الخميس 19 رمضان 1445 هـ :: 28 مارس 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

35- قصة سليمان وملكة سبأ


عناصر المادة
المعنى الإجمالي للقصة
أهمية الشورى
أهمية التأني
أثر الهدية
الهدية من أجل المصانعة
فوائد الهدايا
حكم هديا الكفار
الهدايا قد تكون رشوة
تتمة تفسير القصة
أهمية القوة
الاعتراف لله بالنعمة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:

المعنى الإجمالي للقصة

00:00:12

سبق الحديث في الليلة الماضية عن قصة سليمان مع الهدهد، وهذه القصة مع ملكة سبأ، وما جرى بين سليمان وبين هذه المرأة، مما قصه الله تعالى علينا في كتابه، قال قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ۝ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ[النمل: 32-33]. الآيات.
ولما قرأت كتاب سليمان ، وكان فيه من جوامع الكلام ما يدل على نبوته، فإنه قال لهم في الكتاب:  إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل: 30-31].
فكانت هذه الكلمات على قصرها دالة على توحيده لله، وعلى دعوته لهم للإتيان خاضعين مسلمين، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل: 31].

أهمية الشورى

00:01:40

وعند ذلك لما فهمت مراده جمعت أركان مملكتها، وهم الملأ والأشراف والقادة وكبار القوم، وقالت لهم مقالة تدل على حصافتها وعقلها: قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي [النمل: 32]، أجيبوني في الذي ذكرت لكم بما يقتضيه الحزم، وأشيروا عليّ، وقدموا لي النصح في التصرف المناسب في هذا الأمر المفاجئ، فإنها فوجئت بالخطاب، وفيه الدعوة من سليمان فماذا سيكون الرد؟ وما هو القرار الذي سيتخذ؟
وفي هذه دليل على صحة المشاورة واستحبابها في الأمور العامة، وأن كبير القوم يتواضع، وقد قال الله لنبيه ﷺ وهو أكمل الناس عقلاً، وأسدهم رأيًا، ومؤيد بالوحي، قال له: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159].
فهي استعانة بالآراء، ومدارة للأولياء، فإن أصحاب القائد يحسون بقدرهم وأهميتهم إذا شاورهم، وقد مدح الله تعالى- الفضلاء بقوله: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى: 38].
والمشاورة من الأمر القديم وخصوصًا عندما تتعلق القضية بالحرب، وهذه المرأة إذا كانت وهي كافرة جاهلة تعبد الشمس مع قومها قد عرفت أهمية المشاورة، فإنه حري بنا نحن أن نقبل هذا الأمر الرباني، وأن نكون كما أمر الله في صفات المؤمنين، وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ[الشورى: 38].
وهذه القضية فيها بذل دماء وأموال، إنها مسألة مواجهة أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ[النمل:35]، وهو يريد منهم الخضوع والطاعة والانقياد، وهذه المسؤولية الملقاة على الكبير عندما يشاور من دونه، ويقول لهم كما قالت هذه المرأة: مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ [النمل: 31]، فيسبب التفاف من معها حولها، وإقبال القلوب عليها، لأنها تشاور، وتقول لا يمكن أن أبت في الأمر أو أقطع برأي أو قرار دونكم.
ويجوز للمستشير أن يخالف المستشار إذا لم يرى أنه أصاب الحق، لكن إذا رأى أنه أصاب الحق وجب النزول على رأيه، وقبول ما أشار به، وهؤلاء الذين كانوا من حولها نلاحظ أنهم لم يتخذوا قرارًا، وإنما أبدوا استعدادهم، تركوا القرار لها مرة أخرى، قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ [النمل: 33]، فهم أبدوا بأسهم واستعدادهم للقتال، وطمأنوها إلى قوتهم، ولكنهم تركوا لها اتخاذ القرار أيضاً.


قال ابن كثير رحمه الله: "مَنوا إليها بعددهم وعُددهم وقوتهم، ثم فوضوا إليها بعد ذلك الأمر، فقالوا: وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ[النمل:33]، أي نحن ليس لنا عاقة، ولا بنا بأس إن شئت أن تقصديه وتحاربيه، فما لنا عاقة عنه، وبعد هذا فالأمر إليك، مري فينا رأيك نمتثله ونطيعه". [تفسير ابن كثير: 6/189].
وقال الحسن رحمه الله تعليقًا على هذا: فوضوا أمرهم إلى امرأة تضطرب ثدياها، فلما قالوا لها ما قالوا كانت هي أحزم رأيًا منهم، وأعلم بأمر سليمان". [تفسير ابن كثير: 6/189].
يعني: أنه ما كان للرجال أن يجعلوا هذه المرأة هي التي تتخذ القرار، لكن يبدو أنه كان فيهم شيء من النقص، وأن هذه المرأة كان رأيها أحسن، فإنها لم ترد المواجهة، ولم تجد أن القرار الصحيح هو إعلان الحرب على سليمان، "ولا قبل لها بجيوشه وجنوده، وما سخر له، وقد شاهدت من أمر الهدهد شيئًا عجيبًا، ولذلك خشيت أن تحاربه". [تفسير ابن كثير: 6/189].
وإنه إذا كان له جندي بهذه الدقة يوصل الرسائل ويؤدي الأمانة، فما البال بالبقية، ولذلك: قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل: 34]، لأنها لم رأت الخوارق، وأمر الهدهد، والكتاب فإن هذا الشيء يدل على قوة سليمان، ولذلك رغبت عن القتال.
قال ابن عباس في تفسير الآية: "أي إذا دخلوا بلدًا عنوة" يعني بالقوة أفسدوها وخربوها، وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً أي قصدوا من فيها من الولاة والجنود فأهانوهم غاية الهوان، إما بالقتل، وإما بالأسر.
قال ابن عباس قالت بلقيس: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً [النمل: 34]، قال الله: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل: 34]، يعني: أن عبارة وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [تفسير ابن أبي حاتم: 15249].


