وبعد أن انتهينا من الكلام عن أنواع التَّوحيد سنتكلم الآن على شهادة أن لا إله إلا الله، كلاماً مُجملاً وسريعاً، ثم ندخل إن شاء الله في الدَّرس القادم في قضية الإيمان ومفهومه ونواقضه، ونواقض الإيمان من أهم الأبواب في هذا العصر الذي كثرت فيها الكُفريات، وسيكون إن شاء الله التَّركيز على هذه القضية؛ لأنَّها قضيةٌ خطيرةٌ ومهمةٌ جداً وهي نواقض الإيمان، بعد ما نشرح الإيمان ومفهومه عند أهل السُّنَّة والجماعة.
شهادة أن لا إله إلا الله
شهادة أن لا إله إلا الله: هذا كلمةٌ أصلُ الدِّين وأساسه، ومعناها لا معبود بحق إلا الله كما بين الله تعالى في آيات كثيرة: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 23]. وفي قوله : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5]. وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة: 5].
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث، التي تضمَّنت إبطال عبادة غير الله، وإثبات العبادة لله وحده لا شريك له، فشهادة أن لا إله إلا الله إذاً هي معنى توحيد العبادة، فيُخطِأ من يُفسِّر: أشهد أن لا إله إلا الله يفسِّرها لا ربَّ إلا الله، ويخطأ من يُفسِّرها لا مطاع بحقٍ إلا الله، إذ لو كان هذا معنى الشَّهادة لما أنكرها المشركون، لأنَّهم يعلمون أنَّ الله ربَّهم وخالقهم، فإذا قالوا: لا ربَّ إلا الله متفقون نحن وإياهم، إذا قلنا هذا إذاً لماذا نقاتلهم ولماذا نعاديهم؟ وهم يعرفون أن طاعة الله واجبةٌ عليهم، فإذاً حتى تفسيرها بقولهم لا مطاع إلا الله أو لا ربَّ إلا الله خطأ، وهم مع معرفتهم أنَّهم لابُد أن يطيعوا الله، فلو سألت أبا جهل: هل يلزمك أن تطيع الله؟ لن يقول لا، لا يلزمني أن أطيع الله، ولا أعصيه سواء، فإذاً ما أنكروا شهادة أن لا إله إلا الله لهذا التَّعريف، ولا لذاك، وإنما لأجل أن معناه أن لا معبود بحق إلا الله؛ لأنَّ معناها أن عبادة آلهتهم باطلة، ولذلك رفضوا يقولون أشهد أن لا إله إلا الله.
إعراب كلمة: لا إله إلا الله:
أما بالنسبة لإعرابها:
لا: نافية للجنس.
إله: اسمها.
إلا: أداة استثناء ملغاة.
الله: ولفظ الجلالة مرفوع على البَدليَّة، لا إله إلا الله.
ذهب سيبويه إلى أنَّ لا، وإلهٌ: مُركبةٌ كتركيب خمسة عشر في موضع المبتدأ، والخبر، سيكون محذوفاً على القولين، يعني: لا إله إلا الله، فلو قلنا: هذا فيه مبتدأٌ، فالخبر محذوف، وكل محذوف لابد له من تقدير، فما هو تقدير الخبر؟ قال بعضهم: إنَّ تقدير الخبر لا إله في الوجود إلا الله، والتَّقدير عند المحققين لا إله بحق إلا الله، فالنُّحاة كثيراً ما يقولون لا إله أي: لا إله في الوجود، هذا تقدير الخبر، وأمَّا عند الموحدين المحققين لا إله بحق تقدير الخبر المحذوف بحق، وليس في الوجود، وفي الوجود خطأ لوجهين قال الشَّيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى: "مخالفته للواقع، ذلك أن في الوجود آلهة باطلة فكيف يقال لا إله في الوجود، والله سماها آلهة. [فتاوى نور على الدرب: 564].
كما قال : وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ [هود: 101].
ثانياً: أنَّ هذا التَّقدير موافق في الظَّاهر، لاحظ: لا إله في الوجود إلا الله، فإذا قلت: التَّقدير لا إله في الوجود فقد وافقت قول الاتحادين، فقد أشرنا إليه في الدرس الماضي، نحن نقول لا إله إلا الله، فأين تقدير المحذوف؟ لا إله بحقٍ إلا الله، والنُّحاة قالوا: تقديرها لا إله في الوجود إلا الله، إذا قلت بهذ القول وافقت الاتحاديين الذين يقولون لا إله في الوجود إلا الله، ولو أنَّ النُّحاة لم يقصدوا هذا، لكنَّه يؤدي إليه، مثل الأشاعرة لما قالوا: الله في كل مكان، فهم لا يعتقدون بعقيدة الاتحادية والحلولية وإلَّا لكفروا، بل هذه العبارة ممكن تجدها عند أهل الاتحاد والحلول حيث يقولون أنَّه في كل مكان، وهذه مقالة كفر وإلحاد ومناقضة للمعقول والمنقول، ولا يجوز مجاراتهم فيها، وكذلك فإنَّ شهادة أن لا إله إلا الله على مراتب، وهذا كلام مهم، تفسير: "شَهِدَ" مبنيٌ على معاني: قضى، وحكم، قال ثعلب والزجاج: بيّن، قالت طائفة: أخبر. [زاد المسير: 1/362].
فإذاً شَهِد معناها: قَضى وحَكَم وبيَّن وأخبَر.
