الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
بعض فضائل ومناقب الصحابة
فلا زلنافي هذه السلسلة من "قصص الصحابة في عهد النبوة"نسترشد بسيرتهم، ونطيب أنفسنا بذكرهم وأخبارهم، ونستفيد دروساً عظيمة من الأحداث والمواقف التي مرت بهم.أولئك القوم الذين اختارهم الله لصحبة نبيه ﷺ أبر الأمة، وأطهر الأمة، وأفقه الأمة، وأعبد الأمة لله ، أولئك الذين نزل الوحي بينهم، وهم الذين عقلوه، ولم يعقل الوحي أحد مثلهم رضوان الله -تعالى- عليهم-.
إنهم القوم الذين نستفيد منهممواقف في العقيدة مما تحملوه في سبيل الله، وجاهدوا به أعداء الله.
إن واحداً منهمصدع بالقرآن في وجه الكفار، فضربوه وآذوه، ولكنه استمر يقرأ القرآن عليهم.
وآخر ينطق بالشهادتين، فيعلنها، فيضربونهحتى يسيل منه الدم، فيصير كهيئة النصب الأحمر من كثرة ما سال من دمائه، حتى يقع مغشياً عليه.
إنهم ضربوا لنا أمثلة رائعة في الصبر.
وكانوا يقذف بالواحد منهم على رمال الصحراء، على الرمال الحارة، وتوضع الصخرة على صدره، فلا ينطق إلا بصفة من صفات الله، تدل على وحدانية الله، ورفض للشرك وعبادة الأوثان.
وإن الواحد منهم، كان يطرح على أسياخ الحديد المحماة، فلا يطفئها إلا الشحم الذي يسيل من ظهره عليها.
وكان الواحد منهم يؤذى ويضرب حتى لا يستطيع أن يستوي قاعداً من شدة الضرب.
إنهم الذين ضربوا لنا المُثُلَ في التحمل والصبر على الجوع في سبيل الله، فحوصروا حتى لم يعد الواحد منهم يجد شيئاً يأكله، فيبول فيرتد رشاش بوله من شيء في الأرض، فيأخذه، فإذا هو جلد بعيرٍ قد فني منذ مدة، وبقي هذا الأثر، يأخذه ليغسله؛ فينقعه، ويقتاته أياماً.
ولم يكن للنبي ﷺ و بلال من شيء يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال.
وكان للواحد تمرة واحدة في اليوم يقتاتها، وهم غزاةٌ في سبيل الله، ينقعونها في الماء، يشربونه، ويمصها الواحد منهم كما يمص الطفل ثدي أمه.
اشتكوا من القلة إلى الله لا إلى خلقه، وصبروا على العيلة والمسكنة، حتى جعل الواحد منهم من قلة الطعام، يضع كما تضع الشاة، أي كالبعر الصغير، تضعه الشاة، فكان الواحد من الصحابة إذا قضى حاجته لا يخرج منه إلا مثل ذلك؛ لأنهم لم يجدوا شيئاً يأكلونه، حتى ربطوا الحجارة المسطحة بمقدار الكف على بطونهم، ليعتدل ظهر الواحد منهم؛ لأن الجوع أحناه، ويبرد الحجر حرارة الجوع، ولأن ضغط الحجر على المعدة يؤدي إلى تقليل الإحساس بألم الجوع.
وقد تعلمنا منهم دروساً في قيامهم بالليل بالقرآن، كالقراء الذين كانوا يصومون في النهار، ويقومون بالليل يقرأون القرآن، حتى مات وقتل عدد منهم في سبيل الله؛ كالسبعين الذين قتلوا في بئر معونة .
وكان أبو موسى الأشعري يقوم الليل بالقرآن، فيسمعه النبي ﷺ، فكأنما أوتي مزماراً من مزامير آل داود.
والمزمار، هو: الصوت الحسن الجميل.
وكان ﷺ يعرف صوت الأشعريين بالليل في قراءة القرآن، فهم الذين تعلمنا منهم الدروس في تلاوة القرآن، وتحسين الصوت به، والقيام به آناء الليل، وصيام النهار -رضوان الله تعالى عليهم-.
وهم الذين تعلمنا منهم الحكمة في الدعوة إلى الله ، وكيف أن مصعب بن عمير، وعبد الله بن أم مكتوم، ذهبا إلى المدينة ليسلم على أيديهما رؤساء الأوس والخزرج، ويفتح مصعب المدينة بالقرآن، يمهدها للنبي ﷺ.
لم تفتح المدينة بالسيف، إنما فتحت بالقرآن، إنه كان القرآن الذي يقرأه الدعاة أمثال مصعب، وابن أم مكتوم، المرسلين من مكة.
وقد تعلمنا منهم مقاومة المنافقين، والكشف عن دسائسهم، حتى كان الغلام منهم يتلقط الأخبار ليأتي بها إلى النبي ﷺ، وينزل الله آياتٍ تنبئ عن وفاء أذن هذا الغلام وصدقه، فكانوا صغاراً وكباراً جنوداً للدعوة، حراساً للعقيدة، أمناء على الدين، نقلة لأخبار المنافقين، لكي يحذر منهم المؤمنون.