هذه من كلام الله وليس من كلام بلقيس الذي نقله رب العزة إلينا، ثم عدلت إلى المصالحة، والمهادنة، والمسالمة، والمصانعة، وقررت عدم المواجهة، وأنها تريد تجنيب بلادها ويلات الحروب، وتجنب القتال، وأخبرتهم أنها تريد امتحان سليمان لتعرف هل هو جاد في دعوته، أم هو رجل مصلحة، إن قضية إرسال الهدية هنا يمكن أن ينبئ رد سليمان عليها عن نوعية هذا الملك، هل هو يأخذ الأموال وقصده الجباية هذه الأموال وتسكته الأعطيات؟ أما أنه إنسان صاحب مبدأ وغاية وأنه لا هم له في المال؟ ولذلك رأت أن ترسل له بهدية.

أهمية التأني

00:09:47

وينبغي على العاقل ألا يحكم على الأمور بظاهرها، وإنما يحكم عليها بعواقبها، فإن الأشياء قد تكون لها بوادر وظواهر في ظاهر الأمر مفيدة، ولكن عند التأمل يظهر العكس، ولذلك فلا بدّ من التأني، وبعض الأحيان قد يكون من الحكمة الإسراع في الأمر.

إذَا هَبَّتْ رِيَاحُك فَاغْتَنِمْهَا فَإِنَّ لِكُلِّ خَافِقَةٍ سُكُون

[أدب الدنيا والدين، ص: 203]

قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل
وربما فات بعض الناس أمرهم مع التأني وكان الحزم لو عجلوا

[خزانة الأدب وغاية الأرب: 1/357]
ولذلك الإنسان إذا عرض عليه خير فإنه يعجل، خير البر عاجله، لا يسوف، لماذا؟ لأنه تبين له أنه خير، ما يحتاج إلى تأني، لو قيل له: حي على الصلاة، حي على الفلاح، يقول: أتأني وأفكر في الأمر، لا يحتاج الأمر إلى تفكير؛ لأن القضية محتومة، لكن عندما يكون الشيء فيه تعارض بين المصالح مثلاً أو بين مفاسد لا بد ارتكاب أحدها، فلا بدّ من التأني، لابدّ من الانتظار ليظهر الحق، وهنا يكون التأني مفيدًا، قالت: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ [النمل: 35]، إذًا ستنتظر ماذا سيرجع به المرسلون.
قال ابن كثير رحمه الله: أي سأبعث إليه بهدية تليق بمثله، وانظر ماذا سيكون جوابه بعد ذلك، فلعله يقبل ذلك منا، ويكف عنا، أو نضرب له خراجًا نحمله إليه في كل عام نكتفي به شره، ولا يقاتلنا ولا نقاتله.
قال قتادة رحمه الله: "ما كان أعقلها في إسلامها وشركها". يعني: هذه المرأة عاقلة في الإسلام، وفي الشرك قبل الإسلام، "علمت أن الهدية تقع موقعًا من الناس".
وقال ابن عباس وغير واحد: "قالت لقومها: إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه". [تفسير ابن كثير: 6/190].
وهذا يدل على حنكتها، وأهمية الاختبار، فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النمل: 35]، والعمل بالقرائن، وقد ورد في قصة سليمان مع المرأتين: كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى ولعله قضى به لأن الولد في يدها، والأصل أن الشيء لمن هو بيده، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام، فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى [رواه البخاري: 6769، ومسلم: 1720]، فعرف بالقرينة أنها ما دامت رضيت بتسليمه أن الحنان هذا للأم الحقيقية، وأن الشفقة التي حصلت للأم الحقيقية.

