الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
تقسم المقاصد الشرعية لاعتبارات
فقد تقدم أن مقاصد الشريعة يقسمها العلماء باعتبارات، وتحدثنا عن هذه المقاصد بحسب قوتها في ذاتها.
فإن مقصد حفظ الدين أقوى من مقصد حفظ النفس، وكذلك باعتبار المصالح التي جاءت بحفظها، وذكرنا أنها ثلاثة أنواع، وأن المقاصد منها: ضروريات، ومنها حاجيات، ومنها تحسينيات.
وذكرنا أن الضروريات معناها أنه لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت، الضروريات، لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت الحياة، ولم تجر مصالح الآخرة كذلك على استقامة، فالذي سيحدث فوات النعيم، والنجاة يوم الدين، والرجوع بالخسران المبين.
سبق الحديث في المصالح الضرورية عن حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ العرض، وحفظ المال.
ونتكلم إن شاء الله عن النوعين الآخرين وهما: المقاصد الحاجية والمقاصد التحسينية، وترتيب هذه الأنواع من حيث الأهمية مهم، لأننا عند التعارض سنحتاج إلى تقديم بعضها على بعض، فنقول:
مقاصد الشريعة منها ما هو ضروري، ومنها ما هو حاجي، ومنها ما هو تحسيني.
وقلنا: الضروريات الخمس ما هي؟ ذكرناها، والحاجيات؟ ما هو الفرق بين الضروريات والحاجيات؟
مقاصد الشريعة الضرورية
عرّفنا تعريف الضروريات أنه بفقدها تختل مصالح الدنيا والآخرة، والحاجيات؟ هل هي أقل من الضروريات، ولا مثل الضروريات، ولا فوق الضروريات؟ أقل، إذا فاتت الحاجيات ماذا سيحصل؟ مشقة وحرج، ولما قصدت الشريعة مراعاة الحاجيات قصدت التوسعة، ورفع الضيق، وزوال الحرج، وإبعاد المشقة عن المكلفين.
مقاصد الشريعة الحاجية
إذن: الحاجيات إذا ما روعيت، سيترتب حرج ومشقة في العموم، لكن لن يبلغ مبلغ الفساد إذا فاتت الضروريات، ومعنى ذلك: أن الشرع لو ما حفظ الحاجيات لن يفسد الدين بالكلية، وتفسد الدنيا بالكلية، ولا تستقيم الحياة ولا تقوم أصلاً، لكن سيكون هناك حرج ومشقة، فإذن الحاجيات فواتها لا يفوت أصل الدين، وأصل النفس، وأصل العقل، وأصل المال، وأصل العرض، يفوتها ولكن سيوقع حرجاً ومشقة.
وكذلك فإن اختلال الضروريات يؤثر على كل الناس، لكن اختلال الحاجيات ممكن يؤثر على بعض الناس، فإذن من ناحية الشمول والعموم فرق، ومن ناحية درجة التأثير، إذا اختلت الضروريات فإن الفساد أكبر بكثير، أولاً: سيكون الفساد شاملاً ومدمراً. ثانياً: سيعم سيعم جميع الناس، ويكون بدرجة أشد من فوات الحاجيات.
مثلاً دعونا نأخذ مثال على الحاجيات حتى تتضح الأمور أكثر.
لو الشريعة ما جاءت بالرخص في القصر والجمع في السفر والإفطار، هل سيختل دين الناس؟ هل ستختل دنياهم؟ لا، لكن ماذا سيلحقهم؟ عنت ومشقة. كلهم؟ من يسافر، الحامل والمرضع، المريض، فإذن سيلحق البعض بدرجة لا تصل إلى الاختلال الكلي.