تعلمنا منهم دروساً في مواجهة أعداء الله من اليهود والمشركين، وكيف كانوا يحرسون الخندق بعدما حفروه بأيديهم، ولم يستطع الكفار اقتحام المدينة، ولم يستطع اليهود أن ينالوا من النبي ﷺ ودعوته شيئاً تمنوه، أو أرادوا بلوغهفبلغوه؛ لأن الصحابة كانوا يحرسون كل ذلك.
وتعلمنا من الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-: التواضع.
تعلمنا منهم: العفو.
تعلمنا منهم: الوقوف عند كتاب الله -تعالى-.
تعلمنا منهم: الجرأة في الحق.
تعلمنا منهم: الأمانة في نقل العلم، والحرص على حفظ الحديث وتأديته، فكم لـ "أبي هريرة" من الأجر، وأحاديثه في الصحاح والمسانيد والأجزاء الحديثية؛ تتلى وتقرأ في الدروس والخطب والمساجد، وتتناقل، هو الذي نقلها عن النبي ﷺ، فله مثل أجر ذلك، وكذلك بقية المكثرين من الرواة كـ "عائشة، وأنس ، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس" وغيرهم -رضي الله عن الجميع-.
نص قصة المرأة البحرية
ومع قصة من القصص التي حدثت على عهد النبي ﷺ يرويها أبو موسى الأشعري ، يقول: "بلغنا مخرج النبي ﷺ ونحن بـ "اليمن"، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي، أنا أصغرهم، أحدهما: أبو بردة ، والآخر: أبو رهم-في بضع وخمسين رجلاً من قومه- فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي في الحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً، فوافقنا النبي ﷺ حين افتتح خيبر، وكان أناس من الناس يقولون لنا -لأهل السفينة-: سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس، وهي ممن قدم معنا على حفصة زوجة النبي ﷺ زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر: "الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ -التي ركبت البحر-؟ قالت أسماء: نعم، قال: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله ﷺ منكم، فغضبت، وقالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله ﷺ يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في أرض البعداء البغضاء بـ "الحبشة"، وذلك في الله وفي رسول الله ﷺ، وايم الله لا أطعم طعاماً، ولا أشرب شراباً، حتى أذكر ما قلت لرسول الله ﷺ، ونحن كنا نؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك للنبي ﷺ وأساله، والله لا أكذب ولا أزيغ، ولا أزيد عليه، فلما جاء النبي ﷺ، قالت: يا نبي الله! إن عمر قال كذا وكذا؟ قال: فما قلتِ له؟ قالت: قلت له كذا وكذا، قال: ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالاً يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح، ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي ﷺ، قال أبو بردة: "فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث منها".
هذا الحديث متفق على صحته[رواه الإمامان أبو عبد الله البخاري -رحمه الله تعالى-: 4230،4231] والإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري في صحيحيهما-:6566،6567].
شرح قصة المرأة البحرية
استجابة أهل اليمن للدين الحق
يقول أبو موسى الأشعري: "بلغنا مخرج النبي ﷺ ونحن بـ "اليمن" يمكن أن يكون المخرج: البعثة.
ويمكن أن يكون: الهجرة، بلغتهم الدعوة، فأسلموا وأقاموا ببلاد اليمن، وأهل اليمن سباقون إلى الخيرات، أقاموا ببلادهم إلى أن عرفوا أن الهجرة واجبة، وأنه لا بد من الهجرة، فعزموا عليها، لكن الذي أخرهم إما عدم بلوغ الخبر إليهم، أو عدم علمهم بما كان المسلمون فيه من المحاربة مع الكفار، لم يكن هناك وسائل اتصال في القديم مثل الآن، لتعرف الأخبار أول ما تقع، فربما يمكث الواحد شهوراً لا يعرف ماذا يحدث في المكان الآخر، فلما بلغتهم المهادنة طلبوا الوصول إلى النبي ﷺ.
وربما أنهم مروا بـ "مكة" في حال مجيئهم إلى المدينة.
ويجوز أن يكون هذا المرور في وقت الهدنة بين النبي ﷺ وكفار قريش.
يقول أبو موسى: "أنا وأخوان لي، أنا أصغرهم، أحدهما: أبو بردة -واسمه عامر - وأبو رهم -الثاني واسمه: "مجديّ" بالياء المشددة-".
وهؤلاء من الأشعريين من أهل اليمن.
الفرق بين الأشعريين والأشاعرة
وقد صارت هذه الكلمة تطلق بعد ذلك على الأشعريين، وهم غير الأشاعرة؛ لأن بعض الناس قد يتوهم أشياء خاطئة.