أثر الهدية

00:13:45

وللهدية عظيم الأثر في النفس في استجلاب المحبة، وإثبات المودة، وتأليف القلوب، وإذهاب الضغائن، وهي دليل على حب وصفاء القلوب، وإشعار بالتقدير والاحترام، ولذلك قبل النبي ﷺ الهدية، وأثاب عليه، قبلها من المسلم والكافر والمرأة، وحث على التهادي، فكم من ضغينة ذهبت بسبب هدية، وكم من مصيبة اندفعت بسبب هدية، وكم من صداقة جلبت بالهدية، فهي الهدية تمليك عين للغير على غير عوض، كما يعرفها الفقهاء، وهي مشروعة بين المسلمين، قال ﷺ: تهادوا تحابوا [رواه البيهقي في سنن الكبرى: 11726، وصحيح الجامع: 3004].
وكان ﷺ يعلن بأنه مستعد لقبول الهدية مهما كانت قليلة، قال: ولو أهدي إليّ ذراع أو كراع لقبلت [رواه البخاري: 2568]، وهو الذي عليه اللحم القليل، وقال ﷺ: يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة [رواه البخاري: 2566، ومسلم: 1030]، وهو العظم قليل اللحم، وهذا كله حض على قبول الهدية لما فيها من التألف والتأليف، ولو كانت يسيرة، والكثيرة لا تتيسر في كل وقت، ويزداد الأمر تأكيدًا على عدم رد الهدية إذا كانت من الأشياء الخفيفة التي لا تكلف، ولذلك قال ﷺ: ثلاث لا ترد الوسائد والدهن واللبن [رواه الترمذي: 2790، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 619]، والدهن المقصود به الطيب، فهذه مثل الريحان خفيف المحل طيب الرائحة، فينبغي عدم رد الهدية إذًا.

الهدية من أجل المصانعة

00:15:51

والهدايا بين الملوك لا شك أنها ستكون على قدر الغنى، وتكون على قدر المكانة، ولذلك فإنها أرادت أن ترسل بالهدية، والعاقل الحصيف من يستعمل مع الخصوم، ويستعمل مع الأقران، أو الأعداء ما يكف بأسهم وعداوتهم، وهذه قضية مصانعة، المصانعة يحتاجها المسلمون في عدد من الأحيان يكون لا قبل له بالمواجهة، وإذا كان لا قبل له بالمواجهة ماذا يفعل؟ يصانع، وهذه المصانعة فرق بينها وبين المداهنة، ومن الفروق أن المداهنة فيها تنازل عن أشياء من الحق، أما المصانعة فهي دفع للشر بما يمكن من الكلام الحسن والفعل الحسن، فأنت إذا دفعت شر صاحب شر بكلمة طيبة أو بهدية أو بخدمة مثلاً هذه لا تسمى مداهنة وتنازل عن الحق، لكن عندما تقول الباطل من أجل فلان هذه لا تسمى مدارة مشروعة، ولا مصانعة مشروعة، هذه مداهنة، المدارة أنك تقول قولاً أو تفعل فعلاً فيه تألف لقلبه، أو استجلاب لمودته، أو دفع لعداوته.
والإنسان يحتاج إلى هذا في مواقف كثيرة في حياته، فقد يحتاجه أحيانًا حتى مع أقرب الناس، يفعله مع الزوجة، أحيانًا مع بعض أولاده، مع بعض أقاربه، يفعله مع إخوانه، مع جيرانه، مع أصحابه في العمل يفعل ذلك، ولطالما استعبد الإنسان إحسانه، ونحن لا نريد أن نستعبد ولا أن نستعبد لكن أن نكف عنا الشر خصوصًا من الفساد، لا يخلو جسد من حسد، والإنسان إذا كان له مكانة أو كان صاحب جاه، أو غنى مال، أو كان حتى صاحب مكانة علمية، فإنه لا يخلو من حسد، أن يحسده الناس على ما هو فيه من المنزلة، فهنا نصانعهم ونداريهم.

فوائد الهدايا

00:18:40

وتكون الهدايا لها فائدة كبيرة حتى روى الحافظ ابن حبان البستي رحمه الله: أن أبا حنيفة لما اشتهر وعلا صيته، قال فيه بعض حاسديه:

كنا  من الدين قبل اليوم في سعة حتى بلينا بأصحاب المقاييس

يعني: أبا حنيفة وأصحابه، "فبلغ ذلك أبا حنيفة، فبعث إليه بهدية أجزل له فيها، فلما قبضها القائل بتلك العبارة ندم، وملكت الهدية قلبه، فأراد أن يكفر عن فعله، أو قوله السابق، فقال:

إذا ما الناس يومًا قايسونا بآبدة من الفتيا طريفة
أتيناهم بمقياس صحيح مصيب من طراز أبي حنيفة
إذا سمع الفقيه بها وعاها وأثبتها بحبر في صحيفة

[تاريخ بغداد: 13/433].
فانقلب من العداوة إلى المحبة، من الإيذاء إلى الإعجاب، فكم أزالت هذه الهدايا من السخائم، وكم دفعت من الشتائم، وكان ﷺ لا يقبل الهدايا إذا كان فيها تنازل، وكانت من المشركين، نهيت عن زبد المشركين، يعني: عن عطاياهم، فلا يقبل هدية من يطمع الظهور عليه، وأخذ بلاده، وبهذه الصفة كانت حال سليمان .
فلو قيل: لماذا رد سليمان الهدية؟
فالجواب: أنه يريد أن يقول لهم: أنا لست طامع في أموالكم، ولا يسكتني عنكم الهدايا، أنا صاحب دين، أريد أن أدعوكم إليه، وأحملكم عليه، ولو أنكم رفضتم جالدتكم بالسيف، وقاتلتكم وجاهدتكم، إذًا لم يرد أن يقبل الهدية لأن قبول الهدية يدل على تنازل عن الجهاد.

