الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
مراجعة ما سبق من أقسام التَّوحيد
فقد سبق الحديث عن التوحيد، وتعريفه، وأقسامه، وأن المتقدمين من العلماء كانوا يُقسمونه إلى قسمين: التَّوحيد العلمي الخبري، والتَّوحيد الإرادي الطَّلبي، وبعضهم يقولوا توحيد السِّيادة وتوحيد العبادة، فتوحيد السِّيادة هو توحيد الرُّبوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وهو التوحيد العلمي الخبري، وسُمي علمياً لأنَّه تعلَّق بمعرفة الله تعالى، خبرياً لأنَّ مصدرهما الكِتَاب والسُّنَّة، والتَّوحيد الإرادي الطَّلبي وهو توحيد الأُلوهية، وهذا التَّوحيد العلمي الخبري أو توحيد السِّيادة تحدثنا عن قسم منه وهو توحيد الرُّبوبية، في درس سابق، بَقِي أن نتحدث عن قسم آخر من أقسام التَّوحيد العلمي الخبري وهو توحيد الأسماء والصفات.
ونحن نعلم أنَّ الله قد حثَّ على توحيده وأمر به، وجمع بين نوعييه في كتابه في سورتي الإخلاص و قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ[الكافرون: 1]. فــ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1]. تتضمَّن التَّوحيد العلمي الخبري، و قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ[الكافرون: 1].
تتضمَّن التَّوحيد العلمي الإرادي، وأمَّا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1]. تتضمَّن التَّوحيد العِلمي الخبري الذي يشمل الرُّبوبية والأسماء والصِّفات، و قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ[الكافرون: 1]. فيها إيجابُ عبادته وحده لا شريك له والتبري من كلِّ ما سواه، ولا يتمُّ أحدَ التَّوحدين إلا بالآخر والنَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام كان يُقرن بين هاتين السورتين في سنَّة المغرب، وكذلك في سنَّة الفجر ليكون مبدأ النهار توحيداً وخاتمته توحيداً، يشمل توحيد الرُّبوبية والأُلوهية والأسماء والصِّفات.
توحيد الأسماء والصِّفات
وأمَّا توحيد الأسماء والصِّفات فإنَّه أشرفُ العلوم وأهمها على الإطلاق؛ لأنَّ شَرف العلم تابعاً لشرف معلومه، لوثوق النَّفس بأدِّلة وجوده وبراهينه وشدَّة الحاجة إلى معرفته، ولا شكَّ أنَّ أجلَّ معلوم وأعظمه هو الله ، الذي لا إله إلا هو ربُّ العالمين، فلا ريب أنَّ العلم به وبأسمائه وصفاته وأفعاله هو أجلُّ العلوم وأفضلها، ونسبته إلى سائر العلوم كَنسبة معلومه إلى سائر المعلومات.
والله قال في كتابه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12].
فأخبر أنَّه خَلَقَ السَّموات والأرض ونزل الأمر بينهنَّ ليعلم عبادُه أنَّه بكلِّ شيء عليم، وعلى كلِّ شيء قدير، فهذا العلم هو غاية الخلق المطلوبة، فقد خُلقنا لتوحيد الأسماء والصِّفات ولتوحيد الربوبية، كما أننا خُلقنا لتوحيد الأُلوهية، فلو قال قائل: عرفنا أننا خلقنا لتوحيد الألوهية وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات: 56].
فهل أيضاً الغاية من الخَلق معرفته بتوحيد الرُّبوبية والأسماء والصِّفات؟ نقول: نعم، فإنَّ قال ما هو الدَّليل؟ قلنا: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا[الطلاق: 12]. فإذاً خلق السَّموات والأرض لأجل أنواع التَّوحيد الثَّلاثة.
أهمية توحيد الأسماء والصِّفات
ولابد أن يُعرف الرَّب بأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، كما أنه ينبغي أن يُعبد بموجبها ومقتضاها، فكما أنَّ عبادته مطلوبة ومرادة لذاتها فكذلك العلم به ومعرفته مطلوب ومراد.
الله يريد منَّا أن نعرف أسمائه وصفاته، وأن نعرف أفعاله وأحكامه وأن نتعبده بموجبها ومقتضاها.
وتوحيد الأسماء والصَّفات هو أصل العلوم الدينيَّة، كما أن العلم بأسماء الله وصفاته وأفعاله أجلَّ العلوم وأشرفها وأعظمها، فهو أصلها كلُّها، وكلُّ علم تابع له مفتقر إليه، فالعلم به أصلُ كل علم ومنشأه، فمن عرَفَ الله عرف ما سواه، ومن جهل ربَه فهو لما سواه أجهل، قال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[الحشر:19].
فمن نسي ربه أنساه ذاته ونفسه، فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه، بل نَسيَ ما بِه صلاحُه وفلاحُه في معاشه ومعاده؛ لأنَّه خرج عن فطرته التي خُلق عليها، فلمَّا نسي ربَّه أنساه نفسه، كما ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى. [مفتاح دار السعادة: 1/86] وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا[الكهف: 28].
فَغفل عن ذكر ربِّه فانفرط عليه أمر قلبه، ولا صلاح له ولا كمال إلَّا بأن يعود إلى الله فيعرفه، فأصل العلوم كُلُّها هو العلم بالله ، ومعرفة أسماء الله وصفاته هي الأساس التي ينبني عليها عمل العبد أيضاً، وتتحدد علاقته بربه، وعلى ضوئها يعبد ويتقرب.
الفَرق بين العِلم عند السَّلف وعند أهل البِدَع
ولذلك كان أصل علم السلف وعملهم هو:
أولاً: العلم بالله.
ثانياً: العمل لله.
هذا خلاصة الدنيا كُلّها، وخلاصة ما ينبغي أن نعمله في الدنيا كلها إلى أن نموت هذان الأمران: العلم بالله، والعمل لله، فجَمَع السَّلف بين التَّصديق العلمي والعمل الحُبِّي، ثم إنَّ تصديقَهم عن علم، وعملهم وحبَّهم عن علم، فسَلِموا من غوائل المتكلِّمة والمتصوِّفة.