أما الأشاعرة، فلهم منهج في العقيدة ليس سوياً ولا مستقيماً، وفيه انحراف عن جادة السلف في الأسماء والصفات، وبعض القضايا الأخرى المتعلقة بالإيمان والقضاء والقدر، ونحو ذلك من قضايا العقيدة.
أما الأشعريون، فهم قوم من اليمن منهم أبو موسى الأشعري، معه أخوان له، ومعهم ثلاثة وخمسون أو اثنان وخمسون رجلاً من قومهم.
التقاء أبي موسى ومن معه بـ "جعفر بن أبي طالب" ومن معه بالحبشة
ويقول: "فوافقنا جعفر بن أبي طالب" أي: اتجهت السفينة من اليمن عن طريق البحر إلى الحبشة، ووافقوا جعفر بن أبي طالب في الحبشة؛ لأن جعفر بن أبي طالب خرج مع بعض المسلمين مهاجراً من مكة إلى الحبشة لما اشتد عليهم أذى قريش، وقاموا بما يستطيعون من الدعوة هناك، والمحافظة على هذه المجموعة التي ذهبت إلى هناك، حتى رجعوا إلى النبي ﷺ بعد خيبر.
فالتقى أبو موسى ومن معه بـ "جعفر بن أبي طالب" ، ومجموعة المسلمين هناك، وأقاموا معهم حتى هاجروا جميعاً مع جعفراً إلى المدينة.
وقد جاء في رواية: أن جعفراً قال لهم: "إن رسول الله ﷺ بعثنا هنا، وأمرنا بالإقامة، فأقيموا معنا"[رواه البخاري: 3136، ومسلم: 6566].
فـ "جعفر بن أبي طالب" كان مقيماً في الحبشة، بناءً على أوامر من النبي ﷺ، ولما قدموا المدينة كان مع جعفر بن أبي طالب؛ زوجته أسماء بنت عميس، ومن اليمنيين؛ أبو موسى وجماعته، وجاء خالد بن سعيد بن العاص وامرأته، وأخوه عمر بن سعيد ومعيقيب بن أبي فاطمة.
إشراك النبي صلى الله عليه وسلم لمهاجرة الحبشة في غنائم خيبر
قال: "فوافقنا النبي ﷺ بعد فتح خيبر مباشرة" وغنائم خيبر كانت فتحاً عظيماً للمسلمين، وفكت ضائقة اقتصادية شديدة كانت نازلة بالمسلمين.
ومعروف: أن الغنائم توزع على من قاتل في المعركة، لكن نظراً للدور العظيم الذي قام به جعفر بن أبي طالب في الحفاظ على هذه المجموعة الإسلامية في الحبشة، وقيامهم بالدعوة هناك، وحكمتهم في دعوة النجاشي، وما حصل من وجود قاعدة إسلامية خلفية احتياطية، رديفة للقاعدة التي كانت موجودة في مكة، بحيث لو ضرب المسلمون في مكة، فلا تزال مجموعة في الحبشة باقية، فنظراً لهذا الدور العظيم أشرك النبي ﷺ هؤلاء المهاجرين في غنائم خيبر؛ مع أنهم ما شهدوا فتح خيبر، ولذلك جاء في رواية في البخاري: "فأسهم لنا -أو قال أعطانا منها- وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلا لمن شهد معه إلا لأصحاب سفينتنا، مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم"[رواه البخاري:3136، ومسلم: 6566].
فضل أصحاب السفينة "مهاجرة الحبشة"
وكان أناس في المدينة يتباهون: أنهم الذين هاجروا مع النبي ﷺ، وأنهم حازوا قصب السبق، وأنهم أفضل؛ منهم عمر بن الخطاب .
فالذي حصل أن أسماء بنت عميس، وهيزوجة جعفر، دخلت على حفصة بنت عمر، وهي زوجة النبي ﷺ، ثم دخل عمر على بنته يزورها، فوجد أسماء، قال عمر: "من هذه المرأة التي عندك؟" فقالت: هذه فلانة، قال: "ألحبشية هذه؟ أو ألبحرية هذه؟ أو البحيرية؟ بالتصغير.
أما الحبشية، فنسبة؛ لأنها كانت ساكنة في الحبشة.
وأما البحرية، لركوبها البحر.
ثم ذكر عمر أنهم أولى بالنبي ﷺ، وأنهم سبقوا بالهجرة، فقالت أسماء بنت عميس:كلا والله وأنتم كنتم عند النبي ﷺ ينفق عليكم ويعلمكم، ونحن كنا صابرين على اللأواء والشدة في دارالبعداء البغضاء، جمع بعيد، وبغيض؛ لأن ذلك كان بلد نصارى، وإذا كان النجاشي أسلم، ومعه قلة قليلة جداً، فالبقية على دين النصارى، لم يسلم قوم النجاشي، لكنه أسلم -رحمه الله-، وبقي ملكاً عليهم مطاعاً فيهم، وحصل انشقاق ومعركة، وانتصر النجاشي ومن معه على الجناح المنشق الذي خرج عليه، في قصة حضرها الصحابة من بعد، وأرسلوا من يأتي بالخبر سباحة، ورجع إليهم.
