الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وبعد:
مكانة السُّنة النبوية
فقد تحدثنا في الدرس الماضي عن مصادر تلقي العقيدة الصحيحة، وذكرنا في آخره أن الكتاب والسُّنة هما مصدر تلقي العقيدة الأساسيان، ويُضاف إلى ذلك الإجماع، والعقل والفطرة، وذكرنا ما يتعلّق بالقياس، وقلنا في الكلام عن السُّنة في الدرس الأخير أن الله حفظ السنة كما حفظ الكِتَاب، وأن حفظ الكِتَاب يقتضي حفظ السُّنة؛ لأن حفظ السنة حفظ شرح الكتاب العزيز وبيانه، ولأنها تشرح الكتاب وتُبيِّن مجمله، والله أوحى إلى نبيه ﷺ ما يُبيِّن به للنَّاس هذا الكتاب، فأنزل إليه الذكر ليُبيِّن للنَّاس ما نُزِّل إليهم من ربهم، وأن النبي ﷺ اتخذ اجراءاتٍ لحفظ السُّنة بوحي من الله تعالى، فكانت طريقته في كلامه تؤدي إلى حفظها، ورغّب في حفظها، وتوعَّد بالنَّار مَن كَذَب في الحديث، والصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاته أيضاً نقلوا سنته، حفظوها، ذاكروا بعضهم بعضاً فيها، والنبي عليه الصلاة والسلام دعا لبعض الصحابة بأن يرزق حفظاً مثل أبي هريرة فلا ينسى شيئاً بعد ذلك الموقف العظيم، واحتاط الصحابة في رواية الأحاديث، ورحلوا وكتبوا، وكذلك التابعون، وظهرت جهودهم بعد ذلك في تدوين السُّنة، وعلماء الحديث والجرح والتعديل في صيانة السُّنة عن الدخيل في مجال السَّنَد وفي مجال المتن، ونُخِلَت الروايات، ونَقَد العلماء الأسانيد، وبيَّنوا الشّاذ في المتن مما يمكن أن يكون وهماً من الرواة، أو خطأً، إلى آخر الأسباب التي أدت إلى حفظ السُّنة بالإضافة إلى حفظ الكتاب، وأن حُجّية السُّنة النبوية لا شك فيها، فقد دلَّ القرآن على حُجّية السُّنة النبوية من عدة وجوه، ما دلَّت السُّنة على حُجّيتها هي أيضاً من عدة وجوه، كما دلَّ الإجماع والنظر الصحيح على ذلك، ومسألة إنكار حُجّية السُّنة ظهرت، والنبي عليه الصلاة والسلام أخبر بها عندما قال: لا أ أُلْفِيَنَّ أحدكم متكأً على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه [رواه أبو داود: 4607، وابن ماجه: 13، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه: 13].
هذا الحديث فيه بيانٌ أنه سيظهر في هذه الأُمّة من يُنكِر حُجية السُّنة، ظهرت بوادر في العصر الأول، لهذا عن الحسن أنه قال في رواية الحاكم: "بينما عمران بن حصين يُحدث عن سنة نبينا ﷺ إذا قال له رجل: يا أبا نُجيد، حدثنا بالقرآن، فقال له عمران: أنت وأصحابك يقرءون القرآن، أكنت محدثي عن الصلاة، وما فيها وحدودها؟، قال: أنت تحفظ القرآن أنت وأصحابك إذا ما أردت السُّنة تريد فقط القرآن، حدثني عن عدد ركعات الصلاة، أكنت محدثي عن الزكاة في الذهب والإبل والبقر وأصناف المال، ولكن قد شهدت وغبت أنت، ثم قال: فرض علينا رسول الله ﷺ في الزكاة كذا، يعني: كيف أنا أعرف هذ المعلومات؟ من السنة، الصحابي يقول: فحضرتها وغبت أنت، فأنا أنقلها لك الآن، قال الرجل: أحييتني أحياك الله، قال الحسن: فما مات ذلك الرجل حتى صار من فقهاء المسلمين" [رواه الحاكم: 372].
لكن هذا أنقذه الله بالصحابة، إنما حركة الضلال الذين أنكروا السُّنة قامت ولَمِستْ بعض السَّلف بوادرها، -كما قلنا- حتى قال أيوب السختياني رحمه الله: "إذا حدثت الرجل بالسُّنة فقال: دعنا من هذا، وحدثنا من القرآن، فاعلم أنه ضال مُضل" [ الكفاية في علم الرواية: 1/16].
هذا دليل على أنه كان هناك تيار فكري بدأ ينشأ في قضية إنكار الحديث، وإنكار السُّنة، وقال الشافعي رحمه الله في كتاب الأم متعرِّضاً للرَّد على الذين ينكرون حجيتها: "قال لي قائل يُنسب إلى العلم بمذهب أصحابه. [الأم: 7/273].
ولعله كان من المعتزلة، وذكر الرد.
وقال ابن قتيبة وهو من أعيان المائة الثالثة: "وبلغني أن من أصحاب الكلام من يرى الخمر غير محرَّم، وأن الله تعالى إنما نهى عنها على جهة التأديب ومنهم من يرى شحم الخنزير وجلده حلالاً؛ لأن الله إنما حرم لحمه في القرآن فقال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ [المائدة: 3].
ومنهم من يرى شحم الخنزير حلالاً؛ لأن الله إنما حرَّم اللحم فلم يُحرِّم شيئاً غير اللَّحم" [تأويل مختلف الحديث: 1/60]. فذكر ابن قتيبة شنعات المعتزلة في إنكارهم الحديث، وعدم التفاتهم إليه، وطعنهم في نقلته من الصحابة وغيرهم، فالهجوم على السنة النبوية كمصدر لتقلي العقيدة مُهمٌّ جداً من قبل المبتدعة، فهم يريدون إسقاط السُّنة؛ لأن في السُّنة أحاديث واضحة وبينة في الرَّد على بدعهم، ولذلك اتجهت جهودهم إلى إسقاط حُجيتها، وعندما نتكلَّم نحن عن العقيدة الصحيحة لا بد أن نؤكد ونُركِّز على قضية وحجية السُّنة، والرّد على من خالف ذلك.
