المقدمة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ودعا إلى توحيد الله، فأوضح الله به الحجة، وبين به المحجة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أغلى ما لدى المسلم عقيدته، التي يؤمن بالله واليوم الآخر، وتعلم العقيدة والاعتناء بها تأصيلاً، وضبطًا، وفهمًا هي أهم المهمات، وأعظم الواجبات عليه لأنه لا تتحقق الغاية من قيامه بعبادة الله إلا بها، فإن رأس العبادة توحيد الله ، وهذه هي العقيدة.
فالعقيدة بالنسبة لعلوم الدين كالشمس للدنيا، والعافية للبدن، وهي للأعمال بمثابة الأساس للبنيان، والأصول للأشجار، فهل يقوم بنيان إلا على أساس متين، وهل يرتجى من شجر ثمر بلا أصول طيبة ومنبت حسن.
والعقيدة الإسلامية مأخوذة من الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، وما أجمعوا عليه، وهي المنهج الحق الذي لا يسع أي مكلف الخروج عنه أو العدول، وبتعلمها يعصم المسلم نفسه من الهوى والضلال، ومن الشرك والبدعة والانحراف والزيغ، هذه العقيدة التي هي حبل الله المتين، ويلازم المسلم بها جماعة المسلمين أهل المعتقد الحق، ويكون من عتاد أهل السنة والجماعة، ومن الفرق الناجية من النار، ومن الطائفة المنصورة في الدنيا والآخرة.
والمطالع لأحوال البشر، وتعدد عقائدهم، واتجاهاتهم، وأفكارهم، وأحزابهم، وفرقهم، ونحلهم يجد العجب العجاب، والضلال البعيد، ولذلك يحتاج المسلم إلى معرفة عقيدته حتى يسلك الصراط المستقيم الذي يحميه في خضم هذه الأهواء، وهذه السبل، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام: 153].
عنوان هذا الدورة "ضوابط في العقيدة الإسلامية".
تعريف الضوابط وأهميتها
ضوابط: جمع ضابط، وهي القضايا الكلية التي تجمع تحتها جزئيات كثيرة.
ومعظم المتقدمين من العلماء استعملوا القاعدة والضابط بمعنى واحد، وكثير من المتأخرين من أهل العلم فرقوا بينهما:
بأن القاعدة تجمع فروعًا من أبواب شتى، والضابط يجمعها من باب واحد، كما ذكر ابن نجيم -رحمه الله- في الأشباه والنظائر، فلو أخذنا على سبيل المثال من القواعد في الفقه "اليقين لا يزول بالشك"، فهذا القاعدة تدخل في أبواب الفقه، في الطهارة، في الصلاة، في البيوع، في الطلاق، وغير ذلك، ولذلك يقال لها: قاعدة.
لكن عندما نقول: "كل ماء مطلق لم يتغير فهو طهور"، هذا متعلق بباب الطهارة فقط، في المياه فقط، ولذلك يقال له عند المتأخرين: ضابط، يطلق بعض العلماء الضابط بمعنى القاعدة، والقاعدة بمعنى الضابط، ولا مشاحة في الاصطلاح.
لكن لما نقول: "ضوابط في العقيدة الإسلامية" فإننا نقصد بالضوابط إذاً القواعد التي تجمع لنا مسائل العقيدة في كل باب من الأبواب، بحيث تضبط لنا مسائل هذا الباب، وتميز هذه المسائل عما يشتبه بها، وكذلك تبين لنا وجه الحق فيها، توضحها، تقسمها.
ولمعرفة الضوابط في فروع العلوم كلها أهمية قصوى: الضوابط في أصول الفقه، الضوابط في مصطلح الحديث، الضوابط في العقيدة، لكن الضوابط في العقيدة أهمها.
وتكمن أهميتها بأن الضوابط تسهل دراسة العقيدة، وتعرض أبواب العقيدة في تقاسيم مختصرة واضحة، فيها أمثلة بعيدة عن الجدليات والفلسفات والتعقيدات.
ثم إنها كذلك تضبط مسائل العقيدة، وتعرف الفروق بين هذه المسائل، الضوابط تعرفك الفرق بين أنواع الشرك، يعني بالضابط تعرف الفرق بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر، تعرف الفرق بين النفاق العملي والنفاق الاعتقادي، تعرف الفرق بين الكفر الأكبر والكفر الأصغر.
وكذلك فإن إهمال هذه الضوابط، وعدم الاطلاع عليها، وعدم استقرار هذه الضوابط في النفوس يؤدي إلى التخليط والالتباس، وحصول المتشابه في النفس، فمثلاً لا يميز الواحد في هذه الحالة بين البدعة المكفرة والبدعة غير المكفرة، فتؤدي إلى تعامل خاطئ مع الناس، كالتسرع في تكفير شخص لا يستحق التكفير، وإخراجه عن الملة، وهو ليس خارج عن الملة، مثلاً الذي فعله شرك أصغر لكنه ليس شركًا أكبر مخرجًا عن الملة.
وهكذا الضوابط تمنع من التسرع، وأيضاً فإنها تبرئ ذمة المسلم من هذه التسرعات في الأحكام، وهذه الأخطاء التي في ظلم العباد، وأيضاً من الجهة الأخرى الضوابط هذه تمنع من تسيب الأمور، وتمييع الأمور، ومداهنة الكفار، وتفلت بعض أحكام الدين، أو قضايا العقيدة من الإنسان المسلم.
