الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد الأنبياء وخاتم المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد فمع مزيد من المواضع التي ورد فيها ضحك النبي ﷺ:
فقد ضحك من عجب الرب من عبده، ودعائه وحده ليغفر له ذنبه: كما جاء في حديث علي بن ربيعة قال: شهدت عليًا أتي بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب، قال: بسم الله، بسم الله، بسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله، ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، يعني ما كانا مطيقين لولا تسخير الله هذه الدابة لنا ما كنا نطيق أن نركبها ولا نستطيع، ثم قال: وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم قال: الحمد لله ثلاثًا، والله أكبر ثلاثًا، سبحانك إني قد ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك.
قلت: من أي شيء ضحكت يا أمير المؤمنين؟
قال: رأيت رسول الله ﷺ صنع كما صنعت، ثم ضحك.
فقلت: من أي شيء ضحكت يا رسول الله؟
قال ﷺ: إن ربك ليعجب من عبده إذا قال: ربي اغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب غيرك [رواه الترمذي: 3446، وهو حديث صحيح، صححه الألباني في صحيح الجامع:2069].
وفي رواية: قال: يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري [رواه أبو داود: 2604، وصححه الألباني صحيح أبي داود: 2267].
فرسول الله ﷺ يضحك تعجبًا من معرفة هذا العبد لربه سبحانه، والتوجه إليه بالدعاء ليغفر ذنوبه وخطاياه.
وتبسم النبي ﷺ أيضًا مرة من مجيء الفرج لأصحابه وهم بغاية الاحتياج إلى المال: فعن عمرو بن عوف أن رسول الله ﷺ بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتيه بجزيتها"، والبحرين هذه المنطقة أو هذا الاسم يطلق على البلاد الواقعة من البصرة إلى عمان، بعث النبي ﷺ أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتيه بجزيتها، "وكان رسول الله ﷺ صالح أهل البحرين وأمرهم عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، طبعًا كانوا في شدة فوافوا صلاة الفجر مع النبي ﷺ" كان هنالك مساجد بالمدينة غير المسجد النبوي لكل قبيلة مسجد يجتمعون فيه، فلما سمعوا أن أبا عبيدة قد جاء بمال من البحرين جاؤوا كلهم الآن للصلاة في المسجد النبوي، فلما انصرف النبي ﷺ من صلاته تعرضوا له، فتبسم رسول الله ﷺ حين رآهم، ثم قال: أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء؟.
قالوا: أجل يا رسول الله!
قال: فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم، وتلهيكم كما ألهتهم [رواه البخاري: 3158، ومسلم: 2961].
وتبسم النبي ﷺ من حسن خلقه هنا لأنهم جاؤوا متشوقين إلى المال، وهم في أشد الحاجة فتبسم النبي ﷺ من مجيء الفرج، ومن حاجتهم التي قضيت بهذا المال، وطلب العطاء من الإمام لا غضاضة فيه، والبشرى من الإمام لأتباعه والتوسيع عليهم مطلوبة.
وقد ضحك النبي ﷺ من حديث عن ربه تعالى فيه حلم الله على عبده: فعن أنس بن مالك قال كنا عند رسول الله ﷺ فضحك.
قال: هل تدرون مم أضحك؟، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه يقول: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟ يقول: بلى. فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني، يعني: يوم القيامة فيقول الله لعبده: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي يعني: لجوارحه فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول هذا العبد لأعضائه: بعدًا لكن وسحقًا، فعنكن كنت أناضل [رواه مسلم: 2969].
يعني كنت أدافع وأجادل عنكن يا أيتها الأعضاء ثم أنتن تشهدن عليّ.