لماذا يطعنون في السُّنة النَّبوية؟:
لقد اتجهت جهود أولئك الأعداء إلى الطعن في السنة من جهتين:
الأولى: التشكيك في عدالة النقلة، ولا سيما الصحابة رضوان الله عليهم، ودخلوا من باب البدع، فقالوا: مُرتَكب الكبيرة يَكفُر، والإيمان واحد، وإذا واحد خرَمَه ذهب كُلُّه، الصحابة تقاتلوا، والقتال كبيرة إذاً ذهب إيمانهم، إذاً هم كفار، فأحاديثهم غير مقبولة، فستسقطت السُّنة بعدها، وهؤلاء الرافضة الذين يزعمون نصرة آل البيت لا يقبلون الرواية من طريق الصحابة، ولذلك لما قام واحد منهم يتكلم في أحد الدروس، وهم ينكرون نزول الله إلى السماء الدنيا، قال: روى الإمام أحمد في مسنده أن الله ينزل إلى السماء الدنيا على حمار. [منهاج السنة النبوية: 2/376].
هكذا يقول الراوي قاتله الله هو ومن على شاكلته، فأين الرواية هذه؟ وهكذا الطعن في السُّنة، وفي كتبها ونقلتها الصحابة.
التيار الثاني: المدرسة العقلية الموجودة الآن، للطَّعن في السُّنة وإسقاط حُجية السُّنة، ونَسف بعض الأحاديث على الأقل، أنه من المدخل الثاني: إذا تعارض الحديث مع العقل يُقدَّم العقل على الدليل النقلي، قالوا: العقل دليل قطعي، والحديث ممكن الراوي يَهِم أو يخطأ، ولكن العقل هذا مؤكد، إذاً عند التعارض انسف الحديث، حتى قال عمرو بن عبيد المعتزلي، وقد ذكروا له حديثاً صحيحاً بسنده فيه فلان عن فلان عن فلان، قال: "لو سمعت الأعمش يقول هذا لَكذبتُه، ولو سمعت الراوي عن الأعمش أو أبي هريرة يقول هذا لكذبتُه، ولو سمعت رسول الله ﷺ يقول هذا لرددتُه، ولو سمعت الله يقول هذا لقلت: ليس على هذا أخذت ميثاقنا" [ معارج القبول3/944- 945].
فنستغفر الله، ونسأله سبحانه السلامة من هذه الأهواء.
بل إن إبراهيم النظَّام قد ذهب إلى أن حجة العقل تنسف الأخبار. ثم كانت النَّوبة للمستشرقين وتلاميذهم، ومن شايعهم من فُرّاغ المسلمين، فاعتمدوا شبهات المتقدمين من المعتزلة والرافضة وغيرهم، وتوسعوا فيها، وزادوا عليها حتى صار اليوم تيار ومدرسة وهو التيار العقلي الذي ينسف الأحاديث التي لا تعجبهم، ويقول: هذا حديث مخالف للعقل غير معتمد، وبناء عليه ينكرون أي شيء يخالف عقولهم، أو يرونه عيباً عند الغربيين! نقول المرأة ديتها نصف دية الرجل، وأن المرأة لا تتولّى ولاية عامة، والحديث في البخاري، يقول: ولو كان الحديث في البخاري.
وعن حديث: النساء ناقصات عقل ودين [رواه البخاري: 304، ومسلم: 79]، قال: هذه مزحة، أي: طريقة تخالف العقل أو الواقع جاء على سبيل المزاح، المهم أن تُميَّع القضية ويرد الحكم الشرعي؛ لأنه يخالف عقولهم.
الرّد على من ينكر السُّنة بدعوى أن القرآن حوى كل شيء:
أما هؤلاء الذين لا يؤمنون بالسُّنة بالكلية الذين يسمون أنفسهم بالقرآنيين في هذا الزمان، فهذه شبهة وقضية قديمة، من أيام السّلف إلى عصر الانترنت الذي لهم فيه مواقع، هؤلاء ينشرون فيه بدعتهم أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات: 53].
يقولون: القرآن حوى كل شيء فلا نحتاج للسُّنة، ألم يقل الله: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38].
ويُجاب عن هذا: بأن الله قد أبان في القرآن كل شيء من وجوه أربعة:
أولاً: ما أبَانَه نصاً مثل جُمِل الفرائض كأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، أو كتب عليكم الصيام، جُملةً بدون تفاصيل، وكذلك بيَّن بالنص في القرآن تحريم الفواحش كالزنا والخمر وأكل الميتة ونحو ذلك.
الطريقة الثانية: ما أحكَم فرضَه بكتابه وبيَّنه على لسان نبيِّه ﷺ مثل عدد الصلوات، ومقادير الزكاة وغير ذلك مما أصلُه في الكتاب وتفصيله في السُّنة.
الثالث: ما سنَّهُ رسول الله ﷺ مما ليس له ذكرٌ في الكتاب العزيز، ولكن أشار إليه بقوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [التغابن: 12].
فلما أمر بطاعة رسوله في القرآن كانت الأحاديث التي فيها زائدة على القرآن داخلة في القرآن من جهة قوله تعالى: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ[التغابن: 12].
ومن جهة قوله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7]. فإذاً: القرآن فيه بيان لكل شيء، وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ[النحل: 89].
كيف يكون القرآن فيه تبيانٌ لكل شيء؟ فإما أن يكون فيه بياناً له بالنص في القرآن أصلاً، أو دلالة وتبعاً عندما يقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا[الحشر: 7].