حكم هديا الكفار

00:21:16

فلو قال قائل: ما حكم هدايا الكفار؟
فنقول: يجوز قبول هدية الكافر إذا لم يكن فيها تنازل عن شيء من الحق،  أو أن قبولها يعني سكوت عن منكر، أو السكوت عن شيء يجب على المسلم أن يفعله، إذًا ما نقبل الهدية.

الهدايا قد تكون رشوة

00:21:42

والهدايا قد تكون رشوة كما في هذا الزمان، وقد تكون الهدية عبارة عن تخفيضات، وقد تكون الهدية عبارة عن حضور مؤتمر بتذاكر درجة أولى، وفندق خمسة نجوم، ومدة أكثر من مدة المؤتمر، وقد تكون الهدية تأخذ طابع المنافع، غير قضية الأموال، الشاهد أن الهدية التي هي رشوة ليست فقط أوراق نقدية أو مبالغ، فقد تأخذ صورًا متعددة وكثيرة، فقد تكون خدمة، فقد يقول له: أنا أصلح لك سيارتك، أنا أصلح لك بيتك، أنا أدهن لك جدارك، أنا أعطيك نسبة تخفيضات، لك عندنا تذكرة، لك عندنا كذا، هذه كلها هداية المقصود بها الرشوة، وينبغي أن نفرق بينها وبين الهدايا التي هي من الدين ويؤجر عليها مثل الهدايا التي تكون لأصحاب العلم والفضل، مثلاً الأب الكبير السن، الأستاذ مثلاً انقطعت العلاقة به، درسك وانتهى، الآن لن تدفع له رشوة، أنت تخرجت من المدرسة وذهبت، واعترافًا بالجميل بعد أن انقطعت الصلة من جهة الدرجات والعلامات فأهديت له هدية، أو أنه مثلاً وصلت بهذه الهدية أخًا في الله، هدايا الناس بعضهم لبعض تولد في قلوبهم الوصال، وتزرع في الضمير هوى وود، وتكسبهم إذا حضروا جمالا، إن الهدايا لها حظ، إذا وردت أحظ من الابن عند الوالد الحدب، يعني: أنها أحيانًا تقع موقع عظيم.