مراتب شهادةأن لا إله إلا الله
وذلك لأنَّ الشَّهادة مراتب:
المرتبة الأولى: العلم، فكلمة: أشهد أن لا إله إلا الله تتضمَّن أموراً، فليست مجرد كلمة تُقال باللسان، بل لها مستلزمات، فلا تُسمى شهادةً ولا يجوز أن تقول أشهد إلا إذا عندك علم بالمشهود، كما قال : إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف: 86].
ثانياً: التَّكلم وإن لم يَعلم بها غيرك، فلا يجوز تقول أشهد حتى يوجد كلام، فلو قال قائل: أنا أضمرتها، وما أتلفَّظ، نقول: لم تدخل، ولا شهدت، ولا يُطلَق عليك أنَّك شهدت، قال الله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ[الزخرف: 19].
فقولهم الملائكة بنات الله تُعتَبر شهادةً، ولو ما أدُّوها إلى غيرهم، وما تلفَّظوا بها عند غيرهم، فهذا معناها.
ثالثاً: الإعلام: أشهدُ، فلما نقول: التَّكلم ما يشترط عند الغير، لكن الإخبار يُشترط في معنى الشَّهادة، ومرتبة الإعلام إمَّا بالقول، أو بالفعل، دليل القول ما جاء في الصحيحين عن ابن عباس : شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر [رواه البخاري: 581].
وشهد ماعزٌ على نفسه أربع مرات، رجمه النبي ﷺ [رواه البخاري: 6824، ومسلم: 1692]. إذاً الإعلام هو داخل فيها، وإذا عرفنا أنَّه بالقول فكيف يكون بالفعل؟ يكون بالعفل كما قال الله : مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ[التوبة: 17].
فإذاً شهادة الله لنفسه تكون بقوله وهو ما أرسل به رسله، وتكون بفعله وهي آياته في الأنفس والآفاق، وقال ابن كيسان: "شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عند خلقه أنه لا إله إلا هو". [تفسير القرآن الكريم لابن القيم: 1/181]. وكما قال الآخر:
وفي كل شيء له آية | تدل على أنه واحد |
رابعاً: مرتبة الحكم والإلزام، ودليلها قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 23]. وشهادتُه سبحانه مستلزمةٌ لهذه المراتب، بدليل صيغة النَّفي والإثبات، ولهذا إذا رأيت رجلاً يستفتي جاهلاً فقلت: ليس هذا المفتي، بل المفتي فلان، فإن هذا يتضمَّن أمرٌ منك ونهيٌ، نهي عن إتيان هذا الجاهل، وأمر منك بالذِّهاب إلى ذلك العالم، وأيضاً دلالة استحقاقه للوحدانية وأداء الحق لازم ومأمور به، وكذلك الجملة الخبرية تسمى حكماً، بدليل قوله : أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ[القلم: 35- 36].
أركان لا إله إلا الله
أما أركان لا إله إلا الله، اثنان: نفيٌ، وإثباتٌ، فالنَّفي في قوله: لا إله، حيث تنفي جميع ما يُعبد من دون الله، والإثبات في قوله: إلا الله، تُثبت العبادة له وحده لا شريك له .
وإثبات التَّوحيد بهذه الكلمة باعتبار النَّفي والإثبات، المقتضي للحصر هذا هو المعنى المطلوب لشهادة أن لا إله إلا الله.
شروط لا إله إلا الله
ما هي شروطها؟
شروط لا إله إلا الله مشهورة معروفة، وأشار إليها عدد من العلماء، الحافظ الحكمي رحمه الله:
أولاً: العلم المنافي للجهل، قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ[محمد: 19]. من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة [رواه مسلم: 26].
إذاً يشترط فيها أولاً العلم.
ثانياً: اليقين المنافي للشَّك، قال : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات: 15]. وقال ﷺ: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاكٍّ فيهما إلا دخل الجنَّة [رواه مسلم: 27].
وهذا معنى قوله في الرواية الأخرى: مستيقناً بها قلبه [رواه مسلم: 31]. إذاً هي مرتبة اليقين.
ثالثاً: الإخلاص المنافي للشِّرك، كما قال : وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة: 5]. وقال: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر: 3]. وقال عليه الصلاة والسلام عندما ذكر أسعد الناس بشفاعته يوم القيامة، فقال: الذي يقول لا إله إلا الله خالصاً من قلبه [رواه البخاري: 99].
رابعاً: الصِّدق المنافي للكذب، كما قال : وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ[الزمر: 33].
فما هو من جاء بالصدق وصدق به؟ فسَّر ابن عباس الصِّدق في الآية بلا إله إلا الله، وأيضاً يدل عليه حديث: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، صدقاً من قلبه، إلا حرمه الله على النَّار [رواه البخاري: 128].
خامساً: المحبَّة المنافية للبُّغض، قال : فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54]. وحديث: ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله [رواه البخاري: 16، ومسلم: 43].
سادساً: الانقياد لها ظاهراً وباطناً، كما قال : وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ[لقمان: 22]. وقال: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ[الزمر: 54].
سابعاً: القبول لها، كقوله : احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ[الصافات: 22]. إلى أن قال: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات: 35].[معارج القبول: 419- 424]. فلا يقبلونه.
فإذاً هذه الشروط السبعة:
علم يقين وإخلاص وصدقك مع | محبة وانقياد والقبول لها |
هي شروط أن لا إله إلا الله:
العلم واليقين والقبول | والانقياد فادري ما أقول |
والصدق والإخلاص والمحبة | وفقك الله لما أحبه، آمين |
وبهذا ينتهي درسنا في هذه الليلة، ونعود إن شاء الله في الدرس القادم مع الإيمان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.