الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وبعد:
معنى السلفية
فقد عرفنا في الدرس الماضي نبذة عن تعريف العقيدة، وماذا كان علماء السلف يطلقون عليها، وهم أهل السنة والجماعة، وهم أيضاً أهل الأثر، سموا بذلك لتمسكهم بالأثر، وهم أصحاب الحديث أيضاً.
دين النبي محمد أخبار | نعم المطية للفتى آثار |
لا ترغبن عن الحديث وأهله | فالرأي الليل والحديث نهار |
وهم أيضاً السلف الصالح رحمهم الله؛ لأنهم قد سبقونا، ولذلك فإن مصطلح السلف يُطلق ويراد به أحد معنيين:
الأول: حقبة تاريخية معينة تختص بأهل القرون الثلاثة الأولى المذكورين في حديث النبي ﷺ: خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم[رواه البخاري: 6429، بلفظ"خير الناس قرني].
الثاني: تطلق السلفية على الطريقة التي كان عليها الصحابة والتابعون ومن تبعهم بإحسان، من التمسك بالكتاب والسنة، وتقديمهما على ما سواهما، والعمل بهما على مقتضى الصحابة والسلف.
فالسلفية إذاً بالإطلاق الأول تكون مرحلة تاريخية انتهت بموت رجالها، وأما بالإطلاق الثاني وهو المشهور المستعمل في هذه الأيام بالنسبة لكل من يسير على طريقة السلف فهي: منهج باق إلى يوم القيامة، يصح الانتساب إليه متى التزم المنتسب بشروطه وقواعده، بحديث: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك [رواه مسلم: 1920].
وبناء على ذلك فإن كل متأخر عن زمن السلف لكنه على مذهبهم في الاعتقاد والعمل يكون سلفياً بالإطلاق الثاني وليس بالأول، فلو قلت: هل ابن تيمية رحمه الله سلفي؟ الجواب: نعم، بالنظر إلى طريقته واعتقاده رحمه الله.
وهؤلاء أهل الأثر، أهل الحديث، والسلفيون هم الطائفة المنصور، والفرقة الناجية التي أخبر النبي ﷺ أنهم باقون إلى قيام الساعة، ويطلق عليهم أيضاً الجماعة بعكس الافتراق، وهم الذين قال النبي ﷺ فيهم: يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار [رواه الترمذي: 2167، وقال الألباني: صحيح - دون : " ومن شذ.." ضعيف سنن الترمذي: 2269].
وقال: من فارق الجماعة شبراً فمات مات ميتة جاهلية [رواه البخاري: 7054]. وقال: كلها في النار إلا واحدة، أي: الفرق التي افترق عليها تفترق عليها هذه الملة، إلا واحدة وهي الجماعة [رواه ابن ماجه: 3993، وصححه الالباني في صحيح ابن ماجه: 3227].
وهي السواد الأعظم من أهل الإسلام، يدخل فيهم أهل العلم والاجتماع، والاجتهاد، وهم أيضاً جماعة المجتهدين، وجماعة الصحابة، وجماعة المسلمين المجتمعون على خليفتهم الذي يحكم فيهم بما أنزل الله، فيجب إذاً لزوم هذه الجماعة.
خصائص العقيدة السلفية
عرفنا في الدرس الماضي خصائص العقيدة السلفية التي يعتقدها هؤلاء السلف وأهل الأثر وأهل الحديث والسلفيون، هذه العقيدة التي يعتقدها أهل السنة والجماعة، عرفنا مزاياها وتبين لنا ويتبين أموراً منها:
أولاً: وحدة المصدر، والسلف لا يتلقَّون أمور دينهم إلا من مشكاة النبوة، لا عقل ولا ذوق، ولا كشف، مشكاة النبوة هي الأصل وهي المصدر، وعمر بن الخطاب لما كان بيده صحف من التوراة غضب النبي ﷺ على ذلك، فكيف بالذي يجعل مصدره قياساً عقلياً وخيالاً صوفياً، روى عبد الله بن ثابت أنه قال: جاء عمر بن الخطاب إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله! إني مررت بأخ لي من قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ فتغير وجه رسول الله ﷺ قال عبد الله: قلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله ﷺ، فقال عمر: رضينا بالله رباً، وبمحمد ﷺ رسولاً، وبالإسلام دينا، فسُري عن النبي ﷺ، ثم قال: والذي نفسي بيده، لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه، وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين [رواه أحمد: 15864، وحسنه الالباني في المشكاة: 194]. رواه الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
ولهذا الحديث شواهد، ومنها: ما جاء في بعضها: أمتهوكونفيها يا ابن الخطاب!، والتهوك هو التهور والوقوع في الأمر بغير بينه، والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، والذي نفسي بيده لو أن موسى ﷺ كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني [رواه أحمد: 15156، وحسن الالباني في المشكاة: 177].
وقد استفاد عمر من هذا الموقف فائدة عظيمة، فضرب رجلاً نسخ أحد الكتب السابقة، وأمر بمحو ما كتبه، يُمحى.
قال ابن عبد البر رحمه الله: "ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصاً في كتاب الله أو صح عن رسول الله ﷺ أو أجمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يُسلم له ولا يُناظر فيه ولا يُناقش" [جامع بيان العلم وفضله: 2/943].