مزيد من الأمثلة على المقاصد الحاجية:
أمثلة على المقاصد الحاجية
دلت الأدلة على أن الشارع قصد من شرعه مراعاة هذه الحاجيات، والتوسعة على الناس، ورفع الضيق والحرج والمشقة، ولأجل ذلك شرع الفطر للمريض، والمسافر، والحامل، والمرضع في الصيام، قال تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ[البقرة: 184]، وقال عليه الصلاة والسلام: إن الله وضع عن المسافر نصف الصلاة والصوم- وضع نصف الصلاة ووضع الصوم، وضع بمعنى لم يوجب عليهم في تلك الحالة، في حالة السفر والمرض- قال: وعن الحبلى والمرضع [رواه ابن ماجه: 1667، والنسائي: 2274، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 2025].
وجوب الصيام في حالة الإرضاع وحالة الحمل. رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة، وهو حديث حسن.
مثال آخر: التيمم عند فقد الماء، قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6].
مثال آخر على مراعاة الشريعة للحاجيات:
السماح للمريض بالصلاة قاعداً إذا شق عليه القيام مشقة تخرجه عن الخشوع، سيتألم ويتألم بالقيام ألماً يصرفه عن الخشوع، وطبعاً إذا كان عاجز عن القيام من باب أولى، فرخصت الشريعة للمريض بالصلاة قاعداً في هذه الحالة، كما جاء في حديث عمران بن حصين لما اشتكى البواسير، فقال له عليه الصلاة والسلام: صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب[رواه البخاري: 1117] . رواه البخاري.
مثال آخر: مشروعية الطلاق والخلع: لماذا شرع الطلاق والخلع؟ لرفع الحرج، فلا يبقى الزوج مع زوجته على كراهية، قال تعالى: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً [النساء: 130]، وقال : وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة: 229].
ما فدت به نفسها وأعطته لا حرج، لا عليها في الإعطاء ولا عليه في الأخذ، فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [البقرة: 229].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، الرجل به علة لا مصلحة لي في الاستمرار معه في الحياة الزوجية، وأكره أن أصل لا أطيقه نفسياً، فأكره أن أصل معه إلى حالة أكفر العشير، وأجحد حق الزوج، وأعتدي على حقوقه، فأكره الكفر في الإسلام، كفر العشير، وليس كفر أكبر مخرج عن الملة، ما هو الحل، ما أطقته أبداً، ما عنده مشكلة في الدين ولا في الخلق بس أنا لا أطيقه نفسياً أبداً، أكرهه ولا أريد أن أعيش معه، ونتيجة هذا الكره النفسي لا أقوم بحقوقه، وأصبح كافرة بالعشير.
فقال رسول الله ﷺ: أتردين عليه حديقته؟ المهر الذي أعطاك، البستان، أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. فقال رسول الله ﷺ لثابت: اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة [رواه البخاري: 5273]. رواه البخاري. وهذا من السجع الجميل غير المتكلف.
لو ما كان فيه طلاق ولا خلع، ومثل النصارى الكاثوليك إذا واحد تزوج امرأة لا فراق، أطاقها أول م يطيقها، أطاقته أو ما أطاقته، مهما وصل الأمر غصباً عنها وغصباً عنه لا بد يكمل معها المشوار.
ماذا سيحدث؟ لا عشرة في الفراش، في كره شديد، في تنافر تام، لازم تكمل، وهي لازم تكمل، الحياة في الحالة هذه تصبح فيها مشقة كبيرة وحرج وعنت وضيق، صحيح ليس على كل الناس، فقط على من ابتلي، وصحيح أنه ما يختل الدين والعرض، لكن يحصل مشقة كبيرة جداً بدون وجود مراعاة لهذه الحاجيات أو هذه الحاجة، هناك سيكون العنت الشديد.
مثال آخر: شرع الإسلام بيع السلم.