فأمَّا الكلاميون فغالب كلامهم إثبات وانتفاء ووجود وعدم وقضايا تصديقية، فغايتهم مجرد التَّصديق والعلم والخبر.
الصُّوفية غالب طلبهم وغايتهم ومعملهم في المحبَّة والبغضاء والإرادة والكراهة والحركات العملية، هذه من جهة الغايات، لكن وسائلهم في هذه فيها انحراف كبير، فهؤلاء المنحرفون من الكلاميين والصُّوفية صار عندهم المفسدتان العظيمتان إحداهما: القول بلا علم وهم المتكلمة، والعمل بلا علم وهم الصُّوفية، وبذلك فاتَهم القول بالعلم والعمل عن علم.
أمَّا السَّلف فقد حقَّقوا كلَّ الأمرين من القول التَّصديقي المعتمد على معرفة أسماء الله وصفاته، المعتمدة في الكِتاب والسُّنَّة، والعمل الإرادي ابتغاء وجه الله باتباع الأوامر والنواهي وفق ما شرع ، ولذلك كان كلام السَّلف وعملهم باطناً وظاهراً بعلم، وكان كلُّ واحدٍ من قولهم وعملهم مقرون بالآخر فهؤلاء هم المسلمون حقاً.
فالسَّلف وأتباع السَّلف جعلوا من توحيد الأسماء والصِّفات إحدى الرَّكيزتين الَّلتَين قام عليهما منهجهم المعتمد على الكتاب والسُّنَّة.
أهمية العلم بأسماء الله وصفاته
والعلم بأسماء الله وصفاته يفتح للعبد بابَ معرفة الله ، فإنَّ محبة الشَّيء فرع عن الشِّعور به، فأعَرَفُ الخلق بالله أشدُّهم له حباً، وكلُّ من عرف الله أحبَّه، ولا سبيل للحصول على هذه المعرفة إلَّا من باب العلم بالأسماء والصِّفات، كيف ستعرف اللهَ إلَّا بأسمائه وصفاته! ولا تَسقيم للعبد قدمُه إلا بالتَّعرِّف إلى أسمائه وصفاته الواردة في الكتاب والسُّنَّة، فالعلم بأسماء الله وصفاته يفتح باب المعرفة العظيم، والله لم يُبين لنا ذاته في الدُّنيا، وقد قال عليه الصلاة والسلام: فاعلموا أنَّه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت [رواه مسلم: 2931]. رواه مسلم، فإذا ما رأيناه: فكيف سنتعرَّفُ عليه ونحن لا نراه؟ ليس هناك طريقاً إلَّا العلم بالأسماء والصِّفات، وليس هناك طريقةً للعلم بالأسماء والصِّفات إلَّا من الوحي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85].
علم الإنسان محدود لا يمكن أن يتوَّصل إلى معرفة أسماء الله وصفاته على التَّفصيل بذاته بدون مصدر، وهذا المصدر هو الكتاب والسُّنَّة، وقد اقتضت حكمته تعالى أنَّه أرسل إلينا معرِّفين يُعرِّفوننا إياه ، وأرسل إلينا داعيين يدعوننا إليه ، فهؤلاء هم الرُّسل صلوات الله وسلامه عليهم، وأصلُ دعوتهم معرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته ثُمَّ يتبعه تعريف النَّاس بالطِّريقة الموصلة إلى الله باتِّباع الشَّريعة ولزوم الأحكام الشَّرعية، وتعريف الخلق مآلهم في الآخرة، إذا اتَّبعوا ماذا يكون لهم؟ وإذا تركوا وخالفوا ماذا يكون لهم؟ هذه كلُّ دعوة الرُّسل، عرَّفونا ربَّنا بأسمائه وصفاته، ثمَّ دلُّونا إلى الطَّريق الموصلة إلى الله وكيف نعبده، عرَّفونا الشَّريعة والحلال والحرام والشَّرائع والنُّسك، ثمَّ عرَّفونا مآلات الذي يطيع أين يصل، والعاصي أين يصل، وأساس العلم الصَّحيح هو الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته وتُنبي مطالب الرِّسالة جميعها على هذا التَّوحيد، فهو أصل الهداية والإيمان وأصل الدِّين، ولا يُتصوَّر إيمانٌ صحيحٌ ممن لا يعرف ربَّه، فهذه المعرفة لازمة الانعقاد أصل الإيمان، وهي مُهمَّةٌ جداً للمؤمن لشدَّة حاجته إلى الله ليسلم قلبه ويصلح ما فقده ويستقيم عمله، فإذاً معرفة الأسماء والصفات توجب العبد التَّمييز بين الإيمان والكفر، وتُؤدِّي إلى تنزيه الله وإجلاله وإكرامه ، وتُدَبُّر كلامه، وما تعرف به إلى عباده على ألسنة رسله هو الطَّريق.
معرفة الله نوعان:
ومعرفة الله نوعان: الأول: معرفة إجماليَّة، والثَّانية: المعرفة التَّفصيلية.
المعرفة الإجمالية: تَلزم العبد لينعقد بها أصل الإيمان، وتتحقَّق بالقدر الذي يُميِّز العبد به بين الله والآية الباطلة، والمعرفة الإجمالية التي نتيجتها تجعل الإنسان في سلامة من الشِّرك والكفر وتُخرجه عن حد الجهل بالرَّب إلى معرفة الرَّب، هذه يعرفها عوامُّ المسلمين، ويمكن تحصيلها بسورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1].
وآية الكرسي، فمن عَرَفَ آيةَ الكرسي وقل هو الله أحد صار عنده المعرفة الإجمالية، لكن هذه المعرفة لا تُؤدِّي إلى الرُّسوخ وقوة الإيمان إلا إذا جاءت المعرفة التفصيلية، وهي معرفة الأدِّلة الوَاردة في هذا الباب، وهي الأسماء والصِّفات واعتقاد اتِّصاف الله بها، ومعرفة معانيها والعمل بمقتضاها، وكُلَّما ازداد العبد علماً بالله ازداد إيمانه وخشيته ومحبته لربه، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر: 28]. العلماء به سُبحانه وبشريعته، كما أنَّ هذا العلم يجلب البصيرة والنَّور.