مصادر التلقي في العقيدة
نحن نسير باتجاه معرفة مصادر التلقي؛ لأننا لما عرَفنا ميزات العقيدة الصحيحة في الدرس الماضي وثمارها وفوائد الاعتقاد بها، وعرفنا الآن أن العقيدة هذه واحدة، فما هي مصادر التلقي في العقيدة؟ لأن اختلاف المصادر الصحيحة يُنشَأ عنه اختلاف في العقائد، وهذا سيقودنا إلى قضية افتراق الفرق، ولذلك إذا أراد الواحد أن يعرف ما هي العقيدة الصحيحة، لا بد أن يعرف ما هي مصادر العقيدة الصحيحة، فحول هذا الحديث نتكلم في هذا الدرس، فعنوانه إذاً: مصادر تلقي العقيدة الصحيحة.
إن المنهج السلفي منهج توقيفي، يقوم على التسليم المطلق لنصوص الكتاب والسنة، لا تُرد ولا تُعارض، لا عقل، ولا بذوق، ولا بكشف، ولا بمنامات، ولا بغيرها، يقف المسلم حيث يقف به النص، ويدور مع النص حيث دار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ[الحجرات: 1]، لا تقدم عقلك، ولا تتقدم بقياس، ولا بذوق، وإنما تمتثل، وتقف عند النص.
قال الربيع بن خيثم: "يا عبد الله! ما علَّمك الله في كتَابه من علم، فاحمد الله، وما استؤثر عليك فيه من عِلم فكِلهُ إلى عالمه" [سير أعلام النبلاء: 4/259]. قل: الله أعلم، لا تتكلف، فإن الله يقول لنبيه: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86].
وقال الأوزاعي رحمه الله: "كان مكحول والزهري، يقولان: ارووا هذه الأحاديث كما جاءت" [جامع بيان العلم وفضله: 2/943].
ولا تتناظروا فيها، لكن غير أهل السنة أصَّلوا لأنفسهم قواعد حاكموا إليها النصوص، أهل السنة عرفوا معاني النصوص باللغة العربية، وعرفوا فهم النبي ﷺ والصحابة والسلف لهذه النصوص، ووقفوا عند هذا الفهم، من أناس عرب فقهاء، وقفوا عند هذا الفهم، هذا هو المطلوب، وآمنوا بما فيه وعملوا، وأهل البدع وضعوا قواعد، مأخوذة من منطق اليونان، ومن الأقيسة العقلية، ومن مصدر آخر جاهلي، وحاكموا النصوص إليها، فما وافق قواعدهم قبلوه، وما خالف قواعدهم ردوه، فكانت الطامة التي أدت بهم إلى رد النصوص، فأهل السنة والجماعة هم أصحاب العقيدة الصحيحة ومصادرهم واحدة، وهذا ما سنتكلم عليه بعد قليل إن شاء الله.
وقوف السلف عند النصوص
فمنهج السلف مبني على التوقف يقفون عند النص، لا يتجاوزونه، ولا يردونه، فإياك أن ترد نصاً، إذا جاءك أمر أو نهي ثابت صحيح فقل: سمعنا وأطعنا، هذا موقفنا، آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا[آل عمران: 7].
أما أهل البدع ردوا النصوص ولا يحسنوا معاملتها، فأحدثوا في دين الله مقالات شنيعة، قال يونس بن عبد الأعلى: "سمعت الشافعي يوم ناظره حفص الفرد -من المبتدعة- قال لي: يا أبا موسى لقد سمعت من حفص كلام لا أقدر أن أحكيه" [كتاب الاعتصام للشاطبي: 2/82].
وقال بعضهم عن شخص من هذا النوع: "لقد قال كلاماً خشيت أن يقع عليّ وعليه البيت" [جامع بيان العلم وفضله: 2/192].
فهكذا كان نفور السلف من الناس الذين عندهم إشارات أو تصريحات برد النصوص، ولذلك لما قال العباس: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم: قال رسول الله، وتقولون قال أبو بكر وعمر" [إعلام الموقعين: 2/238].
فكيف بالذين إذا قلت لهم اليوم: قال رسول الله، يقولون: قال أرسطوا، قال المعلم الأول، قال فلان، قال المنطق، قالت قواعد الفلسفة، فهؤلاء أولى بأن تنزل عليهم حجارة من السماء، وكان منهج السلف في العقيدة يقوم على تجنب الدخول في الجدل، والخصومة في الدين، والمقصود بالجدل هو الباطل، وليس وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل: 125] المراء، فكان موقفهم موقفاً واضحاً وصريحاً، ولذلك لم يكونوا يرضوا أن يكون هناك جدل في النصوص، صبيغ بن عِسل رجلٌ قام بين المسلمين يدور المجالس، ويطرح أسئلة تشكيكية، يقول: ما هي المرسلات عرفا؟ ما هي العاصفات؟، يسأل وينظر في الأشياء التي فيها تشابه ليثيرها في المجلس، ليشكك الناس، كان ينظر في الأشياء التي فيها تشابه يطرحها، سمع بذلك عمر بن الخطاب ، ولم يكن أحد يتجرأ في عهد عمر بن الخطاب أن يرفع رأسه ببدعه؛ لأن موقف عمر كان صارماً وواضحاً قوياً، فبعث إليه عمر أن تعال يا صبيغ، فجاء صبيغ بن عِسل، فقال له عمر اجلس جلس، ثم قال عمر: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، قال له عمر: وأنا عبد الله عمر، وكان عمر قد أعد له عراجين النخل، فأخذ عمر عراجين النخل فلا زال يضربه بها على رأسه حتى شجه وسال الدم على رأس صبيغ ووجهه، حتى قال: حسبك يا أمير المؤمنين، فوالله لقد ذهب الذي في رأسي"[كنز العمال: 4170].