وضحك النبي ﷺ من فعل بعض أصحابه ببعض المشركين: فقد جاء عن سعد أن النبي ﷺ جمع له أبويه يوم أحد، فقال: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين"، يعني أثخن فيهم، وعمل فيهم مثل عمل النار بالحطب من كثرة ما قتل من المسلمين، فقال له النبي ﷺ: إرم فداك أبي وأمي، فجمع له بين أبويه، فهذا الصحابي الذي جمع له النبي ﷺ بين أبويه، قال سعد: فنزعت له بسهم ليس فيه نصل ليس فيه زج، فأصبت جنبه كان سعد راميًا قال: فأصبت جنبه" يعني جنب المشرك الذي يثخن في المسلمين، "فأصبت جنبه، فسقط فانكشفت عورته، فضحك رسول الله ﷺ حتى نظرت إلى نواجذه". [رواه مسلم: 2412].
قال النووي في الشرح: ضحك فرحًا بقتله عدوه لا لانكشافه". [شرح مسلم للنووي: 7/192]، ففرح بهذه النهاية المخزية السيئة القاضية على هذا العدو الذي كان يفتك بأصحابه.
وتبسم النبي ﷺ مرة من مزحة من صهيب : فعن صهيب قال: قدمت على النبي ﷺ وبين يديه خبز وتمر، فقال النبي ﷺ لصهيب: ادن فكل.
قال: فأخذت آكل من التمر.
فقال النبي ﷺ: تأكل تمرًا وبك رمد، عينك فيها رمد فكأن أكل التمر لا يناسب الذي فيه رمد؛ لأنه يحتاج إلى مزيد مضغ يشق على العين، الحركة تشق على العين.
فقلت: إني أمضغ من ناحية أخرى" -أي آكل على جهة العين الصحيحة- "فتبسم رسول الله ﷺ". [رواه ابن ماجه: 3443]، وقال الألباني: حسن صحيح. [صحيح ابن ماجة: 2776].
فيحتمل أنه قال ذلك على وجه المباسطة، ويحتمل أن من به رمد لا يناسبه أكل التمر؛ لأنه يحتاج إلى قوة مضغ تؤلم العين.
وضحك النبي ﷺ من صنيع أبي بكر مع غلامه لما أضل البعير: فعن أسماء بنت أبي بكر قالت: خرجنا مع رسول الله ﷺ حجاجًا حتى إذا كنا بالعرج قرية بين مكة والمدينة، نزل رسول الله ﷺ ونزلنا، فجلست عائشة رضي الله عنها إلى جنب رسول الله ﷺ وجلست إلى جانب أبي، وكان زمالة أبي بكر وزمالة رسول الله ﷺ واحدة، يعني المركوب وأدوات السفر واحدة مع غلام لأبي بكر، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه عبده هذا بالزاملة، قال: فطلع، وليس معه بعيره، فقال: أين بعيرك؟
قال: أضللته البارحة.
فقال أبو بكر: بعير واحد تضله. يعني ما هي إبل كثيرة حتى تقول: شذ واحد منها وهرب ما في إلا هذا الواحد كيف انشغلت عنه وهرب أو ضل منك؟ فطفق أبو بكر يضربه، ورسول الله ﷺ يتبسم، ويقول:
انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع، فما يزيد رسول الله ﷺ عن أن يقول: انظروا إلى هذا المحرم ما يصنعويتبسم". [رواه أبو داود: 1818] وهو حديث حسن [حسنه الألباني صحيح أبي داود: 1602].
وكان هذا في الحج، ولا شك أن الإنسان يحتاج إلى متاعه الذي على بعيره، كيف ولا متاع النبي ﷺ الذي يحتاجه على هذا البعير لأنها كانت واحدة، الزاملة كانت واحدة.