وكذلك تمنع تمييع هذه المسائل العقدية، أو جعلها هامشية، أو تجاوزها، وهو لا يمكن تجاوزها شرعًا.
أيضاً الضوابط تجنب الخطأ في فهم الواقع، والتعامل معه، فالذي لا يدرس ضوابط العقيدة يدخل في الشرك ما ليس منه، ويدخل في البدعة ما ليس منها، فقد يدخل في التشبه بالكفار ما ليس منه، مثلاً: إشارات المرور يقول: حرام، لأنها جاءت من الكفار، وهل كل شيء صنعه الكفار أو ابتكروه يكون تشبهًا محرمًا بهم، أو أن التشبه ضابطه ما كان في أمور الدين، وليس ما كان في أمور الدنيا، وفي ذات الوقت تمنع التمييع، فبعض الناس ممكن يتساهل في بعض قضايا اللباس المتعلقة بمشابهة الكفار، وفيها مشابهة في الهيئات، أو ما كان خاصًا بهم، بينما في الحقيقة هذا تشبه بهم، مع أن القضية متعلقة باللباس، واللباس أصلاً قضية دنيوية لكن صار لها ارتباط عقدي بضابط معين.
الضوابط تمنع من الحكم على شخص صوت لمشروع معين أو قانون معين بالكفر بضوابط معينة، يعني: مثلاً هذا بلد لا يمكن الآن تطبيق فيه الشريعة بالكامل، المسلمون عاجزون عن ذلك فاستطاع بعض الناس تقديم قانون يحسن الأوضاع، يجعلها أقرب إلى الشريعة، لكن فيها مخالفات ومنكرات، فهل يجوز التصويت عليه، إذا أفتى العلماء الثقات بجواز التصويت على قانون يحسن الأوضاع، ويقربها إلى الشرع مع أن فيه منكرات عظيمة، يجوز التصويت عليه لتحسين الوضع، حتى لا يبقى الوضع أسوأ، لأن من فقه الشريعة معرفة خير الخيرين وشر الشرين، وأنك تدرأ أشد المفسدتين بأدناهما، فإذا ذهب إنسان وصوت من أجله بنعم وعقيدته سليمة، يعتقد أن الحكم لله لا لغيره، لا برلمان ولا ما برلمان، الحكم لله، الشريعة ملزمة، ولا يجوز الخروج عنها، يجب أن يكون الدستور موافقًا للشريعة بالكامل، ولا تخرج عنه ولا مادة ولا مسألة، وأن الحكم بما أنزل الله من أصل التوحيد، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ[الأنعام:57]، فإذا واحد عقيدته سليمة جاء إلى واقع لا يمكن الآن في مقدور المسلمين أن يحكموا فيه الشريعة بالكامل، فاستطاع بعض المسلمين أن يحسن الوضع بدستور أقرب إلى الشريعة؛ مع أن فيه منكرات وفيه انحرافات؛ فاجتهد ناس وصوتوا له لتحسين الوضع؛ لأن المسألة إما البقاء على الأسوأ، وعدم عمل أي شيء، وأما إجراء هذا التحسين، فالتصويت عليه صحيح شرعًا، التصويت له صحيح شرعًا، لأن الشريعة تأمر المسلم في حال عدم استطاعة الوصول إلى الحل الأمثل بأن يدرأ أشد المفسدتين بارتكاب أدناهما، فالضوابط هنا في مسائل العقيدة تمنع من تكفير مثل هذا، لأن بعض الناس ممكن يستعجل، ويكفر صوت أنت للدستور الدستور فيه أمور تخالف الشريعة أنت كافر، طيب هل هذا جاء اختياريًا، يعني: كان ممكن يطبق الشريعة كلها، وهو اختار خمسين في المائة، لا يمكن على أية حال هذا مجرد مثال على ما يمكن أن تحققه مسألة الضوابط من منع التسرع في إطلاق الأحكام الجائر.
وهكذا كذلك الضوابط تمنع من نسيان جزئيات العقيدة، وتمنع في المقابل من تمييع الأمور، كأن يقول قائل: والله يعني لا بدّ نراعي الأقليات غير المسلمة، فلا بأس أن نجعل في الدستور مواد مخالفة للشريعة مراعاة لهؤلاء، هذا حرام. والضوابط في العقيدة تمنع من ذلك، وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ[المائدة: 49] بينهم: بين الكفار أنفسهم بما أنزل الله، وأنه لا يجوز الخروج عن شرع الله، ولا في مسألة واحدة، ولا في مادة واحدة، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام: 57]، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ[المائدة: 50].
وكذلك فإن الضوابط هذه تجعل المسلم وسطًا لا إفراط ولا تفريط، فمثلاً في باب التكفير ما تجعله يقع فيما وقع فيه الخوارجـ ولا تجعله يقع فيما وقع فيه المرجئةـ في باب الأسماء والصفات الضوابط تمنع من الوقوع في التجسيم، والتشبيه تشبيه الله بخلقه، وتمنع من الوقوع في المقابل في التأويل الباطل، تمنع من جهة من تقديس الأشخاص، ووضعهم فوق منزلتهم التي أنزلها الله إياها، حتى أصحاب النبي ﷺ يعني: ما ندعي لهم العصمة، لكن في المقابل تمنع من الوقيعة فيهم، وسبهم، وشتمهم.