العلم بالله نوعان
والعلم بالله يُراد به نوعان: أحدهما العلم بما هو متصفٌ به من نعوت الجلال والكمال، وما دلَّت عليه أسماؤه الحُسنى، وهذا العلم إذا رسخ في القلب أوجب خشية الله لا محالة، فإنَّه لابُّد أن يعلم أنَّ الله يُثيب على طاعته ويعاقب على معصيته، والنوع الثاني: العلم بالأحكام الشَّرعيَّة من الأوامر والنواهي والحِلّ والحرام التي فرضها الله ، ولذلك قال السَّلف عبارة جيدة: "العلماء ثلاثة: الأول: عالم بالله ليس عالماً بأمر الله" عنده علم بالتَّوحيد لكن لا يعرف الحلال والحرام ولا يعرف الشريعة، "الثاني: عالم بأمر الله ليس عالماً بالله"، فقيه الحلال والحرام، لكن لا يعرف الأسماء والصِّفات، "الثالث: عالم بالله وبأمر الله". [مجموع الفتاوى: 4/333].
وهذا هو المطلوب، فالعَالم بالله الذي يخشى الله، والعالم بأمر الله الذي يعرف الحلال والحرام، فيمكن أن يكون فقهاء مشركون، يجيدون الفِقه ويعلمون في التَّفاصيل الدَّقيقة في المنكرات والنِّكاح والطَّلاق والبيوع والإجارة والحول، لكن في التَّوحيد مشركون أو جهلة، وهذا النَّوع موجود في العالم الإسلامي، أبدعوا وبرعوا في الفقه لكن جهلوا في التَّوحيد، ولا يستقيم الأمرُ إلَّا بهذين الأمرين: تعرف الله وتعرف شريعته، والعلم بأسماء الله وصفاته هو حياة القلوب، فإنَّه لا حياة لها، ولا نعيم ولا سرور ولا أمان ولا طمأنينة إلَّا بأن تعرف القلوب ربها ومعبودها وفاطرها، ويكون الله أحبَّ إليها مما سواه، والإنسان بدون الإيمان بالله لا يمكن أن ينال معرفة ولا هداية، وبدون اهتداءه إلى ربه لا يكون إلا شقياً معذباً، واللهُ لما خلق الإنسان ركَّبه من روح وجسد، وشاء أن يكون خلق الجسد من تراب، وقال: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الحج: 5]. فجعل قوام الجسد وحياته من التُّراب، فهو يأكل ويشرب ويكتسي من الأرض وما فيها، وجعل في الجسد روحاً فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي[ص: 72].
فإذا كان قوام الجسد وحياته بالأكل والشُّرب واللباس، والجسد مخلوق من تراب، وجعل في الجسد روحاً، فما هو قوام الرُّوح وما هو عيشها وكمالها وحياة هذه الروح وإشراقها ونورها؟ المعرفة بالله فلا شيءٌ أطيبُ للعبد، ولا ألذُّ ولا أهنأ ولا أنعَم من معرفة فاطره، وباريه، وأن يداوم على ذكره، ويسعى في مرضاته، لذلك فإنَّ مَن في قلبه أدنى حياةٍ أو محبةٍ للرَّب، وإرادة لوجهه ، وشوق إلى لقاءه، لابُّد أن يطلب باب الأسماء والصِّفات، ليتحرك قلبه لمعرفة ربه، ويحرص على معرفة أسمائه وصفاته، وأن يزداد تبصُرَّاً فيه ، وأن يستكشف صفات رَبِّه وأسمائه، ليتعرَّف عليه ويكون أعلم به، ويكون أشدَّ محبةٍ له ، فعلم الأسماء والصِّفات أفضل ماكتسبته القلوب، وحصَّلته النُّفوس، وأدركته العقول، وليس لها صلاحٌ إلا به.
ثمرة معرفة أسماء الله وصفاته
فأمَّا ثمرة معرفة الأسماء والصِّفات فإنَّ هذه المعرفة لا شك تزيد الإيمان، وتُرسِّخ اليقين، وتجلب النَّور والبصيرة، وتنقذ الإنسان من الشُّبهات المضلِّلة والشَّهوات المحرمة؛ لأنَّ علم الأسماء والصِّفات إذا رسخ في قلب العبد أوجب خشية لله ؛ لأنَّ كلَّ اسم من أسماء الله له تأثيرٌ معينُ في القلب والسُّلوك، فإذا أدركَ قلبُ العبد اسم لله وما يتضمَّنه، واستشعر ذلك تجاوب مع المعاني، وانعكست المعرفة على التَّفكير والسُّلوك، ولكلٍّ صفة عبودية خاصَّة هي من موجباتها ومقتضياتها، فالأسماء الحُسنى والصِّفات العُلى مقتضيها لآثارها من العبودية، وهذا مُطَّرد على القلب والجوارح، فعلم العبد مثلاً بتَفَرِّد الرِّب تعالى بالضُّر والنَّفع والعطاء والمنع والرزق والإحياء والإماتة، فإذا أيقَن العبدُ أنَّ الرَّب مُتفرِّد بهذه الأمور يثمر ذلك توكلاً عليه ، ولزومه هذا التَّوكل فلا يطلب من غيره، ولا يعتمد إلا على الله، وعلم الإنسان بسمع الله تعالى وبصره وأنَّه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السَّموات والأرض، وأنَّه يعلم السِّر وأخفى، وأنَّه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يَثمِرُ للعبد حفظ جوارحه ولسانه وخطرات قلبه عن كلِّ ما لا يرضي الله، فيجعل الأعضاء مُتعلِّقةً بمرضات الله وتعمل لمرضات الله، وكذلك إذا عَرفَ العبد أنَّ الله هو الغنيُّ الجواد الكريم البَرُّ المحسن إلى عباده، فسيحصل عند إيمانه بهذا سعةُ الرَّجاء لله ، وكذلك معرفته بجلاله وعظمته وعِزَّته تثمر له خضوعاً واستكانة لرّبِّه ومحبة له، وهكذا تأتي الأسماء والصِّفات بآثار على العبودية، والعبودية مرتبطة بالأسماء والصِّفات، وبهذا يَتبين أنَّ معرفة العبد بأسماء الله وصفاته على الوجه الذي أخبر به توجب على العبد أن يقوم لربه بالعبودية، وأن يكون أكملَ له إخلاصاً ومحبةً وقياماً بأمره ونهيه، فالذي يترك المعاصي هو الأخشى لله، ولابُّد تحصل الخشية بالتَّعرُّف على أسماء الله وصفاته، وعلى كمال اطلاعِه على عباده، فكيف يحصل الخوف؟ وكيف يحصُل تَرك الحرام؟ إذا عَلِم أنَّه شديد العِقاب فيخشى اللهَ في ذلك، وإذا عَلِم قدرتَه على الأَخذ والبَطش، وجبروته ، وأنَّه على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وكيف يندفع للعبادة؟ ويتحمَّلُ آلامَها والمشاقَّ؟ إذا علم أنَّه كريمٌ يعطي، رحيم تُرجى جنَّته، ويلتَمِس المضاعفةَ على الأجر، وهذه الطَّريقة هي المشتَملة على قوله تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا[الأعراف: 180].
