، وتقول حاجتك. وهذا الحديث [رواه مسلم: 6189، وأبو داود: 4820].
وقال أنس بن مالك : "إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله ﷺ فتنطلق به حيث شاءت" رواه البخاري، والمقصود من الأخذ باليد الرفق والانقياد، ويمكن أن تكون هذه جارية صغيرة السن، والحديث فيه أن النبي ﷺ كان يقضي حاجة الأمة، ليس فقط الحرة، حتى الأمة، حتى الطبقات الدنيا في المجتمع، النبي ﷺ يسعى في حاجتهم، والأمة دون الحرة، والأمة كانت تأخذه حيث شاءت من الأمكنة، والتعبير بالأخذ باليد لا يمكن أن يكون معناه أن المرأة البالغة تأخذ بيد النبي ﷺ، وتمسكه، وتمسه، لا، وإنما إشارة إلى سهولة انقياده وذهابه معها لقضاء حاجتها.
فهذا دال على مزيد تواضعه، وبراءته من جميع أنواع الكبر ﷺ؛ لأن الأمة المملوكة التي تحتاج إلى مساعدة ورعاية لا تجد إلا النبي ﷺ، وليس هناك حاجز هيبة، ولو طلبت تُجاب مباشرة، وفي أي مكان، هذا معناه أنه في غاية التواضع.

وفائه ﷺ لمن أرضعنه

00:48:17  

وكان ﷺ يحسن إليهن، ويكرمهن، وأي امرأة لها فضل سابق لا ينسى معروفها، ولا فضلها، ولا مكانتها، مكانتها محفوظة، وخيرها السابق معروف، ولا ينكر، وتكافأُ عليه ولو بعد عشرات السنين.
فهذه مرضعته ثويبة كانت مولاة لأبي لهب، ارتضع منها النبي ﷺ قبل حليمة السعدية، فهي أول مرضعة للنبي ﷺ ثويبة أرضعته بلبن ابن لها يُقال له: مسروح، وأرضعت قبله حمزة عمه، وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد، على ما قال ابن الأثير في أسد الغابة رحمه الله: "فكانت ثويبة مرضعة النبي ﷺ وهو صغير بمكة، وكانت خديجة تكرم ثويبة، وهي في ملك أبي لهب، و قيل أن خديجة سألت أبا لهب أن يبيعها ثويبة، فامتنع، فلما هاجر رسول الله ﷺ أعتقها أبو لهب على ما قيل، وكان ﷺ يصلها بكسوة، ويرسلها من المدينة؛ لأن هذه مرضعة، ومع أن هذا المعروف قديم لكنه لم ينسَ فضلها، قال ابن حجر رحمه الله: " ذكرها ابن مندة في الصحابة، وقال: "اختُلف في إسلامها، وقال أبو نعيم: "لا نعلم أحداً ذكر إسلامها غيره". [أسد الغابة: 3 / 323].
وفي السير أن النبي ﷺ كان يكرمها، وكانت تدخل عليه بعد أن تزوج خديجة، وكان يرسل إليها الصلاة من المدينة إلى أن كان بعد فتح خيبر ماتت، ومات ابنها مسروح، فمن هو مسروح؟ أخو النبي ﷺ بالرضاعة.

إحسانه ﷺ لصواحب نسائه

00:50:43

وكان  ﷺ يخصُّ صواحب نسائه بمزيد فضل وإحسان.
فقد جاء في البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : "ما غرتُ على أحدٍ من نساء النبي ﷺ ما غرتُ على خديجة، وما رأيتها" عائشة لا تعرف شكل خديجة أصلاً، ولكن كان النبي ﷺ يكثر ذكرها" [رواه البخاري: 3818].
لو قيل: من أين نشأت الغيرة إذا كانت عائشة ما رأت خديجة أصلاً؟ فالجواب: من كثرة ذكر النبي ﷺ لخديجة، ولماذا كان يكثر ذكرها أمام نسائه؟ يعرفهن أن خديجة صاحبة فضل، فيكثر من ذكرها أمامهن، يعلمهن أن صاحبة الفضل لا تُنسى، أنفقت عليه، وآوته، ورعته وأولاده منها، غارت عائشة يكثر ذكرها واحد، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، يعني هدايا لصاحبات خديجة، إذا ذبح شاة لا ينسى صاحبات خديجة، وصديقات الزوجة الأولى، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة، فيقول: إنها كانت، وكانت، وكان لي منها ولد، ودافعت عني، وأنفقت عليّ، وبذلت مالها، وواستني، وهدّأت منه لما رجع من الغار بعد قصة الضغطة، وضمة جبريل، فغطه غطّة فكانت بموقفها ذاك ودفاعها في وقت المحنة؛ ذلك الوقت الذي أوذي فيه النبي ﷺ من قريش، ويرجع إلى زوجته مهموماً حزيناً، من الذي كان يستقبله، ومن الذي كان يخفف عنه، ومن الذي كان يصبره، ومن الذي كان يقول له: "والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك تفعل، وتعين، وتضيف، وتحمل خديجة وأولاده من خديجة إلا إبراهيم.
وفي رواية في البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن" [رواه البخاري: 3816].
وعند الترمذي: "وإن كان ليذبح الشاة، فيتتبع بها صدائق خديجة، فيهديها لهن" [رواه الترمذي: 2017].
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب حسن صحيح. يتتبع يتطلب.
قال المباركفوري: "إهداء النبي ﷺ اللحم لأصدقاء خديجة وخلائلها رعياً، يعني مراعاة منه لذمامها، وحفظاً لعهدها" [تحفة الأحوذي: 5/270].