ووجدناه فيما أمرنا به الرسول ﷺ أو نهانا عنه، عرفنا أن الله قد أمر به في كتابه، وحفظ هذه الطريقة مهم في الرد على هؤلاء المبتدعة، فإذاً فما جائنا في السُّنة الصَّحيحة، قد جاء الأمر به في الكتاب ضمناً لما قال: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7].
رابعاً: ما فَرضَ الله تعالى على خلقه الاجتهاد في طلبه، وابتلى طاعته في الاجتهاد كما ابتلى طاعته في غيره مما فُرض عليهم، فإذاً لو قال واحدٌ: هناك أحكام ليست في الكتاب ولا في السُّنة قد يعرفها المجتهدون بالقياس، هل القرآن يدل عليها؟ مثلاً: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7 ].
ونحو ذلك من الآيات التي فيها أمر أهل العلم لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران: 187]. فالأحكام التي يقولها العلماء في القضايا المستجّدة، هل هي داخلة في الكتاب العزيز الذي فيه تبيانٌ لكل شيء؟ داخلة ضمناً، فإذاً المراد من قوله تعالى: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ أن الله بيَّن في كتابه كلَّ شيء إما تفصيلاً وإما تأصيلاً، كالتفاصيل في المواريث، الربع والثلث والثمن، ومن يَرث هذا ومن يرث هذا ذكره تفصيلاً، وفي أشياء وردت في السُّنَّة: كتحريم لحم الحمار الأهلي، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، وإباحة لحم الضبع استثناءً خاصاً من ذوات الأنياب، فهذا موجود في السُّنة، دلَّ الكتاب عليه تأصيلاً، لما وضع لنا الأصل الذي يؤدي إلى معرفة الأحكام هذه والأخذ بها، فالقرآن إذاً دلَّ على كل شيء، إما تفصيلاً، وإما تأصيلاً، على أن قوله تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38].
قد قيل هو اللّوح المحفوظ كما دلَّ عليه السياق؛ لأن قوله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام: 38].
يدلُّ السّياق على أنه اللَّوح المحفوظ، ولو قلنا القرآن فالكلام في الآية هذه كالكلام في الآية التي قبلها، وهكذا لا يأتون بشبهة في هذا المقام إلا والدليل عليها حاضر، لو قالوا: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]. قالوا: فالسُّنة ما حُفِظَت! نقول: الله قيَّضَ هؤلاء العلماء الذين نخلوا الأحاديث نخلاً، وبينوها، وما مِن رجل إلا وحكموا عليه، الأسانيد والمتون والجمع فهذا الذي صار، وهذا الجهد العظيم، وهذا العلم الذي تميزَت به الأُمَّة الإسلامية، علم الإسناد لا يوجد عند أي أمة، لا أمريكا ولا أوروبا، إلا الأُمَّة الإسلامية، لا نصارى ولا يهود ولا هندوس، ليس عندهم علم الإسناد، فهذا من حفظ الله للسُّنة، حفظ المتن والشرح، وحفظ الكتاب السنة، وكذلك فإن السُّنة من الوحي، والوحي محفوظ كُلُّه، وقد تكفَّل الله بحفظه، إذاً السنة محفوظة أيضاً.
خبر الآحاد في تلقي العقيدة
وننتقل الآن إلى بيان مسألة خبر الواحد؛ لأنها داخلة في العقيدة، ومطروقة في كتب العقيدة، ولما نتكلم على مصادر تلقي العقيدة الصحيحة لا بد أن نتَطرَّق إلى قضية خبر الآحاد؛ لأن المبتدعة ينفون أشياء كثيرة في العقيدة؛ لأنها روايات آحاد، فما هو الموقف الصحيح من رواية الآحاد وخبر الآحاد؟ والآحاد: الحديث الذي ليس له إلا طريق واحد، إلّا عن طريق شخص واحد ثقة مثلاً، صحابي واحد، تابعي واحد، تابع التابعي واحد، ما هو الموقف منه؟ أهل البدع عندهم رأي في المسألة يقولون: الذي جاء من طريق واحد مشكوك فيه، والاعتقاد لازم يقين، هذا لا نعتقده، ذهب المنتسبون إلى العلم في قضية خبر الآحاد إلى ثلاثة مذاهب:
الأول: خبر الآحاد يفيد العلم مطلقاً.
الثاني: خبر الواحد يفيد العلم بشروط.
الثالث: خبر الواحد لا يفيد العلم أبداً.
فخبر الواحد يفيد العلم مطلقاً، وأن هذا مطرِّد في خبر كل واحد نُسب إلى بعض أهل الظاهر، لكن هل هذا المذهب صحيح؟ سواءً الواحد كان ثقةً أو كذَّاباً، أو سيءَ الحفظ أوصدوقاً، يفيد العلم؟ لا، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن أحداً من العقلاء لم يقل إن خبر كل واحد يفيد العلم" [الجواب الصحيح: 6/481].
وبحثُ كثير من الناس إنما هو في رد هذا القول، تَجد بعض الذين ينكرون خبر الآحاد حججهم تدور على هذه النقطة، ونحن لا نخالفهم فيها، فليست هذه ساحة المعركة، هم يقولون: هذا الواحد لو كان غير ثقة، أو كذاباً، أو سيء الحفظ، نقول: نحن ما نخالف في المسألة، فالشَّخص إذا كان غير ثقة خبره لا يفيد العلم، فقولنا: أن الشخص الواحد يُقبل خبره مطلقاً، ليس معنى ذلك أن خبر الآحاد يفيد العلم مطلقاً حتى لو كان جاء من طريق واحد كذّاب! أهل السُّنة لايقولون بهذا، وليس هذا ميدان الجدال، وليست هذه قضيتنا.