فقوله: فَادْعُوهُ بِهَا يتَضمَّن دعاء العِبادة، ودعاء الثناء، ودعاء المسألة، فهو سبحانه يدعوا عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها ويأخذوا بحظهم من عبوديتها.
أهمية فهم توحيد الاسماء والصِّفات
ويعتبر باب الأسماء والصِّفات من أكثر الأبواب خطورةً ومزلةً، من جهة كونه مَحلُّ خلافاتٍ شديدةٍ، ومعقَّدةٍ دارت رحاها بين علماء السلف من جهة والفلاسفة وأهل الكلام والمشبهة من جهة أخرى، ولذلك كان التَّعَمُّق في هذا العلم وفهمه والتَّيقُّن فيه يُجَنِب الإنسان الانزلاق في مهاوي هذه الطُّرق الفلسفيَّة والكَلاميَّة، ويُذَكِّر العبدُ نفسَه بقوله تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ[النساء: 59]. فالرَّد إلى الله يعني الرَّد إلى كتابه، والرَّد إلى الرَّسول يعني الرَّد إلى سنته عليه الصلاة والسَّلام.
وقد قال تعالى: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ[البقرة:140]. فالله أعلَمُ بنفسه منَّا، فهو الذي أخبرنا بأسمائه وصفاته في كتابه وعلى لسان نبيه ﷺ الذي قال عنه رده: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[النجم:4-5]. فنظراً لامتلاء العَالَم بالشُّبهات الفَلسفيَّة، والطُّرق الكلامية، والمناهج المنحرفة في الرَّب ، والاعتقاد به اعتقاداتٍ مُنحَرفةٍ، ووصفه بأشياء منحرفة كان لابُّد من فَهم باب الأسماء والصفات، لتَستَقِرَّ قدمُ العبد في طريق المعرفة والإيمان، وأن يتجنب هؤلاء المبتدعة، بل ويَردُّ عليهم.
تعريف توحيد السماء والصِّفات
ما هو تعريفُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفات؟ قلنا: التوحيد: هو الإفراد، فكيف نُطَبِّقه في الأسماء والصِّفات؟ التعريف إذاً هو: إفراد الله بأسمائه الحُسنى، وصفاته العُلى الواردة في الكتاب والسُّنَّة، والإيمان بمعانيها وأحكامها.
معنى الحُسنى
شرح التَّعريف: إفرادُ الله هو التَّوحيد الذي سبق ذكرُه، بأسمائه الحُسنَى، الاسم في اللغة: اللفظ الموضوع لمعنى تعييناً أو تمييزاً. الاسم: ما دلَّ على ذات، وما قامَ بها من الصِّفات. فمن أسمائه : الله، الرَّحمن، الرَّحيم، الغفور، العزيز، القدير، السَّميع، البصير... إلخ، نتابع التَّعريف: "الحُسنَى" فهذا وصفٌ لأسماءِ الله تعالى ورد ذكره في القرآن الكريم في مواضع أربعة: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا[الأعراف: 180]. قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى[الإسراء: 110]. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى[طه: 8]. هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى[الحشر: 24].
ما هو تصريف كلمة الحُسنى؟ الحُسنى على وزن فُعلَى، تَأنيث أفعَل التَّفضيل، فحُسنى تأنيث أحسَن، ككُبرَى تأنيث أكبر، وصُغرَى تأنيث أصغر، ولهذا يُخطِأُ من يقول إنها تأنيث حَسَن، لأنَ تأنيث حَسَن حَسَنة، لم يَقُل: ولله الأسماء الحَسَنة، قال:وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، ومن أجل ذلك لا يَصحُّ أن نقول: إنَّ أسماءَ اللهِ حَسَنةٌ، والصواب أن نقول: إنَّ أسماءَ الله حُسنَى كما وصفها هو بذلك، ومعنى حُسنَى: مُفَضلَةٌ على الحُسنَة، يعني البَالغةُ في الحُسن غايتَه، والمعنى العام للآية: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى[الأعراف: 180].
يعني: لله أحَسنُ الأسماء وأجلُّها؛ لأنَّها تُنبِّأُ عن أحَسَن المعاني وأشرفها.
فيجب الإيمان بهذا الوصف الذي أخبَر الله به عن أسمائه بالاعتقاد الجازم أنَّ أسماءَ الله هي أحَسَن الأسماء وأتمَّها وأكلمها معنى، وفي هذا الوصف أحكام أخرى ستأتي إن شاء الله.