وبالتأكيد: أنهم كانوا يدعون الله للنجاشي أن ينتصر، وأن دعوات الصحابة واكبت النجاشي في نصره على من خرج عليه.
فقالت: "لعمري لقد صدقت كنتم مع رسول الله ﷺ يطعم جائعكم، ويعلم جاهلكم، وكنا البعداء والطرداء" نحن كنا هناك صابرين: "وذلك في الله، وفي رسوله" أي لأجلهما.
"وايم الله" ويصح أن تقول: "وايم الله" حلفت أن تخبر النبي ﷺ.
و"ايم" اختصار لأيمن الله، من اليمين.
حلفت أن تخبر النبي ﷺ بما قال عمر، وأخبرت النبي ﷺ بعدما جاء.
فأخبرها: أنه ليس عمر أولى بي منكم.
حيازة أصحاب السفينة "مهاجرة الحبشة" على أجر الهجرتين
وأخبرها: أن للذين هاجروا من مكة إلى المدينة هجرة واحدة، بينما لهؤلاء هجرتان: هجرة إلى النجاشي، وهجرة إلى النبي ﷺ.
وبإسناد صحيح للشعبي، قال: قالت أسماء بنت عميس: "يا رسول الله! إن رجالاً يفخرون علينا ويزعمون أنا لسنا من المهاجرين الأولين؟!"[فتح الباري: 7/486].
لأن الله مدح المهاجرين الأولين، فقال عمر: "نحن المهاجرون الأولون" أي: وأنتم رتبة ثانية، فقال النبي ﷺ: لكم أنتم أهل السفينة هجرتان أي: هاجرتم إلى أرض الحبشة، ثم هاجرتم بعد ذلك إلى المدينة.
وفي رواية قال: للناس هجرة واحدة، ولكم هجرتان [رواه الطبراني في الأوسط: 6266، والحاكم في المستدرك: 6409، وقال: "صَحِيحُ الإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ"].
قال النبي ﷺ ذلك، والصحابة أحرص شيء على الأجر، وهذا شرف عظيم جداً؛ فحصل هناك بين هؤلاء المهاجرين انتعاش وفخر، وفرح وسرور بالغ لا يوصف، حتى أن أهل السفينة جاءوا أفواجاً وأرسالا، سمعوا أن أسماء بنت عميس أخذت تزكية من النبي ﷺ: أن لهم هجرتين، فجاءوا يسألون أسماء، فوجاً بعد فوج؛ لأنهم كانوا يحتسبون الأجر، يريدون أن يسمعوا هذه الكلمة.
حتى أبو موسى وهو من كبار رواة الحديث، ومن فقهاء الصحابة؛ يأتي بنفسه لـ "أسماء بنت عميس" يقول: أسمعيني، أسمعيني؟ يطلب منها أن تعيد له الحديث مرة أخرى، فرحاً به.
بعض الفوائد المستفادة من قصة المرأة البحرية
ثبات اليمنيين على الإسلام
هذه القصة فيها فوائد متعددة، فمن فوائدها:أن الإنسان المسلم يبقى وفياً لإسلامه، ولو كان في أرضٍ بعيدة، فلقد بقي المسلمون في اليمن فترة من الزمن، وأخبار المسلمين عنهم منقطعة، لكن انقطاع الأخبار لا يعني انتكاساً، ولا ردةً، ولا تغيير موقف، بل ثبات على الدين.
نعم، وصول ما استجد من وحي، وما نزل من سور في مكة، أو الأخبار من النبي ﷺ لا شك أن ذلك يزيد الإيمان، لكن لو ما وصلت، فهم على العهد باقون، وعلى الدين ثابتون؛ لأنهم أناس مؤمنون، دخلوا في دين الله لا لشخص، وهم مستمرون على عقيدتهم وعلى دينهم يعبدون الله بما وصلهم، وبحسب ما عندهم من العلم، وهكذا الإنسان لو ذهب إلى بلدٍ بعيدة.
الثبات على الإسلام في بلاد الغربة
ودرس آخر نستفيده من وجود المسلمين في الحبشة، وهو: لو أن أحداً ذهب إلى أمريكا أو أوروبا أو بلاد المشرق في أقصى الأرض، وهو مسلم، فهو لا يزال على صلاته يؤديها في أوقاتها بالطهارة والخشوع، ولا زال معه مصحفه يقرأ فيه، ولا زال مع العلم الذي تعلمه، ولا زال يذكر الله كثيراً، ولازال يدعو الله، وهكذا لا يزال مع إخوانه المسلمين قدر الإمكان.
إذاً، فالثبات على الدين حتى في بلاد الغربة درس عظيم يستفاد من هذه القصة.