الآن نحن نعرف أن البيع إما أن يكون السلعة حاضرة والثمن حاضر يداً بيد، وإما أن تكون السلعة حاضرة والثمن بعدها فيكون بيع بالدين، وإما أن يكون الثمن موجود لكن السلعة غير متوفرة، الأصل ما يجوز: لا تبع ما ليس عندك [رواه أحمد: 15573، وأبو داود: 3505، والترمذي: 1232، وصححه الألباني في الجامع الصغير: 13162].
لكن أحياناً في حاجة تدفع إلى إجراء البيع هذا، والدخول في عقد والتزام، فالشرع أباحه على طريقة بيع السلم.
أما نجري عقداً لا سلعة، ولا ثمن فهذا باطل من جميع الوجوه هذا ما يسمى بيع الكالئ بالكالئ، هذا عقد باطل.
بيع السلم هذا سيقدم المشتري الثمن كاملاً، ويعقد العقد مع البائع على سلعة موصوفة في الذمة، سلعة موصوفة في ذمة من؟ البائع من الملتزم أن يأتي بها؟ البائع.
لا بد أن تكون السلعة محددة، موصوفة في الذمة، البائع قبض الثمن كاملاً فيها عليها، ولازم يكون موعد التسليم محدداً حتى يصح بيع السلم، لأنك الآن تجري عقد بيع على سلعة غير موجودة، أصلاً ما يجوز.
حتى يجوز لا بد من توفر شروط معينة، استثنت الشريعة بيع السلم من المنع، الأصل ما يجوز حرام، استثنته بشروط. لماذا استثنته؟ مراعاة للحاجيات، مراعاة أن هناك حاجة عند العباد في أنه يحدث أن يحتاج المشتري إلى حجز سلعة توفر له في وقت معين، بمواصفات معينة، وعنده فلوس، والسلعة غير موجودة، ويحتاج البائع أن يستلم الثمن مقدماً ويذهب يوفر السلعة، لو ما شرع هذا البيع وبقي ممنوعاً على الأصل وما يجوز، ستقع بين العباد بعض العباد، سيقع عليهم حرج ومشقة، فشرع بيع السلم، استثناء من قاعدة بيع المعدوم، لماذا؟ مراعاة لحاجة الناس.
فعن ابن عباس قال: قدم النبي ﷺ المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: من أسلم في ثمر، من أسلم في تمر، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم ادفع لك ألف ريـال الآن ثمناً لمائة صاع رطب تمر، مائة صاع تمر من نوع كذا، حدد النوع، حدد عدد الأصواع، حدد وقت التسليم، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، لأنه إما أن يباع كيلاً أو يباع وزناً، إلى أجل معلوم [رواه البخاري: 2239، ومسلم: 1604]. رواه البخاري ومسلم.
قال ابن عباس : "أشهد أن السلف المضمون إلى أجل قد أحله الله في كتابه، أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه، قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة: 282]" [رواه الحاكم: 3130، وصححه الألباني في الإرواء: 1369].
هذا معناه أن ابن عباس يرى أن هذه الآية على بيع السلم.
المقصود بمراعاة المقاصد الحاجية
ما المقصود من مراعاة المقاصد الحاجية ؟
من خلال تتبع الأحكام التي شرعتها الشريعة لرعاية هذه المقاصد الحاجية، نستطيع أن نقول إن هناك حكماً من ورائها، وأن الشارع راعى أموراً من وراء ذلك، منها:
أولاً: رفع الحرج والمشقة عن المكلف حرصاً عليه، وخوفاً من انقطاع العمل والتثاقل عن العبادة، أو خوف التقصير من مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد؛ لأن العبد مطلوب منه وظائف كثيرة، مطلوب منه وظائف في الصلاة، في الزكاة، في المال، في البدن، مطلوب منه وظائف في اللسان، وظائف قلبية، وظائف نحو نفسه، وظائف نحو غيره، كقيامه بالوظائف الشرعية، وقيامه على أهله وأولاده، فإذا كانت المشاق غالبة، لربما قطعه ذلك العمل عن غيره مما يجب عليه فيقصر، فيكون ملوماً.