وضحك النبي ﷺ من فطنة بدوي في حديثه معهم عن الجنة: فما هي القصة عن أبي هريرة أن النبي ﷺ كان يومًا يحدث وعنده رجل من أهل البادية، قال ﷺ: أن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع فقال له يعني: ربه في الجنة: ألست فيما شيء، يعني كل هذه الزروع والثمار والأشجار ولسا تبغى تزرع، قال: بلى. ولكني أحب أن أزرع، قال: فبذر فبادر الطرف، يعني سبق لمح الطرف نباته واستواؤه واستحصاده، فكأن أمثال الجبال يعني: ما كان بين البذر وبين تجميع الحبوب هذه بعد الحصد ولا لمح البصر، فيقول الله دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شيء الأعرابي الآن جالس يسمع القصة أن واحد من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، وأن الله قال له: كل عندك الزرع هذا، قال: إني أحب أن أزرع، وزرع وصار كذا كذا، فقال الأعرابي لما سمع القصة: والله لا تجده إلا قرشيًا أو أنصاريًا فإنهم أصحاب زرع، وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع هذا ما هو منا، هذا ما هو من البادية، فضحك النبي ﷺ. [رواه البخاري: 2348].
قال في مرقاة المفاتيح: "ضحك من فطانة البدوي وجوابه البديع". [مرقاة المفاتيح: 16/261].
وقال ابن بطال: "دل ضحكه على إصابة الأعرابي للحق في استدلاله". [شرح صحيح البخاري: 6/489].
وفي هذا الحديث من الفوائد: أن كل ما اشتهي في الجنة من أمور الدنيا ممكن فيها، لكن من الذي يشتهي من دخل الجنة؟ فماذا سيشتهي إذا دخل الجنة؟ الله أعلم.
وليس يعني الضروري أن ما يشتهيه اليوم سيشتهيه في الجنة، فاليوم قد يشتهي الإنسان أشياء، وإذا دخل الجنة ما يشتهيها، لكن لو دخل الجنة واشتهى شيئًا سيحصل له بالتأكيد، لهم فيها ما تشتهيه الأنفس.
وكذلك فيه أن النفس جبلت على الاستكثار، ووصف الناس بغالب عاداتهم، وإشارة إلى فضل القناعة.
وكان عليه الصلاة والسلام يضحك أيضًا من قول بعض أصحابه الذين كانوا يريدون إدخال السرور عليه: فلما روى عمر قال: كنا معشر قريش قومًا نغلب النساء"، يعني السلطة للرجل، "فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم"، يعني في المجتمع المدني غير المكي، المجتمع المدني المرأة عندها سلطة أكثر من المرأة المكية، "فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم"، المكيات يتعلمن من المدنيات، "وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي، فتغضبت يومًا على امرأتي، فإذا هي تراجعني"، يعني من أول كانت الكلمة واحدة خلاص، إذا قال عمر شيء ما في اثنتين، "فإذا امرأتي تراجعني"، تأخذ وتعطي معي في الكلام، "فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي ﷺ ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل"، وفي هذا أن النبي ﷺ أخذ بسيرة الأنصار في نسائهم، وترك سيرة قومه يعني مشى مع نسائه على عادة الأنصار في نسائهم، يعني: المرأة في مزيد من الحرية، "فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت: أتراجعين رسول الله ﷺ؟
قالت: نعم.
فقلت: أتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟
قالت: نعم.
قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله ﷺ، فإذا هي قد هلكت، لا تراجعي رسول الله ﷺ ولا تسأليه شيئًا، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله ﷺ يريد عائشة، وبعد ذلك حصلت القصة المفاجئة أنه سرت إشاعة في المدينة، أن النبي ﷺ طلق نسائه، فجاء عمر، واستأذن، وكرر حتى دخل على رسول الله ﷺ، فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثر في جنبه متكئ على وسادة من أدم حشوها ليف، فسلمت عليه، ثم قلت: وأنا قائم طلقت نساءك؟
فرفع رأسه إليّ، وقال: لا.
فقلت: الله أكبر، يعني أعجبه هذا، وأن تلك كانت إشاعة، ثم قلت: وأنا قائم استأنس يعني استكشف هل ينبسط معي وإلا لا، فقلت لو رأيتنا يا رسول الله، وكنا معشر قريش قومًا نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، الحديث..." حتى ذكر قوله: لابنته حفصة فتبسم رسول الله ﷺ ثم قلت: لو رأيتني ودخلت على حفصة فقلت: لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوضأ"، يعني أجمل منك وأحب إلى النبي ﷺ منك، فتبسم أخرى، فجلست حين رأيته تبسم.