تتمة تفسير القصة

00:23:49

فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل: 36]، أرسلت جماعة بالهدية، لأن الهدية كانت كبيرة لأنها لما قالت: فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النمل: 35]، فإنها أرسلت شيئًا كبيرًا، ولذلك تنتظر النتيجة، والظاهر أن سليمان لم ينظر إلى ما جاءوا به بالكلية، ولا اعتنى به بل أعرض عنه تمامًا، وقال منكرًا عليهم: أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍأتصانعونني لأترككم على شرككم؟ أتعطونني المال لكي أكف عن جهادكم؟ أتريدون ألا أطبق شرع الله فيكم؟ أتريدونني أن أقبل بالدنيا هذه؟ وأكف عن الشيء  الذي هو من عمل الآخرة مما فرضه الله، فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ [النمل: 36]، لقد أعطاني الله ملكًا وجنودًا خير من هذا، بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل:36 ]، أنتم الذين تنقادون للتحف والهدايا، أما أنا لا أقبل منكم إلا الإسلام أو السيف.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إنه قد أمر الجن الذين عنده بأن يصنعوا شيئًا في هذه الهدية يجعلها أكبر مما هي عليه، بحيث يظهر لهم أنه عنده أكثر من هذا". [تفسير ابن كثير: 6/191].
ونأخذ من الآية جواز الغلظة في القول إذا كانت لمصلحة، لأن قوله: أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ هذا فيه انتهار لهم.
وجواز التحدث بنعمة الله فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ [النمل: 36]، وهذا ليس افتخارًا، ليس بطرًا، ليس أشرًا، وإنما هو تحدث بنعمة الله.
ثم مثل هؤلاء العدو من المهم أن تكسر نفوسهم ليعرفوا قدرهم وحقيقتهم، والخيلاء في الحرب، وإغاظة الكفار مشروعة.
ويجوز للإنسان أن يصف غيره بما يبدو من حاله، ولذلك قال: بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل: 36].
وكذلك فإن الشخص الذي يلاحظ أن الهدية يراد بها إسكاته عن حق أو إنطاقه الباطل يجب عليه أن يرفض، قال سليمان: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل: 37]، خذ هديتك معك، ارجع بها، وهذه لا شك أنه خزي عظيم عدم قبول الهدية، وأن ردها مع الرسل، وانتظروا هجومي عليكم، فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا[النمل: 37]، لا طاقة لهم بها، وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل: 37] مهانون مدحورون، ولذلك لما رجعت الرسل بالهدية إلى بلقيس وأخبروها بمقالة سليمان، وبما رأوا ما عنده من القوة ومظاهر التمكين، عرفت أنه لا طاقة لأهل بلدها بسليمان، وأيقنت أنه صاحب دعوة، وصاحب دين، وصاحب مبدأ، وأن القضية عندهم ليست قضية جمع أموال، واقتنعت أن دينه هو الحق، وكان الخيار الوحيد الذي بقي أمامها أن تأتيه بنفسها مذعنة طائعة، فجمعت الملأ وأشراف القوم وأقبلت تسير إليه، معظمة له ناوية متابعته، ولما تحقق لسليمان قدوم القوم ووفودهم عليه، فرح بذلك وسره، وأراد أن يظهر القوة لهؤلاء الأعداء حتى يستسلموا تمامًا، وتكون القضية الآن رأى عين، ولذلك من باب الإعداد، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ[الأنفال: 60] لا يشترط دائمًا أن القوة التي تعد للاستعمال، ممكن تكون القوة التي تعد للإخضاع والإرهاب، إرهاب العدو، فإننا إذا استطعنا أن نري العدو ما يستسلمون به، فلماذا القتال؟ إذًا هنا لما جاءوا إليه فإنه أراد أن يبين لهم ويريهم شيئًا يقهرهم، فيزدادوا استسلامًا، ولذلك قال لمن عنده: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ[النمل: 38]، فجمع من عنده من الجن والإنس ممن تحت يده، وطلب منهم هذا الطلب أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قبل أن يأتوا طائعين مستسلمين منقادين، فهو عرف أنهم سيأتوه مستسلمين.
وفي هذا دليل على الحكم بالقرائن، قال الشيخ السعدي رحمه الله: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل: 38]، لأجل أن نتصرف فيه قبل أن يسلموا، فتكون أموالهم محترمة". [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: 1/605].
لقد خلفت ملكة سبأ عرشها خلفها في قصرها تحت الحراسة، وكان هدف سليمان أن يريها مزيدًا من مظاهر قوته، وعظمة نفوذه، وليزدادوا قناعة ويقينًا بما آتاه الله، من يتكفل بإحضار العرش، قبل أن يأتوا مع أنهم خرجوا من المملكة، إذًا لا بدّ أن تكون سرعة هذا الذي سيأتي بالعرش أسرع منهم.

أهمية القوة

00:30:39

قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل:39]، المسافة من اليمن إلى الشام، من سبأ إلى بيت المقدس، وعاصمة سليمان كانت في بيت المقدس، وقيل: إن ذلك مسيرة شهرين ذهابًا، وشهرين إيابًا، فقال العفريت من الجن: أنا التزم بالمجيء به على كبره وثقله قبل أن تقوم من مقامك الذي أنت فيه، وهذا مجلس سليمان كان يجلس مجلسًا يستمر مدة من الزمن، مثل ما كان أبوه داود يجلس للفصل في القضاء بين الخصوم، كان له مجلس للقضاء، ولذلك تسوروا عليه المحراب لما أغلق الباب وقام عن مجلس القضاء، قال: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ [النمل: 39] من هذا المجلس الذي أنت فيه،وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ[النمل:39]، والعفريت القوي النشيط جداً، ألا ترانا نقول لمثل هؤلاء الأولاد -حفظهم الله- إنهم عفاريت وإنهم الآن يلعبون ويصوتون في المسجد، فهؤلاء يتخذونه ملعبًا، فنقول عنهم: عفاريت، فالعفريت هو القوي النشيط.
قال أبو صالح: "وكان كأنه جبل" [تفسير ابن أبي حاتم:15285].
قال ابن عباس : "قبل أن تقوم من مجلس من مقعدك آتيك به" [تفسير ابن أبي حاتم:15290]، وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ على حمله، أَمِينٌ على ما فيه من الكنوز لأن العادة أن العروش كانت ترصع بالجواهر، وهنا لما أظهر هذا الاستعداد، وادعى هاتين الصفتين، وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ، وهاتين الصفتين مذكورة لموسى لما قالت المرأة ابنة الرجل الصالح في وصفه: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص: 26].
والناس أربعة: قوي أمين، ضعيف خائن، ضعيف أمين، قوي خائن، فأحسنهم القوي الأمين، وأسوأهم الضعيف الخائن.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلامًا مهمًا جداً في قضية الولايات، وتولي قيادة الجيوش وغيرها، ومن الذي يقدم وذكر كلامًا يؤخذ منه: أنه إذا كان المهم في المكان أو المنصب أو الوظيفة القدرة والقوة مثل قيادة الجيش، ووجد في المسلمين ضعيف ثقة وقوي بصير بالحروب عليم بدروبها، وخبير بأساليبها، وقوي في بدنه، عليم بالقيادة لكنه فاسق يسمع الغناء يشرب الخمر، فأيهما يقدم؟ القوي ولو كان فاسقًا، فإن فسقه على نفسه، أما قوته للمسلمين، فقد يوضع في مكان نتيجة ضعف معين يمر به المجتمع المسلم شخص الثقة فيه قليلة في الدين، ليس دينه بقوي لكنه قادر مستطيع عنده قوة تنفع المسلمين، وتكلموا في القضاء من الذي يوضع؟ وأن القضاء يحتاج إلى الأمانة أكثر، بينما قيادة الجيش تحتاج إلى القوة أكثر، ففي مناصب في المسلمين هي دائمة تحتاج للقوة والأمانة، لكن إذا ما وجد ليس دائمًا يوجد فننظر في طبيعة المنصب، إن كان نفع المسلمين حاجة المسلمين فيه للقوة أكثر قدمنا القوي، ولو كان فيه فسق، وإن كان المنصب فيه حاجة للأمانة أكثر مثل جباية أموال الأوقاف، أو توزيع أموال الأوقاف، أو تحصيل أموال الأوقاف مثلاً فقد تكون الأمانة هنا في الأشياء المالية أهم. [السياسة الشرعية: 1/25]، وهكذا قال العفريت من الجن: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ.