المذهب الثاني: أن خبر الواحد يفيد العلم بشروط، وهو الخبر المتعلّق بالقرائن، والقرينة قد تتعلّق بالخبر، وقد تتعلّق بالمُخبر، وقد تتعلّق بهما معاً، ويدخل في ذلك الاستفاضة، مثل روايةٍ رواها شخص واحدٌ، ثم استفاضت واشتهرت، وكذلك الخبر المتلقّى بالقبول من الأئمة، ومنه ما رواه الشيخان أو أحدهما، أو ما كان مسلسلاً بالحفّاظ كمالك عن نافع عن ابن عمر، فهذا الخبر يفيد العلم عند جمهور العلم والمحدثين والأصوليين وعامة السلف وفقهاء الأمة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما القسم الثاني من الأخبار فهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل ونحوه، ولم يتواتر لفظه، ولا معناه، لو وصل إلى المتواتر ما صار آحاد، ولكن تلقته الأمة بالقبول عملاً به، أو تصديقاً له، فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد ﷺ من الأولين والآخرين. [مجموع الفتاوى: 18/70].
أما السلف لم يكن بينهم في ذلك نزاع، فخبر الواحد الثقة يفيد العلم، وأما الخلف فهذا مذهب الأئمة والفقهاء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة أنه يفيد العلم، حتى أن ابن القيم رحمه الله نقل عن ابن خويز منداد الفقيه المالكي لما ذكر خبر الواحد الذي لم يرويه إلا الواحد أو الاثنان، قال الفقيه المالكي هذا؛ لأن بعض المالكية أنكروا خبر الآحاد بعد ذلك أنه يفيد العلم، وأنه يعتقد بناءً عليه، فقال: "هذا صاحبكم من متقدميكم مالكي يقول: خبر الواحد الذي لم يرويه إلا الواحد أو الاثنان عنه" [مختصر الصواعق المرسلة: 4/1472-1473].
قال: ويوقع بهذا الضرب أيضاً العلم الضروري نص على ذلك مالك، وجزم أبو نصر عبد الوهاب المالكي بصحة ما إذا تلقوه بالقبول كما قال ابن حجر. [النكت على كتاب ابن الصلاح: 1/139].
ويقول الشافعي رحمه الله: "إذا حدث الثقة عن الثقة حتى ينتهي إلى رسول الله ﷺ فهو ثابت عن رسول الله ﷺ" [الأم: 7/191].
وحكى ابن القيم عنه قوله: "وما رواه عن النبي ﷺ واحد عن واحد، فهذا نعلم منه صدق هذا المُحدِّث وأن خبره حق وأنه يفيد العلم ويُقبل، وهكذا جاءت الأخبار وجاء الكلام عن أهل العلم، يقول ابن تيمية رحمه الله في تقرير هذه المسألة، أن خبر الواحد يفيد العلم"[الفتاوي الكبرى: 5/81].
سيتفرع عليه أشياء، لو وجدنا أي مسألة في العقيدة بعد ذلك، أو أي حكم فقهي من حديث في أحد طبقات الحديث رجل واحد ثقة أننا سنأخذه ويكون حجة، وهذا أصل يُبنى عليها أشياء لابد من فهمه: أن خبر الواحد إذا كان ثقة إذا اقتنعنا أنه يفيد العلم أي مسألة أو تفصيل في العقيدة، أو حكم فقهي، أو مسألة شرعية سنثبتها بناءً عليه، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وقد ذكر أبو عمرو ابن الصلاح القول الأول هو إفادته للعلم وهو إفادته أي خبر الآحاد للعلم، وصححه واختاره" [الفتاوي الكبرى: 5/81].
وقال السخاوي: "أن هذا هو مذهب الجمهور من المحدثين والأصوليين وعامة السلف"[فتح المغيث1/51]. وهكذا ذكر العراقي، وهكذا ذكر ابن الصلاح، وقال أحمد شاكر رحمه الله: والحق الذي ترجحه الأدلة الصحيحة أن الحديث الصحيح يفيد العلم القطعي سواء كان في الصحيحين أم في غيرهما، وهذا العلم اليقيني لا يحصل إلا للعالم المتبحر في الحديث، العالم بأحوال الرواة والعلل" [الباعث الحثيث: 2/127].
الأدلة على قبول خبر الآحاد
فلو قال قائل: ما هو الدليل على قبول خبر الآحاد؟ نقول: أولاً يجب أن نعلم أن التفريق بين التواتر والآحاد في إفادة العلم، اصطلاح حادث، فجملة خبر التواتر يفيد العلم اليقيني، والآحاد ولو كان من ثقات لا يفيد اليقيني، بل يفيد الظَّنّ، فهذا التفريق حادث، لم يكن على عهد السلف، بل اخترعه بعض الناس اختراعاً، وكان رسول الله ﷺ يُصدِّقه المؤمنون فيما يخبر وهو واحد، وكان الرسول ﷺ يُصدِّق أصحابه فيما يخبرونه، ولو كانوا آحاداً، وكذلك الصحابة يصدِّق بعضهم بعضاً فيما يخبر به الواحد الآخر وهو واحد، ولم يقل واحد من الصحابة لآخرٍ قال له خبراً: إن خبرك غير مقبول عندي ولا يفيد العلم؛ لأنك واحد، والمعلومة هذه لم تأتِ إلا من شخص واحد، لا أحد قال لك ولا توقَّف، قال: حتى يعضده خبر ثاني لأن الأول لا يكفي؛ لأن هناك رواية بين عمر وأبي موسى الأشعري إنما ليس لأن عمر يرد خبر الآحاد أبداً، بل إن عمر عندنا له مواقف كثيرة قَبِل خبر الآحاد بلا شك، ولكن قد يريد الإنسان مزيداً من التأكد، ويطلب الحصول على مصدر ثاني وثالث لكن لو ما حصل له إلا مصدر واحد يعمل به ويفيد العلم ويعتقد به ويُطبقه ينفذه إذا كان حكم شرعي، وكذلك التابعون يلتقون بالصحابة فمثلاً تابعي ما لقيَ إلا صحابياً واحداً سمع منه حديثاً واحداً يقبله، ولم يقل أنت واحد ائت بآخر حتى أقبل منك.