التضحية والعمل للإسلام وفق مصلحته
كذلك أن التحرك لأجل الدين ينبغي أن يكون نابعاً من مصلحة الدين، لا مصلحة الأشخاص، هؤلاء الناس بقاؤهم في بلدهم في اليمن من ناحية الدنيا أحسن، فقد تكون لهم مزارع، وعندهم عقار، وبيوت وأهل وقبيلة، بلاد اليمن بلاد خير عظيم لا تقارن بما كان عليه المسلمون من الشدة، ومع ذلك تركوا بلادهم مهاجرين.
إن ترك البلد التي فيها خير ونعيم لأجل الله، ليست مسألة سهلة؛ فأن يترك الإنسان بيته ويذهب إلى مكان بدون بيت، ويترك زرعه وثمره، ويذهب إلى مكان لا يجد فيه ثماراً، ولا يجد فيه إلا أشياء يسيرة؛ يعد تضحية جسيمة، أين اليمن بخيراتها في ذلك الوقت مما كان يوجد في المدينة -مثلاً-؟
خيرات اليمن أكثر بكثير، ولذلك، فإن ترك هؤلاء بلدهم لله ثمنه عظيم، وقدره كبير عند الله ، فبعض الناس قد يترك بلده وفيها فقر؛ لكن الذي حصل هنا عكس ذلك؛ فإنهم تركوا بلد الخيرات الدنيوية لأجل خير الآخرة.
ركوب البحر والمخاطرة لأجل الإسلام
كذلك في هذا الحديث: المخاطرة لأجل الدين، فركوب البحر خطر عظيم؛ خاصة أن القوارب أو السفن كانت بدائية في ذلك الوقت، واحتمال هيجان الأمواج في البحر كبير.
وحصل لعدد من العلماء من اليمن إلى جدة رحلات بحرية ذكروها، وذكروا الأخطار التي فيها، حتى ذكر الشيخ صديق حسن خان -رحمه الله- رحلةً بحرية من اليمن إلى جدة لأجل الحج، وذكر ما حصل من تلاطم الأمواج بالسفينة التي كانوا فيها، حتى أوشكت على الغرق، ورأى بعض الناس في خضم هذه الأهوال، بدلاً من أن يقولوا: يا الله أنقذنا! كل واحد منهم جعل ينادي الولي الذي يفزع إليه في وقت الشدة: يا عيدروس المدد المدد! يا بدوي المدد المدد! يا جيلاني المدد المدد! يا شاذلي أدركنا! وهكذا، حتى أن أحد الموحدين، قال: "اللهم أغرق أغرق، فما بقي أحدٌ يعرفك!" كل واحد فزع إلى ولي، وإلى بشر، وتركوا الله، ولذلك، فإن مشركي عصرنا أسوأ من مشركي قريش، أولئك إذا ركبوا في الفلك، واضطربت الأمواج دعوا الله مخلصين له الدين، وهؤلاء لما ركبوا في الفلك، واضطربت بهم الأمواج، قالوا: يا فلان! يا فلان! وتركوا الله .
فركوب البحر -إذاً- خطير، ومع ذلك ركبوا البحر، مع كون الوسائل بدائية، ركبوه لله، وفي سبيل الله.
فالإنسان في سبيل الدين يخاطر، لكن عندما تكون المصلحة متحققة، فإنه قد صدرت أوامر إلى المسلمين بالهجرة.
وركب المسلمون البحر للجهاد، والغازي في البحر أعظم من الغازي في البر؛ لأن الغزو في البحر فيه خطورة، وأجره أكثر.
وقد طلبت إحدى النساء المسلمات من النبي ﷺ أن يدعو لها أن تكون شهيدة في البحر، وقد كان ذلك فعلاً في غزوة في البحر -رضي الله تعالى عنها-، بايعت النبي ﷺ، واستشهدت، واستيقظ النبي ﷺ يضحك.
ورأى قوماً من أمته كالملوك على الأسرة، يركبون ثبج البحر للجهاد في سبيل الله[الحديث رواه أحمد:13544، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"].
هذه الجزر الموجودة، كجزيرة "قبرص" "أرودوس" وغيرها من الجزر، فتحها المسلمون، وعبروا منها إلى الأندلس، ركبوا البحر في سبيل الله، وتفوقوا، وانتصروا على الكفار.
فإذاً، ركوب البحر على المخاطرة التي فيه أجره أعظم ولا شك.
التحدث بنعم الله
كذلك من فوائد هذا الحديث: أنه يحق للإنسان أن يفتخر بالمزية الشرعية؛ ما لم يكن في ذلك كبرٌ، أو عجب، بشرط أن يكون هذا الافتخار صحيحاً، أي: أن تكون له ميزة صحيحة، وأن ذلك من التحدث بنعمة الله، ومن الفرح بثواب الله .
اختيار المكان المناسب للفرار بالدين
وكذلك في هذا الحديث: انتقاء المكان المناسب للفرار بالدين، فإن النبي ﷺ وجه أصحابه إلى الحبشة، وقال: إن فيها ملكاً عادلاً لا يظلم عنده أحد.