وجاء في البخاري في كتاب الأدب المفرد، عن أنس قال: "كان النبي ﷺ إذا أتي بالشيء يقول: اذهبوا به إلى فلانة، إنها كانت صديقة لخديجة، اذهبوا به إلى فلانة، فإنها كانت تحب خديجة، هذه صديقة خديجة، وهذه تحب خديجة ، [الأدب المفرد: 232] وحسنه الألباني.
وأخرج الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "جاءت عجوز وهو عندي، فقال لها رسول الله ﷺ: من أنتِ؟ قالت: أنا جثامة المزنية، جثامة اسم ليس جميلاً، قال: "بل أنتِ حسانة المزنية كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ فلو قال لك: كيف حالكم؟ هل هذا من السنة؟ نقول: نعم، كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ هذا من السنة؛ السؤال عن الحال، الاطمئنان، استخبار عن هذا الشخص الذي تباعد به العهد والزمان، كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟
قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فلما خرجت قالت عائشة من غيرتها: يا رسول الله، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ كل هذا الترحيب، وكل هذه الكلمات، وهي عجوز؟، قال: يا عائشة، إنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان، وصححه الألباني في الصحيحة. [رواه الحاكم: 40، وصححه الألباني في السلسة: 216].
فإذًا، لأنها كانت صاحبة زوجته الأولى خديجة لقيت كل هذا الترحيب، وكل السؤال، وكل الاهتمام لها.
ونختم بقصة  تبين أن النبي ﷺ كان يحفظ عهد أصحابه عن طريق مراعاة أحوال خدمة نسائهم، فعن أنس ، قال: "كان النبي ﷺ لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه إلا أُم سليم، فأنه كان يدخل عليها، فقيل له في ذلك، يعني لماذا أم سليم بالذات؟ قال: إني أرحمها، قُتِل أخوها معي [رواه البخاري: 2844، ومسلم: 6473].


وأم سليم قيل اسمها: سهلة، وقيل: رميلة، وقيل: مليكة بنت ملحان الأنصارية رضي الله عنها.
وأم سليم هذه هي أم أنس بن مالك رضي الله عنها، مشهورة بكنيتها، لم يكن يدخل النبي ﷺ  بالمدينة بيتاً على امرأة غير بيت أم سليم، قال بعض الشرّاح: لعل المقصود لم يكن يدخل على الدوام، وإلا فإنه دخل مرة على أم حرام، قال ابن حجر: "لا حاجة إلى هذا التأويل، فإن بيت أم حرام وأم سليم واحد، ولا مانع أن تكون الأختان؛ لأن أم حرام أخت أم سليم، ولا مانع أن تكون الأختان في بيت واحد كبير، لكل منهما فيه معزل، فنسب البيت تارة إلى هذه، وتارة إلى هذه" [فتح الباري لابن حجر: 6/51].
انظر، المعرفة بالتاريخ والأحوال يجعل الجمع بين الأحاديث سهلاً على الأفذاذ أمثال ابن حجر العسقلاني، وإلا فقد يرد الحديث على شخص آخر، ونقول: هذه غير هذه، لا يخطر بباله أن هذه أخت هذه، وبيت واحد، ولا يحتاج إلى هذا التأويل.
قوله: إني أرحمها،  قُتل أخوها معي، من هو أخوها؟ حرام بن ملحان الذي قال: "فزتُ ورب الكعبة" لما طعنه الكافر، حرام بن ملحان الذي قُتِل في بئر معونة، حرام بن ملحان هذا من القرّاء العظام الحفظة الذين استشهدوا لما غدر بهم الكفار في بئر معونة، حرام بن ملحان أخوها أرسله في الغزوة، وغدر الكفار بسبعين من المؤمنين، تواردت عن النبي ﷺ مصيبتان، ومتتاليتان أُحد، وبئر معونة، وراء بعض.


وكانت مصيبتان مؤثرتان جداً، كل واحدة قُتل فيها سبعون من خيار أصحابه في أُحد سبعون، وفي بئر معونة سبعون وراء بعض، تاريخياً وراء بعض، تتابعت عليه مصيبتان، يعني مائة وأربعين صحابي رباهم على عينه، وكانوا معه من خيار الصحابة، ومن المجاهدين، ومن القرّاء، ومن الحفظة، ليس سهلاً أن تنتج مائة وأربعين شخصية تذهب كلها في أشهر ويُقتلون، لكن النبي ﷺ خرّج آلاف، وكان صابراً يقدم أصحابه بين يديه ليلقاهم بعد الموت، هذه أخوها قتل معي، يعني عسكري معي، ذهب في طاعتي، وبناء على أمري؛ لأن النبي ﷺ لم يشهد بئر معونة، فما معنى قوله إذاً: أخوها قتل معي يعني بناء على طاعتي، في الجيش الذي بعثتهم، ومن أجل طاعتي، أمره بالذهاب معهم، وأخته هذه على الأقل أن تُراعى، يعني أن تُزار، وتُكرم، وتُقضى حاجتها، وتُتفقد.
وهذا فيه حفظ عهد الإخوان والأصحاب، والقيام بمصالح أهليهم بعد وفاتهم.
والنبي ﷺ كان يجبر قلب أم سليم بزيارتها، ويقول: أخوها قتل معي يعني خلفه بخير في أهله، وهذا من حسن العهد، وحسن العهد من الإيمان، تفقد، حسن صلة.
أسأل الله أن يقذف في قلوبنا الرحمة بعباده، وأن يجعلنا من المتواضعين للمؤمنين، الخافضين أجنحتهم لإخوانهم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.