فما وقف عمر عند هذا، بل أرسله ونفاه إلى بلد آخر بعيد، وكتب إلى أميره إلى تلك البلد أن يُقَاطع صبيغ، ولا يُكلَّم، حتى أرسل إليه التماساً بعد مدة يقول الرجل مريض يكاد يموت، كان مُقَاطعاً من جميع الناس، ما استطاع أحد في عهد عمر أن يرفع رأسه ببدعة، ولا يتكلم ببدعة؛ لأن الموقف من مُثيري الشكوك والشبهات واضح، لكن اليوم في القنوات الفضائية والوسائل المقروءة والمرئية دائماً إثارة شبهات، ليس على طريقة صبيغ بن عِسل، يُثير عند العامة كلمات القرآن لها عدة معاني، هذه تعارض هذه، وإنما في القواعد، والأسس والثوابت، والتشكيك في أصول الدين، قال مالك بن أنس: "الكلام في الدين أكرهه"، يقصد هذه المجادلات،"لم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه" [جامع بيان العلم وفضله 2/938]، وهذا الوضع الذي كان في حال وزمن عافية الأمة، هو الذي أدى إلى أن تكون الأمة في ذلك الوقت مرهوبة منتصرة مسيطرة محترمة من جميع الأمم، قاهرة وقوية.
إتفاق السلف في أمور العقيدة رغم اختلاف بلدانهم
ومما يلاحظ كذلك اتفاق السلف في أمور العقيدة، لا يؤلف أحد من السلف كتاباً في العقيدة، أو من أهل الحديث إلا وتتفق مصنفاتهم من أولهم إلى آخرهم، قديمهم أو حديثهم مع اختلاف بلدانهم ولسانهم ولغاتهم، إذا ألَّفوا في المعتقد جروا على طريقة واحدة لا يحيدون عنها، فتجد قولهم ونقلهم واحد، لا ترى فيما يقولونه اختلافاً، إذا واحد من المشرق من السلف ألَّف كتاباً في العقيدة يُثبت رؤية الله في الآخرة، أو الأسماء والصفات، يقول: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، والآخر في المغرب يؤلف في العقيدة الصحيحة يقول بذاك الكلام، فنجد أن هناك اتفاق بين أهل السنة والجماعة على أمور العقيدة، ومنهجهم في ذلك منهج وسط، ففي الأسماء والصفات وسط بين أهل التعطيل الذين ألحدوا في آيات الأسماء والصفات، وبين أهل التمثيل الذين شبهوا الله بالمخلوقات، أناسٌ قالوا ليس له يد، وأناس قالوا يده مثل أيدينا، فأهل السنة وسط، قالوا له يد تليق بجلاله وعظمته ليست كأيدينا، أهل التعطيل قالوا ليس له وجه، وأولئك قالوا له وجه كوجوهنا، فأهل السنة وسط يقولون: له وجه يليق بجلاله وعظمته، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ[الرحمن: 27]. ليس كوجوهنا، لا يشبه المخلوقات ، في باب القدر قامت طائفة تقول: لا قدر، كذبوا بقدرة الله، وكذبوا بعلمه، أنكروا مشيئته، أنكروا اختياره، أنكروا خلقه لأفعال العباد، فناس قالوا مثلاً: لا قدر، ما علمها ولا كتبها، وناس قالوا المخلوق يخلق فعله بنفسه، قام أهل السُّنة يقولون: القدر حق، والله علمه وكتبه وشاءه، وخلق أفعال العبد، الجبرية قالوا: مجبور المخلوق لا مشيئة له، فقال أهل السنة: والمخلوق له مشيئة واختيار وإرادة، وبناء على ذلك يتم التكليف والمحاسبة عند الله، فأثبتوا القدر وعلم الله ومشيئة وخلق أفعال العباد، وأثبتوا مشيئة واختيار وإرادة العبد، وأن له إرادة يُحاسب عليها ويُكلَّف فيها، أيضاً في قضية مرتكب الكبيرة، المرجئة تقول: إيمانه كامل، والخوارج تقول: كافر، أما أهل السُّنة قالوا: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، فهو مؤمن والإيمان يزيد وينقص، فبقدر ما عنده من الإيمان يكون مؤمناً، وناقص الإيمان بكبيرته وبفسقه، وهل يخلد في النار عندهم؟ لا، فليس أهل السُّنَّة مثل الخوارج، وهل إيمانه كامل مثل إيمان جبريل وميكائيل؟ لا؛ لأن إيمانه نقص بالمعصية.
لم يكن لهذه العقيدة تلك الميزات والوحدة في العقيدة الوسطية، إلا نتيجة أخذ صحيح من مصدر صحيح.
مصادر التلقي للعقيدة عند أهل السُّنَّة والجماعة
فما هي مصادر التلقي للعقيدة الصحيحة عند أهل السنة؟.
مصادر التلقي للعقيدة الصحيحة تنقسم إلى قسمين: مصادر رئيسة، ومصادر ثانوية، لا تقوم بمقامها لا بد أن تكون مع غيرها.
المصادر الرئيسة في التلقي
وهناك مصدر أصيل رئيس، ومصادر ثانوية يؤخذ منها لكن لا تستقل، ما هي المصادر الرئيسة؟ الكتاب، والسنة والإجماع، هي ثلاثة، ما هي المصادر الثانوية: العقل الصحيح، والفطرة السليمة.