والنجاشي كان عند ظن النبي ﷺ، فحماهم، وحافظ عليهم، وأكرمهم، وأسلم، ولكن قيل: إنه كان متكتماً على إسلامه عن قومه، كان يخشى لو أظهر إسلامه أن يخرجوا عليه، بل قد خرجوا عليه، ولكن الله نصره بمن معه على من انشق عنه، وخرج عليه، لكن قال بعض أهل العلم كـ "النووي" -رحمه الله-: إن النجاشي كان مستسراً بإسلامه عن قومه.
والعبرة أن الأسباب التي أدت إلى اختيار الحبشة، هي وجود ذلك الحاكم الذي يعدل ولا يظلم.
وهكذا حصل وجود قاعدة مهمة للمسلمين في ذلك المكان.
المسلم كالغيث حيث حل نفع
ولم يقصر الصحابة في الدعوة في بلاد الغربة، وهذه فائدة أخرى: أن الإنسان إذا ذهب إلى بلد غربة، وإن كان ضعيفاً، أو كان علمه قليلاً، وقد لا يجد مدداً من إخوانه، والعلماء والمشايخ، ونحو ذلك، لكن هل يمنعه ذلك من الدعوة؟
بعض الناس إذا ذهب إلى الخارج انكفأ على نفسه وانزوى، وشعر بالوحشة والغربة، فلا يفعل شيئاً للدين، لكن هؤلاء الصحابة لما هاجروا إلى الحبشة، مع أنها أرض بعداء وبغضاء، وكفارٍ نصارى، لكن اشتغلوا بالدعوة؛ واشتغلوا مع رأس الهرم، ومع القمة، ومع الأحبار والرهبان والقساوسة الذين كانوا مع النجاشي؛ يدعون إلى الله، يعبدون الله في تلك الأرض.
ترك المسلم للبلد الذي لا يستطاع فيه إظهار شعائر الإسلام
وقوله: "أنتم سيوم بأرضي" أي أحرار آمنون، ولا أحد يؤذيهم، فهم يعبدون الله -تعالى- في تلك الديار.
ففيه: أن الإنسان إذا ضيق عليه في دينه، فعليه ألا يبقى في مكان لا يستطيع أن يقيم فيه شعائر الدين، وهذه مسألة مهمة جداً، أن إذا وجد الإنسان بأرض لا يستطيع أن يجهر فيها، أو يظهر شعائر الدين؛ فلا صلاة ولا أذان، فلينتقل عنها: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء:97].
فالمرء غير معذور بالإقامة في بلد لا يستطيع أن يصلي فيها، أو لا يستطيع أن يقيم شعائر الإسلام فيها، فعند ذلك يتركها إلى بلد آخر أرحم وأرحب: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً [النساء: 100].
مُرَاغَماً يعني: يرغم أنوف الذين أخرجوه.
فإن إظهار شعائر الدين مسألة مهمة؛ فهي حياة للدين، ونشر له، وإقامة لشعائره، كالأذان، وإقامة الصلاة، وحتى صلاة العيدين.
تشجيع الأقليات الإسلامية على إظهار شعائر الدين
وعلى الأقليات الإسلامية في الخارج: ألا يصلوا العيد في أماكن مغلقة، بل يخرجون إلى الصحراء، وتخرج معهم النساء والحيض، وذوات الخدور ليشهدن الخير، ودعوة المسلمين، ويكون بذلك إظهار الدين؛ لأن إظهار الدين يلفت الأنظار، وفعل ذلك أبو بكر الصديق، فإنه ابتنى مسجداً بفناء داره، فجعل يقرأ القرآن، والناس في الشارع يمرون، فجعل أبناء المشركين ونساؤهم، يتجمعون للسماع؛ لأن إعلان صوت الحق مهم في الدعوة، بل كيف يعرف الكافر أن هنا ديناً وإسلاماً إذا لم تعلن الشعائر؟
ولذلك، إذا تعذر إقامة الشعائر في بلد، فعلى المرء أن يهاجر، وأرض الله واسعة رحيبة:وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً [النساء:100].
فضل مغادرة البلد الذي لا يستطيع الإنسان إقامة شعائر الدين فيه
فإذا خرج إلى أرض أخرى، أرغم أنوف الذين ضيقوا عليه في ذلك البلد، حتى يتمنوا لو قتل، بل ربما يندمون على إخراجه، فيقولون: ذهب من بين أيدينا!.
ثم قد يلاحقونه، ويطالبون به، ويريدون بأي طريقة إعادته، من الغيظ الذي أصابهم حين انفلت من بين أيديهم.
والله قد تكفل بالعون لمن هاجر في سبيله، وأن يغنيه وينصره، ويحميه ويحفظه.