فقلت: أستأنس يا رسول الله.
قال: نعم، فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه، وحتى كشر فضحك، وكان من أحسن الناس ثغرًا ﷺ". [رواه البخاري: 2468، ومسلم: 1479].
وفي هذا تأديب الرجل ابنته وقرابته لإصلاحها لزوجها، وفيه الصبر على الزوجات، والتجاوز عن أخطائهن، وفيه أن شدة الوطأة على النساء مذموم يعني في سياسة كتم النفس ليست محمودة شرعًا، وفيها تكرار الاستئذان، وأن المرء إذا رأى صاحبه مهمومًا استحب له أن يحدثه بما يزيل همه ويطيب نفسه، وهذه فائدة جليلة لقول عمر: "لأقولن شيئًا يضحك النبي ﷺ" وهذا المزح وهذا الإضحاك في هذه الحال يؤجر عليه الإنسان، لو رأى أخاه المسلم مكفهرًا عابسًا، ضائقًا صدره، مهمومًا مغمومًا فبقي يعني يمزح حتى خلاه ينفرج تنفرج أساريره، هذا من الحسنات، وأبواب الخير والأجر ولا شك، وقليل من الناس من يحسنه.
وضحك النبي ﷺ من تمثيل عمار له ما فعل بالتراب: فعن عبد الرحمن بن أبزى قال: كنا عند عمر فأتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين ربما نمكث الشهر والشهرين ولا نجد الماء.
فقال عمر: أما أنا فإذا لم أجد الماء لم أكن لأصلي حتى أجد الماء.
قال عمار بن ياسر: أتذكر يا أمير المؤمنين حيث كنت بمكان كذا وكذا ونحن نرعى الإبل، فتعلم أننا أجنبنا.
قال: نعم.
قال: أما أنا فتمرغت في التراب، فأتيت النبي ﷺ فضحك.
فقال: إن كان الصعيد لكافيك، وضرب بكفيه إلى الأرض، ثم نفخ فيهما، ثم مسح وجهه وكفيه". [رواه أبو داود: 322، وصححه الألباني صحيح أبي داود: 313].
فكان سبب ضحك النبي ﷺ أن عمار تمرغ أمامه كما تتمرغ الدابة، فعلمه النبي ﷺ أنه لا حاجة له، إذا كان جنبًا وما عنده ما يغتسل لا حاجة أن يتمرغ في التراب كتمرغ الدابة، وإنما يكفيه هذه الضربة للوجه والكفين.
وضحك النبي ﷺ من أقوال بعض الأعراب: مثل ذلك الأعرابي الذي بال في المسجد، فهم الصحابة به، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تزرموه دعوه لأنه إما أن يضر بنفسه إذا احتبس، وإما أن يهرب وهو يبول فتزداد النجاسة رقعة في الانتشار، وإما أن يعاندهم ويكمل، وهذا ما فيه زيادة على ما يحصل الآن؛ فلذلك أمرهم أن يتركوه فتركوه حتى بال، فلما قضى بوله أمر النبي ﷺ بذنوب من ماء فأهريق عليه، إذًا الأرض اللي فيها نجاسة كيف تطهر؟ نسكب الماء حتى تتشرب الأرض النجاسة، ونحن في الصلاة مخاطبون بطهارة البقعة، وهي سطح الأرض التي نصلي عليها، وليس باطن الأرض، فلو قال: أنا أصلي على الرصيف على الشارع، وتحت يوجد مجرى الصرف الذي يسمونه الصرف الصحي أيش الحكم؟ أصلي وتحت هذه البقعة يوجد بيارة، أو يوجد مجمع للنفايات، أو النجاسات أيش الحكم؟ الصلاة صحيحة؛ لأن العبرة بطهارة سطح الأرض وليس باطن الأرض، فأمر النبي ﷺ فأهريق الذنوب أو الدلو من ماء على بول الأعرابي، وقال عليه الصلاة والسلام: إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين [رواه البخاري: 6128، وأبو داود: 380].