فإذن قصد الشارع من وراء مراعاة الحاجيات: رفع الحرج والمشقة، وكذلك التخفيف عن العباد، وكذلك حماية الضروريات.
علاقة المقاصد الحاجية بالضروريات
لو واحد قال: هذه المقاصد الحاجية لها علاقة بالضروريات؟ نقول: نعم. فإذا قال: ما هي العلاقة؟ فنقول: حماية الضروريات، بدفع ما يمسها.
قال الشاطبي رحمه الله: "فالأمور الحاجية إنما هي حائمة حول هذا الحمى، إذ هي تتردد على الضروريات، تكملها بحيث ترتفع في القيام بها واكتسابها المشتقات، وتميل بهم فيها إلى التوسط والاعتدال في الأمور، حتى تكون جارية على وجه لا يميل إلى إفراط ولا تفريط" [الموافقات: 2/32].
غير حماية الضروريات، خدمة الضروريات، وذلك بتحقيق صلاحها وكمالها؛ لأنه يلزم من اختلال الحاجيات اختلال الضروري بوجه ما، لأن الحاجي مكمل للضروري.
فإذن هناك علاقة بين الحاجيات والضروريات؛ لأنه إذا اختلت الحاجيات ممكن يؤدي الأمر إلى الإخلال مثلاً بحفظ الدين.
بعض الحاجيات إذا اختلت ممكن تؤدي إلى الإخلال بحفظ النفس، ما تذهب بأصلها، لكن إذا تطورت الأمور ممكن تذهب بأصله، فيصير فيه اختراق للضروريات بعد ذلك.
فإذن الحقيقة أن مراعاة الحاجيات يخدم الضروريات ويحمي الضروريات.
المقاصد التحسينية
النوع الثالث: المقاصد التحسينية.
ما يقال عنه التحسينيات، وهي: الأخذ بما يليق بمحاسن العادات، وتجنب السفاسف وما يطعن في المروءة، وما يأنفه أصحاب العقول الراجحة.
وهذه التحسينيات تجمع قسماً كبيراً من مكارم الأخلاق، فلا يختل بفقدانها نظام الحياة، ولا نظام الدين والآخرة والدنيا، ولا يدخل على المكلف الحرج والضيق العظيم، لكن إذا ما روعيت تكون هناك مستنكرات عند أصحاب العقول السليمة والفطر المستقيمة، شيء من الاشمئزاز، شيء من التبرم، شيء من النفور، بحيث يقول الناس إذا ما روعيت التحسينيات لولا هذا، لو كان هذا مشروعاً أو ممنوعاً، لو كان الشيء الفلاني مثلاً، ليت الشيء الفلاني كان مشروعاً، أو ليته كان ممنوعاً كان أكمل، كان أحسن، كان ارتحنا أكثر.
يجب أن نبعد عن أذهاننا تماماً فكرة أن التحسينيات هذه أشياء ليست واجبة ولا محرمة، لا، فيها واجب وفيها محرم، لكن فيها مراعاة للذوق، فيها مراعاة للفطر السليمة، فيها مراعاة للعقل الصحيح، فيها مراعاة للأدب، فيها مراعاة للحشمة، فيها مراعاة للمروءة.
صحيح: القضية لا تصل إلى اختراق الضروريات والحاجيات، ما تصل إلى اختلال الدنيا والآخرة، وتصل إلى الحرج العظيم والمشقة الضخمة الكبيرة، لكن بدونها النفوس تنبو، ما تكون مستريحة، فهم الموضوع هذا يحتاج إلى دقة؛ لأن المدخل شرح التحسينيات أحياناً يتضارب في بعض الأذهان مع أحكام هذه التحسينيات؛ لأن المدخل لما أول ما نشرح، يقول بعض الناس: إذن هذه أكيد إما أن تكون بين المستحب والمكروه.