ثانياً: أن الرَّسول ﷺ كان يبعث الآحاد من أصحابه إلى الملوك والولاة، فالذي حمل رسالة النبي ﷺ إلى كسرى واحد، والذي حملها إلى قصير واحد، وأرسل إلى عدد من الملوك في الأرض رُسُلاً وسُفراءً، لو كان النبي ﷺ يعتقد أن خبر الواحد لا يفيد العلم كان أرسل أكثر من واحد، فلما أرسل واحداً في عدد من الحالات.
إذاً عند النبي ﷺ أن خبر الواحد يكفي في إقامة الحجة، ما دام ثقة، ولو كان ما يكفي كان أرسل أكثر من واحد من أول مرة.
ثالثاً: إن المسلمين لما أخبرهم الواحد وهم في مسجد قباء يُصلُّون جماعة، قال: "إن القبلة قد غُيرت، وإنها صارت قِبل مكة، ولم تعد قِبل الشام" [رواه مسلم: 527]. استداروا وهم في الصلاة من جهة بيت المقدس إلى جهة مكة، ولو كان خبر الواحد لا يُبنى عليه علم ولا يفيد يقيناً كان قالوا: نصلّي ونكمل وننتظر واحداً آخر، ونُرسل من عندنا اثنين ليتأكدون من الخبر، لكن لما استداروا في الصلاة معناها يفهمون أن خبر الواحد الثقة، الواحد الثقة خبره يفيد العلم، ولذلك تحولوا وهم في الصلاة، وهذا من شدّة فقههم تحولوا إلى جهة القبلة الجديدة، والنبي ﷺ ما أنكر عليهم، ولا قال: لماذا اكتفيتم بخبر واحد، يمكن هذا لا يفيد العلم، لا بد أن تنتظروا مجيء ثانٍ وثالث، لكنه لم يفعل ذلك ﷺ.
مذهب من قال أن خبر الواحد لا يفيد العلم مطلقاً
المذهب الثالث: أن خبر الواحد لا يفيد العلم مطلقاً سواء اقترنت به قرينة أم لا، وهذا مذهب المتكلمين الذين جنوا على هذا الدين وعلى المسلمين، مذهب الأشاعرة الغزالي والباقلاني وغيرهم، مع فضل بعضهم، فبعضهم عُبّاد، قد تقول أن هؤلاء من المفسدين، أو أنهم يريدون تخريب الدين، اجتهاداتهم في قضية خبر الواحد كانت خاطئة، فهؤلاء الذين يقولون لا يُقبل خبر الواحد، سواء بوجود قرائن، أو من غير قرائن، فكلامه غير صحيح.
هناك من الجهات البدعية التي ظهرت أن بعضهم قال: خبر الواحد يفيد العمل، لكن لا يفيد العلم، كيف ذلك؟ قالوا: إذا كانت مسألة فقهية كالمسح على الخفين أخذنا بها، لكن إذا كانت مسألة عقدية، يعني: عذاب القبر، أو الجنة والنار، أو صفات الله لا نعتقده، ولا نأخذ به، لماذا فرقتم، وهل عندكم حجة من الله بهذا التفريق؟ أو من رسول الله ﷺ؟ إذاً المسألة هذه فيها نقاشٌ طويل، لكن لا مجال الآن للخوض فيه إنما يكفي أن نُشير هنا أن بعضهم فرقوا في الأخذ بخبر الواحد بين الاعتقاد، وبين الأعمال مثل الأحكام الفقهية، ولكن هذا التفريق لا دليل عليه، وخبر الثقة مقبول سواء عندك معلومة في العقيدة، أو حكم شرعي في الفقه، كلّه دين وشريعة من الله.
قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: "ودع عنك تفريق المتكلمين في اصطلاحاتهم بين العلم والظَّنّ، فإنهم يريدون بهما معنى آخر غير ما نريد" [الباعث الحثيث: 2/127].
والذين ذهبوا إلى أن خبر الواحد لا يفيد العلم مطلقاً بنوا عليه أنه لا يجوز الاحتجاج به في مسائل الاعتقاد؛ لأن مسائل الاعتقاد يقينية لا بد فيها من القطع، وهذا رأي المعتزلة وكثير من متكلمي الأشاعرة يقولون به.
الرد على من فرّق أحاديث الآحاد
فالرد على من فرَّق في أحاديث الآحاد بين العقائد والأحكام الفقهية، وفرّق بين العلم والعمل وقال نعمل بها لكن ليست علماً نعتقده، فنقول:
أولاً: التفريق بين العقائد والأحكام في قضية خبر الآحاد بدعة لا عهد للسلف بها، بل إن تصانيفهم تشهد بعكس ذلك، وقال ابن القيم رحمه الله: "وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة، فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث في الخبريات العلميات كما تحتج به في الطلبيات العمليات" [مختصر الصواعق المرسلة: 4/1570].
ابن القيم يقول: وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث -أحاديث الآحاد- في الخبريات العلميات كما تحتج به في الطلبيات العمليات، الخبريات: الأخبار، العلميات: التي هي مسائل علمية ليست وضوءاً ولا صلاة، ولا إقامة حد أو توزيع تركة، فالله له يد هذه معلومة، لا تُعطى لك لتفعل بها شيئاً لذاتها، أو شيئاً لجوارحك لكن لتعتقدها؛ لأن هذه معلومة علم خبر، والشيء العملي مثل الوضوء، الصلاة شيء عملي، فقال ابن القيم: "إن التفريق بينهما في قضية خبر الآحاد بدعة"، ولم يزل الصحابة والتابعون يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والأسماء، ولم يُنقل عن أحد منهم البتة أنه جوَّز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الإخبار عن الله وأسمائه وصفاته. [مختصر الصواعق المرسلة: 4/1559-1561].