معنى صفاته العُلى
وأما قولنا في التَّعريف: "وصفاته العلى"، فإنَّ الصِّفات جمع صِفة، وهي ما قام بالذِّات مما يُميّزها عن غيرها من أمور ذاتية أو معنوية أو فعلية، فصِفاتُ الله تعالى منها ذاتيةٌ، ومنها معنوية، ومنها فعلية، وهذا التَّقسيم فنيٌ، فالصِّفات الذَّاتية مثل: اليَدان، والوَجه، والعينان، والأصابع، والمعنوية: القُدرَة، الحياة، الإرادة، والفعلية: النُّزُول، الاستواء، الخَلق، الرِّزق، فهذه لله تعالى صفات، والعُلى جاء هذا الوصف في
القُرآن الكريم في الآيات التَّالية
قال الله تعالى: لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[النحل: 60]. تصريفُ الأعلَى على صيغة أفعَل التَّفضيل، بمعنى: أعلى من غيره، ومعنى الآية قال القرطبي: "ولله المثل الأعلى: أي الوصف الأعلى"[تفسير القرطبي: 10/106].
وقال ابن كثير: "ولله المثل الأعلى، أي الكمال المطلق من كل وجه" [تفسير ابن كثير: 4/578].
وقال ابن سعدي رحمه الله: "ولله المثل الأعلى، كل صفة كمال، وكل كمال في الوجود فالله أحق به من غيره من غير أن، أحق به من غير أن يستلزم ذلك نقصاً بوجه"[تفسير السعدي: 442].
فيجب الإيمان بما أخبر اللهُ به عن نفسه، وذلك بالاعتقاد الجازم أنَّ كلَّ ما أخبر الله في كتابه، أو على لسان رسوله ﷺ من الصِّفات هي صفات كمال؛ لأنَّ الشَّخص لو تُوهَّم أنَّ هذه صفة فيها نقص سيلجأ للتحريف، فهم زاغوا لما بدا عندهم قضية اعتقاد النَّقص فيها، ولما نقول يجب الإيمان بها على أنَّها صفاتُ كمال سددنا طريقَ التَّحريف والتَّأويل، فإذا آمنَّا أنَّها أسماءٌ حُسنَى وصِفاتٌ عُلى، وأنَّها كُلُّها كاملةٌ وتامَّةٌ ليس فيها نَقصٌ بأي وجهٍ من الوجوه، قطعنا الطَّريق لتأويل أو تحريف مُحرَّفٍ، فكلُّ ما أخبر اللهُ به في كتابه، وعلى لسان رسوله ﷺ من الصِّفات هي صفات كمال، لا نقص فيها بوجه من الوجوه، قال ابن القيم رحمه الله: "المثل الأعلى يتضمن ثبوت الصفات العليا لله سبحانه، وجودها العلمي والخبر عنها، وعبادة يتقرب بها". [الصواعق المرسلة: 3/1034].
وعندما نقول في تعريف الأسماء والصِّفات: الأسماء الحُسنَى، والصِّفات العُليا، الواردة في الكتاب والسُّنَّة، يجب أن نكون وقَّافين عند ما جاء في القرآن والسنة، لا نُسمي اللهَ بأيِّ اسم، ولا نَصفُه بأيِّ صفةٍ إلَّا إذا وردت في هذين المصدرين، فليس لنا طريقٌ في معرفة أسماء الله وصفاته إلا طريق الكتاب والسُّنَّة، فلو قال قائل: لله سمعٌ بلا أُذنين، وقال آخرٌ: لله سمع بأُذنين، فأيُهما الصَّحيح؟ نَرجِع للكتاب والسُّنَّة، فلا نجد ذِكرَ الأُذنين، فلو كان الكلام كُلُّه خطأً لحكمنا بخطأ الاثنين؛ لأنَّه لم يأتِ ذكرُ الأذنين في الكتاب والسُّنَّة لا نفياً ولا إثباتاً، إذاً إثباتها جريمة ونفيها جريمة، فقد حَذرَنَا اللهُ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ[البقرة: 169].
فلا تَثبت ولا تَنفي إلا بدليلٍ، فالحقُّ أن يقال: لله سمع يَليقُ بجلاله وعظمته هو أثبته لنفسه، كما جاء ذلك في النُّصوص، وهو نهانا أن نتكلَّم في حقه بغير علم، وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا[الإسراء: 36].
وبالتالي لا إثبات ولا نفي إلا بنصٍّ، احفظ هذه القاعدة، قال الإمام أحمد رحمه الله: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله ﷺ، لا نتجاوز القرآن والسنة". [مجموع الفتاوى: 5/26].
وقال ابن عبد البر: "ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصاً في كتاب الله أو صح عن رسول الله ﷺ، أو أجمعت عليه الأمة".
وأضاف عبارة ترد على بعض المبتدعة قال: "وما جاء من أخبار الآحاد يعني الصحيحة في ذلك كله أو نحوه يُسلم له ولا يناظر فيه". [جامع بيان العلم وفضله: 2/195].
الإيمان بمعاني الأسماء والصِّفات، وأحكامها
وأما قولنا في التَّعريف: "والإيمان بمعانيها وأحكامها" فيجب أنَّ نُؤمن بما تَضمَّنته من المعاني، وقد جاء الأمر بذلك والحثُّ عليه، كما قال الله: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180].
والشاهد قوله: فَادْعُوهُ بِهَا، ووجه الاستشهاد: أنَّ الله يدعو عبادَه إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بِحظِّهم من عبوديتها، وسبق قلنا أنَّ الدعاء أقسامٌ ومنها: دعاءُ مسألةٍ كقولك: يا رزَّاق ارزقني، فدعوته باسمه الرَّزاق دعاءَ مسألةٍ، وأمَّا دعاءُ ثناءٍ كقولك: سُبحان الله، أو الحَمدُ لله، ودعاءُ التَّعبُّد :كالرُّكوع والسُّجود، إذا ركعتَ وسجدتَ له، فهذا أنواع الدُّعاء العَام: دعاءُ تعبدٍ، دعاءُ ثناءٍ، دعاءُ مسألةٍ، وقد قال النَّبيُّ ﷺ في مسألة العمل بالأسماء والدعاء بها: إن الله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحد إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة [رواه البخاري: 2736، ومسلم: 2677]. متفق عليه.