وكذلك فإن اتباع الضوابط في العقيدة في موضوع شرك الأسباب، أو التوحيد والأسباب، يمنع من التواكل، وعدم الأخذ بالأسباب بالفهم الباطل أو الخاطئ المنحرف في التوكل على الله، وبين الاعتماد على الأسباب اعتمادًا كليًا، والتوكل عليها، والوقوع في شرك الأسباب.
ولا شك أن تعلم العقيدة بضبط قواعدها وأصولها وضوابطها يعصم الإنسان من الزلل، ويختصر الكثير من الوقت، والأمر فيه كما قال القائل: "من حفظ الأصول ضمن الوصول".
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله موصيًا طلبة العلم:
وبعد فالعلم بحور زاخرة | لن يبلغ الكادح فيه آخره |
لكن في أصوله تسهيلًا | لنيله فاحرص تجد تسبيله |
اغتنم القواعد الأصول | فمن تفته يحرم الوصول |
[كتاب العلم للعثيمين: 1/51].
فإذاً، هذا هو موضوع دورتنا، وفائدة هذا الموضوع، والله المستعان، وعليه التكلان، وبه وباسمه نبدأ.
ضوابط في الإيمان
أولاً: ضوابط في الإيمان:
الضابط الأول: الإيمان عند أهل السنة والجماعة: "قول وعمل واعتقاد":
الإيمان عند أهل السنة والجماعة: "قول وعمل واعتقاد"، هذا ضابط من الضوابط في موضوع الإيمان بإجماع أهل السنة، الإيمان: "تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح".
قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وكان الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركناهم: أن الإيمان قول، وعمل، ونية، لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر". [شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 5/956].
وقال الإمام ابن عبد البر المالكي -رحمه الله-: أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول، وعمل، ولا عمل إلا بنية" التمهيد [9 /248].
وكذلك روى الإمام اللالكائي رحمه الله عن الإمام البخاري قوله: "لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدًا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص" انتهى [شرح أصول الاعتقاد:1 /173].
والنصوص عن الأئمة كثيرة جداً في قولهم: إن الإيمان قول وعمل، نقلها المصنفون في عقيدة أهل السنة والجماعة من المتقدمين، كالإمام اللالكائي، والإمام ابن بطة، وابن أبي عاصم، وغيرهم.
ولا فرق بين قولهم: "الإيمان قول وعمل"، أو "قول وعمل ونية"، أو "قول وعمل واعتقاد"، لأن القول قولان: قول القلب، وقول اللسان، فالنية والاعتقاد قول القلب، فإذًا هي إما مجملة الإيمان قول وعمل، وإما مفصلة قول وعمل واعتقاد، أو قول وعمل ونية، على أساس أن الاعتقاد داخل في القول، لأن القول: قول القلب، وقول اللسان، فالذي زاد الاعتقاد خشي أن يفهم من عبارة: "الإيمان قول وعمل" أن القول قول اللسان فقط؛ فلذلك زاد الاعتقاد، وهذا أحسن للعامة؛ لأنهم قد لا يفهمون من كلمة القول إلا قول اللسان؛ فنستطيع إذاً أن نقول: إن الإيمان عند أهل السنة قول، وعمل، ونية، أو قول وعمل واعتقاد، وإذا جئت تفصلها تقول: قول القلب، وقول اللسان، وعمل القلب، وعمل اللسان والجوارح؛ لأن العمل فيه تفصيل: في عمل للقلب: كإحسان الظن بالله، والخوف، والرجاء، ومحبة الله، والحياء من الله، الإخلاص التوكل، وهكذا هذه أعمال قلبية أنت ما تعملها بجوارحك، لا تقوم بجوارحك بالرجاء والتوكل، هذا عمل القلب.
أما بالنسبة لقول القلب: فهو معرفته للحق، واعتقاده به، وتصديقه، وإقراره، واليقين به، ما انعقد عليه القلب، وتمسك به ولم يتردد فيه، وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام: 75]، وقال سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا[الحجرات: 15].
ثانيًا: قول اللسان: النطق بالشهادتين: شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، والإقرار بلوازمهما، قال تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 136]، وقال : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [فصلت: 30]، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف: 13].
ثالثًا: عمل القلب: كما قلنا إخلاصه، وإذعانه، وخضوعه، وانقياده، والتزامه، وإقباله على الله، وتوكله عليه، ورجاؤه، وخشيته، وتعظيمه، وحبه، وإرادته، كما ذكر تعالى في آيات كثيرة: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2]، فالوجل هذا عمل قلبي.
رابعًا: عمل اللسان: هو العمل الذي لا يؤدى إلا به، كالتلاوة، ولذلك تقول للذي يقف في الصلاة، ويضم شفتيه، ولا يحركهما طيلة القيام، نقول: أنت لم تقرأ الفاتحة، ممكن استعرضتك في ذهنك، تخيلتها في ذهنك، لكنك ما قرأتها؛ لأن عمل اللسان ما تحرك، فلا يقال عنك: قرأت الفاتحة، فإذاً عمل اللسان من الناحية العقدية: هو العمل الذي لا يؤدى إلا به، فلما نقول: تلاوة القرآن، التسبيح، التحميد، التكبير، الدعاء، الاستغفار، إلخ، طيب الشهادتان هما: عمل اللسان، ولا يدخل الإسلام إلا بهما.