القياس في مسائل العقيدة
لو قال قائل: أين القياس؟ فالجواب: القياس وإن كان من جملة أدلة التشريع من الناحية الأصولية إلا أن الفرق في أن القياس الأصولي لا يصح في مسائل الاعتقاد، أليس القياس إلحاق واقعة لا نص على حكمها بواقعة ورد نص في حكمها، أي: بينهم اشتراك في علة، فتُلِحق الذي ليس فيه نص بالذي فيه نص إذا وجدت العلة الجامعة بينهما، فهل يُقَاس في مسائل العقيدة؟ تقول مثلاً: بما أنه ثبت لله صفة كذا إذاً نُثبت له صفة كذا بصفةٍ ما ثبتت بالقرآن والسنة فقط بالقياس، هل يمكن مثلاً تثبت في الجنة شيء بالقياس؟ تثبت في النار شيء بالقياس؟ إذاً القياس في قضايا العقيدة لا يصح، لا يؤخذ منه حكم بل يؤخذ بواسطته الحكم الشرعي، حتى في الفقه القياس لا يؤخذ الحكم منه ولكن يؤخذ بواسطته، فالقياس هو واسطة وليس مصدر، القياس آلية تُستعمل فتقيس شيء ليس معلوم الحكم على شيء معلوم بالكتاب والسنة، فإذاً رجعنا في النهاية إلى الكتاب والسنة، هذا في الأحكام الفقهية، يجوز القياس وهو آلية ليس مصدراً بذاته، أو منه نأخذ الحكم، ولكن بواسطته نأخذ الحكم، ونقيس على أشياء في الكتاب والسنة معروفة الحكم، إذاً رجعنا للكتاب والسنة.
فلا قياس في مسائل الاعتقاد، ولكن القياس في مسائل الفقه، كأن تقول: ما حكم الكحول؟ محرمة، لماذا؟ لأنها مسكرة، جامع بينها وبين الخمر الإسكار، خمر العنب مسكر حرام بالنص، الكحول هذه كيماوي ليس فيه عنب، معمولة في المختبرات مُسكرة لا تجوز، قياساً على الخمر، إذاً في الأمور الحياتية الدنيوية، وفي القضايا والوقائع والأحداث، وفي المسائل المستجدات يمكن أن تقيس، لكن في أمور الغيب، وفي صفات الله والجنة في النار، قضايا الاعتقاد لا قياس، ولذلك لا يُذكر هنا في هذا الباب، فيقال: مصادر العقيدة، القرآن والسنة، وما أجمعت عليه الأمة، وسيتبين أن الإجماع لا يكون إلا بدليل، على الراجح، نرجع إلى الكتاب والسنة مرة أخرى؛ لأنك لم تجد مسألة فيها إجماع، وليس فيها دليل من الكتاب والسنة، فالإجماع يزيد المسألة قوة، وليس مستقل عن الكتاب والسنة، فنرجع في الحقيقة إلى الكتاب والسنة.
المصادر الثانوية في التلقي
والمصادر الثانوية قلنا: العقل الصحيح، والفطرة السليمة، وأن العقل الصحيح والفطرة السليمة لا تستقلان وإنما هما يعملان على ضوء الكتاب والسنة، وإذا استقل العقل يفسد، ولا يمكن أن تأخذ منه أموراً في العقيدة بدون ما يكون يعمل على ضوء الكتاب والسنة.
المصدر الأول من مصادر العقيدة: القرءآن الكريم
أما بالنسبة للقرآن الكريم، وهو المصدر الأول من مصادر العقيدة، القرآن من مادة قرأ؛ قرأت الشيء جمعته، وضممت بعضه إلى بعض، فهو قرآن، سُمي لأنه يجمع الصور ويضمها، قال الله تعالى: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ[القيامة: 17].
وكذلك القرآن يُتلى بعضه في إثر بعض، حتى يجتمع وينضم بعضه إلى بعض، هذا القرآن هو: اسم لكلام الله تعالى المنزل على عبده محمد ﷺ، ويُطلق على كتاب الله خاصة ولا يُسمى به شيء غيره من سائر الكتب، تسمى التوراة، تسمى إنجيل، تسمى زبور، أما القرآن فهو الذي نُزل على محمد ﷺ خاصة، وهو كلام الله، وإضافة الكلام إلى الله إضافة حقيقية من باب إضافة الكلام إلى قائله، كلام الله هو الذي قاله، وهو المعجز، الصحابة كانوا يقولون قرآن، فلما ظهر الخوض في صفات الله، وفي كلام الله بالذات من قِبل المعتزلة والزنادقة وفرق المبتدعة صار السلف في كتب المعتقد إذا جاءوا عند القرآن يشرحون، ويكتبون جُملاً.
يقول أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في المعتقد الذي كتبه: "وأن القرآن كلام الله، منه بدأ بلا كيفية قولاً، منه بدأ قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر". [شرح الطحاوية: 1/327].
فمثل هذا التفصيل لا تجد مثلاً أبو بكر أو عمر إذا قال واحد منهم كلمة قرآن للناس يشرح هذا الشرح، لماذا؟ لأنه ما ثارت قضية خلق القرآن في عهد أبي بكر وعمر، فلماذا يشرح هذا الشرح، لكن لما أُثيرت القضية في زمان الإمام أحمد رحمه الله قام المعتزلة بذلك والزنادقة صار لابد من البيان؛ لأن الله أخذ من العلماء العهد أن يُبين فصاروا إذا ذُكرت كلمة قرآن يشرحون هذا الشرح، كلام الله حقيقة حرفاً وصوتاً منزل غير مخلوق قاله حرفاً وصوتاً ، ليس مثل كلام البشر.