أمثلة على مقاصد الشريعة التحسينية في العبادات
لكن في الحقيقة أن التحسسينيات فيها واجب ومحرم، والمسألة اصطلاحية وتقسيم فني، لا حد يجيء يأخذ يقول، أنت لما بدأت تتكلم عن التحسينيات، والآن تريد تمثل لنا بقضية ستر العورة، ما وضحت.
لأن سنقول: من أمثلة التحسينيات في الشريعة ستر العورة، فيأتي واحد يقول: ستر العورة تحسيني؟
نقول: هذه الآن اصطلاحات العلماء، هذه التقسيمات، التصور العام أدى بهم إلى هذا الترتيب، لا نفهم أن التحسيني إما أن يكون فعل مستحب أو ترك مكروه، لا، التحسيني ممكن يكون أمراً واجباً والإخلال به يكون حراماً، لكن مراعاته هو مراعاة للفطر السليمة والعقول المستقيمة، هو مراعاة للمروءة، بعض هذه المراعاة واجب، لما نضرب مثل الآن على التحسينيات بقضية ستر العورة، لو مشى الناس وعوراتهم مكشوفة، هذا تنبو عنه العقول الصحيحة، والنفوس السليمة، والفطر المستقيمة، هذا عيب كبير، لكن لن يترتب على ذلك اختلال الضروريات أصل الضروريات، أو وجود الحرج والمشقة العظيمة، لكن سيترتب على ذلك أنه في مروءة ستختل، في عيب كبير سيقع، في شيء تنبو عنه تعافه النفوس.
مثل واحد يقول: هذا شيء معاف، ممكن يكون محرماً، قد يكون مباحاً أو مكروهاً، لكنه النفوس تنبو عنه، تعف تكف تتباعد.
فعلماء الأصول مثلاً يقولون: إزالة النجاسة من التحسينيات.
ونحن نعلم أن إزالة النجاسة واجب، وما تصح الصلاة بالنجاسة المتروكة.
فإذن لا يفهم أن مراعاة التحسينيات هي قضية مستحب أو مكروه، ترك مكروه، فعل مكروه، مستحب، لا!
في تحسينيات فعلها واجب، وفي أشياء تركها واجب محرمة مراعاة للتحسينيات، وفي أشياء طبعاً مستحبة في التحسينيات.
مثلاً من التحسينيات أخذ الزينة عند إتيان المسجد؛ ما حكم أخذ الزينة عند إتيان المسجد؟ مستحب.
من التحسينيات بالتقسيم الأصولي أو أصول الفقه ستر العورة، ما حكم ستر العورة؟ واجب.
من التحسينيات في التقسيم الأصولي إزالة النجاسة، ما حكم إزالة النجاسة؟ واجب.
من التحسينيات السنن الرواتب، نوافل الصلاة، نوافل الصيام، نوافل الصدقة، ما حكمها؟ مستحبة.
من التحسينيات مثلاً: الأكل باليمين، أن يشرب ثلاثاً، أن يأكل ويشرب قاعداً، ما حكم هذه؟ مستحبات.
الأكل باليمين ممكن يكون الراجح أن الحكم هو الوجوب، مع أنه تحسيني، في التقسيم الأصولي تحسيني، لكن الراجح أنه يجب أن يأكل بيمينه ويحرم أن يأكل بشماله، الراجح.
أمثلة مقاصد الشريعة التحسينية في العادات
تحسينيات في العبادات، تحسينيات في العادات، وضربنا مثل للتحسينيات في العبادات النوافل، التحسينيات في العادات: آداب الأكل والشرب.
العلماء يصنفون ترك المستخبثات من التحسينيات، ترك المستخبثات في الأكل والشرب من التحسينيات، مع أنه بعض المأكولات حرام تناولها ميتة.