خامسًا: عمل الجوارح، فعل المأمورات والواجبات، وترك المنهيات والمحرمات، مثل الصلاة، والقيام، والركوع، والسجود، والصدقات، والمشي في مرضات الله، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغير ذلك من شعب الإيمان، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج: 77-78]، إذاً الضابط الأول من الضوابط في موضوع الإيمان "أن الإيمان قول وعمل واعتقاد" يشمل قول القلب، وقول اللسان، وعمل القلب، وعمل اللسان والجوارح انتهينا.
الضابط الثاني: الإيمان القلبي يستلزم العمل الظاهر ولا بدّ
الضابط الثاني في موضوع الإيمان: هو "أن الإيمان القلبي يستلزم العمل الظاهر ولا بدّ"، يعني لا يمكن يوجد إيمان قلبي بلا أي عمل، فلا بدّ أن يكون الإيمان القلبي له أثر على الجوارح، فمن زعم أن عنده إيمان في قلبه بدون أن يعمل أي عمل، لا صلاة، ولا زكاة، ولا صيام، ولا حج، ولا استغفار، ولا تلاوة قرآن، ولا ذكر، ولا دعاء، ولا أمر بالمعروف، ولا نهي عن المنكر، ولا أي عمل، ولا يسجد، ولا يركع، ولا شيء، ويقول: أنا عندي إيمان في القلب، نقول: أنت كاذب، لو كان عندك إيمان في القلب لظهر على الجوارح، لو عندك إيمان صحيح في القلب لأثمر أعمالاً، فإذا ما عندك عمل معناه ما عندك إيمان في القلب، لأن إيمان القلب يستلزم عمل الجوارح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ثم القلب هو الأصل، فإذا كان فيه معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب"؛ ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب[البخاري: 52، ومسلم: 1599].
يقول شيخ الإسلام: "فإن الجسد تابع له لا يخرج عن إرادته قط" له: الهاء يعود على القلب، فإذا كان القلب صالحًا بما فيه من الإيمان علمًا وعملاً قلبيًا؛ لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر، والعمل بالإيمان المطلق. كما قال أئمة أهل الحديث. "قول وعمل" قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر، والظاهر تابع للباطن، لازم له، متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد، ولهذا قال من قال من الصحابة عن المصلي العابث: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه"، انتهى كلام شيخ الإسلام. [الإيمان الكبير: 1/108].
وقال أيضاً: "وإذا قام بالقلب التصديق به، والمحبة له" التصديق بالله، والمحبة لله، "لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة"، تسبيح تكبير تهليل، ذكر تلاوة، "والأعمال الظاهرة" صلاة، حج، جهاد، "فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب، ولازمه، ودليله، ومعلوله، كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضاً تأثير فيما في القلب، فكل منهما يؤثر في الآخر، لكن القلب هو الأصل، والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله، والأصل يثبت ويقوى بفرعه"، انتهى [كتاب الإيمان الأوسط: 45].
إذاً لو كان في إيمان في القلب فإن هذا الإنسان سيعمل الصالحات، وإذا عمل الصالحات بالجوارح، ماذا سيحدث للقلب يزداد إيمانًا، لكن الأصل الإيمان الذي في القلب، فإذاً لا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة، هذه عبارة الإمام الأوزاعي -رحمه الله- [الإبانة الكبرى لابن بطة:1098].
تصور الآن بعض الناس ما هو بس يطلق الإيمان على من لا يعمل شيئًا كما يفعل المرجئة، ممكن يطلقون الإيمان على واحد ما يعمل ولا شيء من الإسلام، يقولون: هذا مؤمن، وتجد الآن من يطلق على النصارى واليهود مؤمنين، ويقول: يا معشر المؤمنين، فإذا قيل له: كيف؟ يقول: يؤمنون بكتابهم، يعني: المؤمن بالشرك والكفر، المؤمن بأن بوذا هو الله، وأن البقر إلهه هذا مؤمن عنده، يعني: وصلنا إلى مراحل من الانحراف فضيعة، ليس فقط إطلاق الإيمان على من لا يعمل شيئًا إطلاق، الإيمان على من يعمل كفرًا، معناه لا يوجد ضوابط في العقيدة صحيحة، فلذلك صار لفظ الإيمان يطلق على الكافر المشرك، هذه أهمية الضوابط.
لماذا الذي لا يعمل شيئًا لا يمكن أن يكون مؤمنًا؟
لأنه لو كان مؤمنًا حقًا لانقاد، ولاستسلم، وعمل لله، فإذا لم يعمل لله شيئًا دل ذلك على أنه ليس بمستسلم، ولا بمنقاد، فكيف يكون مؤمنًا أو مسلمًا، لا يكون.
قال الآجري -رحمه الله-: "اعلموا -رحمنا الله وإياكم- أن الذي عليه علماء المسلمين: أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، ثم اعلموا أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقًا، ولا تجزئ معرفة بالقلب ونطق باللسان حتى يكون عمل بالجوارح، فإذا كملت فيه هذه الثلاث الخصال كان مؤمنًا، دل على ذلك القرآن، والسنة، وقول علماء المسلمين، هذا في كتاب الشريعة [1/ 114].
إذاً الضابط الثاني أن إيمان القلب يستلزم الأعمال الظاهرة.