فنقول للمُفرِّقين بين البابين أين سلفكم؟ ومن الذي قال بهذا، أهو مالك، أو الشافعي، أو أحمد، أو ابن مسعود، أو ابن عباس، من الذي فرق بينهما؟
ثانياً: ما تواترت به الأخبار عن النبي ﷺ في إرسال الرسل والدعاة آحاداً إلى أطراف البلاد وإلى ملوك الفرس والروم واليمن، لما أرسل النبيُّ ﷺ معاذاً إلى اليمن أرسله بمسائل عملية وأحكام فقهية فقط، أو أرسل معه أحكاماً و أخباراً علمية؟ بل أرسل معه أخباراً علمية وعقائد، ألم يقل له: فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله [رواه البخاري: 1458، ومسلم: 19]، وفي رواية: فادعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله [رواه البخاري: 1395].
إذاً أرسل الرُّسل هؤلاء كل واحد يذهب ومعه أخبار في العقائد يُبلِّغها، ويجب أن تُقبل منه، وكذلك مسألة: اعتقاد بعض الناس أن العقيدة لا يُبني عليها عمل، وأنها شيءٌ مجرّدٌ في النفس حبيسٌ لا علاقة له بالواقع، وأنها معلومة ما لها أي آثار، فهذا الكلام عند أهل السنة والجماعة خاطئ؛ لأن المعلومات العقدية فيها عمل قلبي، بل حتى تنفيذ أعمال الجوارح مرتبطٌ بأعمال القلب ومرتبطٌ بالعقائد التي في القلب، ألم ترى أن الله يقول في كتابه العزيز في تنفيذ حد الزنا، وهو مسألة عملية وفقهية طلبية، وليست مسألة عقدية خبرية فقط أنه قال في مقام الطلب العملي، قال : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور: 2]، فَاجْلِدُواهذا عمل، وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ[النور: 2]، ماذا؟ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النور: 2]، وتؤمنون هذا ماذا؟ قضية عقدية، فهو رَبطٌ بين تنفيذ الشيء العملي وبين الشيء العلمي العقدي الذي في القلب، إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ[النور: 2]، ولذلك لو قال قائل: إذا أنا عرفت أن لله وَجهٌ هل هذه معلومة ليس لها أيّ أثر؟ نقول: بل لها أثر، فأنت إذا عرفت أنَّ لله يَدان وأنهما مبسوطتان ينفق كيف يشاء، تطلب منه، وإذا عرفت أن له وجهاً يليق بجلاله أنت تأمل وترجوا أن تنظر إليه؛ لأنه أعظم نعيم الجنة النظر إلى وجه الله، وأنت الذي يؤمن أن لله وجهاً كيف يكون الارتباط بين عمله وبين عقيدته؟ فلو واحد يُنكر لله وجهٌ وآخر يؤمن أن لله وجهٌ، إذا وقف الذي يؤمن أن لله وجه في الصلاة، تأمل وقف في الصلاة وكبّر تكبيرة الإحرام وهو مستحضر حديث النبي ﷺ: إن الله ينصب وجهه لوجه عبده في الصلاة ما لم يلتفت [رواه أحمد: 17170، والترمذي: 2863، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 552].
لو تؤمن بصفة الوجه كيف يكون شعورك وخشوعك في الصلاة؟ ينصب وجهه بوجه عبده يزداد خشوعك، وهو يختلف عن خشوع الأشعري، أو غيره الذي لا يعتقد أن لله وجه، أو ينفي صفة الوجه، حتى دَفعُك للمارِّ بين يَديَك في الصلاة يختلف، لو كنت تعتقد أن الله ينصب وجهه لوجه عبده في الصلاة، وجاء واحدٌ يريد أن يمرَّ بينك وبين ربك وأنت في الصلاة لمنعتَه ودفعته، أبى المصلِّي أن يُمرَّ بينه وبين ربه فيمنع المارّ، وهذا الربط اللطيف الذي ذكره ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة. [كتاب الإيمان الأوسط: 1/67].
إذاً نرجع إلى القضية نقول: لا تفريق في قضية خبر الآحاد بين العقائد والأعمال.
المصدر الثالث لتلقي العقيدة الصحيحة: الإجماع
الثالث من مصادر تلقي العقيدة الصحيحة: الإجماع، والإجماع: مصدر أجمَعَ يُجمِعُ إجماعاً فهو مُجمعٌ، ويُطلق ويُراد به أحد معنيين: إما العزم المؤكد أجمع على السفر، إذا عزم عليه، فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ[يونس: 71].
أي: اعزموا أمركم، وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ [يوسف: 15]. يعني: عزموا على ذلك، من لم يُجمع الصيام من الليل قبل الفجر فلا صيام له [أبو داود: 2456، والترمذي: 730، وابن خزيمة: 1933، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 1987].
يعني: من لم يعزم عليه ويعقد النية، المعنى الثاني للإجماع أو أجمَع يُجمع هو الاتِّفاق، فيُقال: أجمع المسلمون على كذا، يعني: اتَّفقوا عليه، هذا المعنى الثاني، ومنه قوله ﷺ: لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبداً [رواه الحاكم في المستدرك: 391، والطبراني بلفظ "لن تجتمع أمتى" 13623، وضعفه الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة: 80].