وقال للأعرابي: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله ، والصلاة، وقراءة القرآن [رواه مسلم: 285].
قال أبو هريرة: فقام رسول الله ﷺ في صلاة، وقمنا معه، فقال الأعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا. في الصلاة.
فلما سلم النبي ﷺ قال للأعرابي: لقد حجرت واسعًا [رواه البخاري:6010].
وفي رواية ابن ماجه: فضحك رسول الله ﷺ وقال: لقد احتظرت واسعًا [رواه ابن ماجه: 529، وصححه الألباني صحيح ابن ماجة: 428]. يعني: ضيقت شيئًا واسعًا، وهو رحمة الله، وهذا نظرًا لجهل ذلك الأعرابي.
وضحك النبي ﷺ من تباين حال الرجل الذي واقع أهله في رمضان: فعن أبي هريرة قال: بينا نحن جلوس عند النبي ﷺ إذا جاء رجل فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: مالك؟، قال: وقعت على امرأتي، وأنا صائم، قال رسول الله ﷺ: هل تجد رقبة تعتقها؟، قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟، قال: لا، قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟، قال: لا، فمكث النبي ﷺ فبينا نحن على ذلك أتي النبي ﷺ بعرق فيها تمر"، والعرق المكتل، وهو الزنبيل يعمل من سعف النخل يسع قدر خمسة عشر صاعًا.
فقال: أين السائل؟، قال: أنا، قال: خذها فتصدق بها، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها -يعني حرتي المدينة- أهل بيت أفقر من أهل بيتي.
فضحك النبي ﷺ حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك [رواه البخاري: 1936، ومسلم: 1111].
فلماذا ضحك تعجب من حاله وطمعه، يعني جاء بذنب وخرج برزق، فتعجب من تباين حاله حيث جاء متحرقًا متلهفًا خائفًا مذنبًا، وخرج برزق وطعام له ولأهله، وهذا يدل على سعة رحمة الله تعالى.
وهناك قصة مشابهة وهي قصة المظاهر الذي وقع على امرأته قبل أن يكفر: فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا ظاهر من امرأته، -يعني قال: أنتِ عليّ كظهر أمي- فغشيها قبل أن يكفر مع أن الله ، قال: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا[المجادلة : 3]، يعني ما يجوز يقربها قبل أن يكفر كفارة مغلظة، وهذا ظاهر، ووطئ قبل أن يكفر- فأتي النبي ﷺ فذكر ذلك له.
فقال: ما حملك على ذلك يرحمك الله؟، فقال: يا رسول الله! رأيت بياض ساقها في ضوء القمر، فلم أملك نفسي أن وقعت عليها، فضحك رسول الله ﷺ، وأمره ألا يقربها حتى يكفر". [رواه الترمذي: 1214، وأبو داود: 2223]، وهو حديث صحيح. [حسنه الألباني صحيح وضعيف سنن الترمذي: 1199].
وضحكه تعجبًا من فعل هذا الرجل، وتبريره سبب الوقوع بهذا الكلام، أو رأيت خلخالها في ضوء القمر.
وجاء في بعض الروايات: أنه لما قال له: أعتق رقبة.
قال: لا أملك غير هذه" [رواه الترمذي: 3299، وصححه الألباني صحيح الترمذي: 2628].
وضحك النبي ﷺ من حلف الرجل على ابنه أنه ولده: فعن أبي رمثة قال: انطلقت أنا وأبي إلى رسول الله ﷺ، فلما كنا في بعض الطريق لقيناه، فقال لي أبي: يا بني هذا رسول الله ﷺ، قال: وكنت أحسب أن رسول الله ﷺ لا يشبه الناس"، يعني شكله الولد كانت يتصور شيئًا آخر "فإذا رجل له وفرة؛، يعني شعر الرأس إذا وصل شحمة الأذن، "بها ردع أثر الطيب من حناء، عليه بردان رداء يلبس فوق الثياب، أو كساء مخطط أخضران، قال: كأني أنظر إلى ساقيه. فقال ﷺ لأبي: ابنك هذا.