ويجوز للإنسان بالمناسبة أن يظهر من صفاته الجيدة إذا كان صادقًا عند الحاجة، إذًا متى يحدث الإنسان عن صفاته الشخصية؟ بشرطين أن يكون صادقًا لا يبالغ، وأن يكون هناك حاجة، يوسف أراد أن يؤكد للملك أنه جدير بهذا المنصب: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف: 55] فهذه المدح للنفس كان لمصلحة الناس، وليس لمصلحة يوسف الشخصية.
وكذلك فإن من أسوأ الناس من يمدح نفسه بالكذب بلا حاجة، قالوا: ما شاء الله أنت صلاتك خاشعة جداً، قال: وأنا أيضاً صائم، فبعض الناس يتحدثون بأعمالهم بدون أي مناسبة، وقد يكون كاذبًا.
هذه الآيات تبين قدرة الله أن جعل خلق هؤلاء الجن وعندهم هذه القدرات، يعني: هب أن المجلس كان ساعة مثلاً يأتي بالعرش، ويخرجه من الجدار والقصر، ويعبر به الأجواء إلى الشام من اليمن في هذه المدة، لكن الأكبر من هذا الرجل الذي كان يعرف الاسم الأعظم، فدعا الله به فجاء بالعرش في لحظة، قال وهو يتكلم لسليمان: قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ[النمل:40]، لكن قبل أن يغادر.
نريد أن نعرف ما هو الفرق بين العفريت والشيطان: الشيطان جن والعفريت جن، لكن الشيطان جن كافر، والعفريت هو الجن القوي كثير الحركة والنشاط، هنا تدخل الذي عنده علم من الكتاب وقال: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ[النمل: 40]، وهناك إسرائيليات وقصص هنا الله أعلم بصحتها، لكنه رجل عنده علم إذًا هذا إنسان من الإنس لكن عنده علم من الكتاب، كتاب الله الذي أنزله سبحانه فإنه لكرامة أتاه الله لهذا العالم، كان يستطيع أن يأتي بالعرش، قبل أن يرتد إلى سليمان طرفه، وهو تحريك جفن العين.
قال ابن كثير: ارفع بصرك وانظر مد بصرك مما تقدر عليه، فإنه لا يكل بصرك إلا وهو حاضر عندك" [تفسير ابن كثير: 6/192].
ما الذي أقدره على ذلك؟
قيل: معرفته بالاسم الأعظم.
وقال مجاهد: يا ذا الجلال والإكرام، وقيل غير ذلك، وفعلاّ هذا الذي تم انتخابه [تفسير ابن كثير: 6/192].