أي: لا يمكن أن يجعلهم يتفقون على الضلالة، فهذا المعنى للإجماع هو المقصود ببحثنا، ولذلك يُعرف الإجماع اصطلاحاً بأنه: اتِّفاق مجتهدي أمة محمد ﷺ بعد وفاته في عصر من العصور على أمر من الأمور، هذا تعريف الإجماع، فإذا قلنا: اتفاق، خرجت المسائل التي فيها اختلاف بين المجتهدين، أو قال بعضهم وبعضهم ما وافقهم فلا تصير بمسائل إجماع، ولما قلنا: اتفاق مجتهدي، المجتهدون في الاجتهاد أصحاب الاجتهاد أصحاب ملكة يتمكن بها العالم من استنباط الأحكام الشرعية، والمجتهد يُفرغِ وسعَه ويبذل طاقته في استنباط الحكم، فإذاً العَوامُ غير داخلين في الإجماع.
ثالثاً: أمة محمد ﷺ المقصود بهم هنا: أمة الدعوة، المسلمون فقط، أهل السنة أيضاً، إذاً لو قال قائل: إذا شخصٌ توفرت فيه شروط الاجتهاد يعلم باللغة العربية، وأصول الفقه، وحافظ القرآن، لكنه معتزلي جاهليٌ، رافضيٌ، نصرانيٌ نصارى العرب؛ لأنه يوجد نصارى من نصارى العرب عندهم علمٌ، وأصول فقه، يؤلِّف ويُدرِّس أصول الفقه، ولغة عربية، قواميس، يمكن أحسنُ مِنّنا، فهل هؤلاء نُدخِلُهم في الإجماع، نقول: أنهم مجتهدون؟ فإذاً لما نقول: اتفاق مجتهدي أمة محمد ﷺ، يعني: المسلمون أهل السُّنَّة منهم، بعد وفاته؛ لأننا لا نتَصوَّر أن هناك إجماعاً في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، لأن في عهده الكتاب والسنة فقط، لا يحتاج إلى إجماع، وعندما نقول في عصر من العصور، يعني: في أي عصر كان؛ لأن بعض أهل العلم قالوا: لا إجماع إلا للصحابة، وأي عصر آخر ليس إجماع، وهذا قصور وتضييق، فهذه معناها أن هذا العصر لو قلت أجمع العلماء على تحريم ربا البنوك، نقول: لا، الصحابة ما أجمعوا، فإذاً الراجح أنَّ كل عصر يمكن أن يكون فيه إجماع، وقولنا: على أمر من الأمور، ما فالمقصود به الأمر الشرعي على الراجح، وإلَّا لو أجمعوا على أن الواحد زائد واحد يساوي اثنين ليس داخل في بحثنا، ولا يوجد إجماع في مسائل العلوم والرياضيات، وعلى مسائل فلكية لكن ليس هذا البحث، فلذلك لو أجمعوا على دوران الأرض نقول: هذه قضية، أصلاً ليس فيها إجماع، وهي مسألة ليست من مسائل العقيدة، أو الدين إلا إذا صار للمسألة الفلكية علاقة بآية، أو حديث عند ذلك تصير القضية على فهم الآية والحديث، إن أجمعوا على فهم بهذه الطريقة أو لم يجمعوا ونحو ذلك.
هل الإجماع حجة؟
الإجماع حجة، جاء شيخٌ للشافعي قال: ما العلم؟ قال: الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، قال: ما دليلك على أن إجماع المسلمين حجة؟ فقال الشافعي: فأمهلني، قال: فمكث ثلاث ليال لا يخرج إلينا للتدريس، فجاءه الشيخ بعد ثلاثة ليال أو أيام فقال ما فعلت بمسألتي؟ قال: نعم، قال الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115].
وجه الدلالة: أن الله توعد الذي يخالف سبيل المؤمنين، فلو كان اتباع غير سبيل المؤمنين جائزاً كان ما توعَّد أحداً، ومتابعة غير سبيلهم تقع بمخالفة أقوالهم أو أفعالهم، يكفينا هذا دليلاً على حجية الإجماع من القرآن، ومن السنة نأخذ دليلاً آخر حيث أن الدرس ليس درس أصول فقه أصلاً، قول النبي ﷺ: إن الله لا يجمع أمة محمد ﷺ على ضلالة، إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة [رواه الترمذي: 2167، والحاكم: 397، وصححه الألباني في الجامع الصغير: 2729، وقال أن لفظة "ومن شذ شذ في النار" ضعيفة].
إذا اجتمعوا على أمر فلا بُد أن يكون حقاً، والذين ينكرون حجية الإجماع طائفة من الخوارج، وكذلك الشيعة والنظامية وغيرهم ولا عبرة بقولهم، وللظاهرية كلام في الإجماع مُخالف لكلام جمهور أهل العلم، وليس بقوي بل هو مرجوح.
هل يكون الإجماع مستنداً لآية أو حديث؟
هل يجب أن يكون الإجماع مستنداً إلى دليل: آية أو حديث؟
هما مذهبان، الأول: يُشترط في الإجماع أن يكون له مستنداً وهو مذهب الجمهور.
الثاني: أن الإجماع يمكن يقع من غير المستند بأن يُوفِّق الله الأمة لاختيار الصواب من غير دليل، لكن الصحيح هو الأول: أنه لا بُد أن يكون الإجماع له مستنداً، وهذا المستند: قد يكون من كتاب، أو من سُنَّة بما في ذلك خبر الواحد، حتى نكون على بينة، وقد يكون قياساً.
ماذا يفيد الإجماع؟
بعضهم قال: يفيد الخبر، وبعضهم قال: يفيد الظن، والمذهب الثالث الأرجح هو: التفصيل، فإذا اتفق عليه المعتبرون فهو حجة قطعية، إذا صرّحوا في التَّكلم، وإذا قلت: إجماع سكوتي أو إجماع إلا رُبع أكثر العلماء قالوا بذلك لكن يوجد أناس خالفوا، فهذا لا يفيد القطع.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والصواب التفصيل بين ما يُقطع به من الإجماع ويُعلم يقيناً أنه ليس له في منازع من المؤمنين أصلاً فهذا يجب القطع بأنه حق" [مجموع الفتاوى: 7/39]. أما الإجماع السكوتي لا يشترط أن يفيد القطع.