قوله: من أحصاهاما معناه؟ حَفِظ ألفَاظَها، وفَهِم معانيها، وعَمِلَ بمقتضياتها وأحكامِها، فتلك ثلاثةُ أشياءٍ، لا يأخذ شخصٌ هذه الورقَة المطبُوعة في آخر بعض المصاحف التي يوجد فيها التسعة والتسعين الاسم يحفظها ليدخل الجَنَّة، هذه مسألةٌ يوجد فيها مطلوبات عظيمة، "أحصاها" أي: حفظ ألفاظها، وعرف معانيها، وعمل بمقتضياتها وأحكامها، فالعلم بأسماء والله وصفاته واعتقاد ذلك من العبادة، وإدراك القلب لمعانيها وما تضمَّنته من الأحكام والمقتضيات، واستشعاره لذلك وتجاوبه مع هذا بالعمل: أمراً، ونهياً، ووقفاً هو عبادة، فأهل السُّنَّة يُؤمنون بما دلَّت عليه أسماءُ الله وصفاته من المعاني، وبما يترتَّب عليها من المقتضيات والأحكام، بخلاف أهل الباطل الذين أنكروا ذلك وعطلَّوه.
مُقتضيات الإيمان بتوحيد الاسماء والصِّفات
فأهل السُّنَّة يُؤمنون بأنَّ كلَّ اسمٍ من أسماء الله يَدلُّ على معنى -الذي نسميه الصِّفة- كان لازماً علينا أن
نؤمن به، مع مراعاة الأمور التالية:
أولاً: الإيمان بثبوت ذلك الاسم لله .
ثانياً: الإيمان بما دلَّ عليه الاسم من المعنى، وهو الصِّفة المتضمِّنة في ذلك الاسم.
ثالثاً: الإيمان بما يتعلَّق به من الآثار والحِكم والمقتضى، فمثلاً: اسم السَّميع، أولاً: الإيمان بإثبات واعتقاد اسم السَّميع لله، ثانياً: الإيمان بالصِّفة المتضمِّنة فيه وهي صفة السمع، ثالثاً: إثبات الحُكم وهو أنَّ الله يسمع السِّر والنَّجوى، ويسمع الجَهر وما يخفى، وإثبات المقتضى والأثر، الخشية لله، ومراقبته والخوف منه والحياء، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "كل اسم من أسمائه له تعبُدٌ مختَصٌ به علماً ومعرفة وحالاً". [مدارج السالكين1:/ 420].
علماً ومعرفة: أيّ أنَّ من عَلِمَ أنَّ لله مُسمَّى بهذا الاسم، وعرف ما يتضمَّنه من الصِّفة ثم اعتقد ذلك فهذه عبادة، وحالاً: أي أنَّ لكُلِّ اسمٍ من أسماء الله مدلولاً خاصَّاً وتأثيراً معيَّناً في القلب والسُّلوك، فإذا أدركَ القلبُ معنى الاسم وما يتضمَّنه، واستشعر به، وتجاوب معه انعكست هذه المعرفة على السُّلوك والتَّفكير، وكذلك الشَّأن في كلِّ صفات الله تعالى، بخلاف المعطِّلة الذين عطَّلوا الأسماء والصِّفات.
مقتضيات الإيمان بالصِّفات
فإذاً لابُّد أنَّ نُؤمن بالصِّفات، ونراعي في ذلك الأمور التَّالية:
أولاً: إثبات تلك الصِّفة لله فنتَجنَب الإنكار والنَّفي.
ثانياً: أن لا نتعدِّى بها الاسم الخاص الذي سمَّاه الله به، بل يُحترم الاسم كما تُحترم الصِّفة، فلا تُعطَّل الصِّفة ولا يغير اسمها، ويُجعل عليها اسم آخر كما تفعل المعطلَّة، يأتون إلى السَّمع والبَصر مثلاً، ويُسمُّونها أعراضاً، ويُسمُّون الوجه واليَدين والقَدم أبعاضاً، وعُلوِّه تعالى واستوائه على عرشه يُسمُّونه تحيُّزاً، فغيروا وعطلُّوا ثم نفوا الصِّفات، وقالوا: لأنَّنا نُنَزِّه اللهَ عن الأبعاض والأعراض والتَّحيُّز.
ثالثاً: أن لا نُشبِّهها بصفات المخلوقين، فإنَّ الله تعالى ليس كمثله شيءٌ، لا في ذاته، ولا في صفاته ولا في أفعاله.
رابعاً: نقطع الطَّمع في إدراك كُنهها وكيفيتها، فالعقل قد يأس من معرفة كل صفة وكيفيتها، فإنَّه لا يعلم كيف الله إلا الله، وهذا معنى قول أهل السنة: نثبتُها بلا كيفٍ معلوم لنا، فلا نعقله نحن البشر، وليس المعنى بلا كيف مطلقاً، بل إنَّ لها كيفٌ لكن لا يعرفه ولا يعلمه إلا الله، فإنَّ من لا تُعلم حقيقةٌ لذاته وماهيته، كيف تعرف حقيقة صفاته؟.
خامساً: لا بُد أن نُحقق مقتضى وأثر هذه الصِّفات، ولكلِّ صفةٍ عبوديةٌ خاصةٌ، من موجباتها ومقتضياتها، فعِلمُ العبدِ بتفرُّد الرَّبِّ بالخلق والرَّزق والإحياء والإماتة يُثمر التَّوكل، وعلمه بجلاله وعظمته وعزمه يُثمر الخضوع والاستكانة والمحبة لله .