الجعلان، لو قال أنا أريد آكل الجعلان، الخنافس والجعلان حرام، تركها يصنف في التحسينيات، لكن حكم أكله حرام مستخبث، بدليل قول الله تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف: 157]، والخنافس والجعلان من الخبائث، أكل الحشرات من الخبائث إلا الجراد للنص.
يصنف العلماء الإسراف مضاد للتحسينيات والإقتار مضاد للتحسينيات، في الأمور المتناولة في المتناولات.
أمثلة مقاصد الشريعة التحسينية في المعاملات
في المعاملات: منع بيع النجاسات مصنف في التحسينيات، منع بيع فضل الماء والكلأ وأن هذا الماء العام والكلأ العام ما يجوز أن واحد يجي يستولي عليه أو يحجره أو يبيعه؛ لأنه هذا عام لجميع الناس، الأغنام ترعى في أرض الله، والأنهار هذه الجارية هي لجميع المسلمين، ما يجي واحد يستولي على نهر ما يجوز.
هذه منع بيع فضل الماء والكلأ من التحسينيات، مصنفة تحت المعاملات في التحسينيات، كذلك منع المرأة من الإمامة، والخطابة، والقضاء، الولايات العامة، مصنف من التحسينيات، ومنع المرأة من تزويج نفسها، واشتراط الولي عليها للتزويج مصنف عندهم من التحسينيات، أنه أصحاب العقول السليمة، والفطر المستقيمة مرفوض عندهم أن المرأة تزوج نفسها، المرأة لها ولي يحوطها، يحرسها، يسأل عن المتقدم والخاطب، عنده عقل يميز به مصلحتها، ينظر لها في أمرها، هذا أحسن لها ولا ما هو أحسن لها، ولذلك الولي عليه مسؤولية في الشرع.
فالعلماء مثلاً يصنفون اشتراط الولي في النكاح من التحسينيات.
يصنف العلماء -مثلاً- منع بيع الإنسان على بيع أخيه، وشراء الإنسان على شراء أخيه، وخطبة الإنسان على خطبة أخيه، يصنفوه في التحسينيات في باب المعاملات.
يصنف العلماء منع قتل النساء والصبيان والرهبان غير المقاتلين في الجهاد، يصنفونه في التحسينيات، أن مقتضى الرحمة، ومقتضى الفطرة السليمة أن ما نقتل امرأة في الجهاد، ولا طفلاً، ولا راهباً غير محارب.
هذه التحسينيات ماذا تظهر؟ ماذا تبين؟ جمال الشريعة، كمال الشريعة، بديع نظام الشريعة.
علاقة التحسينيات بالضروريات والحاجيات
ما علاقة التحسينيات بالضروريات والحاجيات؟
بالتأكيد أنها خادمة لهما ومكملة لهما، فبالتالي نعرف الآن الصورة الكاملة لتقسيم المقاصد باعتبار: الضروري، والحاجي، والتحسيني، فإذن الشريعة متكاملة.
إذا جئنا إلى مراتب المقاصد وترتيب المقاصد، مراتب المقاصد من حيث أقسامها، من جهة أننا نتعرف على كل قسم منها ماذا يفيدنا؟ معرفة الأهمية على الترتيب ماذا تفيدنا؟ معرفة أن الضروريات تقدم على الحاجيات، وأن الحاجيات تقدم على التحسينيات.
فإذن معرفة المراتب، معرفة الدرجات، معرفة الأهمية، هذا التقسيم يفيدنا في فهم أيها يراعى أولاً؟ أيها يقدم عند التعارض؟ أيها تصرف له الجهود الأكثر في مراعاته وحفظه؟ أيها توجه له الاهتمامات الأكثر ويعتنى به أكثر؟ هذا إذن ما يظهره ترتيب هذه المقاصد.
مسألة التعارض بين التحسينيات والضروريات والحاجيات، وفائدة ترتيبها
إن معرفة المراتب هذه والدرجات ستفيدنا عند التعارض، معناه أنه لا يمكن أن نقدم مراعاة شيئاً تحسينياً على حساب أمر ضروري أو حاجي.