حكم من خالف الإجماع
قال بعضهم: مخالف الإجماع كافرٌ، ولكن المسألة تحتاج إلى تفصيل، فإذا أنكر شخصٌ ما معلوماً من الدين بالضرورة كوحدانية الله، وأحقيته بالعبادة، ونبوة محمد ﷺ، والبعث والحساب، والجنَّة والنَّار، والصَّلاة والصِّيام، والحج ونحو ذلك مما يعلمه العام والخاص، معلوم بالضرورة من دين الإسلام فمنكر هذا لا شك في كفره.
ثانياً: إذا ثبت حكم شرعي بالإجماع القطعي كتحريم الجمع بين البنت وعمتها، والبنت وخالتها، تحريم الكذب على النبي ﷺ، فمنكر هذا الحكم كافر أيضاً؛ لأنه أنكر حكماً شرعياً ثبت بالدليل القطعي.
ثالثاً: حكم ما ثبت بالإجماع الظَّني :كالإجماع السكوتي، أو ما نَدرَ فيه المُخالف فهذا يُفسَّق ويُبدَّع لكن لا يُكفَّر.
الإجماع في مسائل الاعتقاد
ماذا بالنُّسبة للإجماع في مسائل الاعتقاد؟
بعض المتَكلِّمين قالوا: لا يمكن يحصل إجماع في مسائل الاعتقاد، قالوا: لأن مسائل الاعتقاد القطع فيها، فلا يحصل إلا من جهة العقل، ولا نحتاج بعد العقل إلى دليل آخر، لا إلى الإجماع، ولا إلى غيره، وبعض المتكلمين قالوا: نُفرِّق بين المسائل التي يتوقَّف صحةُ الإجماع عليها: كوجود الخالق وصحة الرسالة، وبين المسائل التي لا يتوقَّف صحة الإجماع عليها: كتوحيد الباري ، وعموم أفعاله وكل هذا من البدع المبنية على أنهم يُقَسِّمُون العلوم إلى شرعية وعقلية، والحق أن العلم الشرعي يُطلق ويراد به أحد أمور ثلاثة:
أولاً: ما أمَر به الشَّارع.
ثانياً: ما أخبَر به الشَّارع.
ثالثاً: ما شَرع علمه الشَّارع.
لو قال قائل: ما المقصود بالعلم الشرعي؟ فالعلم الشرعي إما أن يكون أمر به الشَّارع، وإمَّا أن يكون عِلماً مشروعاً أو عملاً مشروعاً وهو الواجب والمستحب، فهذا علم شرعي واضح.
الثاني: ما أخبر به الشَّارع علم يُستفاد من طريق الشارع، مثل ما عَلَّمه الرَّسول ﷺ أمتَه، فإضافته إلى الشَّارع من جهة طريقه ودليله.
وما أخبر به الشّارع إما أن يُراد به إخبار الشارع، أو دلالته عليه، فمثلاً: القرآن فيه دلالة على آيات الربوبية، وعلى النُّبوة، ولذلك يجتمع في القضية أحياناً دليل شرعيٌّ ودليل عقليٌّ، والدليل العقلي لا يتعارض مع الدليل الشّرعي؛ لأن الشَّارع نبَّه العقول عليه، فالدليل العقلي مُنبَّهٌ عليه من قِبل الشَّرع، فصارت العلوم إما أن تُعلم من جهة شرع فقط، كيف عرفنا مثلاً: أن الجنة فيها أنهارٌ من ماء غير آسن وأنهارٌ من اللَّبَن، وأنهار من العسل، وأنهار من خمر، عرفنا هذه المعلومة من جهة الشرع فقط، فلا يمكن العقل يهتدي إلى هذه التفاصيل، وكذلك كثير من المسائل الغيبية: الجنَّة لها ثمان أبواب، والنَّار لها سَبعة أبواب، لو جاء واحد وليس عنده علم بعدد أبوابها هل يستطيع ان يستنبط عدد أبواب الجنة؟ قد يقول عشرة، أو واحد، فهذه التفاصيل ليس لها طريق في معرفتها أبداً إلا الشَّرع، مقادير الزكاة مثلاً، أنصبَةُ المواريث، وعدد ركعات الصلوات، لا يمكن العقل يَصِل إليها، وهناك علوم مباحة ندب الشرع إلى معرفتها، أو شَرَعَ تعلُّمَها، مثلاً الصناعات، الزراعة الصناعة البناية النساجة إلى آخره هذه مشروعة من جهة أن الله أذن بها وشرع لعباده تعلمها وسمح لهم بذلك، فيقال مثلاً: عِلم الزراعة مشروع، بمعنى أن الله أذن فيه سمح لعباده فيه.
والخلاصة في قضية الإجماع: أنه يدخل في أبواب الاعتقاد لتعضيد الأدلة وتقويتها ودفع احتمال الخطأ، يقول ابن تيمية رحمه الله: "وسموا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة، والإجماع: هو الأصل الثالث الذي يُعتمَد عليه في العمل والدين، وهم -أهل السنة والجماعة- يَزِنُون بهذه الأصول الثلاثة، جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة، مما له تعلق بالدين والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح؛ إذ بعدهم كثُر الاختلاف وانتشرت الأمة" [مجموع الفتاوى: 3/157].
سنتكلمُ إن شاء الله في الدرس القادم عن العقل والفطرة، وتكملة لمنهج أهل السنة والجماعة في مصادر التلقي وأصول الاستدلال العامة بسرعة ونُعرِّج على بعض طرق المبتدعة في مصادر التلقي، وما هو موقفهم منها؟ إن شاء الله تعالى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.