هذا الكلام كلام الله تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النمل: 6]، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا[يوسف:2 ]، وقال ﷺ: ما من الأنبياء نبي إلا أُعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيه وحياً أوحاه الله إليّ فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة [رواه البخاري: 4981، ومسلم: 152].
ما هو مصدر القرآن؟ من الله، من الذي تكلم به ابتداءً؟ الله تكلَّم بالقرآن، قال الكفار: إنه من عند النبي ﷺ، وهو الذي قاله، وهو الذي ألَّفه، والمستشرقون كذلك قالوا: كلام من رجل ذكي بليغ، فيُقال قد أعجز البلغاء والفصحاء، لو كان من رجل بليغ فهناك رجال بلغاء، فلماذا لم يأتوا بمثله، لماذا لم يأتوا بقريب منه؟ تحداهم أن يأتوا بمثله ما استطاعوا، خفَّض قال عشر سور، ما استطاعوا، فأتوا بسورة ما استطاعوا، فنادى عليهم بالعجز إلى قيام الساعة جناً وإنساً فقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا[الإسراء: 88].
والرجل مهما بلغ ذكاؤه، وصفت سريرته كيف يذكر الأحوال التفصيلية الدقيقة للأمم الغابرة، تفاصيل ما حدث بين يوسف وامرأة العزيز وبينهما الآلاف السنين، كيف يجيب هذه، وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [آل عمران: 44]، وكذلك فإن في القرآن غيبيات ظهرت فيما بعد، فكيف يعرف رجل أن هناك بأشياء غيبية ستقع، ويذكرها في كلامه وشيء يقع بعد سنوات: غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ[الروم: 3].
وشيء يقع بعد موته، أو قرب قيام الساعة، كيف؟ ثم أنتم تقولون أن القرآن كلامه، وتزعمون أنه كلامه كلام بشر هو يقول هذا ليس كلامي، بل هذا كلام الله، قل هو من عند الله، ولما قالوا يُعلِّمه بشر، كفار قريش، قالوا: نجار رومي بمكة، عرفنا من أين أتى بالقرآن، رأيناه يذهب ويجلس عند نجار من الروم بمكة، فقال الله تعالى رداً عليهم: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل: 103].
كيف لشخص رومي يأتي بهذا القرآن الذي عجز بلغاء العرب أن يأتوا بمثله، وهكذا تولى الله الرد عليهم في هذه الفرية، ودحض الشبهات والأغاليط.
العقيدة السلفية محفوظة بحفظ الله للقرآن الكريم
من رحمة الله بهذه الأمة أنه لما جعل العقيدة والشريعة مصدرها كتاب ربها حفظ لهم المصدر؛ لكي تبقى العقيدة السلفية وتبقى الشريعة الإسلامية حفظ الله لهم المصدر، هذه فيها نعمة بليغة جداً حفظ المصدر، الله ينعم علينا نحن المسلمين بنعمة عظيمة أنه أبقى لنا مصدر العقيدة والشريعة لا تبديل ولا تغيير ولا تحريف ولا زيادة ولا نقصان، بل هو باق منذ أنزله على نبيه ﷺ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر:9]، وكان هناك أشياء قدّرها الله لحفظ القرآن في العهد النبوي، وأشياء قدّرها لحفظ القرآن بعد العهد النبوي، فمثلاً: الطريقة التي كان ينزل فيها الوحي كانت طريقة مميزة للنبي ﷺ، كيف يأتيك الوحي يا رسول الله؟ قال: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليّ فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما أقول [رواه البخاري: 2، ومسلم: 2333]. إذاً من الحفظ:
طُرُق حفظ النبي عليه الصَّلاة والسَّلام للوحي
أولاً: أن النبي ﷺ عندما ينزل الوحي يميز أن هذا وحي، وقرآن ينزل، ولا تستطيع الشياطين أن تلقي أشياء، ولذلك إذا نزل عليه الوحي انشغل انشغال تام، ويكون ثقيلاً عليه حتى يتفصد جبينه من العرق في الليلة الشاتية الباردة، ولا يكون مع من حوله، والصحابة يعرفون أنه الوحي ينزل فيعم المجلس السكون والإطراق حتى يُسرى عنه فيعرفون الوحي انتهى، وله حال يميزونه، وللنبي ﷺ وقت نزول الوحي غطيط كغطيط البكر، البكر الإبل في السن المعينة، ويتفصد جبينه عرق حتى يُسرى عنه. [رواه البخاري: 1789، ومسلم: 1180].
ثانياً: أنه يُرسل إليه الملك يدارسه القرآن كل سنه لحفظ هذ المصدر، فيُرسَل جبريل في كل سنة في شهر رمضان يذاكره القرآن حتى كان في آخر عام في وفاته ذاكره القرآن مرتين، حتى تأكد أنه لا توجد زيادة حرف ولا نقصان.
ثالثاً: ثم كتابة الوحي ومقابلته، فكان للنبي عليه الصلاة والسلام كُتَّاب يكتبون الوحي فيما تيسر لديهم من قطع الأكتاف والألواح، هذه الكتابة غير الحفظ، طريقة إضافية لبقاء القرآن محفوظاً.