فمثلاً: إجراء عملية البواسير يتطلب كشف العورة، نحن قلنا أن ستر العورة تحسيني، تصنيفياً تحسيني، وإجراء عملية البواسير ممكن تكون حاجة، بدونها في ضرر ومشقة وآلام، ممكن ما تصل للموت، ما تصل للضرورة، لكن حاجة، بدونها في ألم ومشقة وعنت وفي شدة، فعندما يتعارض معنا تحسيني مع حاجي، عملية بواسير مع كشف عورة ماذا سنقدم؟ مراعاة الحاجي، فسنجري العملية.
لو جاءتنا امرأة حامل في وضع خطير يتطلب إجراء عملية قيصرية، وإلا يموتوا الاثنين، يحتاج تدخل عاجل فوري لإنقاذ حياة، فنحن الآن أمام شيء يتعلق بماذا؟ بالضروريات.
هذا يتطلب كشف العورة المغلظة، وهو أمر في التحسينيات، فهل نقول: لا نكشف؟ لأن الشريعة أمرت بستر العورة. أنت الآن ستراعي التحسيني على حساب فوات الضروري، فحفظ النفس هذا من الضرورات الخمس.
يجيء واحد يقول الدم المسفوح، ما يجوز، النبي ﷺ بَيَّن أن هذا الدم، والنصوص بَيّنت أن الدم حرام.
هناك حالات نقل دم إذا ما نقل الدم تفوت النفس فسننقل الدم، ممكن يكون أكل الميتة ممنوع في التحسينيات؛ لأنه من المستخبثات، كما قلنا نحن أنه في باب الأطعمة في التحسينيات أكل المستخبثات ممنوع، لكن لما نأتي على حالة فيها فوات نفس إذا ما أكل من الميتة، فلا نقول والله تراعى، يراعى التحسيني ولو فات الضروري.
يتبين لنا بأن معرفة الدرجات مهم في التعامل مع المسألة عند التعارض مع مسألة ما عند التعارض، معرفة الدرجات مهم لاتخاذ القرار، لمعرفة الفتوى، لمعرفة الحكم الشرعي، لمعرفة الإجراء، فيباح مثلاً كشف العورة عند الضرورة أو الحاجة؛ لأن المحافظة على النفس ضروري وستر العورة تحسيني، فلا يمكن أن نفوت الضروري أو الحاجي من أجل مراعاة التحسيني.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والمؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة، ومراتبها في الكتاب والسنة، كما يعرف الخيرات الواقعة، ومراتبها في الكتاب والسنة". [جامع الرسائل: 2/305].
أنت لازم تعرف المضاعفات، في عالم الطب، الشرور ومراتبها، كذلك في أمور الدين معاصي وبدع ومنكرات، ولا بد من معرفة درجات المنكر؛ لأننا نضطر إلى ارتكاب إحدى مفسدتين كلاهما منكر، وإذا ما عرفنا درجات المنكر، وما هو المنكر الأسوأ والمنكر الأشد، ما هو المنكر الأخف والمنكر الأهون؟ ستقع مشكلة كبيرة، وهذا ما يقع فيه عدد من الدعاة، وأحياناً عدد من المحتسبين في أخطاء نتيجة عدم معرفة درجات المنكر، نتيجة عدم معرفة مراتب الشر، ولذلك ركّز شيخ الإسلام ابن تيمية على قضية معرفة خير الخيرين وشر الشرين.
لازم تعرف ما هو الأهون؟ ما هو الأخف؟ حتى تفعله، وتدرأ الأشد والأفسد، وهذا في حالة ما إذا كان من اللابد أن تفعل أحدهما.
وكذلك إذا كنت في حالة لا بد فيها أن تختار بين أحد الخيرين؛ لأنه لا يمكن أن تجمع بينهما، فإما أن تختار هذا أو هذا.