خطر بقاء المسلم في بلد لا يستطيع إظهار شعائر الإسلام
والذي يبقى تحت حكم الكفار غير معلن للدين، حتى يموت، أو يموت دينه، تقول له الملائكة عند الوفاة: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء: 97]لماذا لم تهاجروا؟
تفاوت الأوضاع المعيشية للمسلمين
وكذلك من دروس هذه القصة: أن حال بعض المسلمين أهون من بعض، وبعض المسلمين حالهم أشد من بعض، فلما قارنت أسماء بنت عميس وضعها الذي كانت فيه هي والمسلمين في الحبشة، مع وضع عمر بن الخطاب والمسلمين في المدينة، قالت: "معكم رسول الله يطعم جائعكم" مما يأتي من الصدقات والغنائم "ويعظ جاهلكم" أي: وعندكم مصدر العلم، وكنا صابرين في دار البعداء والبغضاء، فصَبْرُنا أعظم وأشد.
فالآن لو قارنت أوضاع المسلمين في العالم لوجدتها تختلف في الشدة واليسر، ومادام كل واحد في مكانه يؤدي دوراً، فالثواب على قدر النصب.
فنحن هنا عندنا أموال وخيرات! وعندنا أثاث ومتاع! وعندنا بيوت وسيارات!.
وفي بعض البلدان لا يوجد ذلك أبداً، بل هم حفاة عراة، بل لا بيوت لهم ولا سيارات، ما وجد بعض المسلمين في الصومال إلا الأشجار يتسلق عليها من الفيضانات، ويتعلقون بأغصانها، وإذا سقط الولد انتهى؛ لأنه موضوع على نصف الشجرة، والمياه عميقة، ولا يمكن لوالديه أن يرداه، وإلا غرقا معه.
فلا يقارن وضع هؤلاء بوضعنا في بيوتنا، وفي عمائرنا، وشققنا، وفللنا، ولا صبرهم على اللأواء والشدة بصبرنا نحن.
وكذلك من أراد منا أن يذهب إلى درس في المسجد، حرك السيارة بسرعة ووصل.
لكن في بلدان أخرى، لا توجد معهم سيارات، والحافلات مزدحمة، فلا يصل إلا بعد ساعة أو ساعات.
إذاً، الأوضاع ليست سواء.
وحتى بالنسبة للطعام واللباس، أحياناً الواحد، يقول: كنت مرة قد أعطيت بعض الإخوان كتاب "أربعون نصيحة لإصلاح البيوت" كتيب صغير، قلت: هذا خذوه معكم إلى تلك البلاد ووزعوه.
قالوا: لا توجد بيوت حتى تصلح، الناس في البراري والقفار، لا يوجد مكان يعيش فيه هؤلاء.
ثم تقول: اجعل مكتبة صوتية في بيتك.
فيقول: لا يوجد مسجلات أصلاً ولا أشرطة، وضع مأساوي!.
إذاً، نحن قد نتكلم أحياناً في الدعوة، ونتكلم على مستوى الإمكاناتُ فيه موجودة ومتوفرة.
لكن بعض المسلمين ما عندهم إمكانات مطلقاً.
وتقول -مثلاً-: وطالب العلم إذا ما وجد شيخاً، فليسمع أشرطة المشايخ.
يقول: لكن ليس عندهم مسجلات أصلاً، حتى يسمعوا أشرطة مشايخ. فلما قالت أسماء: "أنتم مع النبي ﷺ يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، ونحن في أرض البعداء والبغضاء" الإمكانات -إذاً- في بلاد المسلمين تختلف.
ولما صبرت أسماء بنت عميس ومن معها، حازوا هجرتين، بسبب صبرهم والشدة التي عانوها.
فإذاً، كل مسلم يصبر في المكان الذي هو فيه، حسبما تقتضيه المصلحة الشرعية، وأجره يكون على حسب صبره.
وربما يكون لبعض المسلمين من الأجر أكثر بكثيرٍ مما لنا نحن؛ لأن الإمكانات لدينا متوفرة؛ من خيرات وأموال، وأوضاع مادية جيدة، وألوان من الطعام، والأثاث، ونحو ذلك.
الرجوع إلى أهل العلم عند الاختلاف
كذلك من دروس هذه القصة: أنه إذا حصل خلاف علمي، فالمرجع إلى أهل العلم.
-فالآن- حصل خلاف علمي بين أسماء بنت عميس، وعمر بن الخطاب، في أي الفريقين خيرٌ وأفضل؟
فقال عمر: نحن هاجرنا مع النبيﷺ، وأنتم ذهبتم إلى الحبشة، فنحن أولى به.
فتقول أسماء: "وايم الله لا أطعم طعاماً، ولا أشرب شراباً، حتى أذكر ما قلته لرسول الله ﷺ".
فالمرجع للخلاف لأهل العلم.
الأمانة في نقل الخلاف والسؤال عند الاستفتاء
درسٌ آخر: الأمانة في نقل الخلاف والسؤال.
ومع الأسف: أنه إذا وقع اليوم خلاف في مسألة علمية، فكل واحد ينقلها إلى الشيخ بطريقة تختلف عن الآخر، وتجد تحريفاً حسب هوى الشخص.
وهذا درس عظيم جداً في نقل السؤال، فتقول أسماء -رضي الله عنها-: "وسأذكر ذلك للنبي ﷺ وأسأله، والله لا أكذب، ولا أزيغ، ولا أزيد عليه" سأنقل الحوار بالضبط كما حصل، وأسأله عن رأيه فيه، لا أزيد ولا أزيغ، ولا أكذب.