الضابط الثالث: الإيمان مراتب، ودرجات، وجالأجزاء، وأبعاض، وشعب
ثالثًا من الضوابط: الإيمان مراتب، ودرجات، وجالأجزاء، وأبعاض، وشعب من استكملها استكمل، إذاً ليس الإيمان شيء واحد لا يتجزأ، لكنه مراتب، درجات، شعب من استكملها استكمل الإيمان، ويدل على هذا المعنى قول النبي ﷺ: الإيمان بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان متفق عليه. [البخاري: 9، ومسلم: 35].
فإذاً دل الحديث على أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء، له أعلى وله أدنى، وهذه الشعب متفاوتة لست على درجة واحدة في الفضل، بل بعضها من بعض، وأعلا من بعض، وبعض شعب الإيمان إذا لم توجد فلا إيمان أصلاً، لأن عدم وجودها دليل زواله، كشعبة الشهادتين، ومن شعب الإيمان ما زواله لا يزيل الإيمان، وعدم وجوده لا يعني عدم الإيمان مثل إماطة الأذى عن الطريق، ونصيب العبد من الإيمان بحسب نصيبه من هذه الشعب قلة وكثرة، يعني حتى إماطة الأذى عن الطريق بعض الناس يمكن يقوم بها مرة في السنة، وبعضهم مرة في الشهر، وبعضهم مرة في الأسبوع، بعضهم كل يوم يميط الأذى عن الطريق، ولذلك شعب الإيمان كل شعبة درجات، والخصال ليست على درجة واحدة، فبعض المؤمنون أكمل من بعض، وأشد إيمانًا من بعض، وبعضهم يفرط في شيء من الإيمان الواجب والشعب الواجبة فيكون آثمًا مسيئًا، وبعضهم ينقص عنده من الشعب المستحبة أو مستحبات الشعب ما يجعله في مرتبة أدنى من إيمان آخرين من المؤمنين، لكن ما يصل إلى الإثم، ولا يعاقب كمن نقص من شعبة مستحبة، وهذه قاعدة مهمة جداً في باب الإيمان.
ضلال الخوارج والمرجئة في الإيمان
وبسبب الجهل بهذا أو إنكاره ضلت طوائف من الناس، فأكثر أهل البدع قالوا: الإيمان كل لا يتجزأ، ولا يقبل التبعيض، وليس بمراتب ولا شعب، تفرع عن قولهم هذا أباطيل كثيرة، وأحكام ضالة، وترتب عليها تعاملات ضالة مع الناس.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان من الخوارج، والمعتزلة، والمرجئة، والجهمية، وغيرهم، أنهم جعلوا الإيمان شيئًا واحدًا، إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه" [كتاب الإيمان الأوسط:1/ 28].
من الذي قال: إذا زال بعضه زال جميعه؟
الخوارج.
من الذي قال: إذا ثبت بعضه ثبت جميعه؟
المرجئة.
واضح كيف الضلال حصل، وتقابل في هذه المسألة، فلم يقولوا بذهاب بعضه وبقاء بعضه، وهذا هو الحق، هذا مذهب أهل السنة، كما قال النبي ﷺ: يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان [البخاري:7410].
فإذاً هناك ناس عندهم حبة من إيمان، هناك ناس عندهم أكثر، هناك ناس أدنا، أدنى مثقال ذرة[البخاري:7510].
هناك ناس الإيمان في قلوبهم كالجبال الرواسي، الخوارج لما قالوا: إذا ذهب بعضه ذهب كله؛ ويذهب بعضه بارتكاب كبيرة يذهب كله، حكموا بالتكفير على مرتكب الكبيرة، ثم قالت الخوارج والمعتزلة: الطاعات كلها من الإيمان، فإذا ذهب بعضها ذهب بعض الإيمان؛ فذهب سائره، فحكموا بأن صاحب الكبيرة ليس معه شيء من الإيمان"، انتهى كلام شيخ الإسلام.
أما المرجئة فبسبب قولهم: "إن الإيمان شيء واحد لا يتجزأ"، أخرجوا العمل من مسمى الإيمان، اضطروا المرجئة لما بنوا على قاعدة فاسدة -وهي: "أن الإيمان كل لا يتجزأ" إلى إخراج العمل من مفهوم الإيمان، لأنه لو قالوا: العمل من الإيمان، سيقال لهم: بعض الناس يعمل، وبعض الناس لا يعمل، وبعض الناس عملوا أكثر من بعض، كيف ستحكمون وأنتم تقولون: الإيمان كل لا يتجزأ؟ والمؤمنون كلهم إيمانهم مثل بعض، اضطروا أن يخرجوا العمل من الإيمان، فما بني على باطل فهو باطل، وحصل الزلل، والضلال.
قول أهل السنة في الإيمان
وأما أهل السنة فقد قالوا: إن الإيمان مراتب، وإنه يتفاضل، ويتبعض، فهو ليس شيئًا واحدًا، بل أجزاء وشعب، ونفي كماله لا يلزم منه نفي أصله، وذهاب بعضه لا يلزم منه ذهاب كله.
قال شيخ الإسلام: "الإيمان له أبعاض وشعب، كما قال رسول الله ﷺ في الحديث المتفق عليه: الإيمان بضع وسبعون شعبة"، وذكر الحديث.