رابعاً: منع كتابة أي شيء غير القرآن، وقال لأصحابه: لا تكبتوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمح [رواه مسلم: 3004].
حتى لا يختلط القرآن بالسنة، في آخر حياته سمح بكتابة السنة لما خرج أعداد من الحفاظ، تخرجوا في آخر عمره سمح بداية الكتاب، اكتبوا لأبي شاه [رواه البخاري: 2435، ومسلم: 1355]. شيء بسيط.
خامساً: حَضَّ الأمة على تَعلُّم القرآن وتعلِيمه وخيركم من تعلم القرآن وعلمه [رواه البخاري: 5027]. وكانوا إذا حفظ رجل فيهم سورة البقرة نبغ في أعينهم، وقال: ما معك؟ قال: سورة البقرة، قال: اذهب فأنت أميرهم[رواه الترمذي: 2876، وضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي: 541]، غير هذا القرآن قدّر الله أن ينزل على العرب في أوج حفظهم، أمةٌ أميَّةٌ لا تكتب كان العرب حفظهم قوياً جداً يقرأ القصيدة أمامهم فيحفظونها من أول مرة، إعتماداً على السمع، لا يكتب إلا النادر القليل ومن هؤلاء القليل كتبة الوحي، لكن الأكثرية حُفَّاظ يحفظون، لا يكاد يوجد في الأمم مثيل لهم في الحفظ، وهكذا كثُر آخذوا القرآن صدراً وسطراً حتى تم حفظ القرآن في عهده ﷺ، صدراً وسطراً.
حفظ الصحابة للقرآن بعد وفاة النبي عليه الصَّلاة والسَّلام
وبعد وفاته ﷺ تجلَّى تقدير الله بأن يجعل حفظ القرآن في حادثتين عظيمتين، جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق لما استحرّ القتل في القراء يوم اليمامة في حرب مسيلمة، فاقُترح على أبي بكر القيام بجمع القرآن؛ لأن كثير من الحفَّاظ قُتلوا شهداء في المعارك، فكوَّن لجنةً وهذا دليل على جواز مشروعية تكوين اللجان للقيام بالمهمات، واستدعى الخبير الحافظ الشاب المتيقض المتوقد ذاكرة وذكاء زيد بن ثابت، فقال له: "إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله ﷺ فتتبع القرآن فاجمعه"، قال: "فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به في جمع القرآن، فبدأ يجمعه من العُسب واللخاف وصدور الرجال، وهكذا تمت عملية الجمع الأولى، والعسب جمع عسيب جريد النخل. [رواه البخاري: 4986].
الحادثة الثانية: في عهد الخليفة الثالث عثمان رضي الله تعالى عنه لما سمع حذيفة أن في فتوح أرمينه وأرذبيجان نتيجة دخول الأعاجم بدأ بعض الأعاجم تُشكل عليهم قضية نزول القرآن على سبعة أحرف، بدأت تُشكَل عليهم، يصير بينهم شيء من الاختلاف، فنزول القرآن على سبعة أحرف تيسيراً على الأمة، فاقترح حذيفة على عثمان قال: "يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف التي عندك من أبيك، كان أبوها قد أخذها من أبي بكر، وأبو بكر جمعها مع زيد، ثم جيء بزيد بن ثابت مرة أخرى ، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص -لجنة أخرى- لأخذ هذه الأشياء المجموعة ونسخها في كتاب واحد، جُمع في الجمع الأول من اللخاف والعُسب وصدور الرجال، فتم نسخ هذه الأشياء في عدة مصاحف، كتاب واحد وينسخ عدة نسخ، في عهد أبي بكر نسخة واحدة، الآن عدة نسخ، ثم أرسل عثمان إلى كل مصر من أمصار المسلمين رئيسي بنسخة لتكون هي المعتمدة يرجعون إليها؛ لأنه دخل في الإسلام أعاجم، ما صار الميزات مثل أول، وأمر بإحراق ما سوى ذلك من الأوراق والأشياء المتفرقة هنا وهنا حتى لا يشكل عليهم شيء. [رواه البخاري: 4987].
وهكذا تمت العملية، وبقي القرآن سليماً من التحريف، الأجيال تحفظه جيلاً بعد جيل، مصداقاً لقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9].
وصار القرآن نقلاً متواتراً، والقرآن هو مصدر الأول من مصادر العقيدة، وبما أن الله قد حفظه فإذاً كل ما يؤخذ منه بعد ذلك في أمور العقيدة فهو معتمد ومستند إلى ركن ركين وأساس ثابت.
هذا القرآن من أعظم ما أنعم الله به على هذه الأمة، قال شيخ الإسلام: "من أعظم ما أنعم الله به عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد أن يعارض القرآن لا برأيه ولا ذوقه ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وجده، فالقرآن يهدي للتي هي أقوم، فيه نبأ من قبلهم وخبر ما بعدهم، وحكم ما بينهم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين وهو الذكر الكريم وهو الصراط المستقيم". [مجموع الفتاوى: 13/28].
فكان هذا القرآن هو الإمام الذي يُقتدى به، ولا يوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل، ولا رأي ولا قياس، ولا ذوق، ولا مكاشفة، وهذا القرآن تلقاه السلف بتفسيره حتى أن مجاهد عرض القرآن على ابن عباس ثلاث مرات يوقفه عند كل آية يسأله عنها فتلقوا الألفاظ والتفسير، فحفظ الله تعالى القرآن نصاً وتفسيراً.