الاعتراف لله بالنعمة

00:39:22

ولما رأى سليمان العرش فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ[النمل:40]، إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ  [إبراهيم: 8]، وإذا كان العباد على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملك الله شيئًا، إن قضية الاعتراف لله بالنعمة عند حصولها يدل على إيمان صاحبها، ولذلك من المهم جداً أن الإنسان إذا حصلت له نعمة أن يبادر فورًا بشكر الله عليها، فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي[النمل:40]، والإنسان إذا حصل له نجاح تجاري، أخبر بصفقة قالوا: ربح مليون، يقول: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي، إذا جيء له بالسيارة الجديدة قال: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي، إذا دخل المنزل الجديد قال: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي، إذا كسب شيئًا  أعطي شيئًا هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي، إذا صار عنده قدرات حل مسألة افرض أن طالب عنده قوة في عقلية وجاءت مسألة عويصة فجاء الطلب وحلها، وقال المدرس: أصبت يقول الطالب: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي، إن هذه الكلمة في غاية الأهمية لئلا يغتر الإنسان بما يحصل له من النعم، فإن بعض الناس إذا حصلت النعمة صار مغرورًا رأى نفسه أهلاً لذلك وجديرًا به، وأن الله أعطاه إياه لمنزلته عنده، وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الكهف: 39]، والأمر ليس خاضعًا لمقاييس البشر ولا لطاقاتهم، من الذي سخر الجن لسليمان، ومن الذي أقدر الذي عنده علم من الكتاب أن يأتي بالعرش في هذه المدة، إن هذه المسألة كلها دليل على قدرة الله، ونعمة الله وفضل الله، هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي، وفي هذا بيان أن الله يفعل الأشياء بمشيئته، ويقدرها بحكمته .
ثم إن سليمان أراد أن يختبر عقل هذه المرأة، وأن يمتحنها، هي لما أرسلت الهدية لتمتحنه أراد هو الآن أن يمتحنها، قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ [النمل: 41]، ما مدى الذكاء والفطنة،  أمر بتغيير بعض صفاته، نَكِّرُوا لَهَا قيل: نزع من فصوصه ومرافقه، وقيل: أمر بتغيير الألوان، ما كان أحمر صار أصفر، وما كان أصفر صار أحمر، وهكذا، فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ [النمل: 42] جوابًا يدل على عقلها لما تثبت: ولم تنفي، قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ[النمل:42] ما قالت: هو هو، يعني: في اختلاف، وما قالت: ليس هو، لأنه يشبهه جداً، قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ، وهذا يدل على إجابة تدل على عقل، وفيه إشارة خفية إلى أنهم أحضروا لها عرشها في غيبتها، أَهَكَذَا عَرْشُكِ، ولو قالوا: أهذا عرشك غير أَهَكَذَا عَرْشُكِ لاحظ السؤال، السؤال أَهَكَذَا عَرْشُكِ غير أهذا، أَهَكَذَا فكان السؤال في قمة النباهة، وكان الجواب أيضاً في النباهة، وكان فيه إشارة خفية، وليس تلقين، وإيحاء للجواب، لقد رأينا هنا في هذه الكلمة ثلاثة أحرف، دخلت على اسم الإشارة همزة الاستفهام، وهاء التنبيه، وكاف التشبيه؛ لأن اسم الإشارة ذا،  فرأينا الكلمة أَهَكَذَاسؤال في غاية الفطنة، ومعناه دعوتها إلى إمعان النظر في العرش الموجود أمامها، وملاحظة أوجه الشبه بينها وبين عرشها الذي تركته وراءها في قصرها، ونظرت ملكة سبأ بإمعان على العرش فيه شبه عظيم، وكانت حيرة لقد تركته عند حراس أمناء، إنه وراء الجدران، إنها خرجت والعرش في القصر كيف يمكن أن يكون قد جيء به، فكان أمامها ثلاث إجابات: أن تقول: هذا عرشي، وأن تقول: ليس هو، وأن تقول: كَأَنَّهُ هُوَ [النمل: 42]، كأني عرشي هذا العرش، فلم تقل: هو هو، ولم تقل: ليس هو، فلم تجزم، وإنما قالت المحتمل، قال وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ [النمل: 42]، آتى الله سليمان العلم نعمة ومنة والإسلام.
وقد ذكر العلماء أنه يؤخذ من هذه الآية التورية في الكلام، أَهَكَذَا عَرْشُكِ [النمل: 42] كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ.