عقيدة أهل السُّنَّة في الاسماء والصِّفات
منهج أهل السُّنَّة والجماعة في الأسماء وقد سبق أن عرفنا من هم أهل السُّنَّة والجماعة، ومن هم السَّلف والطَّائفة المنصورة، وأهل الحديث والجماعة؟ معتقد أهل السنة في أسماء الله وصفاته يقوم على ما يلي:
أولاً: يُسمُّون اللهَ بكلِّ ما سمَّى به نفسَه في كتابه، أو على لسان رسوله ﷺ، لا يزيدون ولا ينقصون، ولا نفي ولا إثبات إلا بنصٍّ.
ثانياً: يُثبتون لله ويَصفونه بما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسانه رسوله ﷺ من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ، وسنعرف الفرق بينها.
ثالثاً: يَنفُون عن الله ما نفاه عن نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله ﷺ، مع اعتقاد أنَّ الله موصوفٌ بكامل ضد ذلك الأمر المنفي، فإذا نفى الله عن نفسه صفةٍ كصفة النوم مثلاً، فيجب أن نعتقد ونَثبت كمال الضِّدِّ، فأهل السُّنَّة سلكوا في هذا الباب في المنهج القرآني والنَّبوي، فكُّلُّ اسمٍ أو صفةٍ لله سبحانه وردت في الكِتَاب أو السُّنَّة الصَّحيحة من قبيل الإثبات يثبتونها، والنَّفي: يَنفون عن الله ما نفى عن نفسه مع إثبات كمال الضَّدِّ.
قال الإمام أحمد رحمه الله: "لا يُوصف الله إلا بما وصف به نفسَه أو وصفه به رسوله ﷺ، لا نتجاوز القرآنَ والسُّنَّة". [مجموع الفتاوى: 5/26].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ملخصاً منهج أهل السنة والجماعة في عقيدة الأسماء والصفات، قال: "وطريقة سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله ﷺ من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، إثبات الصفات ونفي مماثلة الخلوقات، قال الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فهذا رد على الممثلة وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11]، ورد على المعطلة كذلك". [منهاج السنة النبوية: 2/310].
فقولهم في الصِّفات إذاً مبني على أصلين: أحدهما: أنَّ الله مُنَزَّهٌ عن صفات النَّقص مطلقاً كالسِّنة والنَّوم والعِجز والظُّلم والجهل وغير ذلك من صفات النَّقص والعيوب، والثاني: أنَّه مُتَّصِفٌ بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الاختصاص بما له من الصِّفات، فلا يماثله شيء من المخلوقات لا في أسمائه ولا في صفاته.
من النُّصوص التي تُثبت صفات الكمال، وتَنفي صفات النَّقص
فمن النُّصوص التي تُوضح ذلك قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[الشورى: 11]. ففي مقام النَّفي: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وفي مقام الإثبات: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[الشورى: 11]، قوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ[الفرقان: 58].
ففي مقام الإثبات: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ وفي مقام النفي: الَّذِي لا يَمُوتُ، وقال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: 255].
ففي مقام الإثبات: اللهُ الحيُّ القيوم، وفي مقام النفي لا إله إلا هو لا تأخذه سنة ولا نوم.
وأما من السنة فقد جاء في مقام الإثبات قوله ﷺ: ينزل ربُّنا حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى السَّماء الدُّنيا [رواه البخاري: 1145، ومسلم: 758]. متفق عليه.
وقوله ﷺ: لما قضى الله الخلق كَتَبَ في كتاب فهو عنده فوق العرش إنَّ رحمتي غلبت غضبي [رواه البخاري: 3194، ومسلم: 2751]. متفق عليه.
هذه في مقام الإثبات، يعني: هذه الأحاديث تتضمن الصفات المثبتة، نريد أحاديث تضمنت صفات منفية، قال ﷺ: اربعوا على أنفسكم ارفقوا بأنفسكم يا أيها الناس الذين تصيحون بالأذكار- فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبَ [رواه البخاري: 2992]. فنفى أن يكون اللهُ أصمَّاً، ونفى أن يكون غائباً، وقالﷺ في حديث الدجال: وإن ربكم ليس بأعور [رواه البخاري: 7131، ومسلم: 2933].
فنفى عن الله صفة العور، وقال ﷺ: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام [رواه مسلم: 179]. فنفى عن الله صفة النَّوم، فإذاً هناك أحاديث فيها إثبات صفات، وأحاديث فيها نفي صفات نقص أو عيوب، فنحن نُثبتُ ما أثبتَه وننفي ما نفاه.
ما يضاد الاسماء والصِّفات
وقول أهل السُّنَّة من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تَكييف ولا تمثيل، ينبغي أن نعلم أنَّ توحيد الأسماء
والصِّفات له ضدان:
أولاً: التَّعطيل.
ثانياً: التشبيه والتمثيل.
فمن نفى صفات الرَّب فقد كذَّبَ بالتَّوحيد؛ لأنَّه عطَّل، ومن شبَّهه بخلقه ومثَّله بهم فقد كذَّب التَّوحيد أيضاً من جهة أنَّه شبَّهه تعالى بخلقه أو مثَّله بهم.
التَّحريف في الأسماء الصِّفات
وأما التَّحريف أولاً: نعرف التَّحريف، وأمثلة التَّحريف.
معنى التحريف لغةً: هو التَّبديل والتَّغيير والإمالة، وهو في الأصل مأخوذ من قولهم حرفت الشَّيء عن وجهه إذا أملتُه عن وجهه أو حرَفتُه، حرفت يعني أمَلتُ وغيَّرتُ.
والتحريف شرعاً: هو الميل بالنَّصوص عن ما هي عليه، أو الميل بالنصوص عن ما يُراد به، أو الميل بالنُّصوص عن معناها الحقيقي، إما بالطَّعن فيها أو بإخراجها عن حقائقها مع الإقرار بلفظها، فلو قلنا: تعريف التَّحريف في مجال الأسماء والصِّفات هو: العُدول بالكلام عن وجهه وصوابه إلى غيره، وهذا التَّحريف قد يكون العدول باللَّفظ عن جهته إلى غيرها، وقد يكون تحريف المعنى.