قال: أي ورب الكعبة" قال حقًا، قال: أشهد به، فتبسم رسول الله ﷺ ضاحكًا من ثبت شبهي في أبي، ومن حلف أبي عليّ، يعني المشابهة تغني ما كان في داعي يحلف، ثم قال: صدقت أما إنك لا تجني عليه ولا يجني عليك، وتلا رسول الله ﷺ: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 164]"، يعني حتى الأب والابن جناية كل واحد على نفسه، لا جناية الأب تلحق الابن، ولا جناية الابن تلحق الأب إذا لم يكن سببًا فيها. [رواه أبو داود: 4497]، وهو حديث صحيح [صححه الألباني صحيح وضعيف سنن أبي داود: 4495].
وضحك النبي ﷺ حين ذكر قصة الرجل الذي يكون آخر أهل الجنة دخولاً: فعن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا ًالجنة، وآخر أهل النار خروجًا منها، رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنها كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه، الآن الكبار ما هي موجودة، أزيلت من الصحيفة، فقط بقيت الصغار، هذا أمر الله للملائكة، فتعرض عليه صغار ذنوبه، فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيقول: نعم. لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، هذا الإنسان ممن أدركته رحمة رب العالمين ودخل في مشيئة الله بالعفو، ممن أراد الله أن يعفو عنهم، فيقال له يعني: بعد التقريرات هذه على الذنوب فإن لك مكان كل سيئة حسنة يبدل الله سيئاتهم حسنات فيقول: رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا، لما رأى التبديل قال: أين الباقي؟ فيقول الله يا رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا، قال: فلقد رأيت رسول الله ﷺ ضحك حتى بدت نواجذه". [رواه مسلم: 190].
وذلك من حرص ابن آدم لما رأى ذنوبه أشفق، لما تحولت إلى حسنات بعفو الله، قال: وين الباقي علشان تتحول، وهذا من كمال رحمة الله تعالى ولطفه بعبده المذنب.
وأخيرًا فإن النبي ﷺ قد حدثهم كما يقول ابن مسعود عن آخر من يدخل الجنة:
رجل فهو يمشي مرة، ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة ضرب وجهه وتسوده، وتجعل فيه آثرًا، فإذا ما جاوزها يعني: جاوز النار بعد الرحلة المضنية، بعد الرحلة الشاقة، خرج يعني يمشي، ويكبو، ويتعثر فإذا ما جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدًا من الأولين والآخرين ما يدري من الهول الذي رآه فترفع له شجرة، فيقول: أي رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها وأشرب من مائها. فيقول الله : يا بن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها، فيقول: لا يا رب، ويعاهده ألا يسأله غيرها، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها فيستظل بظلها ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى. فيقول: أي رب! أدنني من هذه لأشرب من مائها واستظل بظلها لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم! ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟ فيقول: لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها، فيعاهده ألا يسأله غيرها، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين. فيقول أي رب أدنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟ قال: بلى يا رب هذه لا أسألك غيرها، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فإذا أدناه منها فيسمع أصوات أهل الجنة، إذًا أصوات أهل الجنة تسمع من خارج فيقول: أي رب أدخلنيها، فيقول: يا ابن آدم ما يصريني منك يعني ما الذي يقطع مسألتك ما الذي يرضيك حتى لا تسأل شيئًا بعد ذلك أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يا رب أتستهزئ مني، وأنت رب العالمين.
فضحك ابن مسعود فقال:" ألا تسألوني مم أضحك؟
فقالوا: مم تضحك؟
قال: هكذا ضحك رسول الله ﷺ فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟
قال: من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر [رواه مسلم: 187].
وهذا الضحك من رسول الله ﷺ عجبًا وسرورًا بما حدثهم به من كمال رحمة الله ولطفه بعبده المذنب، وضحك ابن مسعود هو اقتداء بضحك النبي ﷺ.