فيه دليل أيضاً على الاعتراف بنعمة الله لأن هذه الجملة من كلام سليمان على الصحيح.
لكن هي ما قصتها هو قال عن نفسه: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ [النمل:42] أما هي قال الله: وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ[النمل:43] فلم تؤت العلم ولا الإسلام، بل صدها عن الإسلام من قبل الآلهة الباطلة التي كانت تعبدها من دون الله، وَصَدَّهَا ومنعها مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ [النمل: 43] وبينما كانت ملكة سبأ تعيش تحت تأثير الدهشة من هذا العرش المشابه جداً لعرشها، إذا بشيء آخر مدهش جداً مفاجأة، وراء مفاجأة، وأشياء مذهلة، وتتابع في الأعاجيب أن سليمان قد هيأ لها صرحًا ممردًا من الزجاج، فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً النمل: 44، وماء وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا [النمل: 44]، لتخوض إليه، قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ[النمل: 44] لا حاجة للكشف امشي عليه، فعند ذلك استسلمت استسلامًا كاملاً، هذا العرش، وهذا الصرح الممرد، من الذي يقدر على مثل هذا، إلا شخص أقدره الله على ذلك، صارت قضية معجزات، المسألة قضية معجزات لم يكن قصرًا من حجارة وطين، وإنما كان من زجاج متين، وأمر الشياطين فبنوا له القصر العظيم من الزجاج، فإذا قالوا لك: إن هناك قصور اليوم تحت البحر مبنية من الزجاج، فقل لهم قد سبقكم إليها سليمان، فبنى ما هو أكبر وأعظم، إنها الطريقة العجيبة المثيرة، إن الناظر القادم يحسبه ماء، ولكنه في الحقيقة من زجاج، فأراها من عز الملك والسلطان ما أرغم أنفها، وجعلها ذليلة منقادة مستسلمة، وهي ملكة عندها كما قال الله في أول القصة: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ[النمل:23] ليست مملكة بلقيس دولة فقيرة، قال: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ[النمل:23]، وهذا يبين لنا أن قصد سليمان لم يكن تباهي وإنما قصده الإخضاع هؤلاء بالشيء الذي يعرفون، يعرفون المستويات يعرفون النعم، والنعيم يعرفون الأموال ناس عندهم أبهة، ليسوا ضعفاء، لكن رأوا شيئًا يفوق بكثير، وعندما يرى الإنسان شيئًا يفوق بكثير يستسلم، ألا ترى أن المحتالين النصابين إذا أرادوا أن يوقعوا شخصًا في شرك وفخ، يدعونه ويأتونه بسيارة فارهة ليأخذوه إلى فندق فخم جداً، وضيافة فارهة جداً، فيقول: هؤلاء أكيد شركة قوية جداً، فإذا هو مأكول، لذلك قضية إظهار مثل هذا يؤدي إلى نوع من الاستسلام، وبالرغم مما آتاه الله من قبل، وبالرغم من فطنتها وحصافتها إلا أنها لم تكن تقدر أن تقاوم ما رأت.
إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ [النمل: 44] أملس، ومنه الأمرد الذي لا شعر له ولا ورق به، القوارير الزجاج، مفرد قارورة، والراجح أن القارورة مشتقة من وقر، والتقوير خرق الشيء من وسطه، والصرح الممرد من قوارير مقور، مبني من زجاج، مقور في وسطه، يعني: هذا المدهش لما قال: صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ [النمل: 44]، ما هي القوارير؟ القارورة مأخوذة من قور قور مقور، ما هو المقور؟ الزجاج الذي هو مقور في وسطه، وأعظم من هذا ولا يقارن أن المؤمن في الجنة له خيمة من درة مجوفة، كما أخبر عليه الصلاة والسلام: درة مجوفة أكبر ألماسة في العالم كم مقاسها هل تتجاوز قبضة اليد، الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ثلاثون ميلا في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون [رواه البخاري: 3243].


إذًا كم يكون اتساع هذه اللؤلؤة المجوفة، وهذا الصرح الممرد من قوارير، الصرح: القصر الممرد من قوارير، وهنا رأت من ملك سليمان، والجن، والإنس، والطير، والصناعات، والأشياء الحديدية والزجاجية والنحاسية، وجلب الأشياء، والقوات والقدرات، قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[النمل: 44].
وفي هذه القصة قالوا إن الأصل أن المرأة تستر ساقيها، وأنها من الدهشة خالفت ما ينبغي أن تكون عليه، ملكة سبأ كافرة بس ما كانت لابسة لبس فيه قلة أدب، أو قلة حياء، يعني: غطت ساقيها بالتأكيد، ولما جاءت من الذهول نسيت، لما شافت فيها ماء كشفت عن ساقيها، فإذًا كانت الساقان بالتأكيد مغطاة، وصار هنا قضية الكشف لهذه الحاجة، فأعلمها أنه لا داعي لأن تكشف عن ساقيها، إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ [النمل: 44]، ونرى في هذه السورة كيف أن الاستسلام لله، قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[النمل: 44] فليس مقصود سليمان أن يعبد الناس له، وإنما أن يعبد الناس لرب العالمين، وقد حصل ذلك فعلاً، وما أراده سليمان وصل إليه، والخطة كانت ناجحة، والعملية آتت ثمارها وأكلها، والجماعة قد استسلموا، وملكتهم عظيمتهم قد جاءت الآن وأعلنت إسلامها، وهذه نهاية مواجهة مع أمة لم يكن فيها إراقة دماء.
وفيه أن الحكمة تقتضي من المسلم أن يتعامل مع الأوضاع والظروف بما يحقق النتيجة بأسهل الطرق، يعني: الآن لو سألنا سؤال هل سليمان كان قادرًا على أن يغزوهم أم لا؟ وأن يقتلهم وأن يريق دماءهم، وأن يحطم ملكهم، وأن يدمر قصرها، وأن يفعل ويفعل؟ نعم، لكن ما هو المهم أن يسلموا، أو المهم أن يقتلهم أن يسلموا.
ما خير رسول الله ﷺ بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ثم النبي رحيم بالناس إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله [رواه البخاري: 3231، ومسلم: 1795]، ولذلك المصلحة الآن أن يأتوا مسلمين، المهم أن يسلموا الطريقة، إذا وجد شيء أسهل من القتال فلا نستعمل القتال.
نسأل الله أن ينفعنا بكتابه، وأن يجعلنا من المتفقهين فيه، العاملين به، التالين له، الذاكرين به، إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.