قال: "كما أن الصلاة والحج له أجزاء وشعب، ولا يلزم من زوال شعبه من شعبه زوال سائر الأجزاء والشعب، كما لا يلزم من زوال بعض أجزاء الحج والصلاة زوال سائر الأجزاء" [مجموع الفتاوى:7/ 515]. فمثلاً تصح الصلاة بدون التشهد الأول، واحد نسي التشهد الأول والتشهد الأول جزء من الصلاة تصح الصلاة، هل نقول الصلاة باطلة، ووجودها كعمدها؟ لا لكن صلاة الذي أتى بالتشهد أكمل.
هل تصح الصلاة بلا سجود؟
لا؛ لأن السجود ركن، إذاً هذا المتروك أحبط كل، فإذاً هو أجزاء، وهو أبعاض، لكن بعض هذه الأجزاء إذا لم توجد انهدم الأصل، وبعضها إذا لم توجد لا ينهدم الأصل لكنه ينقص، وبناء عليه نفهم أحاديث مثل: والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه [البخاري: 6016].
هل المؤذي للجار يكفر؟ لا. فكيف قال: لا يؤمن الإيمان الكامل، لا يؤمن الإيمان الذي فيه شعبة الإحسان للجار، لأن الشعبة هذه عنده مفقودة، لكن فقد هذه الشعبة لم ينقض الأصل كله، لكن لو واحد ما عنده الإيمان باليوم الآخر هذا النقص هدم الأصل، فإذًا: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن [البخاري: 2475، ومسلم: 57]، المراد هنا كما الإيمان قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ونفي اسم الشيء على معنى نفي الكمال عنه مستفيض في كلامهم"، يعني معروف عند العرب، معروف في كلام الناس، "كقولهم: فلان ليس بإنسان" [فتح الباري: 1/57].
كأن يكون الإنسان هذا متوحش مثلاً، فيقولون: فلان ليس بإنسان، هل قصدهم أن هذا جماد بهيمة؟ لا، فينفون عنه الإنسانية مع أنه إنسان لبعض أعماله الوحشية، ولكن ليس المعنى أنه جماد، ولا بهيمة، هو باق إنسان.
قال الإمام النووي رحمه الله: "قال العلماء: معناه لا يؤمن الإيمان التام، وإلا فأصل الإيمان يحصل لمن لم يكن بهذه الصفة". [شرح النووي على مسلم: 2/16].
يعني: مؤذي للجار، ممكن يكون عنده أصل الإيمان الذي ينجو به من الخلود من النار.
أهل البدع لما انحرفوا في هذا وقالوا: الإيمان كل لا يتجزأ، انبنى على ذلك عندهم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأن الإيمان لا يتفاضل أهله فيه، وأنه لا يجوز الاستثناء في الإيمان، لأنه شيء واحد، وأن من استثنى في إيمانه، فهو شاك، وأنه لا يمكن أن يجتمع مع الإيمان أي خصلة من خصال النفاق، أو الشرك الأصغر، أو الكفر الأصغر.
أما أهل السنة فقالوا: بل الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وأن المسلمين يتفاوتون في الإيمان كما بين السماء والأرض على حسب علمهم وعملهم، وأن بعضهم أكمل إيمانا من بعض، وأن إيمان جبريل وأبي بكر الصديق وعمر ليس كإيمان آحاد الناس، وأن الإيمان يزيد بأعمال القلب، وأعمال الجوارح، وقول اللسان، من أنواع الطاعات والعبادات، وأن الإيمان ينقص بأعمال في القلب كسوء الظن بالله مثلاً، الحقد والبغضاء، وأعمال الجوارح، وأعمال اللسان كالغيبة والكذب، وكالزنى والسرقة، الإيمان ينقص بأعمال في القلب كالعجب، والرياء، والحسد، والكبر. فإذاً كما يزيد الإيمان بأعمال القلب، وأعمال الجوارح، وأعمال اللسان، كذلك ينقص الإيمان بأعمال قلبية، وأعمال لسانية، وأعمال جوارح.
فالذنوب عند أهل السنة والجماعة تضر أصحابها، وتنقص إيمانهم بحسب ذنوبهم، قال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية: 21].
أما الأدلة على قول أهل السنة في القرآن كثيرة مثل قول الله تعالى: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا[المدثر: 31]، أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا[التوبة:124]، وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال: 2]،لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح: 4]، قوله في الحديث: وذلك أضعف الإيمان [مسلم: 49]، كان عمر يقول لأصحابه: "هلموا نزداد إيمانًا". [شعب الإيمان للبيهقي: 37].
ولما سئل سفيان بن عيينة رحمه الله هل الإيمان يزيد؟
قال: "أليس تقرؤون القرآن: فَزَادَهُمْ إِيمَانًا [آل عمران: 173].
قالوا: هل ينقص؟
قال: ليس شيء يزيد إلا وهو ينقص". [الإبانة الكبرى لابن بطة: 1136].
أهل السنة يجتمع عندهم في المسلم الواحد خصلة إيمان وخصلة شرك أو نفاق، يعني: شرك أصغر ونفاق أصغر غير مخرج من الملة مثلاً، وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا[الحجرات: 9] الاقتتال هذا أليس كبيرة من الكبائر؟ هل نفى عنهم الإيمان باقتتالهم؟ لا، إذاً الإيمان ينقص بهذه الكبيرة، لكن لا يزول.