المصدر الثاني من مصادر العقيدة: السنة النبوية
المصدر الثاني من مصادر العقيدة: السنة النبوية، السنة في اللغة هي الطريقة والسيرة، سواء كانت حسنة أم سيئة.
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها | فأول راض سنة من سيرها |
وقال ﷺ: من سن في الإسلام سنة حسنة [رواه مسلم: 1017]، الطريقة الحسنة، وأما في الاصطلاح: فإنها تختلف باختلاف نوع العلم الذي يُعرف أصحابه السُّنَّة، فإذا كانت عند المحدثين، يقولون: ما أُثر عن النبي ﷺ من قول أو عمل أو تقرير أو صفة خُلقية أو خِلقية أو سيرة سواء كانت قبل البعثة أو بعدها إلخ.
السنة عند الأصوليين: ما نقل عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير، فنظروا إلى السنة من جهة كونها مصدراً أو دليلاً، ولهذا يطلقون عليها الدليل.
عند الفقهاء: إذا قلت كلمة سنة المقصود بها المستحب ليس الفرض ولا الواجب، وقد تطلق السنة في مقابل البدعة أيضاً عند الكلام في موضوع أهل البدع.
السنة وحي من الله لا شك في ذلك، والله يُلقي في نفس نبيه وحي، فيقوله بكلامه ، فتُنسب إلى النبي ﷺ؛ لأنه مُنشأ اللفظ لكن المعنى من الله قطعاً، ألم ترى أنه ﷺ قال: إن الروح الأمين قد ألقى في روعي أن لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فأجملوا في الطلب [رواه البزار: 2914، وقال الالباني: "حسن صحيح" صحيح الترغيب والترهيب: 1702].
الروح الأمين: جبريل، ألقى في روعي، إذاً معناها المعنى هذا من الله جاي وحي من الله، وهناك أدلة كثيرة على أن السنة من الوحي كما قال الله: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 4].
وقال لعمرو بن العاص: اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق [رواه أبو داود: 3648، وأحمد: 6802، وصححه الالباني في الجامع الصغير: 2076].
وكذلك قال تعالى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب: 34].
قال الشافعي رحمه الله: "فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله ﷺ"[الرسالة 78].
قال ﷺ: ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه [رواه أحمد: 17174، وصححه الألباني في مشاة المصابيح: 163].
ما المقصود بمثله؟ السنة، فلا شك إذاً أن السنة من الوحي، ولا يخالف في هذا إلا رجل من المبطلين.
حفظ الله لسُّنَّة نبيه عليه الصَّلاة والسَّلام
من نِعم الله علينا أنه حفظ لنا السُّنَّة، بأشياء متعددة، في عهده ، وبعد عهده ، ففي عهده ﷺ كان يقول الكلمة ويعيدها ثلاث مرات حتى تُفهم عنه، وكان يقوله مترسلاً متمهلاً حتى لو شَاء العادُّ أن يحصيه أحصاه، هذا كله لحفظ السُّنة، وأيضاً رغب عليه الصلاة والسلام في طلب العلم وسماع الحديث، وقال: نضَّر الله امرئ سمع مقالتي فوعاها فحفظها فأداها [رواه الطبراني في الكبير: 1544، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح].
حثًّ على الحفظ والفهم والوعي والتأدية أيضاً.
ثم توعَّد بالنار من كتمه، قال: من سُئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار [رواه أحمد: 7571، والترمذي: 2649، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 223].
ثم توعد بالوعيد الشديد على من كذب عليه من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار [رواه البخاري: 107، ومسلم: 3].
كم من الأشياء ردها هذا الحديث؛ لأن هذا صار نوعاً من الموعظة في الأمة لا أحد يفتري، ولا يقول كذباً بسبب شدّة الوعيد، ثم الصحابة الذين سمعوا هذه الأحاديث كانت حافظتهم وذاكرتهم قويةً جداً، فحفظوه، ولذلك يقول الصحابي مثلاً في أحد الأحاديث: سمعته أُذناي ووعاه قلبي [رواه البخاري: 104، ومسلم: 1354].
وكانت عائشة رضي الله عنها لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه. [رواه البخاري: 103]، وقال أنس : "كنا نكون عند النبي ﷺ فنسمع منه الحديث، فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه" [الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 464].
ثم إنه ﷺ دعا لبعض أصحابه دعاء خاصاً مثل أبي هريرة أنه لا يسمع شيئاً فينساه، قال: أبسط رداءك، فسبطته، فغرف بيديه، ثم قال: ضمهفضممته، فما نسيت شيئاً بعده. [رواه البخاري: 119].
ثم احتياط الصحابة في رواية الحديث وتثبتهم، كل واحد يسأل عن شيء يرده إلى أخيه، أحياناً ويسمع الشيء من عدة مصادر ويصدق الصحابة بعضهم بعضاً، بل إن الصحابة أنفسهم رحلوا في طلب الحديث حتى رحل بعضهم شهراً ليسمع حديثاً واحداً، ثم منهم من كتبه، كما كان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: "كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله ﷺ أريد حفظه فنهتني قريش، وقالوا النبي ﷺ يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك للرسول ﷺ فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق [رواه أبو داود: 3648، وأحمد: 6802، وصححه الالباني في الجامع الصغير: 2076].