وهكذا حصل، وسألت النبي ﷺ، قالت: "يا نبي الله! إن عمر قال كذا وكذا؟".
تثبت المفتين المستفتي عند تقديمه للسؤال
وهنا درس للمفتي: فإن النبي ﷺ قال لها: فما قلت له؟ يريد أن يعرف أيضاً ماذا قالت هي، وما هو رأيها فيه أيضاً، قالت: "قلت له: كذا وكذا".
وذلك لاستطلاع رأي الطرف الآخر، واكتشاف الأشخاص والفهم الموجود لديهم.
وكذلك في هذا الحديث: الفيصل الذي يخرج من كلام العالم ليحسم الخلاف؛ لأن بعض الناس يقولون: نرجع للعالم، ثم يختلفون بعد ذلك، فبعضهم يفسر كلامه، ويقول: لعله ما فهم، أو لعلك ما فهمت الشيخ.
نعم، قد يكون هناك تقصير في الشرح، ولكن بعض الناس يرفض الفتوى؛ لأنها تخالف هواه، فيقول: لا. وربما أنك ما سألته بشكل سليم، وما شرحت القضية كما حصلت، فهناك شجار وخصومات، وأحياناً تكون الفتوى مكتوبة مطبوعة، ومع ذلك يقولون: لا.
وفيها كذا وكذا، أما هنا، فكلام النبي ﷺ فصل في القضية، ولا أحد يعترض، ويورد الإيرادات: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].
فرح الصحابة بالطاعات والقربات
كذلك من دروس هذه القصة: فرح الصحابة -رضوان الله عليهم- بخبر الأجر، والمنزلة التي لهم عند الله "وهذه عاجل بشرى المؤمن".
ولذلك من شدة فرح أهل السفينة: أن جاءوا أفواجاً يسألون، ويستعيدون الحديث من أسماء.
ودرس في تواضع أبي موسى الأشعري، فما قال: أنا أفقه من أسماء، وأنا رجل وهي امرأة؛ فأرسل إليها ولدي الصغير، ليأتيني بالكلام، وإنما ذهب بنفسه: "فلقد رأيت أبا موسى، وإنه ليستعيد هذا الحديث مني".
ولقد عبرت عن الفرح بتلك الكلمات: "ما من الدنيا شيءٌ هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي ﷺ".
إشراك الأقارب في الخير
وكذلك في هذا الحديث: أن الإنسان يشرك أهل بيته في الأجر، فلقد خرج أبو موسى وأخواه: أبو رهم، وأبو بردة.
والله -تعالى- إذا أراد لأهل بيت خيراً، جعلهم شركاء في الدعوة، شركاء في طلب العلم، شركاء في الخير، يحضرون مجالس الخير.
ثلاثة إخوة خرجوا من بيت واحد، مهاجرين إلى الله ورسوله.
فالإنسان عليه أن يحرص على إشراك إخوته، وأولى الناس: الأشقاء، كانت منّة موسى على هارون -عليهما السلام- عظيمة، لما طلب من الله أن يجعله نبياً معه، حيث قال: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:29-32] وصار نبياً مع موسى .
تطبيق أوامر الله ورسوله
وكذلك في هذا الحديث: أن على الإنسان أن يتقيد بالتعليمات التي جاءته في الله، وفي سبيل الله، من أهل العلم، فإن جعفراً قال لـ "أبي موسى: ومن معه: "أقيموا معنا" أي: فإن النبي ﷺ أرسل إلينا أن نجلس هنا، فنقيم، فأنتم أيضاً أقيموا معنا.
وهذا ما حصل، فالتزموا بذلك، وكان جعفر سيداً حكيماً جليلاً، وهو الذي قاد دفة المسلمين، وكان رباناً ماهراً في بحار بلاد الكفر في الحبشة ، وكانوا جرآء في الحق، ولعل جرأتهم كانت سبباً في هداية النجاشي -رحمه الله تعالى-، فقد أجمعوا أن يقولوا الصدق، وما يعتقدونه حقاً في عيسى ومريم - عليهما السلام-.
إكرام أهل السبق في الإسلام
وكذلك في هذا الحديث: إكرام أهل السبق، فمع أنهم ما حضروا المعركة، لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- أشركهم، اعترافاً لأهل الفضل بفضلهم، والمواقف تقدر، ومن لم يقدر المواقف خسر الأشخاص، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- أكرمهم، وجعلهم مع أهل الغنائم، مع أنهم لم يشتركوا في المعركة؛ لِمَا صبروا، ولحاجتهم -رضوان الله تعالى عليهم-.
هذه طائفة من الدروس التي اشتملت عليها القصة.
نسأل الله أن يجعلنا ممن يحب الصحابة، ويقتدي بهم، ويهتدي بهديهم -رضي الله تعالى عنهم-.