لو قال قائل: أليس يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض[البخاري: 121، ومسلم: 65] ؟
فنقول: بلى، قد قال هذا، ولكن هذا الاقتتال وضرب بعضهم رقاب بعض، هل هو كفر أكبر أو أصغر؟ أصغر، لو واحد اعتقد حل قتاله لأخيه المسلم يصير كفره كفر أكبر، لأن هذا اعتقد عكس ما حكم به الله، معاند، الله يحرمه وهو يقول: لا حلال، هذا يكفر حتى لو ما عمل، يعني: لو أحل الربا حتى ولو ما رابا يكفر، ولو أحل الزنا يكفر حتى لو ما زنى، كفر أكبر مخرج عن الملة، وهذا زنى ويعتقد تحريم الزنا لا يخرج عن الملة، لكن إيمانه ينقص، ويستحق العذاب، لكن ما يخلد في النار، وقد يكون العبد مسلمًا، وفيه خصلة من النفاق، كما جاء في حديث: أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها [البخاري:34، ومسلم:106] الحديث إذاً هذا النفاق العملي، أو النفاق الأصغر الذي لا يخرج عن الملة.
الاستثناء في الإيمان
بناء على ما سبق قال أهل السنة: إنه يجوز الاستثناء في الإيمان، يعني: لو قال واحد: أنا مؤمن إن شاء الله، هذا قصده ألا يزكي نفسه، وأني لست بالمؤمن بالكامل، فالإيمان عند أهل السنة يشمل الاعتقادات، والأقوال، والأعمال، ولذلك يجوز عند أهل السنة الاستثناء هذا، على معنى: أني أنا ما كملت كل الأعمال، والأقوال، والاعتقادات للإيمان، ما كملتها كلها، فإذاً هو ترك لتزكية النفس، وليس شكًا في أصل الإيمان.
قال يحيى بن سعيد القطان رحمه الله: "ما أدركت أحدًا من أصحابنا، ولا بلغنا إلا على الاستثناء". [الإبانة الكبرى لابن بطة: 1183].
قال شيخ الإسلام: "وأما مذهب سلف أصحاب الحديث كابن مسعود، وأصحابه، والثوري، وابن عيينة، وأكثر علماء الكوفة، ويحيى بن سعيد القطان فيما يرويه عن علماء البصرة، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من أئمة أهل السنة كانوا يستثنون في الإيمان، وهذا متواتر عنهم" [الإيمان الكبير: 1/257]، فيصح عندهم أن يقول الواحد: أنا مؤمن إن شاء الله، على هذا المعنى، وليس المعنى أنه يشك في إيمانه.
الضابط الرابع: الإيمان يقوم على ستة أركان
رابعًا: الإيمان يقوم على ستة أركان، الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وهذا دليله واضح في حديث مسلم: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره [مسلم: 8].
هذه أركان لو سقط واحد منها سقط الإيمان، ولا يقوم الإيمان إلا على هذه الأركان الستة، ولا يتم على الوجه الصحيح إلا بها، ومن جحد أحدها فليس بمؤمن أصلاً،وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة: 177]، آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: 285].
الضابط الخامس: لفظة الإيمان، ولفظة الإسلام إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا
خامسًا: من الضوابط أن الإسلام والإيمان اللفظتان: لفظة الإيمان، ولفظة الإسلام إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، بمعنى إذا جاء لفظ الإسلام ولفظ الإيمان في نص واحد فلا بدّ أن يكون هناك فرق بينهما، وإلا يصبح مجرد تكرار، وهذا لا يمكن أصلاً، الألفاظ مختلفة إسلام إيمان، فإذا جاء في عبارة واحدة لا بد أن يكون بينهما فرقًا، فيراد بالإسلام الأعمال الظاهرة: كالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، ويراد بالإيمان الاعتقادات الباطنة، الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، يكون الإسلام هو الاستسلام لله، والخضوع، والانقياد، ويكون الإيمان هو تصديق القلب، وإقراره إيمانه، وجزمه.
فإذا افترقا -إذا جاءت لفظة الإسلام في جملة ولفظة الإيمان جاءت في جملة كل واحد منهما في نص- يكون كل واحد منهما مرادفًا للآخر، فيكون كل منهما يطلق على الدين كله من الاعتقادات والأفعال الظاهرة والباطنة، بما فيها من إسلام، وإيمان، واستسلام، وشعائر، وشرائع، وأحكام اعتقادات، كقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ[آل عمران:19]، وفي المقابل وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[المائدة:3]، وأيضاً: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:5] فالإسلام في هذه الآيات، والإيمان في الآية الأخيرة يراد به الدين كله، هذا بالنسبة إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.
الضابط السادس: مراتب الإيمان ثلاثة
أصل الإيمان، والإيمان الواجب، والإيمان المستحب، يعني: إذا جئنا ننظر إلى مراتب الإيمان من جهة الحكم على الأشخاص، كافر، فاسق، مؤمن لكن عنده نقص، حتى تكون هذه الأحكام صحيحة لا بدّ في هذه الحالة أن نرتب، المراتب في الإيمان مرتبة أصل الإيمان، ومرتبة الإيمان الواجب، ومرتبة الإيمان المستحب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهو مركب من أصل لا يتم بدونه، ومن واجب ينقص بفواته نقصًا يستحق صاحبه العقوبة، ومن مستحبة يفوت بفواته علو الدرجة" هذا كلام شيخ الإسلام. [كتاب الإيمان الأوسط: 1/99].