فإذا ما كنت تعرف مراتب الخير، مراتب المعروف، هذا أعلى من هذا، هذا متعلق بجنس الصلاة، وهذا متعلق بجنس عبادة أخرى مثلاً أدنى من الصلاة، إذن هذا يقدم، هذا نفعه متعدي، هذا نفع قاصر، لا، النفع المتعدي نراعيه، أنا سوف أفعل هذا لأنه ولو فات هذا لأن هذا نفعه متعدي، هذا يدوم نفعه أكثر، هذا أقل، إذن أنا سأفعل هذا الذي نفعه يمتد أكثر وأقدمه على هذا الذي نفعه أقل أو أقصر، مدة مثلاً أو مفعولية عند التعارض، هذا هو الفقه.
قال شيخ الإسلام: "فيفرق بين أحكام الأمور الواقعة الكائنة، والتي يراد إيقاعها في الكتاب والسنة، ليقدم ما هو أكثر خيراً وأقل شراً على ما هو دونه، ويدفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما، ويجتنب أعظم الخيرين بفوات أدناهما.
قال: فإن من لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الدين"، لاحظ: (الواقع في الخلق) لازم يكون فيه فقه في الواقع، ولازم يكون فيه فقه في الدين، "فإن من لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الدين، لم يعرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومن عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح" [جامع الرسائل: 2/305].
هذا كلامه في جامع الرسائل رحمه الله.
لأنك ممكن، يستشيرك شخص في قضية تتعلق بزوجته، وشيء تفعله، وقال لك: إما أن أصبر على هذا أو أطلق! الذي لا يفقه ربما يقول له: طلق، لا هذا خطأ، وربما لو أتى إلى فقيه لقال: لا، احتمل هذه المفسدة ولا تطلق، لأن الفقيه يرى أن الطلاق مفسدته أشد.
في حالة أخرى سيقول الفقيه: لا، طلق ولا تلوث فراشك، في حالات مفسدة الفعل الواقع أشد من مفسدة الطلاق، طلق: من الذي يفقه هذا؟ حتى يجيب الناس ويقول لهم. يقول له: طلق، أو اتحمل ولا تطلق، من الذي سيجيب؟ من الذي يعرف يجيب؟
الذي يعرف المراتب، وخير الخيرين وشر الشرين، يعرف أي المفسدتين أعظم، وكيف تعرف أي المفسدتين أعظم إذا ما كان الواحد يفهم الضروريات والحاجيات والتحسينيات؟ وأنه هذا الأمر متعلق بأي واحدة منها.
فهذه مسألة فائدة الترتيب في معرفة الضروريات والحاجيات والتحسينيات؛ لأن داخل الضروريات في ترتيب، وداخل الحاجيات في ترتيب، وداخل التحسينيات في ترتيب، وبين الضروريات والحاجيات والتحسينيات في ترتيب، فإنك تقول أولاً الضروريات، ثانياً الحاجيات تليها، ثالثاً مراعاة التحسينيات تليها.
هذا فقه عظيم، وإدراك هذا ومعرفة هذا يحتاج إلى علم شرعي، وبصيرة، وفهم، ونور يقذفه الله في قلب العبد، وتأمل، تدبر، تفكر، مقارنة، سؤال، بحث، استقصاء، فقه الواقع، معرفة ما يدور، معرفة حال الدنيا وحال الدين، معرفة حال السائل والمسؤول عنه.
هذا موضع شريف جليل القدر، عظيم النفع، من دخل فيه وسلكه ودرسه سيفيد الأمة كثيراً، سيفيد نفسه ومن حوله، وسيفيد الأمة كثيراً.
هذا طرف من موضوع ترتيب المقاصد، ودرجات المقاصد، وسنتابع شرح هذا بإذن الله تعالى في الدرس القادم غداً بعد المغرب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.