التَّحريف اللَّفظي
أما تحريف اللَّفظ فله صور أربعة:
أولاً: الزِّيادة في اللَّفظ.
ثانياً: النُّقصان في اللَّفظ.
ثالثاً: تغيير الحركة الإعرابية.
رابعاً: تغير حركة غير إعرابية.
فمن أمثلة التَّحريف اللفظي: تحريف إعراب قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164].
حرَّفها بعض هؤلاء فقالوا: وكلَّم اللهَ موسى تكليماً، فحرَّفوا الإعراب، فبدلاً من أن يجعل لفظ الجلالةَ فاعلاً " كلَّمَ اللهُ" وهو الذي كلَّم، وصفة الكلام لله تؤخذ من ذلك، قالوا: "كلَّم اللهَ" فجعل لفظَ الجلالة مفعولاً به منصوباً؛ لينفي صفة الكلام عن الله، ولذلك لما حرَّف بعض الجهمية هذا التَّحريف قال له بعض أهل التوحيد: فكيف تصنع بقول الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف: 143].
لو لم توجد الهاء في كلَّم كان قال: وكلَّم ربَّه، لكن كما قال العلماء: إن النَّصوص محكمةٌ، لو أراد أحدٌ أن يتلاعب فسينكشف أمره، إن من رحمة أنه جعل نصوص الأسماء والصِّفات محكمةٌ، وهذا تحريف سخيف، وهذه آيات القرآن يُفسِّر بعضها بعضاً ويؤكد بعضها بعضاً، فهذا حرَّف فيها وجعل الفاعلَ مفعولاً به، فلمَّا جاء إلى الآية الثَّانية لم يعرف ماذا سيفعل؟ وكيف سيجد مخرجاً؟ وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف: 143] ولمَّا قال بعض المعطلة وبعض أئمة العربية: هل يمكن أن يقرأ العرش بالرفع؟ في قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5].
لماذا يكون الاستواء صفة للعرش؟ ولا يمكن أن يجعل الاستواء صفة لله، فيجعل الاستواء صفةً للمخلوق لا للخالق، فيأتي بأشياء مضحكة.
قلنا تحريفُ لفظٍ قد يكون بالزيادة: استوى استولى، قد يكون بالنِّقصان: كقول اليهود في حطَّة: حنظة.
تحريف المعنى
تحريف المعنى :هو صرف اللَّفظ عن معناه الصَّحيح إلى غيره مع بقاء صورة اللَّفظ على ما هي عليه، وهو العدول بالمعنى عن وجهه وحقيقته وإعطاء اللَّفظ معنى لفظٍ آخرٍ بقدرٍ ما مشترك بينهما، وهذه هي حِرفة أهل التَّعطيل وهو المجال الذي صالوا فيه وجالوا، فأرادوا أن يقولوا: نحن ثبت الألفاظ؛ لأنَّ تحريف اللَّفظ مكشوف، لأنَّ الأمَّة كُلُّها تحفظ القرآن، فمن أراد أن يَزيد ويُنقص فحتى الطِّفل حافظُ القرآن سيكتشفها، إذاً فلجأوا إلى خدعة إثبات اللفظ والعُدول بالمعنى عن وجهه وحقيقته، وإعطاء اللَّفظ معنى لفظٍ آخرٍ بقدرٍ ما مشترك بينهما، فالقضية هذه فيها دقةٌ وتحتاج إلى انتباه، وسموا هذا الأسلوب التَّأويل، وهو اصطلاح فاسد حادث لم يذهب به استعمال هذه الكلمة في اللغة؛ لأنَّ معنى كلمة تأويل معروفة في اللغة، مثلاً التَّأويل التَّفسير، ما يؤول إليه الشَّيء: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ[يوسف:100]. أما تعريف التأويل "بصرف اللفظ إلى معنى" فقد غيَّر المعنى المراد إلى معنى لفظ آخر لعلَّةٍ مشتركة بينهما يُسمُّونها، وكلمة تأويل على هذا المعنى لم تأتِ في اللُّغة، فهم الذين ابتدعوا ذلك بدعةً منهم، فمن أمثلة تحريف المعنى كقول المعطِّلة في معنى استوى: استولى، في قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[طه: 5]. قالوا: استولى، ومعنى اليد: النِّعمة والقُدرة، ومعنى المجيء في قوله: وَجَاءَ رَبُّكَ[الفجر: 22]. قالوا: جاء أمرُ رَبِّك.
الفرق بين تحريف اللَّفظي وتحريف المعنى، وأيُّهما أشدُّ خطر
والله قد ذمَّ التَّحريف، وأخبر أنَّ الرَّاسخين فيه هم اليهود، وهم شيوخ المحرِّفين وسَلفُهم، حرَّفوا كثيراً من ألفاظ التَّوراة، وذكر الله عيبَهم وذمَّهم في تحريف التَّوراة في آيات متعددة، ودرج على آثارهم الرَّافضة، فهم أشبه بهم حُذو القُذَّة بالقُذَّة وكذلك الجهمية سلكوا في تحريف النَّصوص مسالكَ إخوانهم اليَهود، وأصحاب تحريف الألفاظ شرٌّ من أصحاب تحريف المعنى من وجه، وأصحاب تحريف المعنى شرٌ من أصحاب تحريف اللفظ من وجه، فأصحاب اللَّفظ عدلوا باللفظ والمعنى جميعاً عن ما هما عليه، فأفسدوا اللَّفظ والمعنى فهم في هذه الجهة هم أسوأُ، بينما أصحاب تحريف المعنى أفسدوا المعنى وتركوا اللَّفظ على حاله فهم من هذه الجهة أحسن، لكن أصحاب تحريف المعنى لما كان فعلهم أسهل رواجاً، ولما كان تلبيسهم أنفق عند العوامِ والجهلة، والافتتان به أكثر صاروا أسوء من هذا الوجه، يقولون: نحن نُثبت أنَّ الله فوق، فقالوا نحن أحسن من الذين نفوا، ولك