"من أصل لا يتم بدونه" يعني: إذا لم يوجد أصل لا يجد إيمان.
"ومن واجب ينقص بفواته نقصًا يستحق صاحبه العقوبة"، الذي هو الإيمان الواجب.
"ومن مستحب يفوت بفواته علو الدرجة" يعني: ما يستحق العقوبة لكن فاته علو الدرجة في الإيمان.
فما هو أصل الإيمان؟ الحد الأدنى الذي بدونه لا يوجد إيمان، أصل الإيمان ينجو به صاحبه من الخلود في النار، ليس هو دخول النار من الخلود في النار، وهذه المرتبة المخل بها لا ثبت له في الإسلام قدم بل هو كافر، ومن أتى بأصل الإيمان فإنه تكون له في الدنيا أحكام المؤمنين، وإن مات ينجو من الخلود في النار، ويدخل الجنة لا محالة يومًا من الأيام عاجلاً أم آجلاً، لكن لا يشترط أن ينجو من عذاب النار، ودخول النار.
الإيمان الواجب ما زاد على أصل الإيمان من فعل الواجبات وترك المحرمات، وأهله الذين حققوا الإيمان الواجب لهم الجنةـ ولا يدخلون النار؛ لأنهم ما فعلوا شيئًا يستحقون به دخول النار؛ لأن عندهم الإيمان الواجب الذي هو فعل الواجبات وترك المحرمات.
الإيمان المستحب هو إيمان السابقين بالخيرات، قال تعالى: وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر: 32]، هؤلاء يأتون بالمستحبات، ويتركون المكروهات والمشتبهات، هذا إيمان الصديقين، والمقربين، والأبرار الذين فازوا بالمراتب العلية، والمقامات السامية، مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69]، فهؤلاء يستحقون دخول الجنة في أعلا الدرجات.
بقي أن نتكلم عن ضوابط الغيبيات، وننهي المجلس، وهذه قصيرة إن شاء الله.
حقيقة الإيمان بالغيبيات هذه موضوع آخر بعد الإيمان العام، حقيقة الإيمان بالغيبيات الإيمان بكل ما أخبر الله به، شاهدناه أو لم نشاهده، فهمناه وعقلناه أو لم نحط به، ولم تستوعبه عقولنا وأفهامنا، هذا الذي جعله الله تعالى أول أوصاف المتقين، الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 1-3].
وليس بصحيح أن نقصر الإيمان على الإيمان بالحس والمشاهدة، فإن هذا لا يتميز المسلم من الكافر، الكافر يؤمن بالحس والمشاهدة، لكن الشأن في الإيمان أن يضاف إلى ذلك الإيمان بالغيب، وهذا الذي يتميز به المسلم عن الكافر لأن فيه تصديق مجرد، فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به، أو أخبر به رسوله ﷺ شاهده أو لم يشاهده، عقله أو لم يعقله، بخلاف الزنادقة والمكذبين بالأمور الغيبية، الذين يقولون: لا نصدق إلا ما أدركته عقولنا، لا نؤمن إلا بما أحسسناه، لمسناه، رأيناه، سمعناه، شممناه، ذقناه، والذي لا نحس به بالحواس لا نؤمن به، والإيمان هذا الذي هو الإيمان بالغيب الذي يجمع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة، وأحوال الآخرة ما أخبر الله به عن نفسه من أسمائه وصفاته.
ثانيًا لا يجوز رد شيء من الأمور من أمور الغيب الثابتة في الكتاب والسنة لمجرد استبعاد العقل، فمثلاً أحاديث الدجال كذبها قوم بحجة أن العقل لا يقبلها، وقولهم خطأ لوجهين:
الأول: إذا صح الخبر عن النبي -عليه الصلاة والسلام- فلا كلام، ولا يقال العقل، العقول تتفاوت.
ثانيًا: أن العقل السليم لا ينفي وجود رجل في آخر الزمان بالصفات المذكورة من الضوابط في الغيبيات.
ثالثًا: لا يعلم الغيب إلا الله، وقال : قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ[النمل: 65]، وقال: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ[الأنعام: 59]، فمن اعتقد أو ادعى أن غير الله يعلم الغيب فقد كفر، وضل ضلالاً مبينًا، مثل اعتقاد أن الكهنة والعرافين يعلمون الغيب، من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد [أحمد: 9532، وصحيح الترغيب: 3047].
اعتقاد الصوفية أن الأولياء يعلمون ما في الغيب، اعتقاد الروافض أن أئمتهم الاثني عشر يعلمون ما في الغيب، ونحو ذلك، اعتقاد بعض الجهلة أن الجن يعلمون ما في الغيب، والله : فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ: 14].
ووصل الأمر ببعض الصوفية أن يعتقد أن البدوي يعلم الغيب، وينقلون عنه، وإذا كنت أرعى الوحوش والسمك في البحار وأحميهم من بعضهم بعضًا، أفيعجزني الله عن حماية من يحضر مولدي، وهذا معناه أنك إذا جئت إلى مولده تطلب الحماية، هذا إيقاع الناس في الشرك -والعياذ بالله-، هذا إذًا ضوابط سريعة في الغيبيات.
ودرسنا القادم -إن شاء الله- ضوابط في توحيد الألوهية هذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.