حفظ التابعين للسَّنة
وهكذا بعد النبي ﷺ استمرت عملية حفظ السنة، فاهتم التابعون بتلقي السُّنة من الصحابة اهتماماً عظيماً، وجاءوا زرافات ووحداناً إلى الصحابة المشهورين بالحديث يتلقون عنهم الحديث، ويتتبعون الصحابة يأخذونه من أفواههم، ويستعينون على حفظ الأحاديث بالمذاكرة والكتابة، مع ما أعطاهم الله من الدّقّة والضبط والحفظ والفهم والورع والتقوى، وفي عهد عمر بن عبد العزيز دوَّنت السُّنة، وأمرَ أبا بكر بن حزم، وابن شهاب الزهري بجمع الأحاديث خشية ذهاب العلماء وموتهم، ثم صار عصر التصنيف فجمعت في الجوامع والمسانيد على الأبواب المختلفة مثل: باب الصلاة، باب الجهاد، باب الإيمان، باب الفتن وغير ذلك، وكذلك صار عندنا صحيح البخاري وصحيح مسلم وموطأ مالك، وأصحاب السنن وجُمعت الأحاديث على مسانيد الصحابة كما هو حال مسند الإمام أحمد رحمه الله.
ثم قامت عملية الصيانة من الدخيل، والرَّد على كل من يحاول الكذب والافتراء بالبواعث المختلفة من التعصب والتحسب والانتصار للمذاهب، وتأييد البدعة أو التَّكَّسب المادي، وغير ذلك من الأسباب، فلما صار حركة الوضع نشأت مباشرة أجسام مضادة، مثل ما تدخل أجسام غريبة للجسم فتأتي كرات الدم البيضاء تحيط بها فتفتك بها، وهكذا لما بدأت تدخل في الجسم الإسلامي أشياء دخيلة في حركة الوضع مباشرة نشأت حركة مضادة في كشف الكذابين وتُبيِّين أمرهم وفضحهم، والكلام في كل حديث بيان صحته في مجال الأسانيد عَنوا بمعرفة الرواة، وضبط الأسماء والكنة والألقاب والأنساب والتواريخ، ومعرفة الشيخ والطلاب وسنة الوفاة وتسجيل الرحلات، والأحوال والأخلاق، وقيل في فلان صدوق، وفلان ثقة، وفلان كذاب، وفلان ضعيف، وسيء الحفظ، ونحو ذلك، وحتى في قضية سلامة المتون من التحريف، جاء واحد قال: حدثني يا شيخ حديث الذي نُشرت في أبيه القصة، قبل أن يكون هناك تنقيط نقط النون والباء والياء والتاء، قال: "ويحك، إنه حديث الذي شرب في آنية الفضة، يشرب". [الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 626].
تحرفت إلى نُشرت، في آنية: أبيه، الفضة: القصة عند هذا المغفل، وهكذا قضية سلامة المتون، ولما دُخل على هارون الرشيد بذلك الدجال الكذاب قال: مؤيس بن هارون، أين أنت من أربعة آلاف حديث وضعتها تسير بين الناس، قال: أين أنت من ابن المبارك وفلان وفلان ينخلانها حرفاً حرفا، حتى لو دسيت ستُكتشف. [تحذير الخواص: 1/163].
حجية السُّنَّة في التّلقي
وهكذا صارت سنة النبي ﷺ محفوظة، وحُفظت وهي حجة، وحُجية السنة لا شك فيها وبيان ذلك في قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [محمد: 33].
وحذر من مخالفتها: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور: 63]، عن أمر محمد ﷺ، أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63].
وجُعلت طاعة رسوله من لوازم الإيمان: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء: 65].
وأمر عباده بالاستجابة لرسوله: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال: 24]. وأمرهم برد ما تنازعوا فيه إلى نبيهم: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59].
ولذلك لما قامت حركة القرآنيين، ونسبتهم إلى القرآن نسبة تجاوز وإلّا لو كانوا قرآنيين لعملوا بما في القرآن: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ[محمد: 33].
لكن ما عملوا، فهذه الحركة قديمة، أناس يقولون لا نأخذ إلا ما في القرآن، السنة لا نعترف بها، والنبي ﷺ من علامات نبوته أنه أخبر بهذا الصنف أنه سيوجد، وقال: لا أولفين أحدكم متكأً على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه [رواه أبو داود :4607، وابن ماجه: 13، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه: 13].
فهذا الذي فعله الضلال، والنبي ﷺ قال: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي[رواه أحمد :17144، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 165].
وهكذا السلف كانوا يعضون عليها بالنواجذ ويعتقدون أنها حجة، وإنكار حُجية السنة هي حركة خبيثة ظهرت في التاريخ الإسلامي، تَشكيكٌ في عدالة النقلة، وكذلك ما حصل من المبشرين بالنار والمستشرقين، ومن شايعهم من ذراري المسلمين من المعتزلة والرافضة وغيرهم، تشكيك في السنة للقضاء على ثاني للعقيدة الصحيحة.
ولا شك أن حجية السنة وما يتبعها من حجية خبر الآحاد هذه مسألة مهمة من مسائل العقيدة؛ لأنهم إذا طعنوا في السنة فمعناها كل أدلة العقيدة والمسائل العقدية المبني على السنة ستسقط.
وسيكون لنا إن شاء الله تتمة في مسألة مصادر تلقي العقيدة في الدرس القادم بمشيئة الله تعالى، فإلى ذلك الوقت أستودعكم الله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.